أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود جلبوط - حالة طواريء.......قصة قصيرة















المزيد.....

حالة طواريء.......قصة قصيرة


محمود جلبوط

الحوار المتمدن-العدد: 1382 - 2005 / 11 / 18 - 10:12
المحور: الادب والفن
    


كان يسير على الرصيف الأيمن عبر منطقة التسوق الكبيرة في القسم الشمالي الشرقي من الحي الحديث من المدينة الاوربية التي يقطن , بينما كان يطوي اليوم الأخير من السنوات الخمس التي أمضاها في منفاه الأوربي هذا , يتنقل بين واجهات المحلات المختلفة مبذرا وقته الممل بالتسكع لا يني إلى شيء محدد , وتارة أخرى بين طاولات الاستراحات والمطاعم التي تسمح لهم البلدية بشغر الأرصفة في مثل هذا الوقت من السنة أثناء الأيام الدافئة في هذه البلاد الباردة لتشجيع موسم السياحة ولممارسة تقليد متوارث تعود الأوربيون على ممارسته في الإنتشار تحت الشمس خلال أيام الصيف القليلة التي تزور المدن الاوربية الشمالية.
كان يمارس هذا الطقس من التوحد مع نفسه كلما كانت روحه تجف عطشا للحارات الدمشقية القديمة , وكلما يزرع الجفاف مرارته في حلقه فيخرج من بيته لينخرط في زحمة الناس ليهدّيء من روع روحه المغتربة في مثل هذا الوقت من صيف هذي البلاد , تؤنسه الزحمة , لكن ما أن تمضي الساعة الأولى حتى يعاوده شعور الإغتراب من جديد فيقفر الدرب , و تعود المسافات تتسع بينه وبين المدينة , و تعرش على عينيه زوايا الانتظار , انتظار اليقين الذي لا يأتي والفرح الذي لا يفتأ هاربا , تعرش زهور الحزن على جذوع الساعات القادمة فتختلس ابتسامته التي تحايل بها للتغلب على شعور الغربة لديه الذي يمتص أحلامه كثرة ما كسر عينيه بالسهاد.
يلجأ إلى الزاوية الخضراء من روحه , ينظر عاليا بالسماء ينقب فيها عن قبلات بلون النجوم , فسحة الشمس التي تطل منها حزمة الأمل فتحضر مدينته التي تعود على العيش فيها أو المدينة التي طرد الأهل منها فصار لاجئا خارج إرادته, أو المدينة التي كان يحلم أن يلقاها . يتذكر أولاده , تخطر بباله كلمات أغنية لسميح شقير كادت تنساب من فمه بصوت مسموع ( نظروا عاليا بالسماء وجدوني أنقب عن قبلات بلون النجوم لأطبعها فوق ثغرك) وتذكر أيام الجورة . الجورة؟؟؟ عندما خطرت هذه الكلمة بباله ابتسم في سريرته , وتذكر عبارته الشهيرة, كان كلما تضيق الظروف به وتستحكم حلقاتها عليه يردد( ماشي الحال , ليش لأ , كلو أحسن من الجورة) كان يخفف عن نفسه آنذاك بترداده لتلك العبارة , ولما سمعه أحد الأصدقاء يرددها سأله: وماذا تعني بهذا يا صديقي؟ أجابه: إن الجورة هي فترة الإعتقال و ما تمثل من سوء تجربة وكثافة مصيبة, ولما تصادفنا أي صعوبات أثناء حياتنا بعد الإفراج عنا نقارنها بالجورة هذه وظروفها فيسهل كل شيء بالمقارنة معها. عاد بذاكرته إلى اليوم الذي عاد فيه ليلا إلى المنزل بصحبة زوجته ليصادف الكمين في انتظاره لإلقاء القبض عليه, وكيف قضى ما يقارب الثلاث ساعات في السيارة معصوب العينين ومقيد اليدين أمام منزله بحراسة عنصرين يحملان رشاشين , ولما انتهى رئيس الدورية من تفتيش منزله عاد إلى السيارة يحمل بعض الكتب واللوحات المصادرة كان من بينها صورة جدارية لجيفارا وصورة طفل يبكي ولوحة للفنان يوسف عبدلكي وهي عبارة عن بصطار عسكري يدوس على رؤوس مجموعة من الناس , رفع الضابط الطماشة عن عينيه و سأله عن صورة جيفارا من يكون فأجابه : إنه جيفارا وشرح له شيئا عنه, وتابع ضابط الأمن سؤاله عن الناس في لوحة عبدلكي من يكونون فأجابه: هؤلاء نحن , فاستفهمه الضابط مرة أخرى : من أنتم؟؟ أجابه: أنا وزوجتي و أنت و زوجتك وأولادك . صفعه على وجهه وقال له : اتسخر مني يا بن القحبة . لم يستطع منع الصفعات المتتالية عن وجهه لأن يداه كانتا مقيدتان إلى الخلف , و استدرك كم كانت أمه قحبة عندما أتت به إلى هذه الدنيا حدثا طارئا ليتحكم به ابن زانية كمثل هذا الضابط ليشبعه صفعا وهو مكبل اليدين معصوب العينين لا حول له ولا قوة. كان آخر الأشياء التي رآها قبل أن يعيد الضابط الطماشة على عينيه وجه زوجته القلق وعينيها المتسائلة , أجابها الضابط على استفسارها كم سيدوم الوقت لحالتي هذه : إحنا عازمينو على فنجان قهوة حتى نسأله كم سؤال وعندما ننتهي سأعيده بسيارتي إلى البيت. عندما ألقى به السجان جوف الزنزانة شابا أسمر في مقتبل العمر يشرئب جبينه الكنعاني للأفق , كانت تملأ رأسه آلاف السنابل و تنبت في إحدى عينيه شجرة برتقال وفي الأخرى شجرة زيتون , ويعلق في رقبته سنسال ذهبي علق في نهاية طرفه خارطة فلسطين علاقة ذهبية صغيرة . تذكر و تذكر و تذكر , سرح في خياله , ترددت على ثغره ابتسامة لملمت قليلا من الفرح , راح يدندن أغنية تدل على ماض قاس يبدو من نغمها وكلماتها أنه أضاع فيه شيئا غاليا , أضاع صوته,: ( بيدي القيثارة وفمي جرح ينزف صوتي ألما وبشارة , ومن الليل يطل نشيدي قمرا له قلبي ووريدي , قمح بيدي وموسيقى أنشر في الساحات قصيدي ومن الليل يطل نشيدي.) لما شاهد المكان هناك مزدحما بالمعتقلين سأل رفيقه : لماذا تكثر في بلدكم المعتقلون وعندنا في فلسطين يكثر الشهداء؟ تذكر فترة الإعتقال وكيف كان يطارد الشمس الرعاف ليزرعها فوق شعر حبيبته التي لا تحد , عذبة وبعيدة بعيدة, قضى سنواته الإثنا عشر يمددها في قصيدة لم تكتمل .
بينما كانت الذكريات تجتاح رأسه هبت نسمة خفيفة ناعمة ذكرته بالنزلة الصدرية والتهاب الحلق لديه , يبدو أنه لم يتعود بعد صيف هذي البلاد بالرغم من مرور سنواته الخمس فيها , عاودته رغبة الغناء لكنه تذكر صوته الهارب ,. عندما يصاب بالتهاب الحلق الذي يتكرر لديه مرارا يرحل صوته عنه , تذكر أغنية سميح :( لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم , عيوني على بكرة وقلبي معكم) وتذكر سميح , قبل أن يحقق الشهرة التي يحوزها الآن , كان يلتقيه ضمن ثلة من الأصدقاء مطلع الشباب , كان مولعا بصوته وأغانيه التي يسمو الوطن من خلالها في وجدانهم .
أحس بالتعب فاتخذ له مكانا إلى طاولة من الطاولات المنتشرة على إحدى الأرصفة , وانتظر النادل , ولما طال انتظاره له استفسر المدير عن تأخيره ففسر له مدير المقهى أن هذا حالة طارئة , و فجأة استعاد في خاطره حالة الطواريء الدائمة التي أمضى سنوات عمره الخمسين في ظلها, بل استدرك أن مفاصل حياته منذ ولادته كانت حالة طارئة , جاءت به أمه إلى هذه الحياة بشكل طاريء , ورحلت أمه عنه بشكل طاريء , أمضى طفولته متنقلا بالسكن بين العم والجد والخال والخالة وزوجة الأب بشكل طاريء , أمضى سنوات الدراسة إلى أن تخرج من الجامعة بشكل طاريء , حبه الأول كان طارئا , وكل النساء التي دخلت حياته دخلت بشكل طاريء , وكل امرأة في حياته كانت حالة طارئة , تزوج بشكل طاريء , ابتعد عن زوجته في غفلة منه بشكل طاريء , القي القبض عليه بشكل طاريء وفي ظل قوانين الطواريء , أمضى سنواته الإثنا عشر في السجن بحالة طواريء , أخبروه أن زوجته وضعت طفلة بشكل طاريء وبحالة طواريء , رأى طفلته للمرة الأولى في السجن بشكل طاريء , وترعرعت بحالة طواريء , وتم الإفراج عنه بشكل طاريء , و انفصل عن زوجته بشكل طاريء وتوفي والده بشكل طاريء , وكأن قوانين الطواريء في البلد التي عاش بها لاجئا عممت نفسها على حياته , لقد أحاطت به حالة الطواريء من كل جانب وأحس أن حياته كانت بلا ثابت , بل أن الثابت الوحيد في حياته لجوءه والتغريبة الأولى التي ورثها عن أهله و الذي أرسى اغترابه الأبدي , والطاريء الذي وسم سنوات عمره , أيكون ادوارد سعيد قد قضى يعاني ما أعانيه أنا الآن ؟ تساءل , أم تكون هذه الحالة حالة كل اللاجئين في ديار اللجوء؟ وبعد أن تناول رشفة من كاسة الزهورات التي أحضرها له النادل لتوه تساءل: أليس لهذي الجائحات من عمل غيرنا , أكل هذا الضباب من الطاريء من أجل نيزك هبط صدفة فصنع نكبتنا؟. أحس وكأنه يتجرع خروع السآمة , وسأل نفسه : لماذا يفتقد طعم الطمأنينة منذ ولادته؟ حاولت أن تبزغ من ثغره ابتسامة أمل طارئة وتساءل ببراءة: من يعيد لنا صفاء الضحكة الأولى ؟ من يعيد لنا براءة القبلة الأولى و مواسم الحصاد واللعب بالروزنا ؟؟ من يعيد لنا براءة طفولتنا ويحطم التوحش الطاريء الذي عرش على روحنا؟؟ يشعر وللمرة الأولى أن حساسيته الداخلية معطوبة , ترى لماذا أصابه هذا الإحساس ؟ ألأنه افتقر طويلا للوطن الضائع؟ أم للوطن الطاريء ؟ أم للوطن الذي تسوده حالة الطواريْ ؟ حدث نفسه متسائلا: متى يمكننا الخلاص من هذا التسرطن في أرواحنا؟ قضت زهور القهر كل أوقاتها تطلع عبر سنوات عمره من زوايا الانتظار لتعرش على جذوع أيامه فتختلس ابتسامته وتمتص أحلامه , فيلجأ للسهاد يكسر به عيونه بانتظار الأمل بالخلاص ليستبدل الطاريء والحالة المؤقتة في حياته بالثابت والمستقر , ولتكتمل ملامح الوجه الذي لم تكتمل ملامحه بعد , ينتظر حكاية لم تكتب حروفها بعد تستخرج حروفها من فجر الأيام القادمة لتدون له صفحة النهاية السعيدة , لكن الألم كان لغة حكاية السنوات الخمسين الماضية , والإنتظار المبهم الغايات كان ترسانة تلتف حول عنقه وتخطف بريق اللحظات الجميلة التي تعبر أيامه بشكل طاريء , يرتجي أملا يخرجه من غربته واغترابه , فيلتقي بشكل طاريء صديقة غريبة مثل عصفورة مذعورة ووحيدة , كان كل منهما على غصنه بشكل طاريء يشدو بأغنيات حزينة يبعثها من أعماق صوته في إحدى أمسيات الليل , وبشكل طاريء , وفي بحار الصدفة لا يدري متى ارتطمت أصوات غربتهما , ولا يدري كيف تلاقت صرخات آلامهما وكيف على حافة القهر التقيا فأبحرا في مراكب العيون اللا متناهية يبحثان معا عن الملاذ , سوية عديا , وضحكا , تمردا , سوية عادا إلى مرابع الطفولة فالتهمتهما روعة الحياة , سوية أبحرا وفي يقينهما أن هذا الوهج الصارخ في عيونهما سيحتوي صقيع أيامهما وسينبت الفرح ليعرش على جراح غربتهما فيلتئم الإغتراب . همس في سره متنهدا : آه يا صديقتي الغريبة : قولي لي بحق السماء أي مشاعر هذه التي تدفقت فينا لتروي أزاهير الحزن فينا؟؟أحلفك بروح القدس: أي قلق راح يعصف بنا يرسخ لدينا إغترابنا ..قطع حضور النادل الطاريء إليه سروده ليسأله إن كان يرغب بطلب آخر يتناوله, طلب كأسا من الميرمية ليخفف جفاف الزكام , ولما انتهى من تناوله انتبه لمرور الوقت عندما أحس بقشعريرة تعم جسده فدعته للانتباه لمغيب الشمس الطاريء , وبشكل طاريء لملم حاجياته عن الطاولة , نهض بتثاقل ورتب هندامه , وبشكل طاريء غادر المكان..









#محمود_جلبوط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دعوة تحذير متواضعة لدعاة التغيير الديموقراطي في الوطن العربي
- انتظار - قصة قصيرة جدا
- وتشرق الشمس من جديد
- صمت الحوارية...وحديث العيون
- الديموقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي
- قضية العرب الأولى ..قضية فلسطين
- العالم قرية صغيرة
- مصلحة الشعب الفلسطيني
- غزة … المنعطف المجهول
- شعر..لصديقة من الوطن
- أحداث غزة واتفاق القاهرة …
- اللاجئون الفلسطينيون وحق العودة …
- رأي في العمل السياسي
- مشاركة من يساري ديموقراطي يسكن مجاورا للعراق استجابة لنداء ا ...
- قصة قصيرة................موعد
- لنجد أشيائا مشتركة نقوم بعملها مع أولادنا لنا ولهم
- لماذا يردني أهلي أن أبدو جيدا أمام الآخرين
- لماذا لا يتركون أهلي فرصة لمبادراتي...؟؟
- هل نصغي بما يكفي لأطفالنا ؟؟
- ما أشبه المشهد السوري بالمشهد العراقي


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود جلبوط - حالة طواريء.......قصة قصيرة