|
قراءة في مضامين كتاب -خوف ورعدة- تأليف سورين كيركجارد؛ترجمة فؤاد كامل
فريد النهاشي
الحوار المتمدن-العدد: 5074 - 2016 / 2 / 14 - 20:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بقلم فريد النهاشي تطوان : 2015 قراءة في مضامين كتاب "خوف ورعدة" تأليف سورين كيركجارد؛ترجمة فؤاد كامل
تقديم عام ليس من المبالغة في شيء القول بأن تاريخ 11 أكتوبر من عام 1841 شكل عتبة مصيرية في حياة سورين كيركجارد حيث أقبل على قطيعته النهائية مع ريجينا بعد قصة خطبته وفسخها المأسوي ورحيله لبرلين لدراسة الفلسفة قبل أن يعود سريعا لوطنه؛فظهر له أول كتاب في 1843 "إما..أو.."ثم "ثلاثة أحاديث تهذيبية"وشرع بعده في كتابة "خوف ورعدة" و "التكرار" في ماي 1843 يحكي فيهم عزوفه عن كل أمل في السعادة الأرضية عندما تنازل عن الزواج بمن أحبها(كما ضحى إبراهيم بإبنه إسحق)وحرر إرتباطه بها وأطلقها للإبحار واهم أياها بأنه كان مجرد وغد يتلاعب بعواطفها"ما أسعد الإنسان الذي لم يعان من صراعات أشد هولا؛ولم يجد نفسه في حاجة إلى تسويد نفسه..".لم يتوقع كيركجارد أن يكون مفهوما وهو ما يوحي به غلاف كتابه "خوف ورعدة؛أنشودة جدلية :تأليف يوحنا الصامت؛إن ما تحدث به تاركينيوس سوبربوس إلى أزهار الخشخاش في حديقته قد فهمه الإبن؛وإن لم يفهمه الرسول/هامان " وقال عن نفسه بأنه "مثل كلمنت الكسندرينوس يكتب بطريقة بحيث لا يفهمه الكفار" وأستعار من هامان كونه يكتب للأموات الذين أحبهم في الماضي إلا أنه خالفه بأن أجاب على "وهل سيقرءونني ب "كلا" عوض "أجل للأنهم يعودون على هيئة الأجيال اللاحقة" .ومن شدة الإعتكاف في كتاباته قال لصديقه بويزن "إنني في حالة من الضعف بحيث لوناداني شخص بصوت مرتفع لسقطت من توي ميتا..تنهمر الأفكار على رأسي أطفالا أصحاء؛مرحين فرحين جاءوا إلى الدنيا بولادة يسيرة؛ومع ذلك يحملون جميعا علامة شخصيتي" ولهذا قال عن "خوف ورعدة " في" يومياته" 1849 بأنه عندما يموت سيكون كافيا وحده لمنحه لقب كاتب خالد" وسيرتعد الناس من العاطفة الرهيبة التي تجتاح الكتاب..إنه يعرض حياتي الخاصة".لقد علم كيركجارد بعبقريته مما جعله يقبل بالمعاناة بحيث تبنى مثل لاتينيا "إنه لم يوجد قط عبقرية عظيمة دون شيء من الجنون" وتعلم من مسار حياته أن الشعور الديني عاطفة إنسانية كبرى يؤلف مضمونه الواقع الماهوي كله لوجود الفرد والإنسحاب من الحياة بتسليم وحسم روحي من خلال الحركة المنسجمة لكل من العقل والشعور والإرادة في خضم الفهم الإنساني للحياة؛فقوة الفرد تكمن في ضعفه وإنتصاره في إنكساره. تصدير و استهلال لقد إستهل سورين كتابه بالتشاؤم من التطورات التي لحقت البشرية بعدما أصبح العصر عصر عقود الصفقات المنتظمة لا في عالم التجارة فحسب؛بل في عالم الأفكار أيضا ولم يعد القنوع بالشك في كل شيء بل يمضي للأبعد من ذلك ومس مسائل الإيمان بعدما كان ديكارت قد وجد علامة هادية متنورة ووصفة لتنظيم غذائه وفعل ما قال؛وقال ما فعل؛ولم يشك قط في الإيمان فهو مفكر هادئ متوحد ولم يكن حارسا ليليا خوارا كالثور.