|
الإسلام
محمد صالح الطحيني
الحوار المتمدن-العدد: 5074 - 2016 / 2 / 14 - 14:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
جزيرة العرب توفي جستنيان في عام 565 وهو سيد إمبراطورية عظيمة، بعد خمس سنين من وفاته ولد محمد (صلى الله عليه وسلم) في أسرة فقيرة في إقليم ثلاث أرباعه صحراء مجدية قليلة السكان، أهله من قبائل البدو الرحل، إذا جمعت ثروتهم كلها فإنها لا تكاد تكفي إنشاء كنيسة أو صوفيا. ولم يكن أحد في ذلك الوقت يحلم أنه لن يمضي قرن من الزمان حتى يكون أولئك البدو قد فتحوا نصف أملاك الدولة البيزنطية في آسية، وجميع بلاد الفرس، ومصر، ومعظم شمالي أفريقية، وساروا في طريقهم إلى أسبانيا. والحق أن ذلك الحادث الجلل الذي تمخضت عنه جزيرة العرب، والذي أعقبه استيلاؤها على نصف عالم البحر المتوسط ونشر دينها الجديد في ربوعه، لهو أعجب الظواهر الاجتماعية في العصور الوسطى. وبلاد العرب أكبر أشباه الجزائر في العالم، ويبلغ أكبر أطوالها 1400 ميل وأكبر عروضها 1250 ميلاً، وهي من الوجهة الجيولوجية امتداد للصحراء الكبرى، وجزء من الإقليم الصحراوي الرملي يمتد إلى صحراء جوبي مخترقاً بلاد فارس. ومعنى "عرب" قحل . وبلاد العرب هضبة واسعة ترتفع على مسافة ثلاثين ميلاً من البحر الأحمر ارتفاعاً فجائياً إلى 12.000قدم، تنحدر نحو الشرق انحداراً سهلاً في أرض جبلية جدباء حتى تصل إلى الخليج الفارسي. وفي وسط الجزيرة عدد من الواحات الكلئة، والقرى ذات النخيل، نشأت حيث يمكن الحصول على الماء بحفر الآبار. وتمتد الرمال حول هذه المراكز مئات الأميال في جميع الجهات. ويسقط الثلج في تلك البلاد مرة كل أربعين عاماً، وتنخفض درجة الحرارة فيها بالليل إلى -3، أما شمس النهار فتلفح الوجوه وتغلي الدم في العروق، والهواء المحمل بالرمال يضطر الأهلين إلى لبس الأثواب الطوال، وشد غطاء الرأس بالعقال لوقاية الجسم والشعر. وتكاد المساء تكون على الدوام صافية خالية من الغيوم، والهواء "يشبه النبيذ البراق". ويسقط المطر أحياناً قرب شاطئ البحر صالحاً لقيام الحضارة، وأكثر ما يكون ذلك على الساحل الغربي في بلاد الحجاز حيث نشأت بلدتا مكة والمدينة، وفي الطرف الجنوبي الغربي من بلاد اليمن موطن الممالك العربية القديمة. ويسجل نقش بابلي (يرجع تاريخه إلى حوالي عام 2400ق.م). هزيمة لحقت بملك ماجان على يد نارام سن الحاكم البابلي. وقد كانت ماجان هذه عاصمة المملكة المعينية التي كانت قائمة في الجنوب الغربي من جزيرة العرب. وقد عُرف خمسة وعشرون من ملوكها الذين حكموها بعد هذه الهزيمة من نقوش عربية يرجع تاريخها إلى عام 800 ق.م. وثمة نقش آخر يرجعه بعضهم إلى 2300ق.م وإن كانوا غير واثقين من هذا. وقد ورد في هذا النقش اسم مملكة عربية أخرى هي مملكة سبأ في بلاد اليمن. ومن سبأ أو من مستعمراتها في القسم الشمالي من بلاد العرب-لأن هذا موضع خلاف بين المؤرخين-"ذهبت" ملكة سبأ إلى سليمان حوالي عام 950 ق.م. وقد اتخذ ملوك سبأ مأرب عاصمة لهم، وخاضوا حروب "الدفاع" المعتادة، وأنشئوا أعمالاً عظيمة للري كسدود مأرب (التي لا تزال آثارها باقية إلى الآن)، وشادوا الحصون والهياكل الضخمة، ووهبوا كثيراً من المال للشئون الدينية، واتخذوا الدين وسيلة للحكم. والنقوش التي خلفوها-والتي لا ترجع في أغلب الظن إلى ما قبل عام 900ق.