|
ايطاليا والنزعة السلطوية
سالفاتوره باليدا
الحوار المتمدن-العدد: 10 - 2001 / 12 / 18 - 21:36
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
نفتقر الى العديد من المعلومات التي لا يمكن الوصول اليها من اجل اعادة تكوين دقيقة لمجريات الحوادث في مدينة جنوى نهاية شهر تموز/يوليو، خلال انعقاد قمة الدول الثماني. لكن القراءة التحليلية يمكن ان تلقي الضوء على ما جرى ليس بكونه انفلاتاً مفاجئاً وغير متوقع للوحشية البوليسية بل باعتباره خاتمة مسار متصل كانت فاتحته، اضافة الى العنف الذي وقع في سياتل (كانون الثاني/ديسمبر 1999) وغوتبرغ (حزيران/يونيو 2001)، ما شهدناه من تعميم للممارسات الامنية التي تبنتها الحكومات الاوروبية من اليمين ويسار الوسط. فكما لاحظت منظمة Statewatch (1) (مرقب الدول) فان جميع بلدان الاتحاد الاوروبي تقريباً اتجهت منذ غوتبرغ نحو التجريم المنهجي للحركات الاجتماعية، وذلك في امتداد مباشر للموقف المعتمد سابقاً حيال المهاجرين.
فالخطة الامنية التي اعدت لاجتماع الدول الثماني كانت في الاساس من تخطيط حكومات يسار الوسط في رئاسة السيد ماسيمو داليما ومن بعده السيد جوليانو اماتو بالمشاركة مع الشرطة والمخابرات السرية التابعة للدول الغربية الست الاخرى. كذلك جرى الامر عند تنفيذ الخطة: فعلى مدى اسابيع تم تعليق الحقوق الدستورية وعسكرة المدن بما فيها مئات عمليات التفتيش وابعاد السكان "غير المرغوب بهم" ودعوة سكان المدينة لملازمة بيوتهم او الذهاب في عطلة. وقبل اسابيع من موعد القمة، توافد على المدينة العشرات من عناصر المخابرات السرية الايطالية والاجنبية في حين لم يتردد العديد من رجال الشرطة النظاميين في التأكيد: "هذه المرة سنضرب الحمر بشدة".
وكانت حكومة أماتو خطت مرحلة رئيسية في 17 آذار/مارس 2000 في مدينة نابولي عندما هاجمت شرطتها بعنف منقطع النظير نحو 30 الفاً من المتظاهرين المسالمين تماماً والمجتمعين ضد "المنتدى الشمولي" (2) . لكن عدداً كبيراً من رجال الشرطة كانوا في الواقع، وباسم "التسامح درجة صفر"، يطلقون العنان منذ سنوات لممارسة العنف اليومي والتمييز العنصري في حق الغجر والمهاجرين والهامشيين. وفي مرحلة قريبة شهدت السجون الاساءات التي اقدمت عليها "مجموعة التدخل العملاني" وهي فرقة خاصة تابعة لشرطة السجون شكّلها الوزير الشيوعي في حكومة داليما، السيد اوليفيرو ديليبرتو (3) الذي عمد في الوقت نفسه الى صرف المدير السابق للسجون، السيد السندرو ماغارا الذي اعتبر حريصاً اكثر من اللزوم على حقوق السجناء وتالياً غير قادر على تطبيق التوجه الامني للسلطة. وفي جنوى تولت "مجموعة التدخل العملاني" بنفسها ضرب عدد كبير من المعتقلين.
في الواقع، لقد اعتمد يسار الوسط منذ زمن طويل سياسة امنية ضالة. في البداية، انتزع اليمين من الاتحاد العام للعمل ادارة اكبر نقابة لرجال الشرطة ليُقدم من ثم هذا الاتحاد على تأسيس نقابة جديدة صغيرة في حين أن المطلوب كان تجميع الديموقراطيين المبعثرين داخل 23 نقابة. من جهته، لم يسع اليسار الحاكم الا للمزايدة على اليمين من اجل كسب ثقة رجال الشرطة والمخابرات وجيوش البلدان المتحالفة في الناتو خصوصاً بعد حرب كوسوفو. هكذا نشأ تواصل حقيقي بين "الحرب الامنية" اليومية و "الحرب الانسانية".
