|
محمد في مكة
محمد صالح الطحيني
الحوار المتمدن-العدد: 5075 - 2016 / 2 / 15 - 10:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لقد كان محمد من أسرة كريمة ممتازة، ولكنه لم يرث منها إلا ثروة متواضعة، فقد ترك له عبد الله خمسة من الإبل، وقطيعاً من المعز، وبيتاً، وأمة عنيت بتربيته في طفولته. ولفظ محمد مشتق من الحمد وهو مبالغة فيه، كأنه حمد مرة بعد مرة، ويمكن أن تنطبق عليه بعض فقرات في التوراة تبشر به. وقد توفيت أمه وهو في السادسة من عمره وكفله أولاً جده وكان وقتئذ في السادسة والسبعين من عمره ثم عمه أبو طالب ولقي منهما كثيراً من الحب والرعاية، ولكن يبدوا أن أحداً لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة. ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر يقرءون ويكتبون. ولم يُعرَف عن محمد أنه كتب شيئاً بنفسه، وكان بعد الرسالة يستخدم كاتباً خاصاً له ولكن هذا لم يحل بينه وبين المجئ بأشهر وأبلغ كتاب في اللغة العربية، أو بين قدرته على تعرف شؤون الناس تعرفاً قلما يصل إليه أرقى الناس تعليماً. ولا نكاد نعرف عن شباب محمد إلا القليل، وكان ما يروى عنه من القصص قد ملأ عشرة آلاف مجلد. وتقول إحدى الروايات إن عمه أبا طالب قد أخذه معه وهو في الثامنة عشرة من عمره في قافلة إلى بصرى ببلاد الشام، وليس ببعيد أن يكون قد عرف في هذه الرحلة قليلاً من القصص الشعبية اليهودية والمسيحية. وتصور قصة أخرى بعد بضعة سنين من الرحلة السابقة مسافراً إلى بصرى في تجارة إلى السيدة خديجة وكانت وقتئذ أرملة غنية، ثم نراه في الخامسة والعشرين من عمره وقد تزوج فجأة بهذه السيدة وهي وقتئذ في الأربعين من عمرها وأم لعدة أبناء. ولم يتزوج غيرها حتى توفيت بعد ذلك بستة وعشرين عاماً، ولم يكن الاقتصار على زوجة واحدة أمراً مألوفاً عند أغنياء العرب في ذلك الوقت، ولكن لعله كان طبيعياً في حالتهما. وقد رزق منها عدة بنات أشهرهن كلهن فاطمة، كما رزق بولدين توفيا في طفولتهما. وقد وجد سلواه في تبني علي بن أبي طالب الذي مات عنه والده. وكانت خديجة سيدة طيبة، وزوجة صالحة، وتاجرة بارعة ظلت وفية لمحمد في صروف حياته الروحية، وظل يذكرها بعد وفاتها على أنها خير نسائه كلهن. ويصف زوج فاطمة محمداً وهو في سن الخامسة والأربعين بقوله: لم يكن الطويل الممغط ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط، وكان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، وكان أبيض مشرباً أدعج العينين أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق المشربة، أجود شئن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً،...أجود الناس كفاً وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من آره بديهة، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته "لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم". وكان محمد مهيب الطلعة، لا يضحك إلا قليلاً، قادراً على الفكاهة ولكنه لا يترك العنان لهذه الموهبة، لأنه كان يعرف خطورة المزاح إذا نطق به من يتولى أمور الناس، ولم يكن قوي البنية، ولهذا كان مرهف الحس سريع التأثر، ميالاً إلى الانقباض كثير التفكير. كان إذا غضب أو تهيج انتفخت عروق وجهه بدرجة يرتاع لها من حوله ، ولكنه كان يعرف متى يهدأ من انفعاله، وكان في وسعه أن يعفو من فوره عن عدوه الأعزل إذا تاب. وكان في بلاد العرب كثيرون من المسيحيين، وكان منهم