وقد إعترف متواضعا بأن منهجه لا يهم أحدا غيره"لا يظنن أحد أنني أحاول هنا نشر منهج ينبغي على كل إنسان أن يتبعه لكي يحكم عقله حكما رشيدا"؛لكن في عصر سورين لاأحد يقنع بالوقوف عند الإيمان؛وإنما الكل يريد أن يمضي إلى أبعد منه مفترضين أن الإيمان للجميع في وقت كان مهمة تستغرق عمرا بأكمله؛وحول البعض قارة الإيمان بأكملها إلى مفهوم ما متباهون بما في رؤوسهم الهزيلة من تفكير بمجرد أن لهم رؤوس ضخمة في عصر طمست فيه العاطفة لحساب المعرفة وأصبحت الكتابة على نحو يمكن معه قراءة الكتاب بسهولة أثناء قيلولة ما بعد الظهر. يتذكر كيركجارد استماعه وهو طفل لقصة إمتحان إبراهيم وكيف تجاوزه محتفظا بإيمانه؛وأنه عندما شب عن الطوق قرأ القصة بمزيد من الإعجاب وكانت قدرته على فهمها تقل و تزداد قلة وأخيرا لم يعتمل في نفسه غير شوق واحد هو أن يكون شاهدا لذلك الحدث ويكرره على أرض الدنمارك القاحلة.لقد كانت رغبته الوحيدة أن يكون حاضرا في ذلك الوقت حين رفع إبراهيم عينيه وأبصر جبل المريا بعيدا هناك؛وفي الوقت الذي ترك فيه الحمير وراءه؛وأوغل وحده مع اسحق مرتقيا الجبل مصوبا عقله لرجفة الفكر دون حاجة الى الإيغال فيما وراء الإيمان"كان الوقت في مطلع الصبح؛فبكر ابراهيم في نهوضه من الفراش؛وشد على حميره وغادر خيمته؛وأخذ معه اسحق؛أما ساره فقد أطلت من النافذة؛وتابعتهم بنظرها حتى عبروا الوادي؛فلم تعد تستطيع رؤيتهم وركبوا صامتين أياما ثلاثة...و أطبق على عنق اسحق؛ وطرحه أرضا وقال أيها الغلام الأحمق؛ أحسبت إذن أنني أبوك؟أنا رجل وثني؛ أتظن أن هذه مشيئة الرب؟كلا؛إنها مشيئتي وهنا إرتعد اسحق؛وصرخ مفزعا؛ يا إله السموات انزل رحمتك علي؛لم يعد لي أب على الأرض؛فلتكن أنت أبي غير أن ابراهيم قال له بصوت خفيض يا إله السموات؛أوزعني أن أشكرك فمن الأفضل على كل حال أن يعتقد أنني وحش ضار؛من أن يفقد إيمانه بك " .هكذا كان سورين يتساقط إعياء؛ويشبك يديه قائلا"لا يوجد من هو في عظمة ابراهيم.من يستطيع أن يفهمه" إبراهيم:الحياة والإيمان إن الحياة كانت لتكون مجرد خواء ويأس وقنوط لو لم يكن ثمة رابطة مقدسة توحد البشرية؛و لو لا وجود شعور أبدي في الإنسان وقوة هوجاء ضارية تتضافر مع الشهوات العمياء للإنتاج كل ما هو عظيم؛وكل ما هو تافه؛ولو لا هذا لكانت الأجيال كأوراق أشجار الغابة وأناشيد الطيور يحل بعضها محل الأخر؛ولكان الجنس البشري مجرد عابر خام كما تعبر السفينة عباب البحر وكأنه نشاط يخلو من الفكر والثمار؛ومجرد ركام يحضنه النسيان.لكن الأمر مختلف فالله خلق الذكر و الأنثى وشكل البطل والشاعر والخطيب ولكل حسب طبيعته التي يعشقها؛ولا يطوي النسيان أبدا من كان عظيما؛ولكل عظيم طريقته في العظمة(حب النفس-الإيثار-الله....)والكل صار عظيما بالنسبة "لتوقعه"ولعظمة جاهد من أجلها؛ ولكن من ناضل في سبيل الله صار أعظم الجميع. ثمة جهاد وكفاح في العالم وهو صراع و تحدي ودفاع عن إيمان وقناعة ؛إلا أن الذي أمن فهو أعظم الجميع كما حال إبراهيم الذي تجلت عظمته في: - قوته التي استمدها من العجز - حكمته التي يكمن سرها في الحماقة - أمله الذي اتخذ شكل جنون - الحب الذي هو بغض الإنسان لنفسه لقد ترك إبراهيم فهمه الدنيوي وأخذ معه الإيمان وحتى لما اقترب غروب العمر لم يكن من الضعة بحيث ينسى توقعه