م-منحوتة نحتاً جميلاً بحروف هجائية. وكانت بلادهم تنتج الكندر والمر اللذين كان لهما أيما شأن في الشعائر الدينية الأسيوية والمصرية، وكانوا يسيطرون على التجارة بين الهند ومصر، وعلى الطرف الجنوبي من طريق القوافل الذاهب إلى البتراء وبيت المقدس ماراً بمكة والمدينة. وحدث حوالي عام 115 ق.م أن قامت مملكة صغيرة أخرى في الجنوب الغربي من بلاد العرب هي مملكة الحميرين، فهاجمت مملكة سبأ، وغلبتها على أمرها، وظلت بعد هذا الوقت تسيطر على تجارة بلاد العرب عدة قرون. وفي عام 25 ق.م غضب أغسطس من سيطرة بلاد العرب على التجارة المتبادلة بين مصر والهند فسير جيشاً بقيادة جالوس Aelius Gallus للاستيلاء على مأرب. وأضل الأدلاء العرب الفيالق الرومانية، وأهلكهم الحر والمرض، وعجزت الحملة عن تحقيق غرضها، ولكن جيشاً رومانياً آخر نجح في الاستيلاء على عدن، وانتقلت بذلك السيطرة على التجارة بين مصر والهند إلى يد روما. (وقد فعل البريطانيون ذلك بعينه في الوقت الحاضر). وفي القرن الثاني قبل الميلاد عبر بعض الحميريين البحر الأحمر، واستعمروا بلاد الحبشة، ونشروا الثقافة السامية بين أهلها الزنوج، كما أدخلوا فيها الكثير من الدم السامي . وتلقى الأحباش من مصر وبيزنطية الدين المسيحي والصناعات اليدوية والفنون. وكانت سفنهم التجارية تجوب البحار وتوغل فيها إلى الهند وسرنديب. وكانت سبع ممالك صغيرة تقر بالسيادة للنجاشي . هذا في الحبشة أما في بلاد العرب نفسها فإن كثيرين من الحميريين ساروا على سنة ملكهم ذي نواس، واعتنقوا الدين اليهودي، واندفع ذو نواس في حماسته الدينية فأخذ يضطهد المسيحيين المقيمين في الجنوب الغربي من جزيرة العرب، فاستغاث هؤلاء ببني دينهم، واستجاب الأحباش إلى دعوتهم، وهزموا ملوك الحميريين (522م)، وأجلسوا على عرش البلاد أسرة حبشية. وتحالف جستنيان مع الدولة الجديدة، ورد الفرس على هذا بأن انحازوا إلى جانب ملوك حمير المخلوعين وطردوا الأحباش، وأقاموا في بلاد اليمن حكماً فارسياً (575) انتهى بعد ستين عاماً أو نحوها حين فتح المسلمون بلاد الفرس. وازدهرت بعض الممالك العربية الصغرى في الجزء الشمالي من شبه الجزيرة، ولكنها لم تدم طويلاً. فقدد ظل مشايخ بني غسان يحكمون الجزء الشمالي الغربي والقسم المحيط بتدمر من بلاد سوريا من القرن الثالث إلى القرن السابع تحت سيادة بيزنطية. وأنشأ ملوك بني لحم في الحيرة القريبة من بابل في هذا الوقت عينه بلاطاً نصف فارسي، وتقفوا ثقافة فارسية اشتهرت بموسيقاها وشعرها. ويرى من هذا أن العرب انتشروا شمالاً في سوريا والعراق قبل الإسلام بزمن طويل. وكان النظام السياسي السائد في بلاد العرب قبلا الإسلام، إذا استثنينا هذه الممالك الصغرى في الجنوب والشمال، وهو النظام البدائي الذي يقوم على رابطة القرابة والذي تجتمع الأسر بمقتضاه في عشائر وقبائل. بل إن هذه الممالك الصغرى نفسها لم تكن تخلو من قسط كبير من هذا النظام القبلي. وكانت القبيلة تسمى باسم أب لها مزعوم عام، فالغساسنة مثلاً كانوا أنهم "أبناء غسان"، ولم يكن لبلاد العرب