المنهج التاريخي

محمد بليوق

الحوار المتمدن-العدد: 5094 - 2016 / 3 / 5 - 01:08
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

تبقى مسالة التراث من القضايا الحساسة في حاضرنا لان معرفة تراثنا وخاصة الفكري منه،تتطلب منا يقظة فكرية وعلمية عاليتين تجعل معرفة التراث من اولويات دراسة التاريخ العربي الاسلامي داخل الجامعات المغربية. لكن تحديد المنهج المعرفي الأنسب لاستيعاب هذا التراث استيعابا امثل،يقتضي ان يكون قائما على قاعدة فكرية تعبر عن طموحات الفئة الاكثر حيوية داخل المجتمع،على اعتبار ان المعرفة التراثية خاضعة دائما من منطلقات فكرية تشكل قاعدتها الاديولوجية وبالتالي لا تكون المعرفة واحدة،بل متعددة بتعدد الايديولوجيات داخل المجتمعات الطبقية،اذن ما هو المنهج الذي يتيح انتاج معرفة تراثية علمية؟وما اساليب النظر الى هذا التراث؟
عرف المجتمع العربي الاسلامي اوج اشعاعه الفكري في فترة العصر الوسيط الذي احتضن مجموعة من العلماء والفلاسفة امثال ابن رشد والغزالي وابن الهيثم والفرابي...هؤلاء تركوا بصمات فكرية في عدة ميادين،وقد ركزنا اهتمامنا على الجانب الفكري منه،لذا فان معرفة تراثنا هي حاجة ملحة تفرضها الضرورة المعرفية لحاضرنا لاستيعاب مشاكلنا من خلال استقراء التاريخ.
إن النظرة إلى التراث دائما تحمل بمحتوياتها نظرة مشتقة من اعتبارات الحاضر اي ان نتاج الحاضر لا من إنتاج الماضي الذي هو التراث،وما دامت المعرفة التراثية نابعة من هموم الحاضر فهي لا تخضع للواقع التراثي بقدر ما تخضع الى نوع المعرفة التراثية والظروف الاجتماعية والاقتصادية لمنتج هذه المعرفة،هذا المعنى ينطبق على كل معرفة تراثية مهما يكن منطلقها الاديولوجي،مثال السلفية التي تنتعش في حلبة الصراع السياسي على الصعيد العربي والتي تصر على رؤية الحاضر من خلال الماضي دون العكس حتى هي لم تخرج على المعنى المذكور،حيث يقول حسين مروة "ان السلفيين حتى بإصرارهم على التزام هذا النوع من الرؤية للتراث إنما هم ينطلقون من إصرار معاكس له،إنهم ينطلقون من الموقع الذي تحتله في هرمية البنية الاجتماعية الحاضرة،طبقة معينة يعبرون عن ايديولوجيتها إما لأنهم في موقعها الطبقي نفسه أو لسبب آخر يتعلق بتكونهم الفكري وغياب الوعي السياسي والطبقي عنهم". من كتاب النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية، ج 1 ص 23.وبالتالي فان تعدد المنطلقات والايديولوجيات في قراءة التراث ومعرفته تولد لنا بدون شك تنوع الزؤى حول الحاضر باعتبارهيناقش قضايا العصر ومشاكله من قبيل الديمقراطية والفكرية...
إذا كانت المناهج السلفية تضع كامل اهتمامها في إبراز السمات الخاصة بالجانب الغيبي والمثالي من صورة التراث ؛أي تنظر إليه نظرة وحيدة الجانب،فان منهج المادية التاريخيةَـ الذي اعتمدنا عليه للقيام بهذا البحث ـينظر في هذا التاريخ وذاك نظرة شمولية لا ترى فيه جانبا دون آخر،بما في ذلك منهج المثالية الذي يعتبر شكلا تاريخيا للفكر فلسفيا كان أم غير فلسفي؛لأن كلا من هذه الأشكال هو واقع تاريخي ومن نتاج الواقع المادي الاجتماعي.
لقد تعددت الكتابات حول التراث الفكري العربي الإسلامي من طرف مؤرخين ومفكرين تختلف انتماءاتهم التاريخية والاجتماعية والايديولوجية فمنهم التقدمي والمحافظ ومنهم المادي والمثالي... اذن ماهي اساليب النظر الى تراثنا العربي الاسلامي؟ سنعرض في مايلي لبعض هذه الاساليب بايجاز:
ــ اسلوب النظر الى تاريخ تطور الفكر:فهذا الاسلوب يرى اصحابه ان تاريخ تطور الفكر هو تاريخ افكار ونتاج فكري شخصي؛اي انه نتاج علاقة اشخاص بما تم انتاجه من افكار دون اعطاء الاهمية الى صلة العملية الفكرية بالظروف الفكرية الاجتماعية والاقتصادية التي ميزت تلك الحقبة ، هذه النظرة نجدها كثيرا في كتب تدريس مادة الفلسفة في الثانوي والجامعي كاحد المقررات الذي جاء بعنوان "اعلام الفلسفة العربية" هذا الكتاب يمثل الظاهرة بكل مقاييسها،فهي ترسخ المنهجية المثالية في تفكير النشئ .
