|
العراقي والمثقف
محمد لفته محل
الحوار المتمدن-العدد: 5095 - 2016 / 3 / 6 - 20:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المثقف في منظور عامة العراقيين هو كل من يقرأ الكتب كثيراً، ويتصورون انه يفهم كل شيء بالحياة جاهلين مبدأ التخصص العلمي، وإذا اعتذر المثقف عن الإجابة على سؤال موجه له قالو له بتعجب:(لعد شلون انت قاري كتب؟) والمثقف محترم عند العراقي ويشار له بكلمات مثل (يقره هواي كتب) أو (أربعة وعشرين ساعة لازم الكتاب) أو (عيونه رايحه من الكتب) مع ذلك فالعامة تعتبر القراءة ترف وبطر لأنها (ما توكل خبز) والعمل أفضل منها كونها كما يتصور البعض قد تقود للجنون أو إضعاف العقيدة، والشباب يعتبرون الذي يقرأ الكتب كثيراً (معقد) بل أن بعض العراقيين البسطاء يسمي الكتاب (دفتر) وهناك من يتعذر بأن القراءة تسبب له الصداع، أو أن لا وقت لديه للقراءة بسبب كثرة مشاغله لكنه يستطيع التفرغ للمقهى أو لكرة القدم مما يدلل على عدم جدية التفرغ ولو قليلا للقراءة. والقراءة عند العراقي مهمة فقط لأجل الدراسة للحصول على الشهادة التي بواسطتها يحصل على الوظيفة، ولا يقرأ العراقي إلا الكتب الدينية (قصص أنبياء، فتاوى، أدعية، أوراد) أو كتب الأبراج والشعر الغزالي والروايات الغرامية وغالباً في مرحلة الشباب فقط، ومن الصحف يفضل قراءة الأخبار الرياضية وأخبار المنح والرواتب وهذا راجع ربما لتحريم الفلسفة في العهود الإسلامية والى الحصار الاقتصادي الذي اثر على نفسية المواطن وتوجهاته عندما أصبحت المعيشة لا يمكن تحصيلها إلا بالكد المضني، يضاف له ثقافة اجتماعية تمجد العمل وجمع المال كمعيار للنجاح وضمان المستقبل في مجتمع محافظ أصلا تجاه كل ما هو جديد يقترن لديه بالبدعة والأجنبي والزندقة. إن كلمة مثقف تقترن عند العامة بالرقة والنزاكة والأنوثة فهي سلبية بهذا المعنى، وتقترن أيضا كلمة (مثقفين) بالحرية (فري) وبحيازة التقنيات الحديثة والسلوكيات المهذبة، وهذه الصورة تساعد كثيرا في إبعاد المثقف عن الناس وتساهم في خلق نرجسية لديه يتعالى بها عليهم فتزداد الهوة الاجتماعية والنفسية، من هنا ترى أن المثقف بعيدا عن الجماهير مخلياً مكانه لرجل الدين والسياسة الذين يعرفون كيف يؤثرون بالجمهور، ولهذا الابتعاد آثار سلبية خطيرة على المجتمع يحول دون تقدمه ويجعله عرضه للتلاعب به بين السياسي والفقيه المتحالفان معا كما يشير بذلك عالم الاجتماع (خليل احمد خليل). يحب المثقف العراقي أن يكون له طبقة خاصة به يعتزل بها يرتاد مقاهي ونوادي المثقفين ويأنف مخالطة العوام ويصفهم غالباً بأوصاف (أغبياء، جهلة، متخلفين) ناسياً مسؤوليته الثقافية لتوعيتهم منتظراً منهم وعياً منفتحاً لكي يفهوا ويستوعبوا كتاباته!! قالباً المعادلة فبدل ان يثقف الناس بكتاباته، على الناس أن تتثقف لكي تستوعب كتاباته! ما جعله عرضه لنقد جيل آخر من المثقفين الشعبيين أمثال الدكتور (علي الوردي) الذي سماهم (أصحاب الأبراج العاجية) لأنهم يقدمون المثال على الواقع، يقول بهذا الصدد (أن أصحاب المنهج "العقلاني" اعتادوا أن يعيشوا بتفكيرهم الاجتماعي في أبراج عاجية، فإذا أتيح لهم أن يمروا بالأزقة والأسواق وخالطوا العامة نظروا إليهم نظرة استعلاء وشموخ وأخذوا يشمئزون مما يجدونه بينهم من عادات "سخيفة" أو عقائد "باطلة". أنهم يظنون أن العامة إنما صاروا كذلك لجهلهم وسوء تفكيرهم وهم قادرون إذن أن يصلحوا أنفسهم إذا استعملوا عقولهم وفكروا تفكيرا سليما.)(فالمجتمع في نظر تلك الفلسفة ليس سوى مجموعة من الأفراد، وكل فرد له "عقل" يرشده إلى الطريق الرشاد أو الضلال. ومعنى هذا أن المشاكل الاجتماعية هي مشاكل "عقلية" بالدرجة الأولى، فإذا صلحت عقول الأفراد صلحت أخلاقهم واستقام نظام المجتمع بها فلا مشاكل فيه ولا هم يحزنون!)