بوصفها وحدة سياسية وجود قبل عصر النبي إلا في مسميات اليونان غير الدقيقة، فقد كانوا يسمون جميع الساكنين في شبه الجزيرة باسم السركنوي Sarakenoi، ومن هذا الاسم اشتق اللفظ الإنجليزي Saracens، ويلوح أنه هو نفسه مشتق من لفظ "الشرقيين" العربي. وكانت قلة سبل الاتصال وصعوبتها مما اضطر أهل البلاد إلى أن يعملوا على الاكتفاء بأنفسهم من غيرهم، كما أنهما كانتا سبباً في نمو روح العزلة فيهم، فالعربي لم يكن يشعر بواجب أو ولاء لأية جماعة أكبر من القبيلة، وكانت قوة ولائه تتناسب تناسباً عكسياً مع سعة الجماعة التي يدين لها بهذا الولاء، فلم يكن يتردد في أن يقدم وهو مرتاح الضمير على ما لا يقدم عليه الرجل المتحضر إلا من أجل بلاده أو دينه أو "عنصره"، أي أن يكذب، ويسرق، ويقتل، ويموت. وكان يحكم كل قبيلة أو بطن من القبيلة شيخ يختاره رؤساء العشائر فيها من بيت اشتهر من زمن بعيد بثرائه، أو سداد رأيه، أو شدة بأسه في القتال. وكان الرجال في القرى ينتزعون بعض الحب والخضر من التربة الضنينة، ويربون بعض الماشية القليلة العدد، وبعض الجياد الكريمة، ولكنهم كانوا يجدون أن زراعة بساتين النخيل، والخوخ، والمشمش، والرمان، والليمون، والبرتقال، والمز، والتين أجدى لهم وأعود بالربح عليهم. ومنهم من كان يعنى بزراعة النباتات العطرة كالكندر، والسعتر، والياسمين، والخزامي، وكان بعضهم يستخرجون العطر من ورد الجبال، وبعضهم يحفرون سيقان الأشجار ليستخرجوا منها المر أو البلسم. وربما كان جزء من اثني عشر جزءاً من السكان يعيشون في المدن القائمة على الساحل الغربي أو بالقرب منه. وكان في هذا الساحل عدد من المرافئ والأسواق تتبادل منها تجارة البحر الأحمر. وفي داخل البلاد كانت تسير طرق القوافل الكبرى إلى بلاد الشام. ونحن نسمع عن تجارة بين بلاد العرب ومصر منذ عام 2743م؛ وأكبر الظن أن الاتجار مع الهند لم يكن يقل قدماً عن الاتجار مع مصر. وكانت الأسواق والمواسم السنوية تستدعي التجار إلى هذه تارة وإلى تلك تارة أخرى، وكان يجتمع في سوق عكاظ الشهيرة القريبة من التجار، والممثلين، والخطباء، والمقامرين، والشعراء، والعاهرات. وكان خمسة أسداس السكان بدواً رحلاً، يشتغلون بالرعي وينتقلون بقطعانهم من مرعى إلى مرعى حسب فصول السنة وأمطار الشتاء. والبدوي يحب الخيل، ولكن الجمل أعز أصدقائه في الصحراء، فهو يسير ويهتز في وقار، وإن كان لا يقطع إلا ثمانية أميال في الساعة، ولكنه يستطيع أن يصبر على الماء خمسة أيام طوال في الصيف، وخمسة وعشرون يوماً في الشتاء. والناقة تدر اللبن، وبول الجمل مفيد في تقوية الشعر ، وروثه يمكن أن يُتخذ وقوداً، وإذا ذُبح أكل لحمه، وصُنعت الثياب والخيام من جلده ووبره. وبهذه المقومات المختلفة الأنواع كان في وسع البدوي أن يواجه حياة الصحراء متجلداً كجمله، مرهف الحس نشيطاً كجواده. والبدوي قصير القامة، نحيف الجسم، مفتول العضلات، قوي البنية، في وسعه أن يعيش أياماً متوالية على قليل من التمر واللبن، وكان يستخرج من البلح نفسه خمراً يرتفع بها من تراب الأرض إلى خيال الشعراء. وكان يدفع عن نفسه ملل الحياة الرتيبة وسآمتها بالحب والحرب، وكان يسرع كما يسرع الأسباني (الذي ورث عنه