وإن إنتابه الحزن فلم يخدعه كما خدعته الحياة؛فهو لم يترك مرثية ولم يكن يوما نائحا على ما مضى من الزمان بل كان مؤمنا؛مختارا؛مخلصا؛ وفيا؛مناضلا؛محاربا ومنكرا لرغبات الشباب ولم يتنازل قط على توقعه "قد يكون عظيما أن تمسك بالأبدي؛لكن أعظم من ذلك أن تتشبث بالزماني بعد أن تتخلى عنه"؛بيد أن إبراهيم كان مؤمنا؛ومن ثم فقد كان شابا؛ذلك أن من يأمل دائما في الأفضل يصير شيخا؛فالمؤمن يحتفظ بشباب أبدي والذي يوطن نفسه دائما للأسوأ يهرم مبكرا؛ومنه حارب الزمان والقوى الماكرة وأحتفظ بإيمانه رغم رعب النضال لحظة امتحان الله له "قال خذ أبنك وحيدك الذي تحبه إسحق واذهب الى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك" هكذا جعل الرب من ابراهيم ألعوبة بجعل المحال شيئا فعليا بمعجزة وكأنه سيضيع كل شيء بعد سبعون عاما من التوقع الأمين والإيمان وكأنه ينتزع من الرجل العجوز عكازه ؛بل ويطلب منه أن يكسره بنفسه بلا شفقة بالشيخ ولا بالطفل البريء؛إلا أن ذلك امتحان قضه الله وإن بدى كنزوة وفكرة عابرة طافت بعقل الله للإنتزاع ثمرة إبراهيم بلا مغزى بل بلاء مطلق؛لكن إيمانه كان أقوى من حبه للإبنه الوحيد حيث بكر صباحا متعجلا و كأنه ذاهب إلى حفل وانطلق لجبل المريا دون أن يقول شيئا لسارة وخادمه اليعازر؛ومن كان يستطيع أن يفهمه؟وهكذا رتب الحطب؛وأوثق إسحق؛أشعل المحرقة وأخرج السكين دون أن يخالجه شك قط "لم يتحد السماء بصلواته؛كان يعلم أن الله هو الذي يمتحنه؛وكان يعلم أنها أقسى تضحية يمكن أن تطلب منه ".ذلك كله جعله يشهد على الفضل الإلهي فقد ربح كل شيء واحتفظ باسحق؛ففي عالم الروح يسود النظام الإلهي الأبدي ويؤطره المثال القديم"لن ينال الخبز إلا الرجل الكادح" في حين أن العالم الخارجي المرئي/الظاهري خاضع لقانون النقص وعدم الاكتراث؛والسماء لا تمطر على الطيب والشرير معا ووحده من يحيا في القلق يجد الراحة؛فمن لايعمل يظل مخدوعا وضالا وجبانا ولايلد غير الريح؛ومن يعمل يلد أباه. إن التعبير الأخلاقي عما فعله إبراهيم هو أنه سوف يقتل اسحق؛أما التعبير الديني فهو أنه سوف يضحي باسحق؛وفي هذا التناقض بالذات يكمن القلق الذي يؤرق الإنسان وكل ذلك دون أن يكون عند ابراهيم أى طموح أو مكسب الشهرة والعظمة بل فقط الإيمان هو الذي حركه ومده باليقين ضد أراء العامة"أيها الإنسان البشع؛يا نفاية المجتمع؛أي شيطان إستحوذ عليك فأردت أن تذبح إبنك؟" هكذا يقر سورين أنه إذا لم يجرؤ على الحديث بحرية عن إبراهيم فسيخلد إلى الصمت التام فيما يتعلق به حتى لا يسقط في إستخفاف على النحو الذي يجعله فخا للضعفاء؛فالرجل العظيم لا يضار إذا فهم في عظمته كونه سيف ذي حدين يذبح وينقذ؛فقد يسمع المرء أحيانا صوتا يعرف كيف يدافع عنه أما عن الإيمان فلا يسمع المرء كلمة أبدا؛إلا أن تأمل إيمان إبراهيم يجعلك تهتف لنفسك"الأمر يتعلق بك عندما يشب الحريق في بيت جارك" فالإيمان أسمى الأشياء ومفارقته أن تغمض العين لتغوص واثقا في اللامعقول"وتجافي الفلسفة الأمانة عندما تعطي شيئا أخر بدلا منه؛وعندما تستخف بالإيمان؛ولكن عليها أن تفهم نفسها وأن تعرف ما يجب أن تعطيه؛وألا تستبعد شيئا وألا تخدع الناس في