لكن وعلى غرار الديموقراطية المسيحية، انتهى الامر بيسار الوسط الى تشجيع خصوصية الشرطة واجهزة المخابرات من دون ان يكون له أي سلطة سياسية على هذا العالم. فقد تزايدت صلاحيات الشرطة (الكارابينييري) واستقلالها، وفي شكل عام حاول كل جهاز من الاجهزة اظهار عضلاته ليؤكد حضوره في موازاة الآخرين. وجاء قرار اتخذه يسار الوسط قبل الانتخابات، "السلة الامنية" (4) ليحضر انتصار مبادئ "التسامح درجة صفر" في عهد اليمين الحاكم من بعده.
بعد مواجهات غوتبرغ، قامت وسائل الاعلام بتغذية اجواء الرعب من خلال ابراز الخطر الذي يمثله هواة الكسر والخلع لكن من دون الاشارة الى مئات المحرضين من رجال الشرطة وافراد الجماعات الفاشية الذين حضروا انفسهم لقمة الثماني.
لكن قبل ايام من موعد القمة فاجأ وزير الداخلية الجديد السيد كلوديو سكاجولا الجميع بلهجته الابوية امام البرلمان عندما أكد ان الحكومة ستضمن أمن القمة وكذلك أمن سكان جنوى والمتظاهرين على السواء. من جهته، أعلن وزير الخارجية السيد ريناتو روجييرو أن "اهداف" منتدى جنوى الاجتماعي هي نفسها أهداف الحكومة وبقية الدول الثماني! وقام السيد برلوسكوني شخصيا بلقاء رئيس اساقفة جنوى مؤكدا تفهمه لتضامنه مع منتدى جنوى الاجتماعي... ووصل الامر بالحكومة انها قدمت وعدا بمبلغ 3 مليارات لير (مليون ونصف مليون يورو) لاستقبال المتظاهرين.
هكذا شهدنا من جهة، استقبال السيد سكاجولا وقائد الشرطة لمنتدى جنوى الاجتماعي ثلاث مرات متتالية وقد اعلن المنتدى على اثرها توجهه نحو الاعتدال، في حين كانت تنتشر من جهة اخرى في اوساط الشرطة توجيهات عدائية استعداداً للضرب بقوة من دون أي رادع. وبلغت المفارقة ذروتها عندما ابلغت قيادة الشرطة الصحافة في الوقت نفسه بأنها وزعت على جميع عناصرها توجيهات بتفادي العنف غير الضروري، وخصوصاً تمييز المتظاهرين المسالمين عن المشاغبين...
في 18 تموز/يوليو حنثت الحكومة بجميع تعهداتها من دون ان تذكر السبب، فعمدت الى تعليق العمل باتفاقية شنغن واغلاق الحدود فجأة في وجه مئات من مواطني بلدان الاتحاد الاوروبي، حتى انها ابعدت باخرة آتية من اليونان. اغلقت محطات القطار في جنوى وجرى تأخير وصول القطارات المحمّلة متظاهرين، اذ استغرق وصولها اربعة اضعاف الوقت العادي. في موازاة ذلك اصدرت السلطات المحلية تعليمات خطية حول وجود "المجموعات السوداء" (5) وتحديد دقيق لمواقعها. وقد اعلم مسؤولو منتدى جنوى الاجتماعي كبار المسؤولين في الشرطة بدقة عن وصول الجماعات الفاشية. لكن قوى القمع لم تتدخل ضد أي من هذه المجموعات، في وقت شددت رقابتها على معسكرات الشباب في المراكز الاجتماعية وعلى "المناضلين البيض" (6) . لكن التظاهرة من اجل حقوق المهاجرين تمت بهدؤ يوم الخميس 19 رغم انها ارغمت في هذه المدينة المعسكرة على اتباع خط سير يمر بها من امام مفوضية الشرطة ومن تحت مركز قيادة رجال الامن.