سرعة غضبه) إلى الانتقام لما عساه أن يوجه إليه أو إلى قبيلته من إهانة أو أذى. وكان يقضي جزءاً كبيراً من حياته في الحرب التي تستعر نارها بين القبائل المختلفة، ولما أن فتح بلاد الشام، وفارس، ومصر، وأسبانيا لم يكن عمله هذا إلا توسعاً منه في غارات النهب التي كان يشنها في أيام الجاهلية وإن اختلف الغرض في هذه عن تلك. وكان من بعض أوقات السنة هدنة مقدسة للحج أو للتجارة، أما في غير هذه الأوقات فكان يرى أن الصحراء ملكه الخاص، وأن كل من يدخلها في غير هذه الأشهر الحرم ومن غير أن يؤدي له ما يفرضه من إتاوة، معتد عليه معلى وطنه، وأن نهب أموال هذا المعتدي ليس إلا ضريبة تُجبى منه بأهون السبل, وكان يحتقر حياة الحضر، لأن معناها الخضوع لمطالب القانون والتجارة، ويحب الصحراء القاسية لأنه يتمتع فيها بكامل حريته، وكان البدوي رحيماً وسفاكاً للدماء، كريماً وبخيلاً، غادراً وأميناً، حذراً وشجاعاً، ومهما يكن فقيراً، فإنه كان يواجه العالم بمهابة وأنفة، ويزهو بنقاء دمه ويولع بأنه يضيف إلى اسمه سلسلة نسبه. كان لدى البدوي أمر لا يقبل فيه جدلاً، ذلك هو جمال نسائه الذي لا يدانيه في نظره جمال. لقد كان جمالاً أسمر، قوياً، يفتن اللب، خليقاً بأن يتغزل فيه بعشرات المئات من الأغاني الشعرية، ولكنه جمال قصير الأجل سرعان ما يذوى في جو الصحراء القائظ. وكانت حياة المرأة العربية قبل أيام النبي تنتقل من حب الرجل لها حباً يقترب من العبادة إلى الكدح طوال ما بقي من حياتها، ولم تتغير هذه الحياة فيما بعد إلا قليلاً . وكان في وسع أبيها أن يئدها حين مولدها إذا رغب في هذا، فإن لم يفعل فلا أقل من أن يحزن لمولدها، ويواري وجهه خجلاً من الناس، لأنه يحس لسبب ما أن جهوده قد ذهبت أدراج الرياح، وكانت طفولتها الجذابة تستحوذ على قلبه بضع سنين، ولكنها حين تبلغ السنة السابعة أو الثامنة من عمرها كانت تُزوج لأي شاب من شبان القبيلة يرضى والده أن يؤدي للعروس ثمنها . وكان حبيبها وزوجها يحارب العالم كله إذا لزم الأمر ليحميها، أو يدافع عن شرفها. وقد انتقلت بعض مبادئ هذه الشهامة المتطرفة مع هؤلاء العشاق المتيمين إلى أسبانيا. ولكن هذه المعبودة كانت إلى هذا سلعة من السلع، فقد كانت جزءاً من أملاك أبيها، أو زوجها، أو ابنها، تُورَث مع هذه الأملاك، وكانت على الدوام من خدم الرجل، وقلما كانت رفيقته. وكان يطلب إليها أن تلد له كثيراً من الأبناء، والأبناء الذكور بطبيعة الحال، لأن واجبها أن تنجب المحاربين، ولم تكن في كثير من الأحوال إلا زوجة واحدة من كثيرات من الزوجات وكان في وسع الرجل أن يخرجها من بيته متى شاء. ولكن مفاتنها لم تكن تقل عن الحرب إلهاماً لخيال الشعراء، وموضوعاً لشعرهم، وكان العربي قبل الإسلام أمياً ولكن حبه للشعر لم يكن يزيد عليه إلا حبه للخيل والنساء والخمر. ولم يكن بين العرب في الجاهلية علماء أو مؤرخون ولكنهم كانوا مولعين بفصاحة اللسان، وصحة الكلام، والشعر المختلف المعقد الأوزان. وكانت اللغة العربية قريبة الشبه باللغة العبرية، معقدة في تصريفها، غنية بمفرداتها، دقيقة في الفروق بين ألفاظها، قادرة في ذلك الوقت على التعبير عن جميع أحاسيس الشعراء وفيما بعده عن جميع