|
متعة الفعل ومرارة الوهم ..قراءة في نصّ -راقصة الباليه- للأديب حمد حاجّي
أ.حمد الحاجي
الحوار المتمدن-العدد: 5093 - 2016 / 3 / 4 - 11:07
المحور:
الادب والفن
النّصّ: _________ راقصة الباليه غصَّت القاعة بالضُّيوف والمتفرِّجين ... عازف البيانو مبتور اليدين يجلس في أحد الأركان .. على الرُّكح نزلت ..الباليرينا الأولى.. جمجمة تلبس قميصا أسود وبنطلونا ورديّا مشدودا على الجسم. وقفت على كاعب ونصف بالوسط ، وعلى رأسها كعكة الشَّعرالجذَّابة .. ويبدأ الرقص على رؤوس أصابع القدمين..يصفِّقون ما بال الموتى في منتهى العنفِ حين يؤجَرون كالزلزال والبراكين يصفِّقون..! تأخذ من كعكة شعرها قبضة وترميها، بحجم أطنان من الديناميت . ينفجر الركن المقابل.. لا يعبأ أحد ، يصفِّقون .. على بعد خطوة، تنفجر القاعة .. تلتفُّ كالأفعى من مفصل الفخذ حتى أطراف الأصابع.. الرَّقصات الرَّشيقة، وخفة الأقدام والحركات، ما أبدعها ..! يصعب على العين متابعة حركة أقدامها السريعة • مع كلِّ خطوة حركة وترمي رمَّاناتها يصفقون.. تتداعى الجدران المتقابلة.. فجأة تعبر فوق رؤوسهم ، يطيرون للسَّقف ..وينزلون على الرُّكح.. وتستوي الأركان من مرمر فاخر ورخام ونقوش ذهبية على السَّقف يصمت العازف والراقصون.. ..كانت المرأة تخطو درجات درجات على البساط الأحمر تتهادى... تتحرك القاعة تحملهم في أطباق طائرة .. مدَّت ( الباليرينا الأولى) يدها تتلقف عازف البيانو عن يمينها .. ولكن ذراعا لم يمسك يدها، تصعد ...تصعد.. تصَّاعد.. (حمد حاجي) _________________________________________ القراءة : ________ تقرع القريحة ناقوس مخاضها فيستنفر الكاتب كلّ طاقمه البنائيّ و الأسلوبيّ و اللّغويّ و البلاغيّ و المقصديّ لاستقبال المولود ونفخ الحياة في حروفه...هو مولود كان قد شهد تشكّله في رحم القريحة و أخذ سماته التي ارتسمت فيها رغبات تلك القريحة التّائقة إلى الألق والإبداع ، وخُطّت فيها مكابدتها وحم الفكر واختلاجاته وتجاربه المعلنة والمضمرة ..فيفد إلينا مولودا سيماه تتوارى خلف وجوهه المتعدّدة ، كساؤه ستار و مؤشّر في آن.. النّصّ الذي أتناوله بالقراءة كساه كاتبه الدكتور حمد حاجّي لبوس الفنّ فجعل عتبته تحمل العنوان " رقصة الباليه" ليجعلنا في حضرة مشهد راقص حرفه عربيّ ومنهله غربيّ..وهو ما يدفعني إلى اللّهاث خلف أسئلة سكنتني منذ العنوان إلى حين الانتهاء من قراءة آخر حرف في النّصّ.. فماهي رقصة الباليه..؟ وكيف كان حضورها في النّصّ هذا؟ وأيّة خصائص فنّيّة وظّف الكاتب لرسم المشهد الرّاقص هذا؟ وما مقصديّة انتقاء الكاتب هذه الرّقصة اعتمادا على سماتها الخاصّة وعلى السّمات الفنّيّة ودلالاتها..؟ رقصة الباليه: ________ هي أحد فنون الرّقص ظهرت في عصر النّهضة الأوروبيّة وخاصّة في إيطاليا.ثمّ بدأ في التّطوّر كفنّ مستقلّ في فرنسا. من أهمّ خصائصه الرّقص على رؤوس الأصابع ترافقه الموسيقى التي أساسها العزف على البيانو، والإيماء والمشاهد المسرحيّة ..