محمد دامو
الحوار المتمدن-العدد: 5067 - 2016 / 2 / 6 - 13:30
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من المؤكّد ان الواقع اللغوي في الجزائر يعاني من حالة اضطراب وفوضى ،يصعب التعايش معها ،وغضّ الطرف عن اثارها المكلفة ،وارتداداتها السلبية على سيرورة المجتمع ،وعلى التسيير السليم لشؤون البلاد. وحلّها المعضلة يكمن في تضافر جهود المجتمع والدولة ومؤسساتها كاملة متكاملة ،بدل انتظاره كقدر قد تجود به السماء.
معالجة مشاكل الامة، إن وجدت واستفحلت ،لا ينتظر من النصوص الغامضة في القانون او الدستور ،بل يأتي من الارادة السياسية إن توفرت وحضرت. فالدستور ليس رقية شرعية او لمسة سحرية شبيهة بتمائم الشعوذة ،بحيث تسوّق كعلاج لكل داء مستعص ،إنّما الدستور تعبير عن الارادة الصادقة التي يجمع عليها اعيان الامة في معالجة قضايا البلاد ،تسيير شؤونها ورسم سياساتها.
قد يبدو الواقع السياسي في الجزائر مربكا للغاية ،وقد نجد مبررا لهذه الحالة في صلة هذا الواقع بتركات سنوات الجمر التي سبقت استعادة الاستقلال الوطني ،وما تلاها من اضطرابات ادّت في النهاية الى اعتماد وتكريس نظام الحكم الانسب للحفاظ على الوحدة الوطنية بمواجهة التهديدات الخارجية.
وقد نجد تبريرا للواقع الاقتصادي المصاب بجملة من الامراض المزمنة ،في الحرص على وصية اباء الثورة التحريرية ،بدعم المؤسسات التي تكرس حقيقة الدولة الديمقراطية الاجتماعية ،كما اوصت وثيقة اول نوفمبر الشهيرة.
كل هذا قد يبدو واقعيا ومعقولا بحسب احكام المنطق الصوري ،لكنه غير كاف لاستمرار الاشكال ،وتمادي الاهمال ،لا من طرف الهيئات الرسمية ،ولا من المجتمع المعني الاول بارتدادات وتداعيات كل خلل في غياب السير الامثل لمنظوماته الحياتية الحيوية.
منذ فترة غير قصيرة ،دخلت الجزائر حالة السبات الطوعي في انتظار النص المقترح لمشروع الدستور المعدّل، وحال صدوره اخيرا، تضاربت الاراء وانقسمت بين متشائم ومتفائل بالحدث الجلل ،وكما هي الحال دائما في مثل هذه المواعيد الحساسة ،تصدّرت المشهد الوطني الوجوه المعتادة في صفوف المعارضة والموالاة ،على حدّ سواء. الاولى تعارض بلا هوادة ،والثانية تؤيّد دون مواربة، فيما بقية ابناء الوطن ،يتابعون المشهد دون حماس زائد او اكتراث عابئ.
لقد اعتاد الشعب الجزائري على قبول حقيقة مبدئية ،مفادها ان النصوص القانونية ،مهما كانت اهميتها ،ليس بمقدورها وحدها، التصدي لتغوّل المعضلات المربكة ،فضلا عن مواجهتها ،دحرها ،واسقاط تأثيراتها. وعلى هذا ،نرى السواد الاعظم من المواطنين ،يفضلون الدخول في حالة السبات والانتظار ،بدل المجازفة بالمبالغة في الرجاء والتمني ،التي قد تضر في حالة الاحباط اكثر مما تنفع في بقية الحالات.
كلّها ايام معدودة ،وتحصل الجزائر على دستورها في حلّته الجديدة، فإذا صرفنا النظر عن جديده في مجال السياسة والاقتصاد باعتبارهما مجالين اكبر من ان يحيطهما تشخيص او معالجة منطقية ،كما يدل على ذلك الواقع الملموس الذي درجت عليه الجزائر المحروسة منذ عصر الايالة الاولى ،وحتى ايام الجمهورية الحالية، وركزنا النظر على جديد الدستور في تناول الواقع اللغوي للبلاد ،ألفينا إضافة في غاية الاهمية ،ليس اقلّها ترقية اللغة الامازيغية لتصبح لغة وطنية ورسمية، لكن هذا لا يعني بالضرورة حكما استعجاليا وتنفيذا ميدانيا ،فالامر هنا ،متروك للقوانين العضوية والاجرائية اللاحقة ،وللمزاج العام خاصة.
ليس سرا ،ان المؤسسات الجزائرية غير مجبرة على التعاطي ايجابا ،مع المادة الدستورية التي تكرّس العربية لغة وطنية رسمية في ربوع الجمهورية ،وليس سرا على الاطلاق ،ان المؤسسات الرسمية المعنية برعاية اللغة العربية ،تنميتها ،تطويرها ،والرفع من مستوى حضورها تقنيا ،وثقافيا، حضورا وانتشارا،..غير قادرة على استيعاب مهمتها بشكل واضح لا لبس فيه ،ولا هي قادرة على رسم خطة عمل للوصول الى هدف محدد بحسب قانون انشائها.
