حسني إبراهيم عبد العظيم
الحوار المتمدن-العدد: 5071 - 2016 / 2 / 10 - 01:12
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الفكر الاجتماعي في الحضارة اليونانية 4/2
ثانيا: نماذج من الفكر الاجتماعي اليوناني:
أفرزت الحضارة اليونانية مجموعة من الفلاسفة النابغين, والعلماء النابهين الذين أسهموا إسهاماً عظيماً في الفكر الإنساني, وقد ظلت أفكارهم مؤثرة علي المجتمع البشري قروناً متعددة.
وسنعرض في هذا السياق ـ بصورة موجزةـ جانباً من أفكار هؤلاء المفكرين حول الإنسان والمجتمع, ورغم ما قد يبدو من اختلاف بينهم, إلا أنهم يمثلون ـ مجتمعين بشكل عام ـ السمات العامة للفكر اليوناني منذ القرن الخامس قبل الميلاد والفترات التالية له التي شهدت ازدهار ذلك الفكر.
1ـ هيرودوت Herodetus:
يعد "هيرودوت" ( 484 ـ 430ق.م) أقدم المؤرخين وأبرزهم علي الإطلاق, ويوصف بأنه "أبو التاريخ" ويعتبره علماء الأنثروبولوجيا "أول باحث أنثروبولوجي" في التاريخ, ويرجع السبب في ذلك إلي أنه كان قد جمع معلومات وصفية دقيقة عن عدد كبير من الشعوب غير الأوربية, حيث تناول تقاليدهم وعاداتهم وملامحهم الجسمية وأصولهم السلالية.
ففي كتاب "التواريخ the Histories قدم هيرودت كل ما يستحق التسجيل عن التاريخ الإنساني حتى زمانه, إذ قدم في تسعة فصول معلومات عن حوالي 50 شعباً من خلال رحلاته وقراءاته, إلى جانب وصفه الدقيق للحرب التي دارت بين الفرس والإغريق إبان القرن السادس قبل الميلاد, والمعروفة بحرب (طروادة) وقدم تحليلاً لأسبابها ونتائجها, وقد جاء وصفه لمصر دقيقاً وشيقاً, وهو صاحب العبارة الشهيرة "مصر هبة النيل". وهي عبارة لها دلالتها الفكرية في ذلك الوقت, حيث تعكس الارتباط بين البيئة الطبيعية والتقدم الحضاري, كما وصف "هيرودوت" عادات المصريين وتقاليدهم وأسلوب حياتهم, وقارنهم بغيرهم من الشعوب المعاصرة لهم.
وقد كان "هيرودوت" أول من قدم وصفاً دقيقاً عن القبائل الليبية من ناحية أصولهم العرقية وطريقة حياتهم, فيكتب عن الأصول العرقية لليبيين ما يلي:
"إن في ليبيا أربعة أجناس, أثنين من أهل البلد الأصليين, واثنين من خارجها, أهل البلد الأصليون هم الليبيون الذين يحتلون المنطقة الشمالية والأثيوبيون الذين يحتلون المنطقة الجنوبية, أما الأجناس الوافدة فمنهم الفينيقيون واليونانيون".
ويدون هيرودوت بعض الملاحظات عن عادات الليبين الصحية, فيذكر:
"إن من عادة كثير من الليبين البدو الرعاة وليس جميعهم أن يأخذو أولادهم عندما يبلغون الرابعة من العمر, ويكووا عروق فروة رؤوسهم، أو أحياناً عروق وجوههم , حتى لا يصاب الأطفال بعد ذلك بالبلغم الذي ينزل من الرأس, وهم يقولون إن هذا يجعل أطفالهم أكثر صحة, والحق أنه ليس من المعروف لدينا من هو في مثل صحة الليبين, وإن كنت لا أستطيع الجزم بأن ذلك بسبب هذه العادة, لكنهم أصح الناس بالتأكيد وقد وجدوا علاجاً لتخفيف ألم الكي عن أطفالهم وهو أن يرطبوا مكان الكي ببول الماعز, وهذا ما يقولونه الليبيون أنفسهم".
ولقد طرح"هيرودوت" في ذلك الوقت المبكر من الفكر الإنساني فكرة(وجود تنوع بين الشعوب في النواحي السلالية والثقافية والبيئية" وهذه الفكرة تعد مبحثاً هاماً في علم الأنثروبولوجيا الحديث وهو التنوع الثقافي, فلقد وصف "هيرودوت" الكثير من المظاهر المتعددة للحياة اليومية عند بعض الشعوب كالهيئة والملبس والمأكل والطب وعادات الزواج, والتقاليد والقيم الاجتماعية وغيرها, وجاء تحليله موضوعياً, فلم ينظر إلي الثقافات غير اليونانية بعين الازدراء أو التقليل من شانها, وإنما تعامل معها من منطلق أن الاختلاف يعد أمراً لازماً وحتمياً نظراً لاختلاف ظروف كل مجتمع عن المجتمعات الأخرى.
