|
جذور طقوس الزار
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 5070 - 2016 / 2 / 9 - 00:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تحظى الدراسات التى تتناول الموروث الشعبى بأهمية بالغة فى حقل العلوم الإنسانية بصفة عامة ، والعلوم الاجتماعية بصفة خاصة ، وذلك بمراعاة أنّ دراسة الموروث الشعبى تــُـعتبر أحد المداخل الأساسية ، للتعرف على أبعاد الشخصية القومية ، التى أنتجتْ هذا الموروث الشعبى ، والذى تتعـدّد أشكاله وتتنوّع موضوعاته ، من أساطير تتناول قصة الخلق ، ثم البعث والصراع بين الخير والشر. وكذلك المواويل (مجهولة المؤلف) والأمثال الشعبية والنــُـكت (جمع نكتة وهى صحيحة لغويـًـا) وحواديت الجدات إلخ . وإذا كانت الدراسات التى تتناول الموروث الشعبى نادرة بالنسبة لغيرها فى مجال العلوم الإنسانية ، فإنّ الأقل نــُـدرة هى الدراسات التى عالجتْ موضوع الزار. ومن هنا تأتى أهمية الدراسة التى أعدها الباحث الأستاذ سامى حرك ، المُـهتم بالحضارة المصرية ، وذلك فى كتابه (الزار وبقايا طقوس الديانة المصرية) الصادر عن دار روزا ليوسف عام 2002. الكتاب – رغم تعدد فصوله – فإنّ مؤلفه استهدف تعميق محوريْن أساسييْن : المحور الأول : الجذور المصرية لطقس الزار: بعد أنْ استعرض المؤلف الكتب التى تناولتْ موضوع الزار، والتى ذهب مؤلفوها إلى أنّ أصل الزار (حبشى) فإنّ الأستاذ سامى حرك قـدّم وجهة نظر مختلفة تمامًا ، حاول من خلالها التأكيد على أنّ الزار (تنويعة) جديدة على طقس مصرى قديم ، وكتب أنّ ((طقوس الزار مليئة بالأسماء والرقصات والألحان والأغانى ، التى تــُـمثــّـل بقايا طقوس ديانات مصرية عديدة ، انصهرتْ وتجمّـعتْ فى الديانة الأوزيرية)) (ص 22) ولكى يـُـدلــّـل المؤلف على رويته ، فإنه قـدّم بعض العناصر المُـشتركة أو المُــتشابهة فى الطقوس التى تــُـمارَس فى الزار، فى العصر الحديث ، مع مثيلتها التى كانت تــُـمارَس فى بعض ديانات مصر القديمة ، مثل : طقس الذبح (ماينجا) : وهو طقس رئيسى (كلمة رئيسى صحيحة لغويًا وليس رئيس كما يقول غلاة الكهنوت من العروبيين) من طقوس الزار، يـُـخصـّـص له مكان مـُـغلق ، ولا يدخله إلاّ (الكودية) والجزار. ومكان الذبح يـُـسمى (ماينجا) وبالرجوع إلى المراجع التى تناولتْ الحضارة المصرية ، فقد تبيّـن أنّ لكل معبد من المعابد المصرية القديمة (مذبح) والمعبد تــُــقـدّم إليه أنواع شتى من القرابين ، مثل الحبوب والخضروات والخبز، وبعض الطيور والغزال والثيران . ومن يزور معبد (هابو) بالأقصر – على سبيل المثال – فإنه سوف يرى الكثير من التفاصيل عن مناسبات وطـُـرق تقديم القرابين داخل غرفة خاصة (أى المذبح) واسم المذبح (ماينجا) وترجمة هذه الكلمة عن اللغة المصرية القديمة ، تعنى المكان الذى يتم فيه ذبح الحيوان أو الطير المُـضحى به. وهكذا أثبتَ المؤلف اشتراك الاسم فى كل من طقس الزار فى العصر الحديث ، ومثيله فى الحضارة المصرية. طقس فتح الحنك : ابتدع المصرى القديم فكرة (البعث) وأنّ الموت بداية