دقائق الفلسفة. وكان العرب يفخرون بقدم لغتهم وكمالها، يولعون بترديد مقاطعها العذبة في خطبهم الرنانة وشعرهم الجذل ونثرهم الرصين، يأخذ بلبهم شعر الشعراء الذين كانوا يعيدون على أسماعهم في القرى والمدن، وفي مخيمات الصحراء أو الأسواق، مغامرات أبطالهم أو قبائلهم أو ملوكهم في الحب أو الحرب في قصائد طوال من الشعر الموزون المقفى. وكان الشاعر العربي مؤرخ العرب، وجامع أنسابهم، وهجاءهم، والمعتني بفضائلهم، وناقل أخبارهم، وما همهم، وداعيهم إلى القتال. وإذا نال الشاعر جائزة في إحدى المباريات الشعرية الكثيرة التي كانت تعقد من آن إلى آن، كانت قبيلته كلها تعد ذلك شرفاً لها تبتهج له أعظم ابتهاج؛ وكانت أهم هذه المباريات كلها تعقد كل عام في سوق عكاظ، حيث كانت تتنافس القبائل في كل يوم تقريباً مدى شهر كامل على لسان شعرائها. ولم يكن في هذا السوق محكمون غير الجماهير المنصتة التي تبدي استحسانها لما تسمع أو احتقارها له . وكانت أحسن القصائد التي تقال في هذه السوق تكتب بحروف جميلة براقة فسميت من أجل ذلك "بالمذهبات"، وكان يُحتفظ بها في خزائن الأمراء والملوك تراثاً خالداً قيماً. وكان العرب يسمون هذه القصائد أيضاً بالمعلقات لأن الفائز منها-كما تقول القصص المتواترة-قد كتبت على الحرير المصري بأحرف من ذهب وعُلقت على جدران الكعبة في مكة. وقد بقيت من هذه المعلقات التي قبلت في الجاهلية سبع قصائد يرجع تاريخها إلى القرن السادس الميلادي، وهي قصائد طوال من الشعر المقفى المعقد الأوزان، وموضوعها في العادة هو الحب أو الحرب. وتقص إحداها وهي معلقة لبيد قصة جندي عاد من الحرب إلى قريته وبيته حيث كان قد ترك زوجته، فوجد بيته خالياُ، وقد غادرته الزوجة مع رجل غيره. ويصف لبيد منظر هذا البيت الخيالي بحنان لا يقل عن حنان جولد سمث . ويزيد عليه في فصاحة الشعر وقوة التعبير. وفي معلقة أخرى تستحث النساء الرجال إلى الحرب بقولهن:
ويها بني عبد الدار ويها حماة الديار
ضرباً بكل بتار
نحن بنات طارق لا ننثني لوامق
نمشي على النمارق المسك في المفارق
والدر في المخانق إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وفي معلقة لأمرئ القيس أبيات تنم عن حب شهواني سافر:
وبيضة خدر لا يرام خباؤهـا تمتعت من لهو بها غير معجل
تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً علي حرصاً لو يسرون مقتلي
إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصل
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها لدى الستر إلا لبسة المتفضل
فقالت يمين الله مالك حيلة وما أن أرى عنك الغواية تنجلي
خرجت بها أمشي تجر وراءنا على أثرينا ذيل مرط مرحل
فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت على هضيم الكشح رياً المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضلة ترائبها مصقولة كالسجنجل
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي بناظرة من وحش وجرة مطفل
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش إذا هي نضته ولا بمعطل
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيت كقنوة النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا تضل العقائص في مثنى ومرسل
