|
كاردينيا.. الملاذ والأسى
جاسم العايف
الحوار المتمدن-العدد: 1379 - 2005 / 11 / 15 - 10:11
المحور:
الادب والفن
في العودة إلى كاردينيا(1) ثمة محددات لانفجار الذاكرة المرتعشة بين المشاهد المتوترة والمتزامنة مع الأهداف والمعاني. الذاكرة التي تحاول الإحاطة بالأشياء والأحداث لتعكس نشاطها الحياتي فكرياً، ثقافياً، على نحو يثير ويفجر جماليات السرد ولغته الشعرية بالتزامن مع أسى الذاكرة وملاذها، بعيداً عن الاندثار في تحديد للماضي وآثاره في ضوء مشاعر الحاضر ورؤاه, وبوصول المنفي- الراوي- إلى لندن (شاحب الوجه كثير الوسواس بسبب الكحول) حاملاً معه (أكياس الشاي والسكر وصابون الرقي والليفة الخشنة ومعجنات الكليجة) والقليل من الكتب والكثير من الأفكار- أسلحة الأعزل- مناجياً النفس بأنه وصل (مدينة كيش اللامرئية) مواجهاً المدينة التي تعبق برائحة الماضي والقدم محاولاً الانغماس الحذر في العوالم الجديدة بعيداً عن مدينته، وطنه،المقهورة.. (( لا أسأل إلا عن وطن يسأل عني وأغني حيث أشاء)) لا يملك الغريب إلا التحديق في الذكرى والاستجابة لها والبحث عن المصائر الشخصية لأعزاء (هرستهم عجلة المرحلة البربرية) وتظل أمام مصائرهم الإنسانية -المفجعة القصائد والأقوال والأفعال عاجزة عن العزاء والسلوان, عباس فاضل رسام الكاريكتير، مات بفعل الخمرة التي غرق فيها وترافق ذلك مع مادة سامة دست له اثر اعتقال في مديرية أمن بغداد، شريف الربيعي وسرطانه الذي حمله معه من بغداد ليطوف معه كل المدن التي لجأ إليها حتى يجهز عليه في لندن ،محمود جندراي مات، بعد خروجه من ثلاث سنوات، سجن لأنه سمع كلاما ضد السلطة ولم يكن واشياً كما تريد له، منهل نعمة مات تحت التعذيب،والمصير ذاته لجعفر حمودي الذي لم تشغله المحاكم والمحاماة عن الشعر وبوحه العلني والخفي، وبموت حسين مردان ينمسخ تاريخ التشرد العراقي (ومحاولته المتباهية للانتصار للفردية والانا التي تلجأ للاحتجاج والصراخ).عبد الجبار عباس، فخامة الروعة والتدفق، بمواجهة السلطة(التي أغلقت كل النوافذ بوجه طلاقته الاحتفائية وعدم صلاحيته للتوافق) مع إعلام وثقافة المرحلة ، وموته السريع الفاجع بسبب حرقة القلب (الحرقة التي لا تكشف عن أعراضها لعين أخرى غير عين الضحية)، إزاء هذا المشهد وغيره ،وهؤلاء وآخرين من(الانتلجنسيا)العراقية الذاوين في الغرف المغلقة، المختومة بشعاراتها البراقة(الثورية التقدمية والديمقراطية والاشتراكية) التي عبّد طريق تطورها(اللارأسمالي) آلاف المغيبين ومثلهم ممن عاشروا المنافي متوجسين المخابراتيين وكواتم مسدساتهم بعد هروبهم برفقة الأدلاء من المهربين وبدو الصحاري. بمواجهة هذه المصائر تقف السلطة القامعة وأزلامها الأعرفون بكيفية ذر الملح و(البول) على جراح الضحايا. شعراء وكتاب قبائل العرف القومي –البعثي المناصرون القبيلة والعشيرة الخالدة، لا الحرية والنبالة والحقيقة والبراءة والذين سعوا إلى التحرر من المسؤولية الأخلاقية والكذب على الذات بإيجاد المبررات الأيدلوجية الوطنية - القومية لجرائم السلطة وممارساتها المتوحشة وقساواتها عبر شعرهم وكتاباتهم وأغانيهم ومدائحهم التي تنزوي الآن عارية بعهرها على الورق- ص74- هؤلاء تحفظ الذاكرة تواريخهم وخنوعهم ووضاعتهم ووشاياتهم السرية و(نموذجهم) المكثف لثقافة المرحلة السياسية تلك (شبه الريفي المعبأ بقوى نظرية هي حصاد جمل مستلة من الكتب) والمنسلخ بخفة المهرج من قناعاته السابقة وتوظيفها للارتزاق والمنافع الخاصة، وسعيه المتواصل في محاولة هجينة إلى إيجاد توافق بين فكر حزب السلطة القومي- البعثي- الفاشي وبين تلك المرحلة التي كانت تدفع بالعراق نحو اليسار والغنى والتدفق الاجتماعي والتنوع الثقافي- السياسي متجاوزا بحيوية نخبه السياسية -- الثقافية وارثه التنويري الباهر مآ سي ومجازر الليل الدموي البعثي – القومي الذي عصف بالعراق في 8 شباط 63 واجهزعلى جنين التحولات الوطنية الديمقراطية التي تميزت بها ثورة 14تموز، أولئك الذين اندفعوا نحو غرائز الانتقام من ماضيهم وخيباتهم الحزبية ، محاولين التطهر بالماء الملوث الذي يسكبه حزب (ميشيل عفلق) عليهم, ومع ذلك ففي عرف القبيلة لا غفران ثمة, حيث أخفى المجهول- المعلوم البعثي المصير بعد تنظير كبير وصراخ عالٍ هستيري طوال عقد السبعينيات ،ص122 - 123 . تقع كاردينيا الخمارة في أبي نؤاس بمواجهة مبنى المجلس الوطني –عبر النهر- الذي يحدد فيه السفلة القتلة من سقط المتاع والأوباش قدراتهم على التحكم والتسلط على البلد والتاريخ والمصائر والحياة وفي كاردينيا وفي عتمتها وطقوسها تندحر الروح المشرقة وتتجاور الأفكار والعقائد معلقة في بوح