مرحلة جديدة لحياة أخرى ، ولذلك ابتكر فن (أو علم) التحنيط . وكان أول طقس من طقوس التحنيط هو طقس فتح الفم (أو فتح الحنك ، مع ملاحظة أنّ كلمة " حنك " المصرية هى البديل لكلمة " فم " العربية) فى هذا الطقس يستعيد المُـتوفى روحه لتعود للجسم قوته وحيويته ، وذلك عن طريق ذبيحة يـُـمسح بدمها فم المومياء . ونقل المؤلف عن عالم المصريات الراحل الجليل (محسن لطفى السيد) أنّ طقس فتح الفم فى المعتقدات المصرية القديمة ، يتشابه مع طقس (فتح الحنك) فى الزار الحديث. فى الزار (الحديث) يـُـذبح الحيوان أو الطائر (وهو غالبـًـا ديك) فوق رأس المريضة التى تفتح فمها ، كى تتلقى دماء الديك الساخنة ، ثم يسيل باقى الدم على ملابسها التى يجب أنْ تكون بيضاء . فى هذا الطقس يحدث تلاقى بين الروح والجسد عبر دم الطير المذبوح . والفكرة فى الزار أنّ المريضة ليستْ هى التى تشرب دماء الطير، بل ما يتلبـّـسها من أرواح . وهكذا لم يتغيـّـر جوهر الطقس ، وإنْ تطوّر من ذبح على رأس المومياء فى الزمن القديم ، إلى ذبح على رأس المريضة فى الزار الحديث (من ص 51- 53) طقس الرقص – الزكر (بالزاى وليس الذال) : من بين الأعياد الكثيرة فى الديانة المصرية القديمة ، عيد (قيامة أوزير) الذى يشمل طقوس (التحضير) أى احضار الروح كى تتـقمـّـص جسد المُـتوفى ليقوم من سباته. وتبدأ هذه الطقوس بالندابات اللائى تــُـردّدنَ أغانى الندابة الأولى (إيزيس) وأنهى المؤف هذا الفصل بقوله أنّ (الكودية) تقوم فى الزار الحديث مقام (الشيخة) فى (الحضرة) أثناء الاحتفال بولى من الأولياء . وأنّ الإثنتيْن تقومان بدور (الندابة) فى المآتم (أثناء تشييع جنازة أحد المُــتوفين) وجميعهنّ تــُـؤدينَ دور الندابة الأولى (إيزيس) يـُـصاحبها من (يسكرون من النشوة الروحية) وتلك الكلمة هى المقصودة بكلمة (الزكر) فى الموالد ، والتى يحلو للعروبيين كتابتها بحرف (الذال) بينما الأدق كتابتها بحرف (الزاى) لتكون (زكر، وليس ذكر) وفى الديانة المصرية كان أجدادنا يرقصون (رقصة الصقر – حورس) الذى اندمج فى (سوكر سوبك) (من ص 59- 61) المحور الثانى : النظرة الموضوعية للزار: ركــّـز المؤلف فى المحور الثانى من كتابه على أنّ الزار مُــنتج ثقافى (سواء اقتنع به البعض أو رفضه آخرون) وهذا الطقس أبدعه شعبنا عبـْـر آلاف السنين (بالتعديل والاضافة) وبالتالى يجب التعامل معه من خلال نظرة موضوعية ، ولا يجب التركيز على السلبيات وتجاهل الايجابيات . وذكر المؤلف أنه ذهب مع أحد أصدقائه (الذى ادّعى المرض) إلى إحدى حفلات الزار، للتعرف على هذا الطقس عن قــُـرب ، وفى نهاية الحفل شعر بسعادة عبـّـر عنها قائلا (( اندمجتُ فى (التفقير) و(الزكر) والرقص الجماعى ، مع دقات الطبل ، فحقــّـق لدىّ استمتاعًـا مُـساويـًـا لقضاء سهرة فنية مع العشاء الراقص)) ثمّ تساءل ((ماذا لو تمّ الاعتراف بالزار كفن شعبى ؟ ألا يؤدى ذلك إلى الارتفاع بمستواه الفنى من ناحية ، ويُـقلــّـل من تكاليفه من ناحية ثانية ؟ كما أنه لو سمحتْ الدولة بممارسة هذا الفن فى النور، فإنّ ذلك سيؤدى إلى تلافى السلبيات والارتقاء بالايجابيات ؟ وهل يمكن توظيف هذا الفن – بشكل رسمى ومؤسسى - وبطريقة علمية ، كفن علاجى وفن ترويحى وسياحى ؟ )) ويرى المؤلف أنه فى الوقت الذى ((يـُـنوّع فيه الغرب ويستحدث ويهتم بالعلاج الطبى النفسى الجماعى ، فى مؤسسات وجمعيات عامة وخاصة ، نهدم نحن أعرق حلقات المُـعالجة النفسية الجماعية ، والتى لا تحتاج سوى الاعتراف والعلانية)) (ص 12، 13) وذكر المؤلف أنه من خلال تجربته الخاصة مع الزار، لم ير فى السلبيات (التى يزعمها المُـعادون لكل ما هو مُـنتج ثقافى مصرى) سوى بعض التصرفات التى تــُـعد سلبيات (وفق المعنى الدقيق لكلمة سلبيات) ومن هذه التصرفات الخروج عن النص ، وذلك يمكن معالجته (من خلال مـُـتخصصين) وبالتالى يمكن الاستفادة من ظاهرة الزار، لإنتاج فن شعبى على درجة رفيعة من الرقى ، حيث أنّ ايجابياته كثيرة ، لعلّ أهمها زيادة الدخل لقومى ، من خلال السياح الأوروبيين والصينيين واليابانيين.. إلخ الذين يهتمون بالتعرف على عادات الشعوب . ونقل المؤلف عن د. فاطمة المصرى فى دراسة لها عن الزار، أنّ بعض الحالات المرضية تمّ شفاؤها بواسطة الزار. وأنّ علماء النفس أثبتوا – منذ وقت طويل – أنّ ((الايحاء الجماعى أقوى أثرًا من الايحاء الفردى)) وبهذا يكون المؤلف قد حقـّـق هدفه من خلال محورىْ الكتاب : الأول : أنّ الزار طقس شعبى ، وأنه امتداد للديانة الأوزيرية (مع اختلاف الهدف بين الطقس الأوزيرى والطقس الحديث) والمحور الثانى : أنّ الطقس المعروف باسم الزار يمكن توظيفه فى الأغراض العلاجية والسياحية. وأرى أنّ كتاب الأستاذ سامى حرك دعوة موّجـّـهة إلى الثقافة المصرية السائدة لإعادة النظر فى العداء السافر لكل ما هو إبداع شعبى مصرى ، فى إطار التعريف العلمى لمفهوم الثقافة القومية. وأنّ عدم الاعتراف بالموروث الشعبى لن يؤدى إلى الغائه أو القضاء عليه (كما يعتقد المُـعادون للخصوصية الثقافية المصرية) وأذكر أنّ أحد نـُـقاد المسرح كتب سنة 1981 بعد عرض مسرحية (دقة زار) للكاتب (محمد الفيل) أنّ الزار يـُـمارس داخل مسجد (أبوالسعود) فى قلب القاهرة ، وبشكل مُـنتظم كل يوم خميس . وأنّ من روّاد الزار ((نساء من جميع الطبقات وبعضعنّ من أغناها وأرقاها)) (نقلا عن كتاب (مؤلفات محمد الفيل المسرحية – المُـجلد الأول – هيئة الكتاب المصرية – عام 2002- ص 171) كما أنّ العداء للزار هو جزء من العداء للثقافة القومية المصرية ، مثل طقس سبوع الطفل ، وخميس وأربعين المُـتوفى ، والاحتفال بالأولياء ، وزيارة المقابر، وأعياد الميلاد ، بل وحتى تحية شعبنا (صباح الخير) الأكثر شيوعـًا من بين عشرات التحايا المصرية ، أصبحتْ مُـحرّمة علينا ، انحيازًا لتحية واحدة (شمولية) أشبه بالتحية النازية (هاى – هتلر) كما أنها بنت عم (شالوم عليخم) وتلك الشمولية فيها تكريس لمنظومة (تبعية القطيع) وقد وصل عداء الأصوليين للموروث الشعبى لدرجة مُـحاولة هدم مسجد السيد البدوى بطنطا ، بعد أنْ نجحوا فى تحقيق الضرر بعدد من المساجد