آنذاك تحولت جنوى مكاناً سوريالياً: مدينة مقفرة من دون نقل عام ومن دون سيارات خاصة، صفوف طويلة من المستوعبات على طول خط التظاهرات المتوقعة... لا يُسمع سوى الضجيج الجهنمي لطائرات الهليكوبتر وصفارات الانذار التي لا لزوم لها، تطلقها السيارات والشاحنات والدراجات العائدة الى مختلف اجهزة الشرطة. لم تخضع مدينة من قبل لهذه الرقابة المشددة حتى ابان الحرب العالمية الثانية. ولم نشهد مرة مثل هذا الحشد من رجال الشرطة باللباسين العسكري والمدني داخل مدينة تحولت قفراً.
في الساعة الحادية عشرة من 20 تموز/يوليو بدأ عشرات من المحرضين بعمليات التكسير من دون عقاب، وذلك بعيداً عن المنطقة الحمراء (7) . كان يمكن التعرف عليهم واعتقالهم على يد هذا الجهاز البوليسي الضخم (8) الذي عمد في المقابل الى الهجوم بوحشية على المتظاهرين والمسالمين منهم في العديد من احياء المدينة.
بعد الظهر جاء دور التظاهرة المرخص لها، تظاهرة "المناضلين البيض". وكانت قوات الامن تعرف جيداً ان بضع عشرات منهم ينوون الدخول رمزياً الى المنطقة الحمراء المحظورة ولو ادى الامر الى اعتقالهم سلمياً على امل اطلاق سراحهم بسرعة. لكن هذه القوات عمدت الى التهجم على المتظاهرين في صورة سلمية ومن دون أي نوع من السلاح في شوارع بعيدة من المنطقة المحرمة. وقد حاولوا جميعهم تقريباً الفرار من وجه العنف البوليسي باستثناء ما يقارب مئة من الشبان قاموا بارجاع القنابل المسيلة للدموع في اتجاه مطلقيها اضافة الى الحجار والاغراض المرمية ارضاً. ولم يحاول هؤلاء في أي لحظة من اللحظات انتزاع اسلحة تخص رجال الشرطة او غيرهم، كما لم يقم أي من افراد "المجموعات السوداء" بالهجوم المباشر على قوى الامن.
في هذه الظروف اقدم احد افراد الاحتياط في قوى الامن على قتل احد المتظاهرين الشبان، كارلو جولياني، باطلاق النار عليه من مسدسه وهو متمركز في شاحنة صغيرة. سارع نائب رئيس الوزراء، الفاشي الجديد جيان فرانكو فيني الى ادعاء "الدفاع المشروع عن النفس" وهو كان موجوداً "بالصدفة" مع نواب آخرين من حزبه في مركز قيادة قوات الامن. وعلى غرار زملائه في الحكومة برر ما شنته قوات الامن من هجوم عنيف ضد متظاهرين مسالمين تماماً. والاسوأ ان هذه القوات خرقت المعايير الديموقراطية الاولية. لم يمنع المعتقلون فقط من الاتصال بأحد بل تعرضوا ايضاً لتعذيب حقيقي. وقد تعرض صحافيون ومحامون واطباء وحتى نواب مقربون من الحركة، لسؤ المعاملة وصولاً الى الضرب. واعتبر افراد الشرطة وقوات الامن، من الذين يجاهرون باقتناعهم الفاشي، انفسهم مخولين ممارسة كل انواع التجاوز من حكومة تؤمّن لهم التغطية الكاملة.