قيمة شيء ما بحسبانه لاشيئا " فالله محبة وفي العالم الزماني لايمكن أن أتحدث أنا والله معا؛فليست بيننا لغة مشتركة كون العقل المتناهي لن يضاهي الإيمان باللامعقول للوصول للامتناهي وحب الله دون إيمان هو تفكير في النفس؛ومنه فكما نتعلم حركات السباحة يحتاج المرء لمراقبة فارس الإيمان للقيام بحركات الإيمان فالمؤمن يحتاج إلى تركيز مضمون حياته لله بحيث تصبح دلالة الواقع كلها في رغبة واحدة هي ما يحيل دون تبعثر الروح في المتعدد المانع لولوج الأبدية؛مما يجعل الغوص في المستنقع بديلا للتسليم اللامتناهي وحب الوجود الأبدي والإمكان المطلق" ومن الطبيعي أن يصيح عبيد التفاهة؛أولئك الضفادع القابعون في مستنقع الحياة؛حماقة مثل هذا الحب "فلا راحة إلا بعد الألم وما التسليم اللامتناهي إلا ذلك القميص الذي نقرأ عنه تلك الخرافة القديمة فالخيط ينسج تحت الدموع؛والثوب يبيض بالدموع؛والقميص يحاك بالدموع؛ولكنه يصبح بعد هذا كله أقوى حماية من الحديد والصلب؛وسر الحياة هو أن كل شخص ينبغي أن يصنع هذا القميص لنفسه حتى ينقذ نفسه من الإستحالة؛وهذا كله بواسطة اللامعقول والإيمان الذي يشترط التسليم " كما تظل فتاة صغيرة مقتنعة رغم كل الصعاب أن رغبتها سوف تتحقق يقينا..." وبحركة التسليم اللامتناهي نعيش اللامعقول/اللامحتمل/اللامتوقع ونزهد في كل شيء ويصبح الفرد رقيب نفسه بعدما يكون قد كسبها بالإيمان ونال كل شيء به وكما يقال"من يمتلك حبة خردل من الإيمان يستطيع أن يزحزح الجبال" من خلال التخلي عن الزماني بالأبدي؛وكل من لم يفعل فهو مجرد رعديد مخنث خلو من الحماسة. مشكلات سورين كيركجارد المشكلة الأولى:هل هناك ما يمكن أن يسمى بالتعليق الغائي لما هو أخلاقي الأخلاقي هو الكلي كونه ينطبق على كل إنسان في كل لحظة وهو نفسه غاية كل شيء خارجه؛والمهمة الأخلاقية للفرد الجزئي الفزيائي والنفسي هو أن يعبر عن نفسه في هذا الكلي باستمرار؛وبذلك يلغي طابعه الجزئي؛وكل فرد يبقى في مرحلة الجزئي أو ينزع لتأكيد النفسي كجزئي سيكون خاطئا ويسقط في براثين الغواية؛وإن إعتبره هيغل جزئي مانحا أياه شكل مبرر/أخلاقي للشر في مقاله"الخير و الضمير"؛لكن في الإيمان يصبح الجزئي أعلى من الكلي وينقلب الفرد لأن يكون متبوعا لا تابعا؛فبوصفه الجزئي يقف في علاقة مطلقة مع المطلق؛ ودون هذا لن يكون للإيمان وجود قط في هذا العالم؛هكذا احتوت قصة إبراهيم على التعليق الغائي لما هو أخلاقي حين أقبل على ذبح الإبن؛حيث وقع في مفارقة أن يكون قاتلا(أخلاقيا) ومؤمنا(دينيا)؛ففي الحالة الأولى يكون مخطئا ونادما عائدا للكلي؛لكن بفضل اللامعقول/الإيمان تجاوز المفارقة؛فابراهيم علق وعطل الإلتزام الأخلاقي نحو إبنه كما تغلب كل من أجاممنون ويفتاح وبروتوس(أبطال مأسويون)على ألامهم وفقدوا أحباءهم في بطولة؛وكان عليهم أن ينجزوا تلك التضحية الظاهرية(بالأبناء) من أجل إنقاذ الشعب؛وفي سبيل الحفاظ على الدولة؛ولمصالحة الآلهة الغاضبة؛ أي رغم ذلك هناك فضيلة أخلاقية في أفعالهم؛لكن لم يكن فعل إبراهيم كله على أية علاقة بالكلي/الأخلاقي؛بل عمله شخصي بحت وكل فعله في سبيل الله ونفسه ليقدم دليل إيمانه من خلال امتحان/ابتلاء هو