|
ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 34
ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن-العدد: 5062 - 2016 / 2 / 1 - 15:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 34 ضياء الشكرجي [email protected] www.nasmaa.org المنتدى الإسلامي الديمقراطي العراقي 2002 – 2/4 أواصل ذكر "أسباب تحفظ بعض الإسلاميين على الديمقراطية"، كما كتبته عام 1993 في مقالتي الأولى عن الديمقراطية، وأعدت ذكرها في ما أطلقته عام 2002، أي قبل السقوط بحوالي السنة مما أسميته "المنتدى الإسلامي الديمقراطي العراقي". وأرجو الالتفات إلى أن لغتي، وطريقة تفكيري، وأسلوب تعبيري؛ كل ذلك يمثل تلك المرحلة، حيث كنت أعتبر نفسي ديمقراطيا-إسلاميا، والذي تخليت عنه، بعد حسم تحولي العلماني عام 2006، ومع هذا ورغم اشتمال النص على أدبيات ومفردات ترجع للمرحلة الإسلامية من حياتي السياسية، يجد القارئ المدقق النزعة العلمانية كامنة بين طيات إسلاميتي آنذاك، إلى أن فرضت العلمانية نفسها، لأنها حسبما اكتشفت لاحقا، تنسجم أكثر مع طبيعة شخصيتي، لثلاثة أسباب رئيسة، هي عشقي للديمقراطية، وأهمية قيمة الحرية عندي، واعتمادي للنسبية. والآن نواصل مع نص مشروع المنتدى آنذاك عام 2002، حيث كنت كمتشرع آنذاك أحاول أن أؤسس للأرضية الشرعية للديمقراطية، كي يقبلها الإسلاميون. ووضعت ملاحظاتي المابعدية بين [مضلعين]. الإشكال الشرعي إذا كان اعتقاد البعض منا [أعني الإسلاميين عندما كنت منهم] بوجود إشكال شرعي على الديمقراطية، كنظام للحكم، لما يستبطنه هذا النظام من مفهوم تكون الحاكمية فيه للشعب، بدل أن تكون لله سبحانه وتعالى، كما تنص الشريعة الإسلامية، فيجاب على ذلك أن تكليف الإسلاميين يكون في دعوة الأمة إلى الإسلام، وتوعيتها [وأقول اليوم تضليلها باستثمار عواطفها الدينية والمذهبية] لتختار (الإسلام) برنامجا سياسيا، وتختار (الإسلاميين) مسؤولين لإدارة دفة الحكم في البلاد، ليطبقوا برنامجهم السياسي الإسلامي. فإذا ما اختار الشعب غيرهم، فلا تخلو القضية من أحد ثلاثة أمور هي: 1. فشل الإسلاميين في أساليبهم، فعليهم إعادة النظر في الأساليب وفي الخطاب والبرنامج السياسي، ودراسة مواطن الضعف في الخطاب أو الأداء أو البرنامج. [وهذا ما كنت أرجحه] 2. عدم منحهم الثقة من قبل الأمة، لأنهم من حيث المصداق فعلا قد لا يكونون مؤهلين لقيادتها، فيكون ذلك قرارا واعيا من قبل الأمة، التي لا يعني رفضها لهم بالضرورة رفضا للإسلام. [وتجربة مصر أرتنا كيف أن الكثيرين من الدعاة إلى علمانية الدولة والرافضين للإسلام السياسي هم من المسلمين المتدينين.] 3. عدم استجابة الأمة أو الغالبية منها لدعوة الحق جهلا أو مكابرة، فيكون الإسلاميون قد أدوا تكليفهم الشرعي، بينما تتحمل غالبية المنتخبين من الأمة وزر الخيار اللاإسلامي، الذي لا يتحمل مسؤوليته الإسلاميون، كما أن الأنبياء لم يحمّلهم الله وزر الأمم التي لم تستجب لداعية الحق، دون أن يعني هذا وصم الناخبين من جماهير الأمة بالمروق عن الدين بالضرورة، ولكنه قد يمثل لونا من المعصية، والتي لا ينبغي أن يُنهى عنها بالإكراه، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، أو يمثل انخفاضا في مستوى الوعي، على الإسلاميين أن يدرسوا آليات الارتفاع به. [محاولة مني لإرضاء الإسلاميين المتحفظين آنذاك على الديمقراطية، أو الرافضين لها.]