المزاعم السري او العلني،( حيث يرى روادها الفانون أنفسهم كالشموع منطفئين ذابلين عبر حصار ثقافة الإعلام ) التي تريد وتبحث عن مثقفين (عرب) تدعمهم بالأموال والمناصب ليرتقوا المشهد ، زنخي الضمائر قوّالين، كذابين، متواطئين مع السلطة تدعيماً لمشروعها القومي الزائف وتتوجه السلطة ذاتها- إلى العراقي عبر الترهيب بالقوة والبطش والتهديد والتغييب ليصبح المثقف العراقي بالذات عبداً للسلطة ولتهيمن عليه حالة دائمة من التوتر للدفاع عن النفس والقناعات في وطن (لا دولة فيه ولا قانون ، محدقاً كالمعتوه، مأخوذاً بالمشهد) وتقاليده السرية المتكررة دون نهاية، حيث جاهل انقلابي معتوه، مغامر، مقامر، مشبوه، (يرتقي سدة الحكم مع سلاحه ومرتزقته حوله يرتقون جثث الدستور والقانون وحقوق الإنسان) ليستبيحوا الشرف والذمم . في منطقة (العباسية) ومن مكتبة (حسينية كرادة مريم) وجاذبية الكلمات والسطور ورائحة الكتب تبدأ المغامرات الأولى، انخطافات الحكايا وسحر القصص وراعي الحسينية السيد حسين المنفتح، التقي المتفتح, وبحصة المكتبة من التبرعات والهبات تفد من سوق السراي وغيره الإصدارات الجديدة في بيروت والقاهرة لتزيح الكتب القديمة المملوءة بالعقائد الأخروية ووعودها التطمينية والتطهير والموت نحو الرفوف العلوية لترقد نائمة، مغطاة بالغبار والسنوات، وتوقد الكتب الجديدة الأذهان وتشكل الأرواح بحداثتها وعصريتها وبعد وفاة السيد ( حسين ) مباشرة, هبط( سيد لبناني) متوقد الحماس لخوض المعارك ضد العقائد الدنيوية ودنسها حسب تصوراته ،وبسطوته الدينية وبلاغته التطهيرية مقفلة الأفق وخطبه النارية الهجومية ضد الشيوعية والوجودية والاشتراكية, جمع كل الكتب الجديدة المثيرة لريبته وشكوكه في أكياس وألقاها في دجلة .. دجلة مثوى جثث العراقيين وكتبهم , دجلة الذي يمر بالعباسية الريانة بظلال النخل وبرودة الصفصاف ورائحة الأسماك الطرية والشواطئ الآمنة والنارنج ومزارع الباذنجان وأشجار التوت المحنية على الماء حيث تسبح الأغصان في نهر الأساطير المشبع بالحكايا وجمر المصائر، كل ذلك أزيح من المشهد المديني ، حيث (فككت الصراعات العقائدية والفوضى السياسية) معمار الحياة العراقية المدنية وهو في مستهل تطلعه إلى الوجود وعبر حزب البعث وتاريخه الدموي وعائلية سلطته من أبناء (العوجة) الغرباء الذين يتصرفون بدافع اللصوصية وهم في أعلى مناصب الدولة وأجهزتها المختلفة ،الذين قذفتهم مئات السنوات من العراء والغبار والجفاف والقيظ , أبناء البراري المطروحة خارج المدن الوافدين من سرية الحزب الحاكم ومن قدراتهم على القتل والسرقة والاستمتاع بالجريمة وبهيمنتهم القروية و العائلية السلطوية- البعثية، امتلكوا قمة الهرم ليحاولوا تحويل كل ما تحتهم إلى مرتزقة وخدم وليحققوا كل ما يريدون أو يرغبون،مدفوعين بهوس الأحقاد والانتقام والثأر مشرعين الزنازين العلنية والسرية - ص165- مستولين على العباسية -الوطن- ملثمين بالمشاعر القومية العرقية الطائفية في نزعات الاستحواذ المدعوم بالاستبداد والانتقام وهوس الحروب وديمومتها التي تحولت إلى إرث لكل عراقي. البصرة / حزيران/ 005 2 __________________________________ (1)فوزي كريم- دار المدى / 2004/ الطبعة الأولى ---------------------------------------------------
#جاسم_العايف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هبات النفط العراقي بين القديم والجديد
-
اعلى راتب تقاعدي ، لأقصر خدمة فعلية.. في العراق
-
ملاحظات حول مسودة قانون اتحاد الأدباءالعراقيين
-
رئيس (مؤتمر حرية العراق) في البصرة :ديمقراطيةالفوضى ستعمل لل
...
-
قراءة: في اوراق عالم نووي عراقي
-
ملاحظات حول الاستفتاء الدستوري العراقي
-
مجلات .. الثقافة الجديدة آراء وتصورات حول الدستور العراقي
-
الدستور في العراق
-
سقوط دكتاتور*.. بين همجية النظام ومرتزقة الثقافة والإعلام
المزيد.....
-
قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم يعود لبلاد الهل
...
-
ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية
...
-
حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
-
عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار
...
-
قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح
...
-
الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه
...
-
تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
-
مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة
...
-
دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
-
وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|