شكل الاعتداء المفاجئ يوم 21 على موكب التظاهرة السلمية البالغ عديدها 300 الف، صدمة وخصوصاً ان المتظاهرين لم يقوموا باي ردة فعل. فوصل الامر بالشرطة الى قذفهم بالقنابل المسيلة للدموع انطلاقاً من سفن في البحر ومن الطوافات. وقد اختفى بعض المناضلين المعتقلين. وبلغ القمع الجدير بديكتاتوريات اميركا اللاتينية ذروته عندما شنت قوات الامن هجوماً على مقر منتدى جنوى الاجتماعي وعلى مدرسة مقابلة له قدمتها البلدية لايواء المتظاهرين. اتخذ قرار هذه العملية الاكثر وحشية والأسوأ تدبيراً في اعلى مستوى قيادة الشرطة وكان لها اهداف عدة: محاولة المساواة بين "المجموعات السوداء" ومنتدى جنوى الاجتماعي، تبرير العنف والتجاوزات واقناع اليمين الحاكم بأن في امكانه الاعتماد على قيادة الشرطة التي عيّنها يسار الوسط. بالنسبة الى المسؤول الاعلى عن هذه الشرطة، فان قوات القمع ادت واجبها على أكمل وجه وانعقدت قمة الدول الثماني من دون مشكلات و"لم يتعرض أي من سكان المدينة للاذى" (9) . بالطبع لم يحسب كارلو جيولياني ومئات المتظاهرين ممن اصيبوا بجروح او تعرضوا للتعذيب في عداد سكان المدينة...
ظهرت النتيجة السياسية الرئيسية للطريقة التي تمت بواسطتها "ادارة" قمة الثمانيي خلال الاجتماع الذي عقد في روما بين السيدين برلوسكوني وبوش في الثالث والعشرين من الشهر. فبينما كان رئيس الوزراء الايطالي يتعهد قبل اسبوع التزام مواقف بقية بلدان الاتحاد الاوروبي، اذ به يوافق فجأة وفي شكل كامل على مقترحات الرئيس الاميركي وخصوصا لجهة الدرع الصاروخية. لكن التوجه السلطوي المعتمد في جنوى تطابق ايضا مع الاستراتيجيا الاميركية لقمع الحركات الاجتماعية الجديدة التي مثلت قطيعة مع مراحل التفاوض السلمي ومع التنازلات امام المطالب الاجتماعية. لقد ازداد الخوف داخل الامبراطورية الليبيرالية المعولمة وتحولت كما كان يقول ميشال فوكو، سلطة غبية وقادرة على القتل في آن واحد (10) .
--------------------------------------------------------------
(1) عالم اجتماع، جامعة جنوى، مؤلف:
Polizia postmoderna, Feltrinelli, 2000, Milan
Devianza e vittimizzazione tra I migranti, ISMU/Angeli, 2001, Milan
(2) راجع Statewatch report on EU plan to criminalise protests www.statewatch.org
(3) المقصود احد وزراء المجموعة الشيوعية المتشددة بزعامة ارماندو كوسوتا والمنشقة عن حزب اعادة البناء الشيوعي.
(4) مجموعة تدابير تهدف الى تعزيز القمع القانوني وسلطة الشرطة في تجريم المهاجرين والهامشيين.
(5) اسم يطلقه على انفسهم انصار التظاهرات العنيفة وغالبيتهم من الفوضويين. ان أطروحاتهم وغياب التنظيم المركزي في اوساطهم تجعلهم عرضة للتلاعب السهل كما شهدنا في جنوى
(6) اسم يطلقه على انفسهم المناضلون السلميون في الحركة الايطالية المناهضة للعولمة. يسيرون في الشوارع وهم يطلون وجوهم وايديهم باللون الابيض.
(7) منطقة في وسط جنوى يمنع دخول الناس اليها تماما باستثناء سكانها الذين يخضعون لتفتيش دقيق.
(8) من اجل الحصول على معلومات تفصيلية مع الصور والوثائق، راجع موقع منتدى جنوى الاجتماعي، www.genoa-g8.org www.indymedia.org
(9) مقابلة مع شبكة التلفزيون الايطالي "راي 1 " في تاريخ 23 تموز/يوليو
#سالفاتوره_باليدا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|