آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 5077 - 2016 / 2 / 17 - 10:51
المحور:
الادب والفن
دخلت السجن شابًا في التاسعة والعشرين من العمر وخرجت كهلًا في الثانية والأربعين. وفرص الاختيار أضحت قليلة, خاصة لرجل له ماضي, تحت أنظار نظام قاتل, يعد عليه أنفاسه, يحاربه في خبزه وعمله واختياره وشبابه. شغفي كان ضاغطًا أن أصل إلى امرأة لا لون أو مقاس لها بعد أن أصبح الواقع حقيقة, ولا مفر أو هروب منه, قلت لنفسي:
ـ من هي المرأة التي ستقبل بي؟ وهل ستقبل بظروفي؟ وهل ستتفهم قلقي, هواجسي وعزلتي؟
كنت أرى جميع النساء جميلات, واقعاً تحت تأثير الرغبة الطاغية والحرمان الطويل. هذه الرغبة التي تعمي القدرات والمدارك وتعطل التفكير, وتلهب الخيال وتجنح نحو الارتقاء أو الهبوط. تريد الخروج من مكامنها المجهولة والتوحد بالأخر. لم أكن متوازنًا, بله مخلخل التوازن في هذا الجانب, كان هناك شيء جارف يطلب, مندفعًا نحو اللهب دون معرفة ما مدى تأثير ذلك على نفسي ومستقبل علاقتي بمن ستشاركني هذه التجربة. إن هذا الجانب بالرغم من أنه يبدو بسيطًا, علاقة جسدية بين أثنين, بيد أنه الأكثر غموضًا لنا, وصعوبة معرفته, ولا نعرف تقديره في حقيقته, ومدى اندغامنا فيه أو انفصالنا عنه, ومتى نحقق شروطه وتكامله أو انقسامه. كنت أرى في كل امرأة مشروع عشق جارح, تلبي شروط تفريغ الطاقة والرغبة النائمة منذ عشرات السنين.
إن العلاقة مع الجانب الأخر المختلف والمكمل يكتنفه الكثير من التعقيد والمنع في بيئة شرقية, خاضع للثقافة الدينية, الحلال والحرام. وكأنه لازم على الفقراء والمهمشين أن يبقوا أتقياء يلبون شروط الله في تنفيذ وصاياه. فالكثير مثلي عاش في بيئة اجتماعية, الأباء فيها يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون. أي, أن كل عائلة, في بيئة جاهلة تنجب عشرات الأطفال, لأنانية الأهل, وغباءهم, وعدم مسؤوليتهم في أخذ قرارات خطيرة خاصة فيما يتعلق بالانجاب والتوالد الكثير.
كنت الأخ الكبير في العائلة, يرعى ويساعد أبيه في المصروف والتربية والاهتمام والرعاية بأولاده, على حساب حياته الشخصية ومستقبله واستقلاله. أي أن يحرق عمره من أجل أن يقف غيره على المنصة, بمعنى أن يترك حريته ودراسته واحتياجاته الشخصية ويضعها في مسار وتلبية احتياجات حياة الأخرين. أحيانًا كثيرة أنظر إلى والديّ, أقول في نفسي:
كيف يستطيعا أن يمارسا حياتهما كرجل وامرأة بشكل طبيعي في ظل هذا الكم الهائل من الشباب والبنات في بيت صغير وبسيط. والأنكى من ذلك أن والدي عاتبني عندما خرجت من السجن, قال لي:
ـ لقد هربت من مسؤولية البيت والأسرة, وذهبت إلى السجن, وتركت كل شيء علي. لقد كان حملي ثقيلًا.
وقفت أنظر إليه, إلى الكم الهائل من ثقافة الشرق في عقله. أن يرى أنني ذهبت إلى السجن بإرادتي, وإنني مسؤول عن عذابي وقمعي وضياع سنين عمري ومستقبلي. قلت له:
ـ إذًا, أنت تعيرني بسجني, فما بال الأخرين, الحمقى وأتباع السلطة والمتزلفين والمهزومين والمستلبين. ثم أنت من قرر إنجاب عدد كبير من الأطفال. أنت المسؤول عن قرارك ورغباتك. لم أطلب منك أن تنجب لي الكثير من الأخوات. هذا قرارك وقرار أمي, أو بالأحرى قرارك أنت, لأنك تعتبر نفسك ديكًا وتريد أن يكون لك الكثير من الاتباع, أليس هذا هو الشرق وأمراضه؟
كنت أجلس في غرفة النوم المرتبة, السرير المرتب, التناسق بين الألوان, كل قطعة في مكانها الصحيح. لقد منعت والدتي أي كائن يدخل الغرفة, اعتبرته غرفة عرسي وزواجي. اعتبرتني موجودًا, امارس الحياة الطبيعية في البيت, وشجرة باسقة تطل على غرفة الأحلام لكائن لم يكن موجودًا, تداعب الغرفة بظلالها الرقيقة.