(1) ويضيف (هادي العلوي) إضافة مهمة (ولعل أهل العلم والعقل عندما تتسع عليهم المعرفة بالحقائق ينتابهم شعور بالاشمئزاز من جهل العامة فيتمايزوا عنها. وكثيرا ما تصبح كلمة عامي صفة مثيرة للاستهجان لما يقترن بها من الجهل. وهم لا يفرقون بين الجهل والأمية فالعوام أميون أي لا يحسنون القراءة والكتابة لكنهم قد لا يكونوا جهلة بالضرورة لأنهم يزاولون مهناً وصناعات تحتاج إلى الفكر والمهارة ومن يملك الفكر والمهارة لا يسمى جاهلاً وإنما يسمى أمياً إذا كان لا يقرأ ولا يكتب. والعوام أيضا يشتملون على وعي اجتماعي طبقي وسياسي) وهي ليست مصدر إزعاج بل هم في الحقيقة من مصادر الوعي(2). وكما قلت في مقال سابق (مخالطة الناس كتاب يجب أن يقرأه كل مثقف حتى لا ينعزل في أبراج عاجية ومواقف وتصورات مثالية فانزل أيها المثقف من برجك واخرج من نرجسيتك وتواضع لتؤدي رسالتك.) وهذا التعالي هو سبب اكتفاء المثقف بالنقد الخارجي فقط دون التقرب الموضوع وتحليله وتفكيكه الذي سيتيح له فهما وتفسيراً أفضل وأعمق. وكل مثقف يتقرب للسلطة على حساب الجماهير أو من أجل مكاسب شخصية يسقط في نظرها/الجماهير ويخسر رسالته التاريخية والإنسانية. فالقطيعة بين المثقف والجمهور يتحملها الاثنين بسبب الصورة النمطية السلبية المتبادلة بينهما ويجب إصلاحها بمبادرة من المثقف بالتوجه للناس بفكره وكتاباته ضمن اختصاصه الأدبي أو العلمي أو الفني وإلا سيبقى كل شيء على حاله من تخلف ورجعية يستغلها السياسي ورجل الدين المتحالفان معا لاستغلاله حفاظا على مصالحهما ومكاسبهما المشتركة. المثقف الحقيقي بتصوري ليس الأكاديمي أو من يقرأ الكتب إنما هو كل من اكتسب المعرفة أكاديميا أو بالتثقيف الذاتي فغيرت هذه المعرفة أفكاره وتصوراته السابقة وانعكست في سلوكه وحياته، ثم تصبح مشروع إبداع أو تغيير ينتجه للمجتمع ضمن اختصاصه الأدبي أو العلمي وكلما اقترب المثقف من واقع الناس وحياتهم وعصره وابتعد عن المثاليات والمطلقات الفكرية الكونية كلما كان مثقفا عمليا عضويا بتصوري يؤدي دوره التاريخي على أكمل وجه، والمثقف النقدي وحده غير كاف إذ يجب أن يسبق النقد تحليل الموضوع من الداخل قبل التسرع بالنقد من الخارج حتى يصبح بالإمكان تفسير الظاهرة ثم نقدها للتحكم بها تصحيحا أو تغييرا. _______________________ 1_الدكتور علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، إصدارات دار الحوراء، 2005، ص372،373. 2_هادي العلوي، مدارات صوفية، تراث الثورة المشاعية في الشرق، الأعمال الكاملة 12، المدى، الطبعة الثالثة 2014، ص45.
#محمد_لفته_محل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رؤية اجتماعية للصعود للقمر
-
العراقي والشيوعية
-
التحليل الثقافي لكلمات السخرية
-
ما هو الحرام النوعي؟
-
العراقي والنظافة
-
القاموس العامي للمجتمع العراقي 1
-
رؤية إناسية لرأس السنة
-
من تعليقات الفيس بوك
-
النظرية الشجرية للبشر في المجتمع العراقي
-
المفهوم الاجتماعي للمدنية
-
العرقي والخمر
-
نقد نقد المجتمع العراقي
-
مراجعة في فكر هادي العلوي
-
الحرام النوعي للأكل
-
العراقي والعيد
-
انطباعات عن ثورة التحرير العراقية
-
العراقي والحيوانات
-
العراقي والشارب
-
الحرام النوعي للجنس
-
التفسير الاجتماعي للتحية العراقية
المزيد.....
-
حلق اللحية وحكمها في الإسلام.. ماذا قال ابن باز بعد تصدر الم
...
-
مشهد صادم.. رجل يعثر على أكثر من 100 ثعبان سام في حديقة منزل
...
-
صور.. من هم رهائن حماس المزمع إطلاق سراحهم السبت؟
-
تدمير 36 مسيرة أوكرانية فوق عدة مناطق روسية وأضرار طفيفة في
...
-
حفيدة طيار من فوج -نورماندي-نيمان- تعرب عن رغبتها في زيارة م
...
-
القسام تستعد لتسليم 3 أسرى إسرائيليين والاحتلال يهدد بمنع اح
...
-
السلطات الأميركية تعلن مقتل جميع ركاب طائرة تحطمت بألاسكا
-
الجيش يواصل تقدمه نحو الخرطوم ويدمج قوات النخبة مع -درع السو
...
-
غزة والبنتاغون وبايدن.. ترامب يواصل مسلسل التصريحات المثيرة
...
-
اصطدمت بحافلة وانفجرت.. فيديو يظهر لحظة تحطم طائرة على شارع
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|