|
ممكنات التدخل الفلسفي في الحاضر
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن-العدد: 5092 - 2016 / 3 / 3 - 22:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
" يجب أن ينبع الانخراط الفلسفي من خصوصية الفكر الفلسفي وأن يكرس حدوده ضمن هذا المعنى"1
من هو الفيلسوف على الوجه الحقيقي؟ ومن يحدد وجهه المطلوب ؟ هل هم نقاد الثقافة أم غيره من الفلاسفة ؟ ألا يضع إبداعه من ذاته ويستمد مشروعية وجوده من ريادته في مجاله وتوقيعه لأعماله؟ لا يوجد معيار متعال وقبلي يمكن اعتماده للتمييز بين الفلسفي وغير الفلسفي ولا توجد حقائق نهائية ومناهج تامة التكوين وإنما كل معدات الفلاسفة ملقاة على عارضة الطريق وتعبث بها رياح التغير وتسبح في يم الصيرورة ويظل الجميع ينتظر التغيرات العاصفة بأن تساعد على ولادة الفيلسوف بصورة فجائية. ماهو بديهي أن المرء لا يولد فيلسوفا وأن الناس لا يعتنقوا الفلسفة مثل اعتناقهم للمعتقدات الدينية والأفكار السياسية وإنما يشتغلون بالفلسفة بحكم الظروف والوضعيات وأحوال الوجود التي يعيشونها في حياتهم. يمارس العصر الذهبي الذي كانت فيه آراء الفلاسفة مهمة ومطلوبة وكانت نظرياتهم ذات قيمة إغراء كبيرا والسبب هو الاعتبار الذي كانت تلقاه مقترحاتهم ونصائحهم لتحسين الأوضاع والنظر إليها بوصفها بدائل ناجعة واستحسان رؤاهم وتمجيد أقوالهم بشأن الأحداث والتعامل معها على أنها جدية وحاسمة. غير أن تحولات العصر عصفت بهذه المكانة والأخطاء التي ارتكبت قلصت من مساحة التقدير التي كانت ممنوحة للفلاسفة وبالخصوص التحالف مع السلطة المستبدة والبحث عن الغنائم والثروة والموقع والنفوذ. لقد تم استبدالهم في البداية بالمثقفين والصحفيين والخبراء ولكن جاء دور الفنانين والممثلين والشعراء والسنيمائيين وعارضات الأزياء وملكات الجمال والرياضيين والمهرجين لكي يحتلوا مكان الفلاسفة في لفت الانتباه وكسب الشهرة والتأثير في الرأي العام وفي منح الشرعية للسلطة والتحالف مع الرأسماليين. بيد أن الحاجة إلى تدخل الفيلسوف ظهرت بشكل واضح وتعاظمت بصورة حيوية بالنظر إلى تسارع الأحداث وضبابية المشهد وغياب المرجعيات وانهيار الثوابت وتعطش الإنسان المعاصر للمعنى والفهم. لقد طُلِب من الفيلسوف اليوم التعليق على الأحداث ومقاربتها بأسلوب فلسفي وطرح الأسئلة اللائقة بزمنه واجتياز مرحلة تفسير العالم إلى الإسهام في التغيير والكفاح ضد الجهل والأمية والتعصب والإرهاب. لكن الفيلسوف هو قبل كل شيء الشخص الذي يبدع أشكالا جديدة من الحياة ويترجم من خلال ذلك بعض من الأشياء الخصوصية التي تمثل علاقته الذاتية بالعالم عبر ثقافته الفلسفية وما توفره من مفاهيم ونظريات. تبعا لذلك " إن كل إنسان – إذا كان فيلسوفا- يطمح إلى الكل ويسعى لتحقيقه في صورة كلية، مهما تكن هذه الصورة متهافتة أو جزئية أو غامضة. وكلما تفتح هذا الكل واكتمل واتضح، رأينا أمامنا عملا من أعمال الفلاسفة الأعلام. ولكن ما من إنسان يمكنه أن يكون فيلسوفا على نحو ما يمكنه أن يكون عالما في الرياضيات ، أو مبدع عمل أو انجاز خاص يقف تجاهه وينظر إليه من الخارج، وينفصل عنه جذريا"2 .
