|
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 10
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 5071 - 2016 / 2 / 10 - 13:59
المحور:
الادب والفن
ب: بيروت: أول إشارة إلى فهم عميق (ب1) رجال في الشمس في عام 1960، جاء غسان بيروت، وعاش حياة غير مستقرة: بلا جواز سفر، ولا إذن عمل، ولا مصدر مالي يعتمد عليه، على الرغم من عمله في جريدة "الحرية"، وفوق كل هذا كان يشكو من مرض السكري. عكست إقامته الأولى في بيروت شعور عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي اتسمت به هذه المرحلة في دمشق والكويت، ولكن بشيء من تحديد النظر، والبحث عن جواب. من هذه الزاوية كانت رواية "رجال في الشمس" التي كتبها كنفاني مختبئًا عام 1962، لتأزم الوضع السياسي آنذاك، والتي سيطرت عليها نفس الموضوعة دومًا، أي شعور المنفي المعذب الذي يلتفت إلى الوراء، ولكن بتطور أكثر نحو اكتشاف حقيقة المنفى، وصلب الألم، ليجد الفلسطيني خلاصه. قبل أن نعرض الجوانب الأخرى من موضوعة المنفى، أي الدوافع التي أعطتها، وكذلك الصور التي عكستها، يجدر الإشارة إلى ما سبق لنا قوله عن قصة "أرض البرتقال الحزين"، عندما اعتبرناها رواية صغيرة، فرأينا فيها ممرًا نوعيًا إلى الرواية، مما أعطى بالفعل رواية "رجال في الشمس" التي لو دققنا النظر فيها لوجدناها تحتوي –مقسمة إلى فصول- على عدة قصص، ولولا خط الأحداث الواصل بينها لاعتبرنا كلآً منها قصة قصيرة ذات ميزات مستقلة "كأرض البرتقال الحزين". لهذا، نحن نرى أن "رجال في الشمس" ليست رواية كاملة بالمعنى الأدبي (سنرى أنها تنتمي إلى أدب الروي الأدب الشفهي)، فيها ملامح القصة القصيرة، مثلما رأينا أن "أرض البرتقال الحزين" ليست قصة فحسب، بل ولها ملامح الرواية. أنتج التقطيع إلى فصولٍ الشكلَ في وَحَدات، وأنتج تنسيق هذه الوحدات في وحداتٍ أعلى منها المعنى، وهاتان القضيتان المزدوجتان، كما يرى رولان بارت، توجدان في لغة الرواية، التي تعرف هي كذلك التنسيق والتقطيع، المعنى والشكل. بناء على ما سبق، "رجال في الشمس" عمل أدبي انتقالي نحو رواية فلسطينية ناجحة، وهي في الوقت نفسه تمثل المرحلة الانتقالية التاريخية ذاتها، من عدم الاستقرار الاجتماعي والإيديولوجي، إلى الاستقرار الاجتماعي والإيديولوجي، كأول إشارة إلى فهم أكثر عمقًا للواقع. وجدنا في الرواية صورتين فنيتين مترافقتين على الدوام، رغم تناقضهما، الأولى تمثل الماضي الخصب الصائن للكرامة، صورة الأرض الخضراء ببرتقالها وزيتونها، والثانية تمثل الحاضر الصعب المليء بالمشقات، صورة الصحراء القاحلة بحرارتها ورمالها. ملخص الرواية اعتمادًا منا على العلاقة التناقضية السابقة للصورتين هو التالي: يقطع أبطالها الصحراء مهرَّبين إلى الكويت للحصول على ثروة يتمكنون بها من قلب الحاضر الصعب إلى ما كانوا عليه من ماضٍ رغيد، لكن هذه العملية اللاعقلانية تكلفهم الموت اختناقًا في خزان الصهريج الذي كانوا يختبئون فيه، إذ يلقون حتفهم عند حدود الكويت دون أن يصلوا إلى تحقيق غرضهم. إن انتصار الصحراء، أي الصورة اللاسعة للحقيقة، على ما هو وهم، وزوال صورة الأرض الخضراء بمثل هذه النهاية التراجيدية، دلالات عميقة: بداية الشعور بالوعي الذي يقر بالصحراء، وما ترمز إليه من وعورة المسار، فضاءً لا يمكن اجتيازه والتغلب عليه إلا عن طريق مواجهة حقيقية، وليس بالهرب سعيًا وراء ثروة سهلة. أما الدوافع التي شكلت موضوعة المنفي هنا، فهي كثيرة، عبرت عنها هيئات الشخصيات، فكان دافعا الأنانية وعدم الشرف اللذان اتصف بهما أبو الخيزران، هذا الرجل الذي يحمل اسمًا هو شكل للمضمون وشكل للتعبير، حسب اعتقاده أن "القرش يأتي أولاً، ثم الأخلاق." (48) كذلك دافع الخضوع للقدرية الذي اتصف به أبو قيس، فهو عاجز عن السيطرة على شروط وضعه البائس، ويقضي وقته حالمًا واهمًا متوهمًا أن تنقذه المعجزات عندما نقرأ: "وراء هذا الشط توجد كل الأشياء التي حُرم منها، هناك