نفسه الأخلاقي الذي يمنعه من تنفيذ مشيئة الرب(الواجب)؛هكذا ضحى بنفسه على مذبح الواجب وتخلى عن التناهي ليظفر باللامتناهي من خلال إيمانه باللامعقول الذي لن تستوعبه العامة أخلاقيا كونها لن تفهم تعليق ما هو أخلاقي لغاية أعلى تقع خارجه؛أي تتعدى الكلي؛ومنه لن يستطيع ان يتكلم وإلا اضطر بلغة الكلي لأن يقول أن موقفه غواية للأنه لا يملك تعبير عن ذلك الذي يعلو الكلي عكس البطل المأساوي الذي تخلى عن اليقين في سبيل ما هو أشد يقينا منه؛وقد يبكي معهم الكل؛لكن أين تلك العين التي ستبكي مع إبراهيم الضال أخلاقيا؛ولكن قد نقترب منه في رعب ديني؛حيث يحيا بوصفه الجزئي في مضاد الكلي الذي علق الأخلاق غائيا على نحو يبدو وكأنه خطيئة؛إلا أن إيمانه وعلاقته المطلقة مع المطلق تبرر فعله وإن إستحال توضيحه للآخرين ليجعل نفسه مفهوما لديهم. يعتبر سورين أنه شيء بشع لروحه أن يتحدث في غير إنسانية عن العظمة والتي تتجلى فيما يفعله المرء لا فيما يحدث له؛حيث أن جل العظماء إمتحنوا القلق والحزن والبؤس والمفارقة؛وكل حديث عن العظمة وعن من عاش العذاب والخراب قبل أن يصبح عظيما يتطلب طهارة فكر وروح؛وفي حال إبراهيم فإما أن يكون قاتلا أو أننا نواجه مفارقة أعلى من كل توسط حيث تعليق غائي لما هو أخلاقي؛وهو كفرد أصبح أعلى من الكلي ومنه يخلو ويغيب المعنى في كل حديث عنه للناس بالكلمات كأب للإيمان؛ولكن في نفس الوقت ليس مستبعدا أن يفهمه البعض فالإيمان عاطفة و كما قال ليسنج "العواطف تجعل الناس جميعا متساوين"
المشكلة الثانية:هل هناك شيء يسمى واجب مطلق نحو الله الأخلاقي هو الكلي/الإلهي وكل واجب هو واجب نحو الله؛ ولكنني في أداء الواجب لا أدخل في علاقة مع الله؛ هكذا يستدير الوجود الإنساني كله تماما مثل الكرة؛ والأخلاقي حده و مضمونه في حين أن الله نقطة متلاشية غير مرئية.فكرة خالية من القوة دون الأخلاقي الذي هو مضمون الوجود؛وفي الطريقة الأخلاقية للنظر إلى الحياة تكون مهمة الفرد هي أن يجرد نفسه من المحددات الداخلية(شعور؛مزاج) ويعبر عنها بطريقة خارجية؛إلا أن مفارقة الإيمان هي أن الفردي أعلى من الكلي؛وأن الفردي يحدد علاقته بالكلي بواسطة علاقته بالمطلق؛ولا يحدد علاقته بالمطلق بواسطة علاقته بالكلي؛وهو ما نجده في القصة حيث أن العلاقة الأخلاقية بين الأب و الإبن انحطت الى وضع نسبي في مضاد العلاقة المطلقة مع الله؛فمفارقة الإيمان أن هناك فعل لايتماشى مع الكلي وينطبق عليها تعبير الأنانية القصوى(لأجل الذات) وتعبر عن التضحية بالذات لأجل الله ولكن هذه المفارقة يؤطرها الواجب المطلق نحو الله الذي دفع لفعل ما تنهي عنه الأخلاق مما يجعله غير مفهوم وهذا منبع الحزن والقلق؛إضافة لتناقض مطلق بين فعلته وشعوره وهو ما يجعل فعلته تضحية خصوصا وأنه لا يملك تعبير أعلى من الكلي(الأخلاق) يستطيع به إنقاذ نفسه؛وهكذا فمن تعلم أن الحياة كفرد هي أفظع الأشياء جميعا؛لن يقول أنها عظيمة وسيعرف كيف يتكلم في خوف ورعدة وتبجيلا لما هو عظيم وبمعزل عن الرعب لن نعرف الرجل العظيم على الإطلاق؛وإن كان البطل المأسوي ينكر ذاته في سبيل التعبير عن الكلي ففارس الإيمان ينكر الكلي ليصبح فردا ويحرر طبعة نقية أنيقة من نفسه خالية من الأخطاء ولشيء مجيد أن ينتمي إلى الكلي ويتخذ منه مسكنه ومستقره الأمين رغم أنه لأمر فظيع أن يولد خارج الكلي مبهم غير واضح لأحد ومن وجهة إنسانية مجنون منافق من أبشع طراز"إبراهيم يسوف إلى الأبد..