|
سيرَة أُخرى 15
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5072 - 2016 / 2 / 11 - 08:27
المحور:
الادب والفن
1 " الماء والخضرة والوجه الحَسَن "؛ إنه قولٌ معروف، يجعل المكانَ المفضل متواشجاً مع أشياءٍ تمتّ للطبيعة والبشر. ثالوث النِعَم ذاك، يؤكّد كون الماء كمصدر للجمال ومكملاً له في آن. لعلّ النوافير ( الفونتان )، هيَ أكثر ما يُضفي السحر على الأماكن العامة والخاصة؛ كالحدائق والساحات علاوة على مداخل الفنادق والنزل. في مراكش، لا تكفّ النوافير عن توفير الرطوبة للناس خلال أغلب أوقات السنة. وهيَ منتشرة كذلك في المدينة القديمة، لدرجة أنّ أيّ رياضٍ يخلو منها، فإنه يعوَّضُ ببركة ماء أو مسبح. ويكفي أن نذكر هذه الحقيقة، وهيَ أنّ " شارع محمد السادس "، الممتد على عدة كيلومترات، يحتوي شريطه الأوسط الأخضر، المخصص للمشاة والمتنزهين، على عددٍ من النوافير يعادل ما يمكن أن يوجد مثلها في مدينة عريقة ـ كدمشق الشام. جولتي الأثيرة، شبه اليومية، تنطلق غالباً من حديقة " مسجد الكتبية " مروراً من جانب فندق " المأمونية " ووصولاً إلى حيّ " غيليز " عن طريق " شارع الأوبرا ". طوال الطريق، لا تملّ عيناي من تأمل المناظر المونقة، وفي كلّ مرةٍ تكتشفان جديداً نادراً. القناة المائية الطويلة، المخترقة حديقة " الكتبية "، تتصل بين نافورتين كبيرتين وقد ترامت على المشهد ظلالُ أشجار البرتقال والزيتون والنخيل. إنها شبيهة بما نعرفه عن مثيلتها الفاتنة، المزيّنة " قصر الحمراء " في غرناطة الأندلس. أخرجُ من باب الحديقة الخلفيّ، ليستقبلني الدربُ المحاذي لفندق " المأمونية "، الباذخ، والذي تحفّ به أشجار الزيتون والنخيل وعرائش المجنونة والياسمين وخمائل البوكسيا والخبيزة. الدرب، لا يلبث أن ينتهي بإحدى البوابات الأثرية لسور المدينة القديمة. ثمّة، ينفتح فضاءٌ بهيّ من الألوان المبهجة، تكتنفه الحدائق من كلّ أطرافه. مستديرة، يتصل بها عدة شوارع، يتوسطها بركة ماء رائعة مع فوران نافورتها. أواصل المشيَ خِلَلَ الشوارع الأنيقة، المتخمة بالفنادق الفخمة المبثوث في مداخلها أفواجٌ من ( الفونتان ) وبأشكال متنوعة تنتمي جميعاً للفن الإسلاميّ، المعروف. هيَ ذي بركة ماء وسيعة للغاية، أصدفها لأول مرة، تتوسط الشريط الأخضر للشارع الملكيّ وتقابل مبنى قصر المؤتمرات، المهيب. البركة، المحاطة بعديد من النوافير، تمّ تصميمها على صورة بتلات سوسن الماء. مسيرة مديدة في " شارع محمد السادس "، صحبة شلالات من عرائش ونوافير من خمائل، تنتهي في أكبر ساحات حيّ " غيليز " الراقي. ثمة أيضاً، توجد أكبر نوافير المدينة. الماء، يرتفع من خمس نوافير عملاقة في كلّ من البحرات الثلاث، التي تغطي معظم مساحة هذه الساحة، المعروفة شعبياً بالإسم الفرنسي PLAZA.
