|
الجنون: من الحفر الايتمولوجي إلى الأنساق التّحويليّة.
محرز راشدي
الحوار المتمدن-العدد: 5066 - 2016 / 2 / 5 - 00:29
المحور:
الادب والفن
لقد اخترنا لغاية تفكيك مفهوم الجنون الرّجوع إلى المادّة المعجميّة أوّلًا، ثمّ المدوّنة النصّية القديمة ثانيًا، لننتقل لاحقًا إلى تقصّي دلالاته في علاقة بالحداثة عمومًا والرّومنطيقيّة تحديدا. ففي مادّة جَنَنَ : جَنَّ الشّيء يجنّه جنّا: ستره. وكلّ شيء سُتِر عنك فقد جنّ عنك. وجُنَّ النَّبات جُنُوناَ غَلُظ واِكتهل. وجَنَّ اللَّيْلُ وَجُنُونه وجَناَنُه: شدّة ظلمته واِدلهمامه، ووُصفت النّاقة بالجنون لنشاطها وسرعتها، فقيل في ذلك: مثل النّعامّة كانت، وهي سائمة، ҉-;- أذناءَ حتّى زهاها الحينُ والجُنُنُ والمقصود بالجنن الجنون محذوفا منه الواو. وقال القطاميّ حين وصف إفراط ناقته في المرح والنّشاط: يَتْبَعْنَ سَامِيَةَ العَيْنَيْنِ تَحْسَبُهَا ҉-;- مَجْنُونَةً أَوْ تَرَى مَا لاَ تَرَى الإِبِلُ
وأُلحق الجنون بالإنسان فإذا به « عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعا»، إنّ «المجنون أصل إشارته فاسدٌ، فهو يختار ما لا يُختار» . وإذا كان من مرادف مناسب في هذا السّياق فإنّه يكون على النّحو الآتي « المجنون: المصروع » . ما نستنتجه ممّا سبق أنّ الجنون صفة مرتحلة من جدول طبيعي (اللّيل والنّبات) إلى جدول حيواني (النّاقة/الإبل) إلى جدول إنسانيّ. والملاحظ من خلال اندراج "الجنون" في سياقات متباينة هو احتفاظه بسمة دلاليّة جامعة مفادها تجاوز المجنون الحدّ في إطار ملمح من ملامحه الرّئيسة أو عنصر من عناصره التّكوينيّة. وإذا كان الجنون بإجمال حاملا لشحنة إيجابيّة، ومظهرا من مظاهر الاكتمال والنّضج وبلوغ الغاية، فإنّه مع الإنسان سيقع ترشيحه لتأدية دلالة سالبة، معياريّة تمهّد الطّريق إلى الإقصاء والتّهميش والنّفي بدعوى العدول عن السّوية والزّيغ عن المعقوليّة والسّقوط في الغلط والخطل والعطالة الفكريّة، وبالتّالي سيمثّل الجنون دائرة موازية لدائرة المعقول، وستتحكّم هذه الثّنائية الحدّية في تاريخ الفكر البشري المنتصر دون شروط للعقل والنّظام. ولقد راج في جميع الثّقافات قديما الإقرار بوجود كائنات طيفيّة تنازع الإنسان وجوده، بل تؤثّر فيه، وترشده إلى عالم الغيب، هذه الكائنات هي الجنّ بامتياز الّتي لها القدرة على إحداث الجنون. ولا يغيب على العارفين أنّ هذا التّخريج الغائيّ ذا الطّابع الماورائي يتناغم رأسا مع نمط المعارف في القديم المسلّمة بتداخل مراتب الموجودات وبتدخّل خارق في المصير الأرضي. وما هو جدير بالاهتمام أنّ الأنبياء في الدّيانات الكبرى الثّلاث قد كانوا تحت وطأة الاتّهام بالجنون، وهو اتّهام يمكن أن نفسّره في نقاط ثلاث: أوّلًا: كثيرا ما يتقنّع النّبيّ بالاستمرارية ليمرّر مشروع القطيعة مع الموجود من قناعات وتعاليم وتشريعات ذلك أنّ «النّبيّ هو المتمرّد بامتياز» . بمعنى أنّ النّبوّة ضدّ النّسق بل تمعن في تدميره وفضحه، وفعلها ذلك مؤشّر واضح على محاربة الذّاكرة