في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم ،صدر عن الحكومة العراقية في بغداد قرار على شكل فرمان صارم ،يقضي باعتماد رسم "هيأة" ،بدلا من "هيئة" ،في كتابة اللافتات والاشارات على المباني والطرقات. وامام استغراب العراقيين ،بادر مجمع اللغة العربية ببغداد الى توضيح دواعي هذا التغيير ،استنادا الى مبادئ المدرسة النحوية البغدادية ـ الشامية ،واحكامها في كتابة الهمزة التي تختلف عن مثيلتها في المدرسة المصرية. وللتوضيح اكثر ،نذكر ان الدولة العراقية الحديثة ،كانت قد استوردت النظم الادارية من مصر التي تتبع المدرسة النحوية المصرية، وقد حدث ان انتقلت معها صور الكتابة التي احدثت اشكالا وارباكا في المنظومة الاملائية العراقية ،فتوجّب التصحيح ،ثم التوضيح.
نذكر هنا، ان الجزائر ومعها الدول المغاربية ،اتبعت تاريخيا وتتبع مدرستها النحوية الاندلسية، ولكن القائمين على عملية "التعريب" ،السابقين واللاحقين ،لم يولوا هذه المسألة حقها من العناية والانتباه. والخطورة في الامر ان يكون ذلك عن قصد ،لكن الاخطر منه ،ان يكون ناتجا عن جهل. وفي كلا الحالين ،فان المدرسة ،وحتى الجامعة الجزائرية، عانت وتعاني من هذا الخلط المربك الى حدّ الضياع. لكن الحكومة الجزائرية ومؤسساتها المعنية ،لم تول اهتماما لهذا الحدث الجلل، فاستمر الغموض والإرباك، واستفحلت الاخطاء اللغوية على كل المستويات.
رغم صدور قاموس "دودن" الالماني في اواخر القرن التاسع عشر ،وهو عبارة عن موسوعة تضم العديد من المجلّدات التي تعنى بقواعد اللغة الالمانية ،فان اختلافات عديدة ظهرت حول الموضوع ،بين الشعوب والجماعات الناطقة بذات اللغة ،فكان لا بدّ من التصدي لها حفاظا على الموروث الثقافي الجرماني واستمرار تماسكه وتطوره. وعلى هذا تشكّلت في عام 1901، هيئة تحديد القاموس المرجعي للغة الالمانية من خبراء في علوم اللغة الالمانية وقواعدها ، لتوحيد ادوات ضبطها. وبعد اجيال متعاقبة ،وتحديدا في العام 1996، انتهت الهيئة الى وضع ثمرة اعمالها بين ايدي الهيئات الرسمية في المانيا ،والنمسا ،وسويسرا ،وإمارة ليشتنشتاين ،التي بادرت بدورها الى لقاء جامع ،حيث جرى التوقيع الرسمي على مشروع اصلاح ومرجعية اللغة الالمانية، والذي اصبح نافذا وموجبا منذ تلك اللحظة من العام 1998. وبناء عليه دخلت اللغة الالمانية الالفية الثالثة ،وهي موحدة الاصول والقواعد والادوات.
ما حدث للغة الالمانية في العصر الحديث ،شهدته اللغة الفرنسية قبل قرون خلت ،فكانت فرنسا السبّاقة الى استحداث "الاكاديمية" عام 1635 ،والتي تولت اصدار اول قاموس جامع ،وواكبت على القيام بدورها باعتبارها قلعة اللغة الفرنسية ،وراعية جهابذتها من لغويين ،ومفكرين وكتّاب ملهمين. لكن المنافسة الشرسة التي برزت عبر الانتشار القوي للغة الانكليزية ،دفع بالدولة الفرنسية الى التدخّل المباشر في الشأن اللغوي ،قصد تليين القواعد الاملائية والتخفيف من سطوة قواعد النحو والصرف ،برضا وموافقة "الاكاديمية" حينا ،ومعارضتها احيانا. والحديث يطول في هذا المجال، وتكفي الاشارة فقط الى ان فرنسا اضافت الى ترسانة وآليات تطوير لغتها ،وتحديث قاموسها ،وتوسيع مصطلحاتها، العديد من الهيئات المختصة في مختلف الميادين الصناعية ،والتجارية ،والديبلوماسية ،وغيرها، وكلها تعمل على ترقية اللغة الفرنسية ،وإعدادها وتسليحها بالشكل الذي يتيح لها الصمود والتصدي ،لزحف بقية اللغات الحية ،وخاصة اللغة الانكليزية.
كل المطلوب من الجزائر وحكومتها، بمواجهة الارباك اللغوي الحاصل في البلاد ،هو امتلاك القناعة ،بان اللغة كائن حي ،يحتاج الى عناية متواصلة لكي ينمو ويصح ويؤدي دوره المنوط به ،وقد حان الحين لكي نتوقف عن الاعتقاد ،بان اللغة متوفرة بشكل تلقائي ،ويمكن استيرادها عند الحاجة كما نستورد الموز الطازج والقوانين الجاهزة. لكن ،قبل هذا وذاك ،يجب التوقف عن التوظيف السياسي ،لأهم دعائم هويتنا الوطنية ،واهم جواهر موروثنا الثقافي الوطني: العربية، الامازيغية ،وكل لهجة قادرة على رفد فضائنا الابداعي والثقافي ،حاضرا ومستقبلا.
#محمد_دامو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