كنت استلقي على السرير ضجرًا, أنظر إلى لمبة النيون, يجتاحني كم هائل من الفراغ والألم, إنني وحيد في هذا المكان الجميل, لأن قسوة الزمن, غربتي عن نفسي, غرب الزمن عني. أقف مرات, وأجلس على الكرسي مرات ثم استلقي على السرير كأنني أعوض ما فاتني من آلق وجمال.
كان السرير مفصلا, اختارته والدتي بنفسها, أسود اللون, فرشه أبيض نقي, المرآة في الواجهة. أجلس عليه وأنظر إلى وجهي الشاحب, مرارة الزمن قابعة عليه. جلبت صوري القديمة وقارنتها بالصورة التي على المرآة, وجهي الجديد, المشوه. أحزن على الأيام التي سرقها المارق, المشوه حافظ الأسد. أدور وآتاوه, أضرب الجدار. قلت لنفسي:
ـ لمن أحاكم أو أرمي سبب ما يحدث. القوة جزء من الوقاحة, أو يتماثلان. كلاهما صنعا تاريخ البشرية, كلاهما أداة بيد أرذل أنواع البشر. هل أحاكم الوقاحة أم القوة؟أم كلاهما, وإذا حاكمتهما وجدانيًا ما هي الفائدة التي أجنيها من هذا؟ كنت أتمنى لو أن الإنسان يعيش مع الطبيعة بعيدا عن الجدران القاسية التي اخترعها ليقزم نفسه ووجوده. لقد بنى حضارته بما يضمن خراب حياته. فالامنيات جزء من رغبات الإنسان المهزوم.
أقف في مكاني وحيدًا, أتخيل زوجتي وأطفالي معي, إلى جانبي, نلعب معًا أو نسمع الموسيقى أو نركض وراء بعضنا أو أعلمهم دروسهم. استبدلت وجوه أخواتي وأخي بعائلتي التي لم تنشأ. صنعها خيالي الجارف, أضع في كل مكان كائن من روح وجسد, يتحرك, لأداعب الوحشة والفراغ. أسمع صوت نفسي يرتد علي, اتأمل, وأرصد الخيبة.
أجلس أمام التلفاز, أدخل غرفة الاستقبال, تأتيني أصوات الراحلين من أخواتي وأخي, بعثرتهم الأيام والسنين وكل واحد في مكان من هذا العالم. الكم الهائل من الفراغ كان يخاطبني عبر صمته القاتل. أدخل الحمام, أقول:
ـ تغير كل شيء. المكان حيادي, أثول, صامت لا يرد على خلجات قلبي. احتاج إلى كل شيء, إلى كم هائل من الذكريات التي تحتاج أن ترمم. أنظر إلى الهاتف, أراقبه, علّ صوت حنون يأتي من مكان ما يرفق بي, بوحدتي, أن ينتشلني من حالة الارتباك, الارباك الذي أنا فيها, ويأخذني إليه. كنت أرى فيه صوت أنفاس امرأة مثلي تبحث عن إنسان لا مكان له في هذه الغربة, مهمشًا يريد أن يثبت قدميه في هذه الأرض. شعرت إنني بلا جذور وأن الأرض قبل السجن مختلفة تمامًا عما هي عليه بعد السجن, وأن لون البيوت لها وقع خاص في النفس قبل السجن عما هي بعده. يشعر السجين أن الأرض لا أرض, وقدماه ليست عليها, وأنه عائم في مكان لا يحمله, إنه تائه يبحث عن شيء ما لا يعرفه, عن وجوده الضائع, عن وجوه غائبة. يتحول إلى إنسان طائش, كل الاتجاهات غريبة عنه ولا يعرف أين هو, ولا يعرف من أين هو موقعه. الوجوه القديمة لا وجوه, ينكرها ويريد أن يتحرر منها, كأنهم صدى وجع له. وحدها المرأة كحقيقية موضوعية لا تتبدل, إنها كامنة في اللاشعور, وحدها يمكن أن تبدد الغربة وتحول الجفاف إلى نبع حنان, بيد أين هي في هذه الفترة؟ كيف يمكننا أنا وهي أن نلتقي ونحول هذا اليباب إلى أرض خضراء, أجنحة عصافير وبحار ترقص في السماء.