الجماعيّة، ومناهضة للرّصيد الرّمزي المشترك، وتفكيك للهويّة المصاغة، والتّبشير بهويّة بديلة، وبإنسان مغاير. فالحركة النّبويّة- في هذا الصّدد- عاصفة هوجاء مقوّضة كلّ الأركان المتآكلة، ومتّجهة نحو الأقصى، فتعصف بكلّ من يقف في طريقها. وهذا التّفسير متاخم لمدلول الجنون الأصيل باعتباره الشّدّة والإفراط في القيام بالفعل المتّجه نحو الاكتمال والكمال. ثانيا: أنّ كيان النّبيّ ليس مساحة للنّقاء والصّفاء فحسب، وإنّما مساحة للمرضي والانفعالي، ليس من مدخل علم النّفس بل من وجهة نظر ميتافيزيقيّة تعتقد أنّ النّبيّ ذات مملوكة أو بها مسّ، وهي من ثمّ منقادة لحكم غيرها، ومعدومة القرار والاختيار. وقد ساد الاعتقاد أنّ «الأنبياء الممسوسين لا يفترقون مطلقا عن المجانين» . ويبدو أنّ الرّوح الشّيطانيّة في هذا المستوى هي الفاعلة في الذّات الفرديّة أو الجماعيّة تلويثا وتضليلا وتنجيسا. ومن ثمّ يكون الجنون رديفا للصّرع ، غايته الإنهاك والإتلاف، وهو في النّهاية أمارة شيطانيّة . ثالثا: تنخرط النّبوّة في طور أشبه بالانخطاف والغياب عن عالم الواقع، حتّى لكأنّها لحظة توحّد بالمطلق قصد الانقذاف في حضرة الكلّي، وذلك لا يتأتّى إلاّ بانطراح الإنسان في حيّز الصّفاء الرّوحي متحلّلا من كلّ نير مادّي يجذبه إلى الأسفل وحينئذ يستوي الجنون « بمثابة عاصفة من الانفعال والعنف والغرابة، بحيث يعجز العقل أن يصمد أمامها أو أن ينتصر عليها، أو أن يجد لها التّفسير الصّحيح» . والحالة الجنونيّة هذه هي عبارة عن وجد صوفيّ بلغ صاحبه قمّة النّشوة والانتشاء، بمقتضاه يدخل في غيبوبة تميت فيه الثّقل الأرضي حتّى تتحرّر نفسه ويمكنها بلوغ الحقيقة. ويكون الجنون في هذا المستوى قاسما مشتركا بين الأنبياء والكهنة والشّعراء. فالأنبياء إنّما هم بشر وقع انتدابهم من الأعلى، ولم يكن أمرهم بأيديهم. بل إنّ النّبيّ ما كان ليكون نبيّا لولا امتثاله لقوّة متعالية . ومن ثمّ ستلوح النّبوّة تشريفا للصّفيّ، ولكنّها من ناحية أخرى ثقل ووزر ينهك كاهل النّبيّ، بل هتك ورعب واغتصاب (Rapt) لذاته . ومثل هذه الوضعيّة تبعث على الذّعر والفزع، خاصّة أنّها وضعيّة انكشاف وتجلّ لما هو محجّب ومختوم ومحرّم، وليس من سبيل للمكاشفة سوى طرح الجانب الآدمي المقيت وإن استدعى ذلك دوارا عنيفا وقدرا من الهيجان والانسحاب من المحبس الطّيني وما يرمز إليه من غواية وضلالة. وفي هذا المضمار، يمكننا أن نعرّج على حالة الكاهن وهو يضطلع بالدّور الطّبيعي المنوط بعهدته إذ« يكون الكاهن في أثناء تكهّنه في غيبوبة أو في شبه غيبوبة في الغالب، ذلك بأنّه متّصل في هذه الأثناء بعالم مجهد صعب لا يتحمّله كلّ إنساني،...» ، كما أنّ العمليّة الإبداعيّة، والشعريّة تدقيقا، في الحضارتين اليونانيّة والعربيّة، وربّما غيرهما، ونظرا لما أبانت عنه من إعجاز أسلوبيّ ودلاليّ، قد تمّت أسطرتها وإخراجها من منطقة الإنساني وإدراجها ضمن منطق مفارق لا سبيل إلى البرهنة عليه موضوعيّا. فقد زعم العرب «أنّ مع كلّ فحل من الشّعراء شيطانا يقول ذلك الفحل على لسانه الشّعر» بل أكثر من ذلك « فإنّهم يزعمون أنّ كلاب الجنّ هم الشّعراء » . ومن زاوية مشابهة تموقع الشّاعر اليوناني موقعا متميّزا، واُعتبر صفيّا من الأصفياء الأبرار، الّذين أنعمت عليهم ربّات الشّعر بملكة الوحي الشّعري. ومن ثمّ فإنّ ما يأتيه من نظم لا يمكن أن يرتقي إلى درجته أيّ مسعى في القول البشري، وتباعًا ليس في الإمكان أن يتسرّب إليه شكّ أو ظنّ. وذلك لا يحصل إلاّ إذا ارتبط متينا بالجنون المقدّس أو الجنون الإلهي مثلما أقرّه أفلاطون، فهو« أوّل من ربط الإلهام الشّعري بالجنون أو الهوس mania)) » . ممّا تقدّم يمكننا أن نخلص إلى أنّ الجنون قد اُستدلّ عليه قديما استدلالًا غيبيًّا، فعُزي إلى كائنات لا مرئيّة (الجنّ) ما إن تتلبّس بالكائن البشريّ حتّى تلحقه بطائفة كشّافي المجهول. فـ« إذا ألف الجنّي إنسانا وتعطّف عليه، وخبّره ببعض الأخبار، وجد حسّه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئيّ من الجنّ » . ولعلّ نعت النّبيّ محمّد بالشّاعر لم يكن على سبيل الازدراء والتّهكّم، وإنّما لاعتقاد راسخ في ذهنيّة قرشيّة جماعها أنّ الشّاعر باسط نفوذه على قوى خفيّة- شياطين أو توابع- هي مصدر الممارسة الشّعريّة . وعموما، قد مثّل الجنون مفتاحا من مفاتيح الاطّلاع على المعرفة الأسراريّة ومأتى من مآتي القول البديع، بل« إنّ قدماء اليونان ربطوا بين الجنون والنّبوءة » ، ولذلك لا يمكن أن نعتبر وضعيّة الجنون حرجة أو متأزّمة حتّى في حال وقع طرد الشّعراء من مدينة أفلاطون(Platon) الفاضلة بدعوى أنّ أقاويلهم الشعريّة بعيدة عن الحقيقة. فالجنون وإن شرّح- غالبا- من منظور ميتافيزيقي فإنّه حظي بحقّه في الوجود والحضور محاطا بدارة من القداسة، وكما قالت شوشان فلمان« مفهوم الجنون في العصور الوسطى، مفهوم كوني دراميّ تراجيديّ...» ، ورغم ذلك فإنّ الحداثة بصفة عامّة ستكرّس منظورا وحيدا تطلّ منه على العالم والأشياء هو منظور العقل محدّدا للذّات الإنسانيّة. وذلك كان تأسيسا على الطّرح الدّيكارتي الّذي دشّن مركزيّة الذّات بوصفها جوهرا مفكّرا، معتبرا التّفكير أرضًا صلبةً يتأسّس عليها الوجود الإنساني وماعدا ذلك في حكم المعدوم. ولعلّ كتاب ميشال فوكو ) Foucault Michel ( "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" أفضل دليل على سقوط الثّقافة الغربيّة في التّمركز والاحتفاء بتاريخ العقل فيما سكتت عن الجنون وأهملت القطاع الهامشي. وفي تعليقه على الكوجيتو الدّيكارتي ) cartésien Cogito ( ذهب إلى أنّ « ديكارت في تأمّله الأوّل، قد لفظ الجنون خارج حدود الثّقافة وانحدر به إلى مستوى الصّمت» بمعنى أنّ الكوجيتو نسيان لتاريخ الجنون وتدشين لحقبة العقل، واستتباعا فإنّه يمثّل تعاميا عن الآثار الفنّية والأدبيّة والثّقافيّة المنتسبة إلى الجنون. وفي المحصّلة «بات تاريخ الثقافة الغربية تاريخ فتوحات العقل وتاريخ إمبريالية العقل، ولذلك فهو تاريخ قمع وطمس الجنون » إذ أنّ الحيف الّذي مورس على الجنون ثمّ نفيه من منطقة الوجود إلى فراغ اللاّوجود ليسا إلاّ مدخلا إلى محو لغته وتبكيت صوته. وحينئذ، ليس من المغالاة أن يقع اعتبار الجنون الكلاسيكي منتميا قهرا إلى مناطق الصّمت لأنّه لا وجود لأدب في العصر الكلاسيكي خاصّ بالجنون . وإذا كانت وضعيّة الجنون في العصر الكلاسيكي حرجة إلى هذا الحدّ، فإنّ طبّ الأمراض العقليّة سيكون صفحة مضافة إلى سرديّات الإكراه والإخضاع والإقصاء المتبلورة في سياق الحتميّة الموضوعيّة المضمّخة بارتكاس الجنون وخنق ضجّته. وإذا كان في السّابق منطق الإقصاء هو صاحب الغلبة والمسلك السّالك إلى دحر الجنون، فإنّ العقلانيّة العلميّة بمناهجها الوضعيّة ستعمل على إنتاج خطاب مفهومي بخصوص الجنون قصد تدجينه واحتوائه من جهة أنّه مرض عقلي. والجليّ أنّ مفهوم المرض العقلي ( Maladie mentale) لا يغطّي مفهوم الجنون بل إنّ فوكو ذاته وهو يؤرّخ لأركيولوجيا الصّمت ساقط في المطبّ عينه، لأنّه إذ يقارب مفهوم الجنون إنّما ينشئ بشأنه منطوقا متلائما مع العقل وسلامة المنطق، تجلّيه الأبين ماثل في حبك الجملة السّليمة نحويّا، الحاملة للمدلول السّوي والضّامنة له، وعلى حدّ تعبير جاك داريدا ) Derrida Jacques ( «أيّة فلسفة للجنون هي فلسفة مستحيلة، ذلك أنّ الجنون في جوهره صمت، ولا يمكن أن يقال في لغة العقل logos » والرّأي عنده أنّ السّبيل الأوحد لإعادة صوت الجنون هو لغة المتخيّل أو متخيّل اللّغة. ويقول تعليقا على "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي":« إنّ صمت الجنون لم يقل ولا يمكن أن يقال في عقل هذا الكتاب ، بل يستدرج بكيفيّة مخاتلة [....] في وجدان – وأنا أشغّل هذه الكلمة في مدلولها الأمثل – هذا الكتاب » . ولا مراء أنّ المجاز والوجدان ولغة المتخيّل أركان ركينة في الأدب الّذي يحضر خفية ملاذا للجنون. وليس من حجّة أمتن على جدارة الأدب وجدواه في هذا المضمار من أنّ فوكو ذاته لم يجد أفضل من الأدب شاهدا على الجنون، يقول:« منذ نهاية ق 18 لم تعد حياة اللاّعقل تكشف عن نفسها إلاّ من خلال التّجسّد في أعمال كأعمال هولدرلين ونير فال ونيتشه وأرتو ...» ، وفي هذا المقام يتقدّم الأدب خطابا وسطا بين الفكر والجنون، في كنفه ينطلق صوت اللاّعقل مستعيدا حقّه في التّعبير، بل سيكون إبّان الفترة الرّومنطيقيّة في أدب القرن التّاسع عشر "انفجارا غنائيّا" ( É-;-clatement lyrique) تناقضا مع المرسوم الدّيكارتي القاضي بـ " استحالة غنائية اللاّعقل" . وإضافة إلى أنّ الجنون في سياق الحداثة قد أحدث خلخلة في جدار العقلانيّة الّتي تعاملت مع موضوعاتها ببرودة قصوى، فإنّه ضمن التّجربة الشّعريّة الرّومنطيقيّة لم يفهم على أنّه تعطّل للعقل واختلال فيه فقط، وإنّما الملكة الّتي تتعطّل تجعل ملكات أخرى تتحرّر وتشتغل. ويبدو أنّ تعالقا عضويّا بين إصابة العقل بالاختلال ونشاط ملكة الخيال ومثلما يقول على محمود طه : (الخفيف) فَلَكَمْ جَاءَ بِالخَيَــــالِ نَبِيٌّ ҉-;- وَلَكَمْ جُنَّ بِالحَقِيقَةِ شَاعِرْ. فالجنون الرّومنطيقي من