|
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 6
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 5067 - 2016 / 2 / 6 - 10:57
المحور:
الادب والفن
ب) ارتقاء الجمال الجديد بدأ ميلاد الجمال الجديد في اللحظة التي دخل فيها الكفاح من أجل التحرر الوطني مرحلته الثانية، بمعنى أن الكفاح من أجل الاستقلال قد أصبح كفاحًا واعيًا يرمي إلى التقدم الاجتماعي، بغض النظر مؤقتًا عن العقبات الهيكلية والتدمير السلطوي الذي أعقب ذلك. في هذه المرحلة الثانية، ظهر عامل هام في الأدب العربي، ألا وهو الجمال الجديد، متمثلاً بأبطال الأعمال الشعرية والروائية التي تطرح نفسها أكثر فأكثر وبصفة نامية كأبطال تشارك بشكل مباشر في الصراع ضد العلاقات الاجتماعية القائمة، وفي الحُلم الجماعي، ولكن على الخصوص في الرمز كعلاقة طبيعية بين الدال والمدلول. وينعكس قبل كل شيء، من خلال هذا العامل الجديد، التطور الجنيني في النظام اللغوي بصفة خاصة، وفي النظام العربي بصفة عامة. إذ بعد أن كسبت البلدان العربية استقلالها السياسي، بدأت بإزالة بواقي الاستعمار، وبناء مجتمع جديد، قبل أن تحوّل السلطة كل شيء إلى صالحها، وتهدم هذا المجتمع. إنه الموقف اللامعقول ذاته من اعتباطية الرمز وتعسفه لدى دو سوسير في كل نظام لغوي قائم في مهب التحولات، وقد وصف جمال عبد الناصر هذه التحولات بهذه الكلمات الطموحة: "ثورة عربية حقيقية ولدت في عقولكم ومشاعركم وقلوبكم" (23) قبل أن يدمر ورثته كل تحول، وتنهض على أنقاضه حفنة سلطوية لا ترى من قانون آخر غير مصلحتها. لم تبق تلك الأحداث الكبرى ذات المرامي التاريخية، والتي وجدت انعكاسًا لها في الأدب العربي، رمزًا لمنطلق مناهض للهيمنة الخارجية واللاعدالة الاجتماعية، هذه الأحداث هي: ثورة يوليو في مصر، حرب التحرير الجزائرية، الاعتداء الثلاثي على السويس، ثورة تموز في العراق، كفاح الشعوب العربية ضد العدوان الإسرائيلي، عراقة الشعوب العربية وأصالتها بعيدًا عن كل أدلجة وكل استغلال وكل بلطجة، فازداد الرمز تعقيدًا. يجب علينا تأكيد أن الرمز في بدايته التبسيطية قد وجد مجاله في الأدب، أكثر فأكثر، وبصفة متنامية، كعملية متطورة –على الرغم من النكبات وخيبات الأمل وأحيانًا بسببها- ترمي مضمونًا إلى التحول في العلاقات الاجتماعية القائمة، وبناء الفعل الأدبي، فالعرض الوصفي لطريقة ساكنة في الحياة، هذا العرض الذي كان الإمكانية الوحيدة لوجود ظاهرة أدبية، أخلى مكانه لما يمثله الفعل الأدبي، والذي يوجد في مقدمته البطل الجديد تحت بعض رموزه اللغوية. ومن هذه الناحية، نرى كما يرى رولان بارت، فلا نربط الزمن الجديد بالبطل الجديد، لأن الزمن ليس ملكًا للخطاب، ولا تعرف الحكاية واللغة غير زمن أعراضي (متعلق بأعراض مرض)، فالزمن "الحقيقي" وهم مرجعي. ما هي خواص البطل الجديد؟ ما هي خواص الرمز اللغوي الذي يمثله؟ مثل كل تثمين سياسي-معنوي للبطل الأدبي بالنسبة إلى تمثيله للصورة الإنسانية، المشروطة اجتماعيًا، فإن صورته تخضع أيضًا لما طرأ على الأدب العربي في العقود الأخيرة من تغيير مرتبط بعلاقاته الاجتماعية. وتمتد سلسلة خصائص البطل إلى الباحث الذي يتنبأ حدسيًا بأبعاده الاجتماعية، وخصائصه المعنوية المميزة والمحددة، إلى جانب التمثيلية منها، تحت أشكال فردية تخيلية، تبتعد أو تقترب من محورها "التعسفي"، ونقصد بذلك علاقة الرمز بالمرموز، من خلال بحثه عن طريقةِ تَشَكُّلِهِ في كل عمل أدبي. هنا، نريد أن نقدم مثالين من هذا البطل الجديد في الأدب العربي: المثال الأول عن الكفاح من أجل التحرر والاستقلال في الجزائر، حيث تتحرك الشخصيات بصفتها التمثيلية، محققة بعضًا من مطامحها في القتال ضد الاستعمار والظلم الاجتماعي. لقد جرى تقديم المقاتل في الأدب العربي الحديث ضمن حالات جِد مختلفة ذات قيمة دلالية بصفته مواطنًا مضطرمًا، فأظهر الكاتب الجزائري محمد ديب في روايته "صيف أفريقي" الفلاح "مرحوم" كبطل يخاطر بنفسه لتمويل المقاتلين في الجبال، جالبًا لهم الطعام الضروري، وبهذه اللفتة الرمزية العاطفية يعبر عن دعمه للكفاح المسلح ضد السيطرة الاستعمارية الفرنسية. (24) لكن الرمز لا يتم بهذه الميكانيكية، فالقاص مطارد بهم "التجميل"، في عمل أدبي لا في عمل سياسي، وهو يشير، حسب عالم اللسانيات كلود برنار، إلى صيرورة هذا التجميل: إذا قال إن البطل يخاطر بنفسه، فهذا التأكيد الذي يستند إلى المضمون دون تحديد كيف لا يساعدنا على تمييز بنيته. بالمقابل، إذا قال إن البطل كذا وكذا أمكننا الاعتماد على بيان الوقائع والأسباب الداخلية لهذه الوقائع لنفرق بين أنواع التجميل، فكلما دخلت القصة في التفاصيل أكثر، كلما كان التجميل في تنوعه أكثر، وكلما كان الرمز في عرضه أغنى. المثال الثاني عن معركة الاستقلال، غير مباشر هذه المرة، إذ نلتقي أحيانًا، بين الأمثلة العديدة للبطل الجديد، بنماذج ليست للوهلة الأولى "نجعية"، لكنها تمارس نفوذًا كبيرًا بفكرها وفعلها على من هم حولها. يقدم لنا الكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه هذا النموذج في قصته "الجراد"، قصة نشرها قبل تغيير النظام، والذي يرسم فيها صورة عامل زراعي بسيط، بشكل اعتباطي في البداية، حتى يغدو، تحت ترميز متنام، بطلاً شعبيًا، عندما يجند قرية بأكملها لمواجهة خطر سرب من الجراد، ثم لا يلبث أن يغدو مثالاً أعلى، لذهنه الحاد، وقيمته المكتسبة، وفعله المباشر، من خلال وظيفته الدلالية: إذ يقدم اقتراحًا عمليًا لمواجهة هذه الكارثة الطبيعية، والتي حسبما يبدو لا يمكن تفاديها، وقد أدى ذلك إلى مهاجمة سلطة الشيخ الجاهل الذي لا يعرف كيف يحمي قريته من الجراد. لقد حاول هذا الشيخ أن يفرض على القرية اقتراحات لا فائدة منها إطلاقًا، مثل زيارة ضريح أحد الأولياء، أو الدعاء، أو إشعال النار، وضرب الطبول حولها، بينما يُبدي الشاب العامل فكرة حقًا مبتكرة، وحتى ذلك الوقت ليست متصورة، تزعزع سلطة القدامى بقوة، وتعرضهم للسخرية عندما يقول: " إن فكرتي هي هذه... أن نأكل الجراد بدل أن يأكلنا." (25) حقًا لا تحول هذه الفكرة البسيطة العامل الزراعي الشاب إلى "بطل" بالمعنى الواسع المنسوب إلى المجتمع، لكنها تمثل، تحت شكل رمزي لقصة، شيئًا لم نره أبدًا إلى ذلك الحين: الإطاحة بالمؤسسات الدَّوْلية (من دولة) غير الديمقراطية والدينية اللاتنويرية والتصورات التقليدية، كل هذه المدلولات التي لا تتوافق مع دوالها. وليس هذا كل شيء، إذ لا تبقى الفكرة عند حدود الفكر، بل توضع على المحك، وتتطور بصفتها واقعًا اجتماعيًا جديدًا. لا يتحقق هذا التطور من خلال الطرق التقليدية، ولكن بعون أناس بسطاء، سكان القرية: الأطفال والشيوخ والنساء والرجال الذين يخرجون تحت قيادة الشاب