في اليوم السادس أو السابع اتصل الأمن السياسي بوالدي, حيث لم أكن في البيت. قال لي:
ـ اتصلوا بك, يريدون منك أن تذهب إليهم غدا الساعة السابعة مساءا. أرجوك يا آرام أن تكون متعاونًا معهم, أن لا تكون قاسيًا في ردودك. كن لطيفًا حتى لا يؤذوك. أعرف أنك شجاعًا, بيد أن الشجاعة مع الوحوش ليست شجاعة, إنه تهور. بالله عليك يا أبني لا تحرق قلبينا, أنا وأمك. إن لا يعيدوك إلى السجن مرة ثانية. إنهم وحوش, تذكر ذلك. هذه المرة سيقتلوك.
نظرت إلى وجهي والدي السبعيني, لم أشفق عليه. لم أشعر أن هناك أي شيء يستحق أن أصمت من أجله. وإن حالة الانفصال بيني وبين أبي وأمي والناس قد قطعت نهائيا. لم أشف من هذا المرض ابدًا. إنها الحياة, كل واحد مسؤول عن مصيره وقناعاته, جنونه أو فرحه, هروبه أو وقوفه على أرض صلبة أو رخوة. أعرف أن في داخلي كم هائل من الشجاعة والهزيمة, الخوف وجنون التمرد على نفسي وزمني. قلت له:
ـ لا تخف. لن يفعلوا شيئًا هذه الأيام. أظافرهم مقصوصة هذه الفترة إلى حين. لن ينالوا مني وسأنتقم منهم في عقر دارهم. لن أنكس رأسي بيدهم. أعرف اللعبة. أعرف أنهم أدوات, مجرد شيء يتحرك بإشارات ورموز. إنهم جبناء من رئيس الدولة إلى أصغر عضو فيها. إن حافظ الأسد رجل رذيل ذليل, ضعيف وجبان, حمى نفسه من الناس والمجتمع عبر قوة السلطة وطائفته. إنه أداة بيد الولايات المتحدة في ضبط سورية والمجتمع السوري.
ذهبت إلى هناك, إلى مبنى الأمن السياسي, حيث الحارس واقفًا في قولبته. رميت عليه التحية فرد علي, قلت, أن معلمك يريدني. قال, انتظر. اتصل باسياده, طلبوا منه أن يسمح لي بالدخول. ذهبت إلى الديوان, استقبلني المساعد أول, وطلب مني الجلوس بمنتهى الرقة واللطف. طلب لي كأس شاي, وقال لي:
ـ أرجو منك الانتظار قليلا, المعلم مشغول الأن.
رأيت كم هائل من المراجعين, من وجهاء المدينة. الأمير, وزلم الأمير, تحولوا إلى عشيرة واحدة, عائمون فوق المجتمع. مصالحهم متشابكة في نهبه وسرقته. دخت من الفرجة. شعرت أنني في مبغى, في وكر دعارة, كل واحد يدخل إلى العاهرة ينقطها مالًا, يضاجعها أو يضاجعوه, في هذه العلاقة ليس مهما من هو الذكر ومن هي الأثنى, من هو الفحل أو الديوث. كلاهما, لديه إرادة أن يمارس هذه اللعبة القذرة, إن يتحولا إلى مجرد أدوات رخيصة في لعبة كبيرة. فحول مخصية في تمزيق المجتمع والدولة وتحويل البلاد إلى مبغى كبير, سوق للنخاسة.
مكثت هناك ساعة, بيد أنهم لم ينادوا علي. خرجت من المبنى وذهبت إلى البيت, قلت في نفسي:
ـ نسوا أنني عندهم. يبدو لديهم صفقة أهم من وجود كائن مثلي, مجرد رقم لا قيمة له. شغلهم يتطلب أن يستدعوني كنوع من واجب عابر.