وآثار "هيرودوت" قضية أخري مرتبطة بالفكرة السابقة, وهي قضية "اقتباس الشعوب بعضها عن بعض, وهو موضوع اهتم بها الأنثروبولوجيون فيما بعد تحت عنوان "الانتشار الثقافي" فيذكر أن الإغريق قد أخذوا عن الليبيين الثياب والغناء, والعربات, يقول في ذلك:
" يبدو أن ثياب ودروع تماثيل أثينا قد نقلها الإغريق عن النساء الليبيات, حيث أنهن يرتدون ثياباً ودروعاً تشبه الموجودة في أثينا, بل أنها أكثر إتقاناً وجمالاً, وأكثر من هذا , فإن الغناء الطقسي ـ فيما أظن ـ ظهر اولاً في ليبيا, فإن نساء تلك البلاد يغنين غناءً مطرباً شجياً, ومن الليبين تعلم الإغريق كيف يقودون العربات ذات الخيول الأربعة".
تلك بعض الإشارات عن إسهام هيرودوت" في تطور الدراسات الأنثروبولوجية ويري العديد من الباحثين الأنثروبولوجيين ان منهج "هيرودوت" في وصف ثقافات الشعوب يحمل في طياته بعض أساسيات المنهج الإثنوجرافي المتعارف عليه حالياً, مثل الدراسة الحقلية Field study والاتصال المباشر بالجماعات موضع الدراسة, والتفرقة بين ما يشاهده الباحث واقعياً, وبين ما يشاع عن الجماعة المدروسة, هذا فضلاً عن إجراء المقارنة كلما أمكن ذلك, وقد حقق "هيرودوت" ذلك بدقة.
2ـ بروتاجوراس:
ينتمي "بروتاجوراس" Protagoras إلى المدرسة السوفسطائية التى لعبت دوراً هاماً في نشأة الفلسفة اليونانية, حيث أنها حولت الاهتمام من محاولة تفسير الكون والوجود إلى الاهتمام بالإنسان ومشكلاته، وقد نادت هذه المدرسة بضرورة الاهتمام بشكل أكبر بالفرد ذاته أكثر من الجماعة, فقد كانت غايتهم تشجيع اليونانيين على إبراز شخصياتهم في المجالات المختلفة.
والسوفسطائيون هم مجموعة من الخطباء أو المعلمين المتجولين الذين اتسموا بقدراتهم الخطابية البلاغية, والجدل القوي, وقد حاولوا استمالة الشباب إليهم بشتي الطرق.
ويمكن تحديد أهم جوانب الفلسفة السوفسطائية فيما يلي:
1ـ البحث في المجتمع والإنسان بدلاً من البحث في الوجود المادي.
2ـ البحث في السياسة والتربية والآداب.
3ـ الاهتمام بالشباب وأفكارهم ومحاولة استمالتهم لفكرها.
4ـ الدعوة إلى تغيير الأسس الأخلاقية للمجتمع اليوناني.
وقد جاءت أفكار "بروتاجوراس" تعبيرا عن الإطار العام للفلسفة السوفسطائية, فلقد اشتهر بالمقولة الشهيرة : "الفرد مقياس الأشياء جميعا" وتعكس هذه الجملة أهمية الإنسان الفرد عند الحكم على الأشياء التي تتعلق بالنواحي الإنسانية, وبذلك فقد أدرك أهمية الفرد في المجتمع, إن "بروتاجوراس" يعتقد أن الحياة التي تؤدي إلي تنمية ذاتية لقدرات الفرد هي حياة ذات قيمة خلقية أعظم من تلك الحياة التي تراعي فيها العادات والأخلاق اليونانية القديمة, وقد أدت هذه الفكرة إلي اتهام اليونانيين للسوفسطائيين بأنهم أصحاب فلسفة لا أخلاقية, بمعني أنهم يحاولون هدم الأخلاقية اليونانية التقليدية المرتكزة علي بعض المبادئ المثالية.
ومن جهة أخرى , يري (بروتاجوراس" أن الأشياء تكون حقيقة متى أمكن للإنسان الفرد رؤيتها ولمسها وممارستها عن طريق حواسه, أى أن المعرفة حسية في المقام الأول, وبالتالي فإن المعرفة نسبية تختلف من شخص إلي آخر, ومن جماعة إلى أخري, وقد أدي ذلك إلى نفي مبدأ الثبات المطلق.
ويعتقد العديد من الباحثين أن مفهومي المعرفة الحسية, والنسبية اللذان صاغهما "بروتاجوراس" يمثلان نقطة البدء المبكرة في الأخذ بالمنهج التجريبي فى الدراسات الاجتماعية , وإن كان "بروتاجوراس" قد استخدمهما بطريقة سطحية وغير دقيقة.
كما يري آخرون أن تركيز السوفسطائيين , ومنهم بروتاجوراس بطبيعة الحال, على الفرد, وليس الجماعة, كانت بمثابة البداية لظهور النزعة الفردية التي بُني عليها معظم الفلسفات الرأسمالية الغربية الحديثة كالليبرالية والبراجماتية.
3ـ سقراط:
يعد سقراط (471 ـ 399)أهم فلاسفة اليونان في عصرها الذهبي, وقد انقسمت الفلسفة في عصره إلي قسمين ما قبله, وما بعده, وأنه أنزل الفلسفة من السماء إلي الأرض, وقد كان أستاذاً لأفلاطون, واعتمد عطاؤه الفلسفي على الخطب والمناقشات, ولم يترك مؤلفاً مكتوباً, وقد انتهت حياته نهاية مأساوية, إذ حكم عليه بتناول السم لاتهامه بإفساد أخلاق الشباب, فكان أول شهيد للفلسفة.
ويمكن حصر أهم إسهامات سقراط الفكرية فيما يلي:
1ـ دراسة مشكلة الأخلاق:
عارض "سقراط" الأفكار السوفسطائية المتعلقة بالفردية, ونسبية القيم وتغيرها، فأكد أن هناك خصائص ثابتة في كل شيء تجعل من السهل وصفه وتعريفه, وبذلك يمكن نقل العلم به من شخص إلى آخر باعتبار أن لكل شخص عقلاً, وقد رفع "سقراط" شعار "الفضيلة علم والرذيلة جهل" فمن خلال المعرفة استطاع الإنسان التمييز بين الخير والشر, فمال إلي الخير لأنه حق, وكره الشر لأنه باطل, والفرد الذي يرتكب الشر يجهل أنه كذلك لأنه لو عرف الحقيقة لما فعله.
2ـ الشك كطريق للمعرفة:
في إطار معارضته للمنهج السوفسطائي , اعتمد"سقراط" علي الشك كأداة للوصول إلي المعرفة الحقيقة, فالشك لديه شك منهجي, وقد أسهم هذا الأمر في تطور الاتجاه التجريبي بعد ذلك, أما الشك عند السوفسطائيين فكان شكا مذهبياً, يهدف إلى تدمير المعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية الثابتة في نفوس الأفراد.
3ـ التأكيد علي أهمية المعرفة القائمة علي التجربة:
يرى سقراط أن هناك فارقاً بين مجرد "التخمين" و "الاحتمالية" من جهة, والمعرفة الحقيقية من جهة أخري, وقد جعله ذلك يطالب بدليل تجريبي لأى موضوع يناقشه , ويرفض المعرفة التي لا تأتي عن طريق التجربة الواقعية, ومن ثم كان يستبعد كل مالا يمكن إثباته, فكان يرفض مثلاً النقاش حول ماهية الشمس : أهي حجر أم إله؟.
4ـ الحوار الهادفة كطريقة للتفاهم ونقل الأفكار:
اتبع سقراط أسلوب الحوار الذي يري أنه كفيل بأن يربي في النشء قوة التفكير, وتجذبه للبحث والتنقيب, وهذا يؤدي إلى تكوين عقول قادرة علي استنباط الحقائق, واستخراج النتائج, ولذلك فقد كان سقراط يحاور أى شخص يقبل المناقشة, سواء أكان ذلك في الطريق, أو في الساحات العامة, أو في أى مكان آخر.
إن ما قام به سقراط في هذا المجال يعد ثورة منهجية, بجانب كونه ثورة عقلية, كانت تهدف إلي تأصيل المفاهيم, وتحريرها من الشك والوهم والتخمين, يقول أحد المفكرين المعاصرين : " إن سقراط اتبع أسلوباً خاصاً هو أسلوب الجدل, وبذلك اختلف عن الأسلوب السوفسطائي القائم علي ترتيب الموضوعات وفق برنامج محدد وحديث خطابي بليغ, وبدلاً من ذلك استخدام سقراط الحوار أسلوباً للوصول إلي المعرفة".
ومن المعروف أن أفلاطون قد استخدم هذا الأسلوب في محاوراته وجعل من سقراط المحاور الأساسي, حيث صورة مفكراً ناقداً وفيلسوفاً يسعي إلي تأصيل القيم, والوصول إلي المعرفة بماهية الأشياء.
#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