ــاسلوب النظر الى علاقة تبادل الثقافات بين الشعوب:ان معتنقي ها الاسلوب يرون في طبيعة تبادل الثقافات بعضها ببعض نظرا ميكانيكيا؛اي يكفي ان تنتقل ثقافة شعب الى شعب اخر بوسيلة ما لكي تسيطر على تفكير الشعب الذي انتقلت اليه هذه الثقافة وتمحي الثقافة السابقة عليه، ويقول في هذا الصدد حسين مروة"بهذا الاسلوب الفكري نظر كثير من البحوث والدراسات التي اهتمت بالفلسفة العربية الاسلامية،ولاسيما ماكتبه بعض المستشرقين الاوربيين من الزعم ان هذه الفلسفة ليست عربية واسلامية الا بقدر كونها نسخة عربية للفلسفة اليونانية".نفس المرجع السابق ص 45.فهؤلاء المستشرقون يرون في الفلسفة العربية على انها صورة مصغرة للفلسفة اليونانية،وقد تاثر بهذا الاسلوب كثير من الباحثين العرب المحدثين فيرى عبد الرحمن بدوي في كتابه التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية"ان الروح الاسلامية لم تستطع تفهم روح الفلسفة اليونانية".وفي واقع الامر ما كان للفلسفة اليونانية ان تؤثر اثرها التاريخي في فلسفتنا الا بطريقة الانصهار مع الفكر العربي الاسلامي الداخلي اي ذو الانتاج الخاص ،حيث اتخذت الفلسفة اليونانية واقعا عربيا إسلاميا "واكتسبت بهذا الواقع حياة جديدة تختلف عن حياتها اليونانية الصرف" حسين مروة،الموقف من التراث في الدين والفلسفة،مجلة الآداب،ص 353.
ــ اسلوب النظر في تمايز الثقافات القومية:هذا الاسلوب ينعت باسوا الاساليب المعرفية التي تطرقت الى مسالة التراث العربي الاسلامي،حيث يرى معتنقيه في تمايز الثقافات القومية على اساس عرقي عنصر،وبالاضافة الى ان هذا الاسلوب مثالي فهو ينطلق من ايديولوجية استعمارية تصنف مراتب الشعوب تصنيفا هرميا تحكمه نظرية الجنس التي ابانت عن فشلها وسوء فهمها للفكر الانساني بصفة عامة.
ــ اسلوب النظر التاريخي في التراث:قبل التطرق الى طريقة تعامل اصحاب هذا الاسلوب مع التراث،اود تقديم تعريف لمفهوم التاريخي،ان التاريخي عند مهدي عامل هو ما ينتج تحولات تاريخية نوعية،لا تعيد انتاج العلاقات الاجتماعية القائمة،بل تنتج جديدا لم يكن ملموسا في زمن مسبق،وتتمثل تاريخية الاحداث في الاثر الاجتماعي اللامسبوق الصادر عنها,فكثير من الاحداث تقع وتحدث ضجيجا لكن لا تستحق صفة تاريخية لانها لم تحدث تحويلا للبنية الاجتماعية.فهذا الاسلوب ينطلق من كون التراث نتاج فكري تراثي مع احترام خصوصياته التاريخية التي انتجته،والمنهج الذي يسمح باستعمال هذا الاسلوب هو منهج المادية التاريخية الذي تعامل به باحثون يقفون من التراث الفكري العربي الاسلامي موقفا ايجابيا ،لان مبادئ المنهج تلزم الباحث على احترام مراحل البحث العلمي والتزام الموضوعية في دراسة تاريخ شعب ما مع احترام خصوصياته والظروف التي انتجت هذا الشكل من الفكر.ونسوق في هذا الصدد مثال من عمق تراثنا وهو الصراع حول الخلافة فاحمد امين ينفرد بفهم هذه المسالة فهما تاريخيا؛حيث يذهب الى ان الصراح على الخلافة هو صراع سياسي اشبه ما يكون من صراع احزابنا السياسية في عصرنا،لكن هذه الاحزاب اتخذت في هذه المرحلة صبغة دينية قوية وبدل ان يسمى حزبا يدل على مبادئه السياسية سمي فرقة دينية يدل على مذهب ديني:خوارج شيعة مرجئة.
يجب الاشارة الى ان الاساليب الاربعة التى تطرقنا اليها ليست وحدها الموجودة،لكن نستطيع الزعم بان الاساليب الثلاث الاولى تنطلق من منهج فكري واحد رغم اختلافها اسلوبيا وهو المنهج اللاتاريخي،فيبقى الاسلوب الاخير هو المنهج الأنسب الذي يتيح دراسة موضوعية تاريخية لتراثنا الفكري.

وفي الختام،يجب التاكيد على العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضرمن جهة،وبين الحاضر والمستقبل،هذه النظرة الجدلية الاخيرة تعتمد على امرين:
كون معرفتنا بالتراث نتاج علم وايديولوجية معاصرين للعلوم والمناهج.
كون هذه المعرفة لا تستوعب التراث الا في ضوء تاريخيته؛اي في ضوء حركة الزمن الذي انتجه.

#محمد_بليوق (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات