|
العراقيون والطعام
محمد لفته محل
الحوار المتمدن-العدد: 5099 - 2016 / 3 / 10 - 19:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
للطعام في المجتمع العراقي مكانة مقدسة دينيا واجتماعيا فهو هبة من الله للإنسان فيسمى (النعمة) وعدم احترام (نعمة الله) التي انعم الله بها على البشر يعني عدم احترام الله ويجلب على نفسه الغضب الإلهي فيسلبها الله منه (ﯧ-;-ﻨ-;-ﻔ-;-ﮕ-;-ر=يصبح فقيراً)، ولا يسمى طعام لأنه الكلمة تدل على الطعم فقط بينما اجتماعياً هو "نعمة يجب أن تؤكل" لذلك يسمى أيضاً (أكل، الزاد) والناس تقول للذين لا يحترم الطعام (ما تخاف تشاور بيك النعمة) وعلى الإنسان الشكر لله وان لا يقول أنها قليلة مهما كان حاله فقير، لأنه اعتراض على قسمة الله! لهذا سمي (زاد) أي فوق الحاجة، وإذا كان الطعام سيء الطبخ يجب أن يقال ذلك باحترام (حشه نعمة الله ولا ينكال أو مو طيب) وحينما يأكل العراقي يجب أن يبدأ بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى لا يأكل الشيطان معه وحتى يبارك الله بالطعام كميا فتشبع بطنه، وحين ينتهي من الأكل يختم بعبارة (الحمد لله والشكر) أو (الله يزيدها علينا) فالله هو مصدر والطعام والمسؤول عن تقسيمه، والعراقي يحرص على جمع فتات الطعام وبقاياه بعد وجبة الطعام حتى لا يدوس عليها بالأقدام، ويحرّم إلقائها في الزبائل أحيانا بل يخصص كيس لها، وإذا ما وجد في قارعة الطريق كسرة خبزه أو صمونة فانه يضعها جانبا بعيدا عن الأقدام، وبعض الأحيان يُقبّلها ويضعها على جبينه شاكرا الله على نعمته، وبسبب هذه المكانة المقدسة للطعام (النعمة) أصبح يُحلف بها وكما يقال بالعراقي (والنعمة لم افعل كذا) والذي يحلف بها كذبا قد يواجه عقابا ربانيا، والدين يدعوا إلى عدم التخمة بالطعام لان (المعدة بيت الداء) هذا هو التصور الديني للطعام أما التصور الشعبي له فيعتبر الطعام دليل صحة فالبدين نقول عنه (متفح) بينما النحيف نصفه بأوصاف سلبية (سلبوح، صونده، عوده، جلد وعظم، ضعيف) ونحثه على الأكل (أكل وجهك اصفر) ونعتبر أن انقطاع الإنسان عن الطعام علامة مرض أو موت، ونسمي الحمية بأسماء سلبية (رجيم) من أصل (رجم) وهي عقوبة دينية وتقترن أيضا مع ذكر الشيطان! وهذه التصورات والألقاب هي نتاج نسق ثقافي للحث على الأكل لأنها نعمة الله ومقسومة لهم ومفيدة تجلب له الصحة وعليه نقول للشخص بعد الطعام (بالعافية)، وهذه الأنساق التي تحث على الأكل تحول دون السمنة لذلك يلقب السمين باللقاب مثل (ابو بطن، ابو كرش، ابو ثرب، عمّية) سخرية واستهزاء منه وهذا ما يحد من الشراهة، والرجل السمين تعتقد الناس بقصر عضوه التناسلي وضعف قدرته على الإخصاب، وللمجتمع آداب للطعام تمنع الشراهة مثل التمنع عن الأكل عند العزيمة والأكل قليلا وخاصة اللحم عند قبول الدعوة، ولعلم المضيف بهذه الآداب يجب عليه أن يضع اللقمة في فم الضيف ويفرط له اللحم أمامه وإذا نهض بسرعة قال له (هاي شكلت يمعود؟ شو كمت بسرعة؟ أكل الله عليك لا تستحي، البيت بيتك) وحين يتم الأكل يقول للضيف (بالعافية، هني ومري) (اعذرنا عالتقصير) والمجتمع يصف المعتدل بالوزن بأوصاف ايجابية (قلم، مقسّم، متروس) ويحصر الشراهة بمنجز الرجولة (الزلم تاكل على ﮔ-;-د افعالها) أما المرأة فتختلف عليها قيم الطعام فالبدينة أفضل من النحيفة فتوصف بال(مربربة، متروسه) لأنها تحظن بين يدي الرجل، وان قيم النحافة والرشاقة هي قيم حديثة دخيلة علينا من الغرب بدأت تنتشر بين الشباب في فترة ما قبل الزواج غالباً، وثقافة الأكل الجيد أو الدسم بالفيتأمينات غريبة علينا لان الطعام كله