هذه النّاحية تطهّر من التّعاليم الزّائفة والشّرائع الرّاكدة، وتخفّف من المواثيق المشلّة لحركة الشّاعر المندفعة صوب اليوتوبي . وهو بذلك تشوّف إلى معرفة سامية ما بعد عقليّة لأنّ العقل عقال يعمل على التّنظيم والاستتباب. وعلى حدّ قول إيليا أبي ماضي في قصيدة "المجنون": (الرّجز) إِنْ كاَنَ بِي شَوقٌ إِلَى وِصَالِ ҉-;- فَإِنَّمَا شَوْقِي إِلَى خَيَالِي وقد حبّر جبران خليل جبران "يوحنّا المجنون" و"المجنون" إيمانا منه بأنّ الجنون مطرقة مسلّطة على جميع اللّوائح الّتي استنّها الحكماء قصد التّحكّم في مصائر العقلاء؛ ويعلن في هذا الصّدد:« لا يكسر الشّرائع البشريّة إلاّ اثنان: المجنون والعبقريّ، وهما أقرب النّاس إلى قلب الله» . فإذا كان العاقل هو المروّض حتّى يكون طوع الأنيار المهدّة لقوامه الإنساني، فإنّ المجنون هو الإنسان الآبق، الكافر والمجدّف. أي من اجترأ على أن يطرح عن كاهله الأثقال البالية الّتي قدّستها القطعان البشريّة المستقيلة. ومن ثمّ يؤدّي الجنون فعل الهجوم الغاشم على البنى المتصنّمة والإمعان في فعل مقاطعة الموجود، وهذا المدلول فيه مصالحة مع مدلوله الأصلي بوصفه حركة عنيفة وقصَويّة وذاتيّة. كما يتقاطع مع الفلسفة النّيتشوية الّتي اختارت نهج الحفر تحت الأنساق وفضح ريائها. فـ« خير للإنسان أن يكون مجنونا في عين نفسه من أن يكون حكيما في نظر النّاس » ، وقد لاقى الأنبياء صنوفا من التّنكيل والعذاب، وطالتهم تهمة الجنون لأنّهم أصحاب مشاريع ضديدة ومتطرّفون في الدّفاع عنها، وفي المقابل« لم يعمل البشر إلاّ بمقتضى قول القائل "خير الأمور الوسط" ولذلك تراهم يقتلون المجرمين والأنبياء» . وعلى شاكلة النّبيّ الّذي كثيرا ما تخيّر الابتعاد عن صخب الجموع الخلوة من المعنى والتّحنّث في الفضاءات الهادئة لتلقّي الوحي الإلهي، ارتأى الشّاعر الرّومنطيقي المجنون الانفصال عن فضاءات الضّوضاء حيث يقيم الزّيف وينتعش الخواء لأنّ بيته الأصيل هو العزلة فالشّاعر المنفصل(Séparé) هو من قلب ظهر المجنّ للجماهير المتخاذلة، والشّاعر المنعزل(Isolé) هو من كان مريدا لذاته عازما على السّفر في أعماقها حيث «السّكون المتنصّت» ، وعلى عكس ما يجد المجنون في إقامته بين أهله من وحدة وغربة، إنّه في العزلة حيث الصّفاء والسّكون يحقّق الألفة ويعثر على كينونته الضّائعة في أسواق السّمسرة بكلّ ماهو إنساني. وعلى هذا النّحو يستقيم الجنون– مثلما أدرك مجنون جبران- إلقاء لسلاسل الرّقّ وتحريرا للكيان من زبانية الاستعباد. ذلك أنّ الحرّية شرط مكين للخلق والإبداع ومن ثمّ– والعبارة لبلانش-« يحسن الإصغاء إلى نداء الله » ، وليست الذّات الإلهيّة إلاّ الذّات الشّاعرة في عريها الخالص وقد دوّت فيها هواتف الحقّ ولمعت لآلئ السّرّ، وانفلقت جداول الجنون.
#محرز_راشدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يوتوبيا الشّعر العربي الرّومنطيقيّ أو النّبيّ الطّائر
-
الشّعر والسّحر: كيمياء الشّعر
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|