الكويت، الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحُلم والتصور." (49) وأيضًا دافع السلبية التي اتصف بها أسعد، فهو متحمس لقضيته، لكن حماسه أجوف بلا قاعدة حزبية متينة، فجاء دعمه للقضية محدودًا، وعندما أحس بالخطر يداهمه، ترك كل شيء هاربًا: "لماذا تهربون من هناك"... "إنها قصة طويلة" (50)، حتى الجواب يتهرب منه! أخيرًا دافع المغامرة التي تقاذفت أهوالها بمروان، الفتى المراهق، لتحقيق المستحيل، ما تعجز عنه إمكانياته وقدراته، فهو "كان يريد أن يعرف سبب ذلك الشعور البعيد الذي يوحي إليه بالاكتفاء والارتياح، شعور يشابه ذاك الذي كان يراوده بعد أن ينتهي من مشاهدة فيلم سينمائي، فيحس بأن الحياة كبيرة وواسعة، وأنه سيكون في المستقبل واحدًا من أولئك الذين يصرفون حياتهم، لحظة إثر لحظة، وساعة تلو ساعة، بامتلاء وتنوع مثيرين." (51) كمن يرتل المزامير، فالشعور ما كان يسيّره، وليس إمعان النظر! من هنا لم يكن الموت قدريًا بل حتميًا، فمثل هذه الشخصيات المستسلمة التي ربطت مصائرها بما هو وهمي ولا أخلاقي ليست سوى نِتاج للمنفى مثلما كان المنفى نتاجًا للموت، تحت كل دلالاته، وخاصة تلك التي تؤشر إلى الطريق المعاكس لفلسطين، وتكامل المعادلة أمر عادي جدًا رغم ما فيه من تعقيد، لكن مجرد الطرح الفني يعتبر إشارة متطورة إلى فهم أشمل وأعمق لهذه المرحلة. إذن مستوى الروي مليء بالدوافع، مليء بالإشارات، وهي –كما يرى رولان بارت- مجموع العلامات التي تشتمل على الوظائف والأفعال في التوصيل الرَّوْيِي، والتي تَبِين بفضل المرسِل (المؤلف)، وبفضل المرسَل إليه (القارئ). بعض هذه الدوافع، بعض هذه الإشارات، تمت دراسته في الآداب الشفهية، وعرفنا بعض كودات هذه الدوافع وهذه الإشارات قبل أن نعرفها لدى غسان (الأنانية، عدم الشرف، الخضوع للقدرية، السلبية، المغامرة... حكايات ألف ليلة وليلة مليئة بها). وفي الواقع الفلسطيني، نحن نعرف أن "الراوي" كنفاني، أن كنفاني كراوٍ لم يخترع هذه القصص "الفظيعة"، لكنه يسيطر بشكل أفضل على الكود الذي يشترك في استعماله مع القراء. لهذا كان التعاطف الشعبي كبيرًا مع الصرخة الأخيرة في الرواية: "لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟" وكما يضيف رولان بارت* بخصوص هذه الكتابة في الأدب، ولماذا هي شعبية: لأن المستوى السردي واضح جدًا، قوانينه مجبِرة جدًا، ولأنه من الصعب إدراك "رواية" لا تفرض نفسها بإشارات كودات الروي. لهذا، نحن نرى أن "رجال في الشمس" رواية تنتمي أكثر إلى الآداب الشفهية منها إلى الآداب الكتابية.
المراجع (48) غسان كنفاني: رجال في الشمس، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 84. (49) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 46. (50) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 65. (51) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص ص 73-74. * مرجعنا في كل ما نقوله من كلام عن علماء اللسانيات الفرنسيين مجلة كومينيكاسيون 8 1966.
يتبع (ب2) الباب
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 9
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 8
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 7
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 6
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 5
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 4
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 3
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 2
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 1
-
رعب - المشاهد الكاملة
-
رعب - المشهد العاشر
-
رعب - المشهد التاسع
-
رعب - المشهد الثامن
-
رعب - المشهد السابع
-
رعب - المشهد السادس
-
رعب - المشهد الخامس
-
رعب - المشهد الرابع
-
رعب - المشهد الثالث
-
رعب - المشهد الثاني
-
رعب - المشهد الأول
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|