ويشترط في الرّاقصة أن تكون مرتدية قميصا أسود وسروالا ورديّا وأن يتّخذ شعرها شكل كعكة حتّى تتيسّر مشاهدة حركات الذّراعين والكتفين والعنق والرّأس ، والتي تشترط المرونة والسّرعة والسّيطرة والرّشاقة .. وقد رُصدت لهذه الرّقصة غاية التّسلية لذلك كان لها منذ نشأتها تلك جمهور من المتفرّجين والضّيوف... حضور رقصة الباليه في هذا النّصّ: ____________________ تراوح استحضار الكاتب رقصة الباليه في نصّه بين الوفاء واللّاوفاء. 1 الوفاء تجلّى من خلال: حضور شخصيّة الرّاقصة ولباسها وهيئتها وحركاتها والموسيقى والرّكح والمتفرّجين والضّيوف والتّصفيق استمتاعا بالمشهد 2 اللّاوفاء برز من خلال العناصر التالية: _عازف البيانو مبتور اليدين _الرّاقصة تقف على كعب ونصف ورأسها جمجمة _المتعة تصير خرابا _المتفرّجون يتحوّلون إلى الرّكح راقصين _ذراع عازف البيانو تخذل يد الرّاقصة حين تطلبها _الرّاقصة تصعد تصعد تصّاعد..خاتمة مفارقة لكلّ خواتم الرّقصات.. _رسم الكاتب علامة موسيقيّة في آخر التّركيب "حركة أقدامها السّريعة" تحمل شكل علامة "السّوداء" لكنّها مبتورة بلا ذيل لها ينخفض أو يرتفع.. ولا غرابة أن أعتبر أنّ لكلّ هذه الخصوصيّة في رسم مشهد رقصة الباليه في النّصّ هذا مقاصد يرمي إليها الكاتب بناء على أنّ لكلّ نصّ ذاكرة وآفاق تلقّ..وعسى الجانب الفنّيّ لهذا النّصّ ييسّر الولوج إلى هذه المقاصد وكشف الحُجُب عنها.. الخصائص الفنيّة لنصّ: راقصة الباليه: __________________________ لكلّ قارئ زواياه الخاصّة التي يتيسّر له منها تناول نصّ بالقراءة . وإنّي إذ أجول حول النّصّ هذا أسائله معابر إلى عميق درره قد أسرّ لي بأن ألجه من بوّابة البناء الحدثيّ والإيقاع لأرتكز عليهما وعلى مواطن عدم وفائه لشروط رقصة الباليه وهو يبني عليها حكايته، في بناء قراءتي التّأويليّة لمقاصده.. 1-حدثيّا : اتّخذ هذا النّصّ بناء متناميا حيث بدأ بالتّمهيد للرّقصة بذكر عناصرها المتوفّرة(من بداية النّصّ إلى "الجذّابة" في السّطر الخامس) ، لتبدأ الرّقصة هادئة ممتعة فسريعة خالبة النّفوس (إلى نهاية السّطر السّابع) لتتّخذ الأحداث وجهة التّأزّم والتّعقيد والمشهد الرّاقص يلد خرابا والموازين تنقلب(ينفجر الرّكن المقابل/ تنفجر القاعة/ تتداعى الجدران المقابلة/ تعبر فوق رؤوسهم/ يطيرون للسّقف/ تتحرّك القاعة/ تحملهم أطباق طائرة/ لكن ذراعا لم تمسك يدها ) لتستعيد الأحداث هدأتها بتصعّد الرّاقصة كأنّها قطرة ماء تتّخذ رحلتها نحو السّماء لتشكّل مع نظيراتها غيمة قد تكون حبلى بالرّواء لأرض جدباء.. 2 إيقاعا: انبنى الإيقاع في هذا النّصّ على ركيزتين هما الإيقاع الخارجيّ والإيقاع الدّاخليّ. ××أساس الإيقاع الخارجيّ هو الامتداد الخطّيّ لمراحل الحكاية.وقد اتّخذ هذا الشّكل: -التّأطير للحدث الأسّ أي الرّقصة: وقد امتدّ على مدى خمسة أسطر ونصف -بداية الرّقصة: وقد امتدّت على مدى سطرين ونصف -التّوتّر واختلال التّوازن أثناء الرّقصة: وقد امتدّ على مدى 15سطرا -خاتمة الرّقصة : وقد امتدّت على مدى السطرين الأخيرين من النّصّ ليتّخذ الإيقاع الخارجيّ دور المرآة الكاشفة عن تجاذب بين إرادة الوفاء لأصل الحدث(الرّقصة) وإرادة الانزياح بها عن مُنبثقها الأوّل وغاياتها التي من أجلها كانت الرّقصة وكانت الرّاقصة على الرّكح ذاك..