وأخيرا ها هو ينجب إبنا؛لقد استغرق هذا زمنا طويلا؛والآن يريد أن يضحي به؛أليس مجنونا"فإن كان البطل المأسوي تجاوز الأخلاقي من الوجهة الغائية إلا أنه يتمتع بمساندة الكلي ويجد نفسه أمنا فيه حيث يتنازل عن رغبته(عدم التضحية بالإبنة في حالة أجاممنون)ليؤدي واجبه(إنقاذ الدولة) وهكذا يبقى وفيا للكلي(الالتزام الأخلاقي)من خلال أن كل من الرغبة و الواجب واجبان لكن فارس الإيمان ممتحن دائما وأبدا وقد يعود نادما إلى الكلي ليقف وحيدا دون سند في موقف فظيع حيث تتطابق الرغبة و الواجب ومطالب بأن يتنازل عن الاثنين بموجب الواجب المطلق نحو الله بوصفه فردا يكون أعلى من الكلي ويقف في علاقة مطلقة مع الله وهنا الرعب والعظمة في عالم الروح المشكلة الثالثة:هل يمكن الدفاع عن إبراهيم من الوجهة الأخلاقية في إخفاء نيته عن ساره الأخلاقي بوصفه كذلك هو الكلي ومنه فهو الظاهري المعلن والفرد/جزئي كائن فزيائي نفسي فهو الخفي المستور ولهذا فواجبه الأخلاقي هو أن يخرج من هذا الخفاء وكلما بقي في الحجاب يأثم ويمكث في الغواية وتذهب الهيجيلية إلى أنه لاوجود لاحتجاب مبرر أو لاقياسية مبرررة؛ومنه تطلب الجهر إن الشائق الذي عاش حياة شائقة وهي ميزة قدرية في عالم الروح لاتشترى إلا بالألم العميق(سقراط مثالا)الذي يخص به الله الفرد فإن كان الإخفاء هو عامل التوتر في الحياة فإن التعرف عامل إنفراج الأزمة والمخفف من حدتها وبين اللحظتين نجد التغير(متغيرات كل مأساة).إن الإخفاء في علم الجمال يختلف مقارنة بعلم الأخلاق ؛فهو فعل حر ويتحمل مسؤوليته المعني به وفيه نوع من الهزلية بالنسبة للأول؛ولكن إخفاء فكرة تؤدي لمفارقة ومأساة فالأخلاق لاتعرف المصادفة والطرطشة العاطفية ولا جدوى من الدخول في جدل معها لأن للأخلاق مقولاتها الخالصة ولا تهيب بالتجربة؛فعلم الأخلاق لايمزح مع الأشياء الجليلة ويطلب من الإنسان أن يِؤمن بالواقع وأن لايلعب لعبة الإله ويحذر من الإيمان بحسابات العقل؛هكذا يتطلب علم الجمال الإخفاء ويكافئ عليه.أما علم الأخلاق فيقتضي الكشف ويعاقب الإخفاء والصمت بعتباره أحبولة الشيطان؛حيث أن صمت العريس الذي ألغى زواجه بعدما حذرته نبؤة الكاهنات من تبعاته(فن الشعر لأرسطو) قد جعل الفتاة مذنبة-مهانة بما أثره من صمت وتحمل مصيبته أيضا؛كما ورط نفسه في جو من الألغاز والغموض جعله في حكم العدم بالنسبة لعلاقته بالعروسة؛فعلم الأخلاق يتطلب منه أن يتكلم(قول الصدق..) وهو حال عصرنا الذي يتمتع بكفاءة لا نظير لها في التزييف؛أما التزام الصمت فبفضل كون العريس فردا؛أي أعلى من الكلي؛على حين أن صمته قد كان من الممكن أن تكدره باستمرار مقتضيات الأخلاقي إلا أن الدين هو القوة الوحيدة التي يمكن أن تخلص الجمالي من صراعه مع الأخلاقي إن ما هو شيطاني في أسطورة أجنس والغرانق؛حيث إستطاع بأقواله المعسولة أن يغوي مشاعرها الدفينة كالزهرة الوديعة وتسلم له في ثقة مطلقة