2 لم يكن بلا مغزى، أن تُدعى الحشائش بالدارجة المغربية " الربيع ". فاللون الأخضر للأرض، لا يتأثر في هذه البلاد البديعة إلا خلال شهريّ الصيف الأكثر قيظاً؛ يوليو وأغسطس. وإذاً، يمكن القول بأن بقيّة الأشهر هنا، وخصوصاً في مراكش، هيَ ربيعٌ رائع. المرءُ الزائر، المغادر المدينة في شهر أبريل، يعود إليها في شهر ديسمبر ليجد أنّ طريقه من المطار ما يفتأ محفوفاً بالأزهار والورود. فكما لو أنّ ذلكَ الفارق الزمنيّ، الموسوم، هو يومٌ واحد وليسَ أشهراً ثمانية. الشتاء، من ناحيته، يطلّ على مراكش من بُعْدٍ مناسب فلا يكاد يزعج مناخها المعتدل. عندئذٍ تكون الثلوجُ قد جللتْ جبال الأطلس، التي تحوط الحاضرة من خاصرتها الشمالية الشرقية. ثمّة، أين تقبعُ أجمل المصايف، فضلاً عن أماكن التزلج على الجليد. الطبيعة، هيَ هِبَة إلهية. بيْدَ أنّ الإنسان، في المقابل، يُمكن أن يتصرف مع هذه الهبة بحكمة أو بحماقة. مراكش، مثلها في ذلك مثل بقية أخواتها المغربيات، تحافظ على البيئة وتحميها من عبث الطامعين والجشعين والمفسدين. الأشجار، وخصوصاً النخيل، لا يمكن قطعها إلا نادراً سواءَ تعلق الأمر ببناء وحدات سكنية أو شق طرقات جديدة. أحياء المدينة، بما فيها الأكثر هامشية، تتمتع بفضاءاتٍ خضراء يمتد كلّ منها على مساحة شاسعة، مستزرعة بالأشجار والخمائل والأجَمات. الشوارع، تنيرها كواكبُ أشجار الزينة من برتقالٍ وزيتون وبلح. الدروب، مضاءةٌ بألوفٍ من أنجم المجنونة والياسمين. العمارات، مسيَّجة بالرمان والبوكسيا واللبلاب. الشوكيات، تطلّ بهاماتها المنيفة من وراء أسوار الفيلات والفنادق. الدفلى والخبيزة والأقحوان، تشكّلُ واحاتٍ خلابة في حدائق المدينة. القرنفل والخزامى والزعفران، المغطية مساكبَ كبيرة من أرباض مراكش، تُجلب أزهارُها إلى أسواق العطارة. الورد الجوري، بألوانه المتنوّعة، ينفردُ بتزيين الشريط الأوسط من شوارعٍ يبلغ طول بعضها عدة كيلومترات. أكتب هذا، مُستعيداً بأسى حال مدينتي الفاتنة، دمشق. ففي حيّنا، على سبيل المثال، لن تجد شجرة زينة واحدة على أثر تطبيق ما يُسمى بـ " التنظيم السكني الجديد "؛ فما بالك بالمساكب الخضراء وأحواض الورود.
3 من حيّ " باب اغمات "، أينَ أقيمُ ضيفاً، يتطلب ربعُ ساعة مشياً على الأقدام تقريباً للوصول إلى " ساحة جامع الفنا ". بدَورها، فإنّ هذه الساحة تُوصل إلى سمعي صدى قرع طبول فرقها الموسيقية الشعبية حينما أكون مستلقٍ ليلاً في حجرتي، الكائنة على الدور الثاني من المنزل. نهاراً، يصدى في أذنيّ وقعُ موسيقى أخرى. هي أصواتُ زقزقة نوع من العصافير ( يدعونه محلياً: طيط )، المتآلف مع ساكني المنزل حتى أنه يحط في الصالة الأرضية لالتقاط فتات الخبز. خارجاً، يتناهى تغريدُ الطيور من أماكنها على هامات الأشجار المثمرة سواءً في الشوارع والساحات أو الحدائق والعَرَصات. في هذا الوقت من الشتاء، يتضاعف عددُ الطيور في مراكش بسبب هجرتها من شمال أوروبة. لكأنني أحدُ تلك الأطيار، التائقة إلى الشمس والحياة والحيوية هرباً من الصقيع والعزلة والكآبة. المعروف، أن الطيورَ تكثر في المواطن ذات البيئة المناسبة والمحميّة. على ذلك، يمكن التأكيد بأن مراكش هيَ المكان الأكثر ملاءمة لهذه المخلوقات الوديعة. يتعيّن عليّ القول، بأنني خلال ثمانية أعوام من زياراتي للمغرب، لم أرَ مرة قط طيوراً في الأقفاص. اللهمّ سوى في حديقة " وادي الطيور "، في مدينة أغادير. كذلك الأمر، لا يعرف المغاربة عادة تربية الحمام على أسطح البيوت. مثل أوروبة سواءً بسواء، ينتشر الحمام بحريّة في بعض الساحات العامّة ويتلقى الحبوبَ من أيدي الصغار والكبار. ذات مرة، كنتُ في حديقة " الكتبية " فلفتَ نظري سائحٌ يتكلّم بالفرنسية مع أحد عمالها. السائح، كان يحمل بيده جهازاً صغيراً لتسجيل أصوات الطيور. على أثر السائح، تقدمتُ من العامل وسألته عما يعرفه من أنواع هذه الطيور. كانت مفاجأة لي، ولا غرو، أن أعلم بأنّ طيوراً نادرة ذات أصوات شجية وعذبة تسرحُ في أجواء الحدائق؛ كالبلابل والشحارير والحساسين والكناري والعندليب والهزار. عندئذٍ، عليّ كان أن أقارن مع حال الطيور في سورية الأسد، التي سبقَ أن انقرض معظمها بسبب الصيد العشوائي وتدمير البيئة. أتذكّر أيضاً الطيورَ المهاجرة، المحلّقة أسراباً في سماء دمشق، وكيفَ كان أجلاف ريف الساحل يستهدفونها بالكلاشينكوف.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
درهم
-
سيرَة أُخرى 14
-
خفيفاً كعصفور
-
سيرَة أُخرى 13
-
أقوال غير مأثورة 2
-
شريحة لحم
-
إغراءُ أغادير 5
-
إغراءُ أغادير 4
-
إغراءُ أغادير 3
-
إغراءُ أغادير 2
-
إغراءُ أغادير
-
سيرَة أُخرى 12
-
الجيفة
-
قصتان
-
سيرَة أُخرى 11
-
سيرَة أُخرى 10
-
ثلاث قصص
-
أثينا
-
سيرَة أُخرى 9
-
المُخلّص
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|