وكشح لطيف كالجديل مخصر وساق كأنبوب السقي المذلل
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وتعطو برخص غير شئن كأنه أساريع ظبي أو مساويك أسحل
تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممس راهب متبتل
وكان شعراء الجاهلية ينشدون أشعارهم على نغمات الموسيقى، فجمعوا بذلك بين الشعر والموسيقى في صورة واحدة. وكان الناي، والمزهر، والدف أحب الآلات الموسيقية إليهم، وكثيراً ما كانت الفتيات المغنيات يُستدعين لتسلية الأضياف في الولائم. وكان في مجال الشراب عدد منهن، وكان عند ملوك الغساسنة عدد كبير من الفتيات ليفرجن عنهم متاعب الملك. ولما خرج أهل مكة لقتال النبي في عام 634 أخذوا معهم سرباً القيان ليلينهم ويشجعنهم على القتال، وكانت الأغاني العربية حتى في أيام الجاهلية أناشيد مشجية حزينة، لا تُستخدم فيها إلا ألفاظ قليلة نغمتها على الدوام في الدرجات العليا من السلم الموسيقي، وتكفي فيها أبيات قليلة لتشغل المعنى ساعة كاملة. وكان للعربي ساكن الصحراء دينه الدال على حذقه ودهائه رغم بدائيته. فكان يهاب ويعبد أرباباً لا حصر لها في النجوم، والقمر، وفي أطباق الأرض، وكان حين إلى حين يطلب الرحمة من السماء المنتقمة، ولكنه لم يكن في الغالب يستبين سبيل الرشاد بين الجن المحيطين به، ولا يرى أملاً في استرضائهم، فغلب عليه من أجل ذلك النزعة الجبرية والاستسلام، فإذا دعاهم في رجولة ولم يطل الدعاء، ويستهزئ بالأبدية ولا يعبأ بها، وبيدوا أنه لم يكن يفكر كثيراً في الحياة بعد الموت، على أنه كان في بعض الأحيان يطلب أن يربط جمله بجوار قبره، وأن يُمنع عنه الطعام حتى يلحق به بعد قليل في الدار الآخرة، وينجيه من مذلة السير على قدميه في الجنة، وكان بين الفينة والفينة يقدم لآلهته الضحايا البشرية، كما كان في بعض الأماكن يعبد الأصنام الحجرية. وكانت مكة مركز عبادة الأصنام. ولم يكن سبب قيام هذه المدينة المقدسة في موضعها الذي قامت فيه هو جودة مناخها، ذلك أن الجبال الجرداء التي تكاد تطبق عليها من جميع الجهات تجعل صيفها حار لا يطاق. وكان الوادي الذي تقوم فيه غير ذي زرع، ولا يكاد يوجد في البلدة كلها كما عرفها محمد حديقة واحدة، ولكن موقعها في منتصف ساحل البلاد الغربي، وعلى بعد ثمانية وأربعين ميلاً من البحر الأحمر، جعلها محطة صالحة في طوق القوافل الطوال التي تجمع في بعض الأحيان ألف جمل بعضها وراء بعض، والتي كانت تحمل المتاجر بين جنوبي بلاد العرب (ومن ثم بين الهند وأفريقية الوسطى) وبين مصر، وفلسطين، وبلاد الشام. وكان التجار أصحاب هذه التجارة يؤلفون فيما بينهم شركات محاصة، ويسيطرون على أسواق عكاظ، ويقومون بالشعائر الدينية المجزية حول الكعبة وحجرها الأسود المقدس. ومعنى الكعبة البيت المربع. واللفظ ذو صلة باللفظ الإنجليزي Cube (مكعب) ومن المعتقدات الشائعة أن الكعبة بنيت ثم أعيد بناؤها عشر مرات، فقد بناها في فجر التاريخ ملائكة السماء، وبناها في المرة الثانية آدم أبو البشر، وفي المرة الثالثة ابنه شيث، ثم بناها في المرة الرابعة إبراهيم وإسماعيل ابنه من هاجر... وبناها في المرة السابعة قصي زعيم قبيلة قريش، وبناها