من الأمارات التي تدل على ميلاد الفيلسوف هو اهتمام الفكر بالعصر الذي ينتمي إليه من جهة التعاطف الوجداني والالتحام بالناس والالتزام بقضاياهم وطلب التغيير ومن جهة الاهتمام العقلي وما يقتضيه ذلك من حركات تأويل ونقد وتفكيك وتشخيص وقراءة وفهم وإنتاج المعنى وتنقية للحقائق واستشراف الآتي. يتراوح التدخل الفلسفي في الواقع بين إزالة الشر وزرع الخير وبين الالتزام الكلي برؤية نقدية للمجتمع وحمل خيار جذري يواجه أزمات العصر بكل الوسائل القووية الممكنة، وبالتالي إن " الفيلسوف كنوع من الأطباء هو يشخص الشر والمعاناة وفيما لو تطلب الأمر يقترح علاجات كي تعود الأمور إلى حالها."3 الفيلسوف بإطلاق لا ينخرط في لعبة عقيمة ولا يدعي حذلقة جوفاء ولا يمارس ترفا فكريا ولا يحتمي بأبراج الأنساق المجردة هربا من مكر التاريخ ونهشة الواقع ومآسي الحياة وتعثرات الميادين وإنما هو مفكر أصيل يشعر بأن كل ما يوجد في الكون يصلح لكي يكون بيته ويتفلسف على هدي التاريخ ويعي ضرورة وجوده بالنسبة إلى زمنه ويفتح الأماكن المغلقة ويهتم بإنارة الدروب المظلمة ويوسع الآفاق ويتدبر الارتقاء بأحوال الوضع البشري ويمنح العناصر المتحركة أبعادها الجوهرية ومقاصدها الكلية. " بيد أن المفكرين الذين لهم شأن في تاريخ الفلسفة هم أولئك الذين يكافحون ويصارعون، أولئك الذين لا يدعون أن السر قد كشف لهم القناع عن وجهه، والذين ندرسهم فلا نتعلم منهم مادة معرفية فحسب، بل يشدوننا في مجرى الصراع الدائر في داخلهم ويعينوننا على تجربة دوافعهم ومطامحهم."4 غير أن هذا الاهتمام بالواقع لا يعني انغماس الفيلسوف فيه إلى حد التماثل مع المتداول والرائج والسائد من الفكر فيه ولا يدل كذلك على الانعكاس ورجع الصدى والتحول إلى مرآة ناقلة لما يحدث في المجتمع. فالفيلسوف لا يأخذ المكان الذي يحتله المؤرخ بصنعته التي لا يتقنها أحد غيره ولا ينافس خبير الإعلام في ميدانه التخصصي وقدرته على قنص المعلومة وتخزينها وإذاعتها وإخبارها وإنما هو يحاول سبق زمانه ويتفاعل بحس مرهف وايجابية مع المستجدات ويزود بفائض القيمة واقتدار على اختزال أحداث الواقع في معادلة معلومة ويبلور منجزات دالة ويقوم بأفعال اعتبارية كونية وينحت أصالة الوعي اللائق بمعاصريه. فهل يمكن أن يكون أي كان فيلسوفا؟ وأنى بالدراية الجيدة بتقنيات التفلسف أن تجعل بمتقنها فيلسوفا حقا؟ الإحالات والهوامش: [1] بيتر إنغلمان ، آلان باديو و سلافوي جيجيك ، الفلسفة في الحاضر، ترجمة يزن الحاج ، دار التنوير، طبعة أولى، 2013،ص15. [2] ياسبرز (كارل) ، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، ترجمة د عبد الغفار مكاوي، دار التنوير، بيروت، طبعة أولى، 2007،ص49. [3] بيتر إنغلمان ، آلان باديو و سلافوي جيجيك ، الفلسفة في الحاضر، مرجع مذكور،ص80. [4] ياسبرز (كارل) ، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، مرجع مذكور،ص82. المراجع: بيتر إنغلمان ، آلان باديو و سلافوي جيجيك ، الفلسفة في الحاضر، ترجمة يزن الحاج ، دار التنوير، طبعة أولى، 2013. ياسبرز (كارل) ، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، ترجمة د عبد الغفار مكاوي، دار التنوير، بيروت، طبعة أولى، 2007.
كاتب فلسفي
#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
استخدام الفيزياء الرياضية في السياسية الحديثة
-
كارل يسبرس والسير في طريق التفلسف
-
الهرمينوطيقا ، المصادر والتحولات
-
وظيفة النخبة وتنوير الجمهور
-
إلى أي حد يتمتع الإنسان بالحرية؟
-
وجوه فلسفية عن الطبيعة
-
الدور العمومي لادوارد سعيد في رحاب الأنسنة الثقافية
-
عن أي حداثة خاصة يتحدث بول ريكور؟
-
أنثربولوجيا المقدس ومحاكاة العنف عند روني جيرار
-
البؤس الميتافيزيقي للوضع الإنساني عند فلاديمير يانكلفيتش
-
الحاجة إلى المواطنة ضمن المنظور الفلسفي العالمي
-
اللاّوعي الديني للجماعات السياسية عند ريجيس دوبريه
-
الثقافة بين الانغلاق في التراث والانفتاح على العالم
-
الهوية والذاتية والإبداع
-
الفلسفة بين سكون الليونة وعزم الصلابة
-
النظرية التربوية الكانطية والتأسيس البيداغوجي
-
إلى أين تذهب الهرمينوطيقا في الثقافة الراهنة ؟
-
علامات على التصور البوبري للفلسفة
-
شذرات في الصميم
-
التسوية وحرب المواقع والثورة السلبية عند أنطونيو غرامشي
المزيد.....
-
السيسي وولي عهد الأردن: ضرورة البدء الفوري بإعمار غزة دون ته
...
-
نداء عاجل لإنهاء الإخفاء القسري للشاعر عبد الرحمن يوسف والإف
...
-
-الضمانات الأمنية أولاً-..زيلينسكي يرفض اتفاق المعادن النادر
...
-
السلطات النمساوية: هجوم الطعن في فيلاخ دوافعه -إسلاموية-
-
نتنياهو: انهيار نظام الأسد جاء بعد إضعاف إسرائيل لمحور إيران
...
-
نتنياهو: ستفتح -أبواب الجحيم- في غزة وفق خطة مشتركة مع ترامب
...
-
كيلوغ المسكين.. نذير الفشل
-
تونس تستضيف الدورة 42 لمجلس وزراء الداخلية العرب (صور)
-
-مصيركم لن يكون مختلفا-.. رسالة نارية من الإماراتي خلف الحبت
...
-
مصر تعلن بدء إرسال 2000 طبيب إلى غزة
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|