نعمة من الله ولا يوجد فرق إلا بالطعم. أما فردياً فالرجل يهتم ببطنه كثيرا في بيته، والنساء المتزوجات يعرفن أن الطريق إلى قلب الرجل معدته، ونسبة التخمة بين الرجال واسعة عندنا في المجتمع العراقي، وهذا الوضع يصبح واضحاً في الأكل الجماعي حيث يخضع لقيم البداوة خصوصاً في العزائم الجماعية كالأعراس والمآتم حيث يكون الأكل السريع والتهام اللحم من شيم الغلبة والرجولة والشطارة مع الإقلال من شرب الماء واللبن إلا بعد الطعام حتى لا تمتلئ المعدة بسرعة قبل التخمة! وهناك مثل يعبر بدقة عن هذه النزعة (اكُل مثل السباع، وﮔ-;-وم قبل الرجال بساع) واعتقد أن هذه القيمة نشأت من ضنك حياة البدو الناتج عن البيئة الجغرافية الصحراوية فكانوا يجدون في العزائم فرصة نادرة لملئ البطون وسط مجموعة أفراد القبيلة الجائعة أيضا، فلا مفر من الأكل السريع بنهم قبل أن تنتهي الوليمة بدون أن يشبع الشخص. وهذا ما يخلق ازدواجية في التعامل مع الطعام مابين الشراهة والزهد. الطعام وسيلة تواصل جماعي يقوي الأخوة بين الجماعة، فالذي يأكل من طعامك يصبح صديق مقرب عليه التزامات (بيناتنا زاد وملح) لا يجوز خيانته وغدره، وكل من ينكث هذا الالتزام يقال عنه (خان أو ماغزر بي الزاد والملح) والطعام وسيلة للضيافة التي تدل على الكرم والأخلاق والوجاهة التي يتحلى به الشخص، ويزيد من مركزه الاجتماعي عند الجماعة مستقطبا المزيد من الموالين، وهنا يكون البذخ بالطعام بالضيافة وسيلة لتحقيق مركز اجتماعي وصيت أو تستثمر لمصالح شخصية أو سياسية، والناس من جانبها لديها وسيلة لمعرفة مآرب الشخص في ضيافته وعزائمه، فالطعام اللذيذ والمشبع للبطن يقال (بي بركة) بسبب نية العازم الصادقة لان (نفسه طيبة) كما يعبر عنها شعبيا، وبعكسه يشعر الناس أن الطعام (مابي بركة) لان (نفسه مو طيبة) إذا شعورا بمآربه النفعية، وهذا هو الحد الفاصل بين اتخاذ الطعام كوسيلة أو كغاية عند الناس، العزيمة الجماعية وسيلة تواصل بين الجماعة يكون الحديث المتبادل والودي قبل وبعد الوليمة ما يحقق الحب الأخوي بين الفخذ أو القبيلة أو الأتباع. وإناسياً اهتم العلماء بالطعام (لقد درس الأنثروبولوجيون قواعد التعامل مع الطعام ومحرماته ليفسروا البنى الثقافية للنوع (من الرجال أو النساء)، والطبيعة، والدين، والأخلاق، والصحة، والنظام الاجتماعي.)(1) ووجدت عالمة الإناسة كارول (أن تقديم الطعام وتناوله لهما معنى عميق في جميع الثقافات)(2) (إن سلوكيات تناول الطعام وعاداته أمر هام لتعريف المجتمع، والعلاقات بين الناس، والتفاعل بين البشر وآلهتهم، والتواصل بين الأحياء والأموات. تشمل الولائم المجتمعية تأكيد دورية للجماعة الاجتماعية.)(3)(ويلعب الطعام في كثير من الثقافات دور الأداة التي تحافظ على استمرار العلاقات الطيبة بين البشر وآلهتهم.)(4) (والطعام يؤدي وظيفته بشكل فعال بوصفه نسقاً من أنساق التواصل؛ لأن الناس من جميع أنحاء العالم ينظمون طرق تعاملهم مع الطعام في نسق يخضع لنظام مواز للأنساق الثقافية الأخرى ويبث فيها المعنى.)(5)(من هنا، كثيرا ما تستخدم الأطعمة في شعائر المرور)(6)(وهو يتخذ عددا لانهائيا من المعاني والأدوار في تيار تكوين المجتمع والثقافة الذي لا يتوقف.)(7) فرفض المشاركة بالطعام علامة على العداوة أو الخلاف والمشاركة علامة على الأخوة والحب، وتقديم الطعام بارد أو قليل أو مأكول سابقاً (فضالة) علامة احتقار، ومن يجلب ثمن الطعام دليل سلطة وكرم الخ (فالطعام يمتص مجموعة من الظواهر الثقافية ويعكسها.)