معرفتي بأساليب الأمن أعطاني مناعة في معرفة كيفية إدارة هذه الدولة. التسيب والفوضى لم يكن في الدوائر العادية وأنما في جميع أجهزة النظام والدولة, بما فيها أجهزته الأكثر تأثيرًا على مصالحه.
في اليوم الثاني استدعوني مرة ثانية. ذهبت إليهم, جلست برفقة شاب وسيم, لطيف المعشر, اسمه سمير المصري برتبة ملازم أول. كان يتكلم معي ويبتسم بشكل دائم: قلت له:
ـ لماذا أنت هنا؟ هذا ليس مكانك. يبدو أنك إنسان رائع وفي داخلك قيم الخير والمحبة والطيبة! قال:
ـ البلد مقبل على تغيرات كبيرة ونريد من الجميع أن يتعاونوا معنا لنبني هذا البلد. قلت له:
ـ تتكلم مثلهم تمامَا, المدرسة ذاتها. لن يتغير أي شيء, تريدون تحويل المجتمع كله إلى مخبرين لتجلسوا على جثته كمومياء محنطة. التغيير يا أخ سمير لا يكون بهذا الشكل. التغيير يبدأ من مؤسسات الدولة, تفعيلها, تفعيل الدستور, البرلمان, الحياة السياسية, العودة للمواطن, احترامه وإعادة الاعتبار له دون تهميش أو احتقار.
كان برفقته مساعد أول, كانا ينظران إلي ككائن غريب حط عليهم بشكل مفاجئ. يتكلم بكلمات كأنها ألغاز, وربما لم يفهما علي. صمتا, لم يردا علي. كان في يده سمير جريدة نسيت اسمها, ربما كان اسمها المحرر, يحررها رجل سوري مقيم في أمريكا, يبدو على صلة بأجهزة المخابرات, قال:
ـ اقرأ هذه الجريدة, سترى أننا في الطريق السليم. قلت:
ـ لست بحاجة إلى جريدة كي أعرف ما يحدث في وطني وبلدي. هناك طريق واحد يمكنه أن يخرجنا من هذه المتاهة, هو تفعيل الدستور ومؤسسات الدولة.
بقيت أتحدث مع سمير والمساعد الغبي ساعتين, كل واحد يحاول ان يجر الأخر إلى موقعه, مدركًا من التجربة في السجن أن الحديث مع رجل أمن ضرب من العبث, كلا الطرفين, أنا وهم على مسافة بعيدة, متفارقين, فرجل الأمن لديه مهمة واحدة هي تحويل المجتمع إلى مجرد مدجنة, وينفذ ما يطلب منه رؤوساءه, لا يهمه السياسة والحديث فيها, يساير المتحدث ليجلبه إلى خندقه, أي يحوله إلى مخبر. كان لدي حصانة نفسية من التجربة والخبرة, أن هذه الأمعات مجرد أكياس فارغة, ليس لديهم أي قيمة ذاتية أو إنسانية. إنهم مجرد خواء في خواء من رئيس أكبر مؤسسة مخابرات في الولايات المتحدة إلى روسيا أو الصين, كلهم متشابهين, مجرد أدوات صغيرة رخيصة. مسنن في مسنن, ينفذ ما يطلب منه. إنهم من أحط أنواع الكائنات في هذا الكون. حتى الفيروسات أقل قذارة منهم. كل رجل مرتبط بمؤسسة أمن ينفذ ما يطلب منه دون أي سؤال أو رد فعل, مجرد روبوت.
لم أكن أعرف بالضبط ما حدث في سورية بعد موت حافظ الأسد, كيف جرى تتويج بشار, ومن هم المساهمين في وضعه في منصبه. كنت في سجن تدمر, في عزلة كاملة عن العالم. قال لي الملازم أول سمير:
ـ بعد قليل ستدخل إلى غرفة سيادة العقيد, نائب رئيس الفرع, يريد أن يراك. أتمنى أن تكون لينًا. قلت له:
ـ أنا لين جدًا, ألم ترى ذلك؟
ضحك, برقة.
ـ أي لين يا رجل. أنت أصلب من الصخر.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