والأضرحة المُـشابهة ، بحجة أنّ التبرك بالأولياء والتمسح فى قبورهم نوع من الكفر (نقلا عن أ. عادل حمودة فى كتابه " قنابل ومصاحف" – قصة تنظيم الجهاد – دار سينا للنشر- عام 1985- ص 126) لذلك أرى ضرورة أنْ تكف الثقافة السائدة عن مُـغازلة الأصوليين ، وأنْ تــُـعيد النظر فى عدائها للموروث الشعبى ، مثلها مثل الوهابيين الذين يسعون إلى جر مصر إلى عصور الظلمات . ولا أغالى إنْ قلتُ أنه سيكون فى مصر – تحت سياط هذه الثقافة السائدة المُـهادنة للأصوليين – فى يوم من الأيام حكومة كحكومة طالبان ، تتولى هدم الآثار المصرية والمعابد وكل تراث أجدادنا المصريين القدماء . وإذا كان طقس الزار يتضمّـن الرقص الجماعى ، وإذا كان الرقص يولــّـد البهجة والسرور، فقد كان الرقص عنصرًا أساسيًا فى نسيج الاحتفالات الدينية فى الحضارة المصرية. وقد ذكر مؤلفو (معجم الحضارة المصرية) أنّ المذبح والباب يتم تزينهما ((بالنقوش البارزة البهيجة الموحية بالمرح والموسيقى)) (ص52) وأكثر من ذلك ما كتبه عالم المصريات (لوكيان) الذى أوصلته دراساته فى علم المصريات أنْ يصيغ تلك الحقيقة قائلا ((لقد ترجم المصريون أعظم العقائد الدينية غموضـًـا إلى حركات تعبيرية)) (ص 41) ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الميول السياسية واجهاض الموضوعية
-
عجائب أنبياء بنى إسرائيل الخارقة
-
هل البخارى (ألّف) الأحاديث ؟
-
رد على الأستاذ سلام صادق بلو
-
لماذا ينخدع شعبنا بالأحزاب الظلامية ؟
-
ما مغزى تهمة ازدراء الأديان ؟
-
لماذا غضب إله إسرائيل على سليمان؟
-
متضامن مع الأستاذ على محمود ورفاقه
-
كيف تكون النبوة بالوراثة ؟
-
هل يمكن التخلص من التعصب الدينى والمذهبى؟
-
ما سر عداء داود للفلسطينين ؟
-
لماذا ينتفض شعبنا وينام ؟
-
تضامن مع الشاعرة المصرة فاطمة ناعوت
-
لماذا سمحت الداخلية بتسليح الإخوان ؟
-
لماذا تم تصوير الأنصار بالبلاهة ؟
-
لماذا لا يحاكم الواقدى والحلبى وغيرهما؟
-
يوناثان ابن شاؤل وداود
-
لماذا العداء بين الفلسطينيين وبنى إسرائيل ؟
-
ماذا حدث بعد وفاة يشوع ؟
-
لماذا تعدّدتْ المصاحف واختلفتْ ؟
المزيد.....
-
بزشكيان: ستتمكن الدول الاسلامية عبر التعاون فيما بينها من اع
...
-
الحية لقائد الثورة: هذا النصر العظيم هو نصر مشترك لنا وللجمه
...
-
قائد الثورة الاسلامية خلال لقائه وفد حماس:تغلبتم على اميركا
...
-
قائد الثورة الاسلامية : انتصار فلسطين مؤكد بفضل الله
-
قائد الثورة الاسلامية: الباري تعالى من عليكم وعلى سكان غزة ب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: انتصار أهالي غزة هو انتصار على أميركا
...
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل وفدا قياديا لحركة حماس
-
تردد قناة طيور الجنة Toyor Aljanah الجديد على القمر الصناعي
...
-
وزير الخارجية يبعث برسالة شكر إلى قائد الثورة الإسلامية
-
منظمات يهودية تنتقد استخدام ترامب للمهاجرين والمتحولين جنسيا
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|