العامل الزراعي إلى الحقول كي يجمعوا الجراد المشلول في استرخائه بسبب الليل. وهكذا ينجح الفلاحون بإنقاذ القرية من الكارثة، ويغدو الجراد غذاء وفيرًا للسكان. لقد أصبحت فكرة العامل الزراعي حقيقة واقعة، و "البطل" مثالاً لم يحترمه وسطه لشجاعته ومواجهته التصورات السلطوية فقط، بل ولثباته كذلك عند العمل من أجل رغد العيش الجماعي. إضافة إلى أن احترام البطل الفردي هذا يجري التعبير عنه دلاليًا في الفعل/بالفعل الجماعي، فعل أهل القرية، ويمكننا أن نقول سياقيًا إن الناس البسطاء هم الأبطال الحقيقيون لهذه الواقعة الاستثنائية/العادية في الوقت نفسه، إنها السمة الوظيفية للقصة. ولننه لمحتنا الوجيزة عن الجمال العربي الجديد، نلخص هنا ما امتاز به من ملامح تكمن فيما يعكسه من تقدم اجتماعي في الواقع، وما يعطينا بالتالي من جواب حول واقعية الأبطال. لنلاحظ أولاً أن هؤلاء "الأبطال" يدافعون عن التقدم الاجتماعي، ويقاتلون ضد كل أشكال القمع، وخاصة القمع القومي الذي يقوده الاستعمار، وهم يعملون بوعي أو بدون وعي لمصلحة أغلبية الشعب، وهذا ما يُظهره اختيار "شخصيات شعبية" للأبطال القصصيين (غالبًا ما تكون ممثلة للفلاحين). ولنلاحظ ثانيًا أن فعل "البطل" يرمي إلى تحولات العلاقات الاجتماعية، وذلك من خلال الفعل العام للفاعل (دومًا البطل)، وهذا الفعل حسب بارت يأخذ معناه من واقع أنه مروي، وأنه معهود به إلى خطاب له كوده الخاص به. وعلى الرغم من أن الغايات والوسائل من أجل تحقيق هذه الغايات غالبًا ما تبدو مضطربة، إلا أن صفات "الثوري" تمثل الشرط الضروري لقطع كل علاقة بالتقاليد البائدة لطريقة تأملية في التفكير ارتبطت بالتصورات الاجتماعية الكاذبة. ونحن نرى من خلال القصة الليبية على الخصوص أن الأفكار الجديدة تتغلب على سلطة التصورات القديمة. أما العنصر الثالث الذي نود الإشارة إليه، فهو أن الفاعل الجديد، البطل الجديد، يعمل ويتحرك بصفته إنسانًا فعالاً داخل المسرح الاجتماعي، إنه يحمل مصيره بملء يديه وليس شيئًا أصم دون إرادة خاضعًا للمسلمات اليقينية. هنا، يصبح الإنسان خالقًا لنفسه، ليس بالشكل التعسفي لإيديولوجيا الكتابة، فكل قصة قصصية، كل رواية روائية، تحتوي –حسب عالم اللسانيات جيرار جينيت- على تمثيلات للأحداث والأفعال تشكل السرد القصصي، السرد الروائي، من ناحية، ومن ناحية ثانية تمثيلات الأشياء والشخصيات، والتي هي ما ندعوه اليوم بالوصف القصصي، الوصف الروائي.
يتبع ج) ميلاد أدب فلسطيني جديد
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 5
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 4
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 3
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 2
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 1
-
رعب - المشاهد الكاملة
-
رعب - المشهد العاشر
-
رعب - المشهد التاسع
-
رعب - المشهد الثامن
-
رعب - المشهد السابع
-
رعب - المشهد السادس
-
رعب - المشهد الخامس
-
رعب - المشهد الرابع
-
رعب - المشهد الثالث
-
رعب - المشهد الثاني
-
رعب - المشهد الأول
-
إرهابيون السيناريوهات الكاملة
-
إرهابيون - بكين - سيناريو10
-
إرهابيون - واشنطن - سيناريو9
-
إرهابيون - ستوكهولم - سيناريو8
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|