(8). إن قداسة الطعام جائت من كونه هبة الله بالأساس كما يعتقد العراقيون، وهي وسيلة ضبط اجتماعي لغرض القبول والرضا بالقليل حد القناعة والشكر، واعتبار هذا القليل منّة من الله ممكن أن تزول أصلا لو لم يرضى الإنسان أو خالف أوامر الله، وعدم الاعتراض على هذا التقسيم الذي حتى لو بدى غير عادل طبقياً. والسؤال ما الذي دعا الإنسان إلى نقل الحصول على الطعام من إرادة البشر إلى إرادة الله، ووضعه بيده وجعله المسؤول عن تقسيمه؟ هل بسبب طبقية النظام السياسي المالك لوسائل الإنتاج على حساب إفقار واستغلال وتجويع الأغلبية، هو المسؤول عن نقله بيد جهة مقدسة لدى الناس لا يجرؤن على الاعتراض عليها أو نقدها أو تغيير قسمتها؟ جهة مفارقة غير بشرية، فيقنعون الناس بالشكر والقناعة والرضوخ، ويفسرون الفقر بأنه اختبار من الله للفقراء، وان الغنى هو إغراء للإنسان بالدنيا ليدخلوا النار، وان البعض يغتنون بسبب الشكر والإيمان بالله أو لأنهم بخلاء أو مالهم حرام!؟ وهكذا يربح الفقراء الآخرة ويربح الأغنياء الدنيا!. لكن بعض النظريات الاقتصادية الحتمية تنقل الاقتصاد من إرادة الإنسان إلى قوانين خارجية عنه تتحكم به كقوانين التاريخ وقوى ونمط الإنتاج، فهل الناس وليس الطبقة هي التي نقلت التقسيم ألمعاشي من الإنسان إلى السماء كنوع من الحدس المغلوط؟ الذي سبق النظريات الاقتصادية كالماركسية مثلا؟. فإذا كان نمط الإنتاج هو من يحدد شكل النظام الاقتصادي الذي يقسم مدخولات الناس المعيشية ويقسم الناس إلى أغنياء وفقراء خارج إرادة الأفراد، بالتالي (فنعمة الله) هي إسقاط لنمط الإنتاج من داخل المجتمع إلى السماء كونه خارج عن إرادة الأفراد، فهنا لا يبقى للناس أمام الله المتحكم بمعيشتهم سوى استرحامه واسترضائه بالطاعة والشكر والتوسل لها بالمزيد من الطعام أو دوامها، في محاولة للتحكم بدخلهم وقوتهم. فالناس مهما تنافست وسعت بالعمل فإنها تعرف أن هناك نظام اقتصادي أقوى منهم هو من يقسم مدخولاتهم ويقسمهم إلى طبقات، لكن الناس تدرك هذه القوة بشكل مختلف عن حقيقتها الموضوعية إذ تسقط على هذا الإدراك سيطرة الله. فالغني والفقير ليس مسؤولا عن ماله بل الله هو الذي يعطي ويشح على عباده بمحض إرادته ومشيئته ومزاجه. وهي بالنهاية وسيلة ضبط اجتماعي للحد من التنافس والتحاسد والصراع على المعيشة والعمل. واجتماعياً فان الجماعة/الله هي من تبرر التفاوت الطبقي لعجزها عن تغيير هذا التقسيم وكون هذا التقسيم يحافظ عليها من الصراع والتناحر المعيشي بين الطبقات. ــــــــــــــــــ 1_كارول م. كونيهان، أنثروبولوجيا الطعام والجسد، النوع، والمعنى، والقوة، ترجمة: سهام عبد السلام، المركز القومي للترجمة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012، ص191. 2_نفس المصدر، ص12. 3_نفس المصدر، ص30. 4_نفس المصدر، ص32. 5_نفس المصدر، ص39. 6_نفس المصدر، ص40. 7_نفس المصدر، ص45. 8_نفس المصدر، ص19.
#محمد_لفته_محل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرام النوعي للحارس والسجين
-
العراقي والمثقف
-
رؤية اجتماعية للصعود للقمر
-
العراقي والشيوعية
-
التحليل الثقافي لكلمات السخرية
-
ما هو الحرام النوعي؟
-
العراقي والنظافة
-
القاموس العامي للمجتمع العراقي 1
-
رؤية إناسية لرأس السنة
-
من تعليقات الفيس بوك
-
النظرية الشجرية للبشر في المجتمع العراقي
-
المفهوم الاجتماعي للمدنية
-
العرقي والخمر
-
نقد نقد المجتمع العراقي
-
مراجعة في فكر هادي العلوي
-
الحرام النوعي للأكل
-
العراقي والعيد
-
انطباعات عن ثورة التحرير العراقية
-
العراقي والحيوانات
-
العراقي والشارب
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|