مصيرها كله ولكن في لحظة لم يستطع غرانق أن يقاوم سلطان البراءة؛وخذله عنصره الشيطاني؛ولم يعد قادرا على إغواء أجنس؛فالعاصم الواحد هو البراءة بحيث نازعته قوتان؛كل منهما تريد امتلاكه؛الندم؛الندم وأجنس فلو استولى عليه الندم وحده لكان قد لجأ إلى الاختفاء ولو استولت عليه أجنس ومعها الندم فسيفصح عن نفسه؛وسوف يفسر له الآن العنصر الشيطاني في الندم أن هذه بالضبط عقوبته؛هكذا يرغب الغرانق أن يكون الفرد الذي بوصفه فردا عاليا على الكلي وللشيطاني نفس السمات التي يتمتع بها الإلهي من حيث أن الفرد يمكن أن يدخل معه في علاقة مطلقة وهذا هو المماثل المقابل المضاد لتلك المفارقة التي نتحدث عنها؛ولكن تفهم حركات الغرانق على حين لا نستطيع أن نفهم إبراهيم ومن يدعي ذلك فهو يخدع نفسه ويخدع الأخرين بفكرة أن كل شيء في عالم الروح يسير كما تسير الأمور في لعبة الورق المعروفة التي يعتمد كل شيء فيها على المصادفة؛فكم هو غريب في عصرنا بالذات أن يكون كل إنسان قادرا على إنجاز أسمى الأشياء ومع ذلك ينتشر الشك في خلود الروح؛ذلك لأن الإنسان الذي أقدم حقا على حركة اللامتناهي لا يمكن أن يكون شاكا ونتائج العاطفة هي وحدها النتائج الموثوق بها؛ولو كان أشد الناس وضاعة في حين أن الحقيقة هي أنه ما من عصر وقع فريسة لما هو هزلي كما وقع لهذا العصر الذي جعل الكل يضحك وجعله ينسى أنه يضحك على نفسه الحزن الذي لا سبيل إلى سبر غوره والذي لا يستطيع الزمن أن يسري عنه أبدا ولا يستطيع شفاءه أبدا فهو معرفة ألا جدوى مطلقا حتى لو فعل الوجود كل شيء؛في حكاية سفر طوبيت أراد الشاب طوبيا أن يتزوج سارة ابنة راجويل وأدنا؛غير أن نحسا مشؤما كان معلقا بمصير هذه الفتاة؛فقد دخلت بسبعة أزواج ماتوا جميعا الواحد أثر الأخر في غرفة العروس؛وهنا سيقول الكل أن الشجاعة البطولية يمتلكها طوبيا.كلا؛إن ساره هي البطلة؛فأي نضج أخلاقي كان مطلوبا لتحمل المسؤولية في أن يقدم المحبوب على هذه الفعلة الجسور.فلو أن ساره كانت رجلا؛حينئذ سيكون ما هو شيطاني في متناول اليد؛فالطبيعة النبيلة ذات الكبرياء تستطيع أن تتحمل كل شيء إلا الشفقة التي تنطوي على نوع من المهانة التي لا يمكن أن تقضي بها على المرء إلا سلطة أعلى؛فساره تتحمل عذاب الشفقة وسيلقي بها طوبيا فريسة لكل عذاب؛لنضع رجلا مكان ساره يعلم أنه في حالة حبه لفتاة؛سوف تأتي روح من الجحيم للاغتيال محبوبته؛ربما كان من الممكن أن يختار الجانب الشيطاني؛ويقول سرا ليس في حاجة على الإطلاق لمتعة الحب؛وسوف أصبح سفاحا للنساء؛ساره يمكن أن تصبح هزوؤة أضحوكة لو قال لها علم الأخلاق"لماذا لا تعبرين عن الكلي؛وتقبلين الزواج"ولكنها إما أن تضيع في المفارقة الشيطانية أو تنجو بارتفاعها إلى الإلهي؛خصوصا أن واقعة عزل الإنسان أصلا خارج الكلي؛سواء بواسطة الطبيعة أو الظروف التاريخية؛هذه الواقعة هي بداية الشيطاني" والله وحده يعلم الدلالة التي يتمتع بها هؤلاء الناس في الوجود..ولا أعرف في هذه اللحظة أي نفع يرجو منهم؛ اللهم إلا أنهم يقدمون دليلا أساسيا على خلود الروح".