في المرة الثامنة كبار قريش في حياة محمد (605)، وبناها في المرتين التاسعة والعاشرة زعماء المسلمين عامي 681 و 696. والكعبة كما بنيت في المرة العاشرة هي كعبة هذه الأيام في معظم أجزائها. وهي مقدمة ي داخل بناء واسع هو المسجد الحرام. وهي بناء مربع من الحجر طولها أربعون قدماً، وعرضها خمسة وثلاثون، وارتفاعها خمسون، وفي ركنها الجنوبي الشرقي، وعلى بعد خمسة أقدام من سطح الأرض، الحجر الأسود، وهو حجر قاتم اللون بيضي الشكل قطره سبع بوصات. ويعتقد الكثيرون أن هذا الحجر قد نزل من السماء-ولعله كان صاعقة؛ ويقول معظمهم إنه وجد بالكعبة من أيام إبراهيم، ويرى علماء المسلمين أنه رمز لذلك الفرع من أبناء إبراهيم فرع إسماعيل وأبنائه الذي نبذه بنو إسرائيل فكان منه آباء قبيلة قريش. ويؤيدون قولهم هذا بما جاء في المزمور الثامن عشر بعد المائة في الآيتين 22 و23 "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية"، وفي الآيتين 42 و43 من الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متي، وهو قول عيسى بعد أن نطق بهذه العبارة العجيبة: "لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" وإن لم يكن في وسع المسلمين أن يقولوا إنهم قد حققوا ما قاله عنهم المسيح . وكان في الكعبة قبل الإسلام عدد من الأصنام تمثل معبودات العرب. منها، اللات، والعزى، ومناة. وفي وسعنا أن ندرك قدم عهد هذه الآلهة العربية إذا عرفنا أن هيرودوت قد ذكر الإلات (اللاَّت) على أنها من أكبر أرباب العرب. وكانوا يقولون لأهل مكة أن إلههم الأكبر رب أرضهم، وإن عليهم أن يؤدوا لها عشر محاصيلهم، والثمرة الأولى من نتاج قطعانهم. وكانت قريش، وهي التي تعزو نسبها إلى إبراهيم وإسماعيل، تختار من بين رجالها سدنة الكعبة وخدامها والمشرفين على مواردها المالية. وكانت أقلية أرستقراطية منه هم بنو قصي يتولون زمام الحكومة المدنية في مكة. وكانت قريش في بداية القرن السادس منقسمة إلى فئتين متنافستين، إحداهما يتزعمها التاجر الثري الخير هاشم، والأخرى يتزعمها ابن أخيه أمية. وكان لهذا التنافس الشديد شأنه العظيم في تاريخ العرب بعد الرسالة. ولما توفي هاشم خلفه في زعامة بيته أخوه الأصغر عبد المطلب-وفي عام 568 تزوج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة، وهي أيضاً من قصي، وأقام عبد الله مع عروسه أياماً قليلة سافر بعدها في بعثة تجارية. ومات في المدينة وهو راجع من سفره وبعد شهرين من وفاته (569) ولدت آمنة أعظم شخصية في تاريخ العصور الوسطى .
يتبع-محمد في مكة
#محمد_صالح_الطحيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشريعة اليهودية
-
الشعائر الدينية عند اليهود
-
منشئو التلمود
-
اليهود والنفي
-
الأساقفة الشرقيون
-
المارقون عن المسيحية
-
تنازع العقائد المسيحية
-
المسيحيون
-
موت المسيح وتجلّيه
-
الإنجيل
-
رسالة عيسى اليسوع
-
نشأة عيسى المسيح
-
الديانة المسيحية
-
بوذا في أيامه الأخيرة
-
تعاليم بوذا
-
أسطورة بوذا
-
ماهافيرا والجانتيوُّن
-
بوذا
-
فلسفة أسفار يوبانشاد
-
أسفار الفيدا باعتبارها أدباً
المزيد.....
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|