عدد قليل في مكة، وكان محمد على صلة وثيقة بواحد منهم على الأقل ورقة بن نوفل ابن عم خديجة الذي كان مطلعاً على كتب اليهود والمسيحيين المقدسة. وكثيراً ما كان محمد يزور المدينة التي مات فيها والده، ولعله قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا كثيرين فيها. وتدل كثير من آيات القرآن على إعجابه بأخلاق المسيحيين، وبما في دين اليهود من نزعة إلى التوحيد، وبما عاد على المسيحية واليهودية من قوة كبيرة لأن لكلتيهما كتاباً مقدساً تعتقد أنه موحى من عند الله. ولعله قد بدا له أن ما يسود جزيرة العرب من شرك، ومن عبادة للأوثان، ومن فساد خلقي، ومن حروب بين القبائل وتفكك سياسي، نقول لعله قد بدا له أن حال بلاد العرب إذا قورنت مورد رزقهم ، وكادوا يوقعون به أذى جسيماً لولا أن حماه عنهم عمه أبو طالب. ولم يعتنق أبو طالب الدين الجديد، ولكن إخلاصه لتقاليد العرب القديمة تحتم عليه أن يحمي كل فرد من أفراد قبيلته. وكان خوف قريش من إثارة الفتنة الصماء بين العرب مانعاً لها من استخدام العنف مع محمد والأحرار من أتباعه، أما من آمنوا به من العبيد فقد كان في وسعهم أن يستخدموا من الأساليب ما يرونه كفيلاً بردهم عن الدين الجديد دون أن يخالفوا بذلك قوانين القبائل وتقاليدها. فزجوا بعضهم في السجون وعرضوا البعض الآخر ساعات طوال إلى وهج الشمس وهم عراة الرؤوس. ومنعوا عنهم الماء وكان أبو بكر قد ادخر من تجارته خلال عدة سنين أربعين ألف قطعة من الفضة، فلما رأى ما كان يحدث لأولئك العبيد أنفق 35000 منها في تحرير أكبر عدد من العبيد المسلمين، ويسّر محمد الأمر بقوله إن المرتد المكره لا عقاب عليه وغضبت قريش من ترحيب محمد بالعبيد أكثر من غضبها من عقيدته الدينية. وظلت تضطهد من دخل في الإسلام من الفقراء اضطهاداً بلغ من القسوة حداً لم يسع النبي معه إلا أن يأذن لهم أو يشير عليهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة، حيث رحب بهم ملكها المسيحي وأكرم وفادتهم. وحدث بعد عام من لك الوقت حادثة كان لها من الشأن في تاريخ الإسلام ما كان لإيمان بولس في تاريخ المسيحية. تلك هي اعتناق عمر بن الخطاب للدين الجديد بعد أن كان من ألد أعدائه وأشدهم عنفاً في مناهضته. وكان عمر رجلاً قوي الجسم، ذا مكانة اجتماعية عالية، وشجاعة أدبية تكاد تكون منقطعة النظير. وبعث إسلامه الثقة في قلوب المؤمنين المضطهدين، وهي ثقة ما كان أحوجهم إلها في ذلك الوقت كما كان سبباً في دخول كثيرين من العرب في الدين الجديد. وبدأ المسلمون من ذلك الوقت يدعون الناس جهرة في الشوارع والطرقات بعد أن كانوا من قبل لا يعبدون الله إلا سراً في بيوتهم. واجتمع المدافعون عن آلهة الكعبة وأقسموا أن يقطعوا كل صلة بينهم وبين من لا يزالون من بني هاشم يرون واجباً عليهم أن يدافعوا عن محمد. ورأى كثيرون من الهاشميين ومن بينهم محمد وأسرته حقناً للدماء أن ينسحبوا إلى شعب منعزلة في مكة يستطيع أبو طالب أن يدفع عنهم الأذى فيه. وظلت هذه الفرقة بين العشائر قائمة سنتين كاملتين عاد بعدها بعض رجال قريش إلى صوابهم فدعوا الهاشميين أن يعودوا إلى بيوتهم وتعهدوا ألا يمسوهم بسوء. وابتهجت لهذه القلة المسلمة في مكة، ولكن ثلاثة خطوب ألمت بمحمد في عام 619، فقد توفيت في ذلك العام السيدة خديجة أوفى الناس له وأكثرهم تأييداً لدعوته، وتوفي أبو طالب الذي كان ينصره ويدافع عنه. وأحس محمد أنه لا يأمن على نفسه في مكة، وآلمه بطء انتشار الدعوة