فلنتأمل أسطورة فاوست الشاك الذي أمكن بتخفيه وصمته أن ينقذ الكلي فقد كان بإمكانه أن يخيف الناس رعبا؛أن يجعل صيحات الفزع مسموعة في كل الأرجاء؛ولهذا يخلد إلى الصمت"يخفي الشك في نفسه بحرص أشد من حرص الفتاة التي تخفي في أحشائها ثمرة حب أثم"وإن كان ما يجري داخل نفسه فإنه يحترق به داخل روحه؛وبهذا يقدم نفسه قربانا على مذبح الكلي.الشاك يجوع إلى خبز الفرح اليومي مثلما يطلب غذاء الروح؛لكن يظل صادقا في عزمه؛فيلتزم الصمت؛ولا يفضي بشكه إلى أحد؛ولا يبوح بحبه لمرجريت؛وهكذا يدين علم الأخلاق الخلود للصمت؛لكن في هذه الحالة قد يتسبب الشاك بكلامه في إنزال كل النكبات الممكنة على العالم وإن استمر الكلي في تعذيبه"كان ينبغي أن تتكلم..."وكما تعبر موعظة الجبل عن حال الصامت الذي تلطمه مفارقة الكلي"أما أنت فمتى صمت فادهن رأسك؛واغسل وجهك حتى لاتظهر للناس صائما" وهذا صمت جمالي لإنقاذ الأخرين وتضحية في سبيل الكلي.في حين أن إبراهيم تخطى ثلاث سلطات أخلاقية بعدم حديثه لساره وأليعازر أو الى إسحق؛لكن صمته لم يكن لغاية الإنقاذ بل التضحية بأعز الناس(الإبن)من أجل نفسه وهو ما يمقته علم الجمال والأخلاق؛إلا أن مفارقة إبراهيم أنه التزم الصمت وفي نفس الأن لايستطيع أن يتكلم كونه لن يستطيع توضيح نفسه ولا الإفصاح عن جوهر فعله حتى يفهمه الآخرين(هنا يكمن القلق و الحزن.)ومنه قد يظهر مجرد منافق وعاجز عن الكلام؛فهو لا يتكلم بلغة إنسانية بل لغة إلهية وبذلك يتخبط في وضعية إخبارية يكون فيها الأخلاقي هو الامتحان وكل هذا بفضل حركة الإيمان والتسليم اللامتناهي وكذلك اللامعقول""حيث أنه حتى لما سأله الحق.أين الخروف؟قال؛الله يرى له الخروف يا إبني"وكان من الممكن في حالة ضعف وعدم النضوج الروحي أن يقول"عليك ينطبق الأمر"ليسقط خارج دور المفارقة وكما أن جواب إبراهيم تهكمي"قول شيء ولا شيء"فلو أجاب"أنا لا أعرف شيئا"لنطق بما يخالف الحقيقة لكنه لا يستطيع أن يقول شيئا؛لأن ما يعرفه لا يستطيع أن يقوله ولهذا لا ينطق الكذب بل كل ما يعتمل في نفسه إيمان وتسليم باللامتناهي وهكذا لم يقل شيئا ولم يكذب. إبراهيم في حبه لله نسي العذاب؛ نسيه نسيانا؛ إذ لم يوجد فيما بعد أدنى تلميح إلى ألمه والله نفسه لم يشر إليه؛ ذلك أن الله ينظر إلى السريرة؛ ويعلم ما تكنه من الحزن؛ ويحسب الدموع؛ ولا ينسى شيئا...إنها مفارقة وقوف الفرد في علاقة مطلقة مع المطلق .
#فريد_النهاشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اسقاط مقاتلة أمريكية فوق البحر الأحمر.. والجيش الأمريكي يعلق
...
-
مقربون من بشار الأسد فروا بشتى الطرق بعدما باغتهم هروبه
-
الولايات المتحدة تتجنب إغلاقاً حكومياً كان وشيكاً
-
مقتل نحو 30 شخصا بحادث -مروع- بين حافلة ركاب وشاحنة في البرا
...
-
السفارة الروسية في البرتغال: السفارة البرتغالية في كييف تضرر
...
-
النرويج تشدد الإجراءات الأمنية بعد هجوم ماغديبورغ
-
مصر.. السيسي يكشف حجم الأموال التي تحتاج الدولة في السنة إلى
...
-
رئيس الوزراء الإسباني يجدد دعوته للاعتراف بدولة فلسطين
-
-كتائب القسام- تنشر فيديو يجمع هنية والسنوار والعاروري
-
السلطات في شرق ليبيا تدعو لإخلاء المنازل القريبة من مجاري ال
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|