وسأبيّن ما كشف لي ذلك من مقصديّة للنّصّ في مرحلة لاحقة من قراءتي لهذا النّصّ. ××انبنى الإيقاع الدّاخليّ للنّصّ هذا على التّكرار الحرفي واللّفظي والتّركيبيّ الجليّ حيث نجد أنّ -التّكرار الحرفيّ قد تجلّى من خلال حرف العين الذي يتكرّر أربعين مرّة ، وحرف القاف الذي يتكرّر خمسا وعشرين مرّة، بينما يتكرّر حرف الكاف تسع عشرة مرّة ..ثلاثة حروف تتكرّر بتفاوت ترتيبيّ تنازليّ فتكوّن كلمة" عقف" وهو فعل من معانيه جعل العصا معوجّة والخطّ المستقيم منحنيا مائلا والمسار معوجّا منحرفا عن استقامة كانت فيه -التّكرار التّركيبي : نجد في نصّنا هذا تكرارا للمركّب بحرف الجرّ "على"تسع مرّات .وقد دالّا في سبع منها على الظّرفيّة المكانيّة( على الرّكح/على الجسم/ على بعد خطوة ونصف/على الرّكح/ على السّقف/على البساط الأحمر)وفي موضعين على الهيئة(على كعب ونصف/على رؤوس أصابع القدمين) مغلّبا بذلك الكاتب المكان على الحال وكأنّه يقول:" في المكان تنحت كينونتك.." -التّكرار اللّفظي تجلّى من خلال تكرار مفردة "الرّكح" مرّتين ،ومفردة "الأركان " مرّتين و" يصفّقون" أربع مرّات وكأنّنا بالكاتب يخصّ كلّ ركن بفعلي تصفيق لينتصب كلّ منهما ركنا لمشهد مختلف عن الآخر رغم أنّ الموضوع واحد وهو رقصة الباليه..وهنا أمهّد للدّخول في تقفّي مقصديّة النّصّ " راقصة الباليه" ، التي تعاضد الإيقاع بشقّيه والبناء الحدثي والتّوظيف المخصوص لرقصة الباليه لرسم ملامحها والإيماء إلى خباياها.. القراءة المقصديّة للنّصّ: _________________ انتقى الدكتور حمد في نصّه هذا رقصة الباليه مشهدا حكائيّا حمّله من الدّلالات ما يتطلّب منّا مسارا لاهثا خلفه ونحن نفكّك النّصّ ونسائله..وبعد أن أجهدني هذا المسار أجد نفسي أمام رقصة ليس فيها من الرّقص إلّا ما قال عنه العرب قديما "رقصة الدّيك الذّبيح"..فالنّصّ مشهد حكاية عربيّة يروي جوهر معاناة تكابدها أوطاننا بسبب نسج على منوال يُخيّل أنّه عربيّ وهو في جلباب الغرب مدسوس مثّله الكاتب برقصة الباليه..رقصة بطلها الأوّل عازف الموسيقى الدّافعة إلى الرّقص مبتورة يداه لا قدرة له على العزف وما موسيقى الرّقصة غير تسجيل لا يحمل روح أنامله كشف عنه السّارد بقوله" عازف البيانو مبتور اليدين يجلس في أحد الأركان" تصوّر فعلا يُسند إلى سادة وأحزاب عربيّة في تحقيق الدّيمقراطيّة وهم في حقيقة الأمر لا يملكون من ذاك الفعل غير ترديد أصوات تأتيهم أوامر، هبات، مشاريع من الغرب ،فيرقص الشّعب على اسطوانة مشروخة يخالها من الهويّة تنبجس.. رقصة باليه تتشوّه منذ اللّحظة الأولى بانعدام الحضور الحيّ الحينيّ للموسيقى وبجمجمة تعتلي جسد الرّاقصة..الجمجمة ذاك الهيكل العظميّ المفرغ من الدّماغ وكلّ وظائفه المسؤولة عن أفعال الإنسان وحياته..