فيها، فهاجر إلى الطائف عام (620). وهي بلدة ظريفة بعيدة عن مكة بنحو ستين ميلاً إلى جهة الشرق، ولكن الطائف لم تقبله، لأن زعماءها لم يروا من مصلحتهم أن يغضبوا أشراف مكة التجار، ولأن العامة فزعوا من الدين الجديد فأخذوا يهزءون بمحمد في الشوارع، ويقذفونه بالحجارة، حتى سال الدم من ساقيه، فعاد إلى مكة، وتزوج أرملة تدعى سودة ، ثم خطب وهو في سن الخمسين عائشة بنت أبي بكر وكانت وقتئذ فتاة حسناء في السابعة من العمر . ولم ينقطع عنه الوحي في هذه الأثناء، وخيل إليه في ذات ليلة أنه انتقل من نومه إلى بيت المقدس، حيث رأى في انتظاره عند المبكى من أنقاض هيكل البُرَاق، وهو جواد مجنح فطار به إلى السماء، ثم عاد به منها، ثم وجد النبي نفسه بمعجزة أخرى آمناً في فراشه بمكة. وبفضل الإسراء أصبحت بيت المقدس ثالثة المدن المقدسة عند المسلمين . وفي عام 620 أخذ محمد يبث الدعوة بين التجار الذين وفدوا على مكة ليحجوا إلى الكعبة، وقبل بعض التجار دعوته، لأن عقائد التوحيد، والرسول المبعوث من عند الله، ويوم الحساب كانت مألوفة عندهم، انتقلت إليهم من يهود المدينة. ولما عاد هؤلاء التجار إلى بلدهم أخذ بعضهم يدعون أصدقائهم إلى الدين الجديد، ورحب بعض اليهود بهذه الدعوة لأنهم لم يروا فارقاً كبيراً بين تعاليم محمد وتعاليمهم. وفي عام 622 أقبل على محمد في مكة سراً ثلاثة وسبعون رجلاً من أهل المدينة ودعوه إلى الهجرة إلى بلدهم واتخاذها موطناً له. فسألهم هل يدافعون عنه كما يدافعون عن أبنائهم، فأقسموا أن يفعلوا، ولكنهم سألوه عما يُجزون به إذا قُتلوا في أثناء دفاعهم عنه، فأجابهم بأن جزائهم هو الجنة. وفي ذلك الوقت أصبح أبو سفيان حفيد أمية زعيم قريش في مكة، وكان قد نشأ في جو من الكراهية لبني هاشم، فعاد إلى اضطهاد أتباع محمد، ولعله قد سمع أن النبي يعتزم الهجرة من مكة، وخشي أنه إذا استقر له الأمر في المدينة قد يشن الحرب على مكة وعلى آلهة الكعبة. وعهدت قريش بتحريضه إلى بعض رجالها أن يقبضوا على محمد، ولعلها عهدت إليهم أن يقتلوه، وعلم محمد بالخبر ففر هو وأبو بكر إلى غار ثور على بعد فرسخ من مكة، وظل رسل قريش يبحثون عنهما ثلاثة أيام ولكنهم عجزوا عن العثور عليهما. وجاء أبناء أبي بكر لهما بجملين فركباهما في أثناء الليل واتجها بهما شمالاً، وبعد أن ضلا سائرين عدة أيام قطعا فيها نحو مائتي ميل وصلا أخيراً إلى المدينة في 24 سبتمبر من عام 622. وكان قد سبقهم إليها مائتان من المسلمين بدعوى أنهم حجاج عائدون من مكة، ووقفوا عند أبواب المدينة ومعهم من أسلم من أهلها ليستقبلوا النبي، وبعد سبعة عشر عاماً من ذلك الوقت اتخذ الخليفة عمر اليوم الأول من السنة العربية التي حدثت فيها تلك الهجرة، وكان هو في ذلك العام يوم 16 يولية من سنة 622، البداية الرسمية للتاريخ الإسلامي.
يتبع-هجرة محمد الى المدينة
#محمد_صالح_الطحيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسلام
-
الشريعة اليهودية
-
الشعائر الدينية عند اليهود
-
منشئو التلمود
-
اليهود والنفي
-
الأساقفة الشرقيون
-
المارقون عن المسيحية
-
تنازع العقائد المسيحية
-
المسيحيون
-
موت المسيح وتجلّيه
-
الإنجيل
-
رسالة عيسى اليسوع
-
نشأة عيسى المسيح
-
الديانة المسيحية
-
بوذا في أيامه الأخيرة
-
تعاليم بوذا
-
أسطورة بوذا
-
ماهافيرا والجانتيوُّن
-
بوذا
-
فلسفة أسفار يوبانشاد
المزيد.....
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|