هي التّبعيّة العمياء للغرب دون تعقّل ولا تفكير وكأنّنا نكتفي بمشاطرتهم تحوّلا تاريخيّا سبقونا إليه بقرون وسمّوه نهضة وحين بلغناه سمّوه ربيعا ما أسرع أن حلّ بعده صيف قائظ تكاد رمضاؤه تيبّس عروق الحلم فينا.. رقصة باليه يبيت فيها غرض الاستمتاع والتّرويح عن النّفس ظفرا بالدّمار والخراب..والجمهور متفرّج لا يفقه ولا يهتمّ(لا يعبأ أحد) وكأنّنا أمام المثل العربي الشّهير " نجوت فما سألت"..وهو واقعنا الذي نكابده : في الوطن الصّغير أطراف تحترق وما سلم ممّا تكابده يواصل الحياة غير عابئ، وفي الوطن العربيّ الأمّ أمصار تكابد الويلات والأشقّاء في بلاطاتهم يشربون نخب تكريم حصان عربيّ أصيل.. هي رقصة تبدأ فرحا بوجود جديد وتنتهي فرارا منه كرها إلى منشود لا أفق يبشّر به ولا مؤشّر يوحي بسماته..تصعد..تصعد..تصّاعد ..أهي الشّخصيّة وقد منّيت بالخذلان("لكن ذراعا لم تمسك يدها")؟؟أم أحلام شعب أركبوها مطايا الغرب فتصعّدت كقطرة ماء متبخّرة؟؟أم هويّة كاملة تكاد تمّحي ونحن نبحث عن وجوهنا في مرايا الآخرين؟؟ النصّ ملحمة إن جاز لي الوصف..أبدع كاتبه في نحت خصوصيّتها مشهديّا ونغميّا ونحن نراه يقذف أمامنا بتلك العلامة الموسيقيّة الغريبة التي تشبه علامة السّوداء لكنّها مبتورة الذّيل وكأنّه يخبرنا بأنّ كلّ شيء تشوّه ،" فاتظروا بلوغه صوت الرّوح والفكر أي الموسيقى"..كما جعلنا نسمع معمعة الصّراع، وقنا الوجع تقرع القنا فيه ،وهي تخبر عنّا..ملحمة أوغل في حرصه على كشفها لنا عبر التّوظيف لرقصة الباليه والبناء الحدثي الطّاغي عليه تجاذب بين الصّدق والمخاتلة في الصّورة، بين الوفاء وحجبه، والإيقاع بنوعيه الذي رسمت حروفه المتردّة عكف المسار السّويّ لإرادة شعب لينقسم شقّين لكلّ شقّ حكاياته وموسيقاه ورقصته ويمسي الوطن ضحيّة خذلان الجميع.. نصّ "رقصة الباليه" تمظهر آخر من تمظهرات الفكر العربيّ الثّائر على الموجود التّائق إلى منشود ينحت به كيانه الرّاقي الفعّال ، ووجه آخر من وجوه ألق قريحة الدّكتور حمد وإبداعها..فلا نضب مداد قرائح الضّاد ولا عدم الفكر ألقا وبصيرة..
#أ.حمد_الحاجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أربعُ قصص قصيرة : بلاد البصَّاصين
المزيد.....
-
الحكومة الأوكرانية تلزم ضباط الجيش والمخابرات بالتحدث باللغة
...
-
تناغمٌ بدائيٌّ بوحشيتِه
-
روائية -تقسيم الهند- البريطانية.. وفاة الكاتبة الباكستانية ب
...
-
-مهرج قتل نصف الشعب-.. غضب وسخرية واسعة بعد ظهور جونسون في
...
-
الجزائر تعلن العفو عن 2471 محبوسا بينهم فنانات
-
أفلام كوميدية تستحق المشاهدة قبل نهاية 2024
-
-صُنع في السعودية-.. أحلام تروج لألبومها الجديد وتدعم نوال
-
فنان مصري يرحب بتقديم شخصية الجولاني.. ويعترف بانضمامه للإخو
...
-
منها لوحة -شيطانية- للملك تشارلز.. إليك أعمال ومواقف هزّت عا
...
-
لافروف: 25 دولة تعرب عن اهتمامها بالمشاركة في مسابقة -إنترفي
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|