مبرر الحفاظ على أصالة الشخصية الإسلامية من مبررات التحفظ على الديمقراطية هو القول بأن الإسلام غني عن استعارة الصيغ [دعاوى بلا دليل]، لاسيما من فكر يرفض الدين، ولا يقيم للإيمان بالله تعالى وزنا، ثم يمكن أن يقال أن علينا أن نطرح البديل الإسلامي، الذي هو خير من الديمقراطية، ألا وهو نظام الشورى في الإسلام، إذ أنه يجمع بين إيجابية الاحتكام إلى الجماهير، كما تفعل الديمقراطية، إلا أنه لا يشتمل على سلبياتها، لأنه يضع لاجتهاد الناس وحريتهم ضابطا، لا يمكن أن يتعرض للخطأ، كما هو الحال مع اجتهاد الناس، ألا هو ضابط العقيدة الحقة وشرع الله تعالى [إذا سلمنا أن الشريعة الإسلامية تمثل شرع الله وليست اجتهاد الفقهاء، وحتى لو ثبت يقينا إنها تمثل شرع الله، يبقى الاجتهاد فيها بشريا خطّاءً وموضع اختلاف فيما بين بعضه والبعض الآخر]. وجواب ذلك أن الشورى - مع أنها تمثل بالنسبة لنا صيغتنا الإسلامية بلا نقاش [لكن هذا من غير المجمع عليه حتى إسلاميا]، ومع ما ينطوي عليه مبدأ الشورى من عناصر مشتركة مع الديمقراطية - إلا أنها أي الشورى لا تمثل القاسم المشترك بيننا وبين الفصائل السياسية الوطنية الأخرى. أما كون أن الفكر الذي يتبنى الديمقراطية، أي الفكر الغربي المطبوع بالعلمانية، هو فكر يرفض الدين، قد لا يكون دقيقا لأن الديمقراطية المطبقة في الغرب لا تعادي الدين، أو ترفض وجوده، بل لا تعطيه دورا في الحياة السياسية، لكنها مع هذا تحترم الدين والمعتقدات والعبادات. وفي كل الأحوال فليست الديمقراطية كديمقراطية هي التي تتخذ الموقف السلبي الحاد من الدين، بل هي العلمانية، وبالذات العلمانية المتطرفة، لا المعتدلة. [اليوم أرى العلمانية الفرنسية هي العلمانية النموذجية التي أتطلع إليها، وليست علمانية أمريكا ذات الازدواجية، ولو من حيث التطبيق، بسبب تأثير البعد الديني على المجتمع الأمريكي، أكثر بكثير مما هو الحال مع الأورپيين، ولا العلمانية الرومانية إبان الحكم الشيوعي الشمولي والديكتاتوري والمتطرف في معاداته للدين، وكذلك ليست بعض العلمانيات المتسامحة أكثر مما تتطلبه ضوابط النظام الديمقراطي في بعض دول أورپا، لأني أرى أن العلمانية الفرنسية تحترم من جهة الحريات الدينية، لكن تحرص على إبقاء الدين شأنا شخصيا، لا يقحم في الشأن العام، وليس حصرا في الشأن السياسي، وقد تكون ألمانيا هي حالة بين حالتين.] التحفظ على المصطلح أما أهم مبرر من مبررات رفض المصطلح - كمصطلح - بقطع النظر عن الأدوات والآليلات للديمقراطية، هو أن "الديمقراطية" (المصطلح المرفوض عند البعض، أو ربما الكثير من الإسلاميين) تعني لغة - وليس بالضرورة مضمونا - حاكمية الشعب، وهذا غير مقبول من وجهة النظر الإسلامية، لأن القول بحاكمية الشعب يتضمن القول بإلغاء حاكمية الله [من أسوأ ما ابتكره الإسلام السياسي هو مقولة "حاكمية الله"]. وهذا ما قد يمكن أن يجاب عليه بأن معظم المتحفظين على مصطلح (الديمقراطية) لا يتحفظون على مصطلح "الجمهورية" (المصطلح المقبول لدى أغلب أو ربما كل الإسلاميين)، والذي يعني لغة دولة الجمهور. صحيح أن المصطلحين يختلفان من حيث الاشتقاق - أصلا - فيما يختزنان من فكر، ومقدار توافق كل منهما أو تقاطعه مع الفكر الديني، حيث أن مصطلح (الديمقراطية) هو المعني أكثر بمضامينه الفلسفية، التي لا تلتقي مع فلسفة الدين في الحاكمية، ولكن المعني به هنا من مصطلح (الديمقراطية) هو باعتباره مصطلحا جديدا إنسانيا عاما، وليس بمعناه القديم المهجور، بما يشتمل عليه من خلفية فلسفية، والذي قد نجد صعوبة في التوفيق بينه وبين منطلقاتنا الفكرية المؤسسة على قاعدة فلسفة التوحيد. ولذا وعلى النحو العام لا ينبغي الاستغراق في إشكالية المصطلح في خلفيته فلسفيا وحرفية معناه لغويا، بل ينبغي بدلا عن ذلك أن نسأل أنفسنا ماذا يراد يا ترى بالضبط من هذا المصطلح اليوم، لنحدد بعد ذلك موقفنا الشرعي منه. وهذا ما سنتناوله في مقطع قادم من هذا البيان. [أما اليوم فلا مشكلة عند أكثر الإسلاميين في استخدام مفردة "الديمقراطية"، بعدما رأوا المصلحة في ركوب الموجة، واستخدامها كوسيلة للوصول إلى السلطة، كما أصبح الإسلام نفسه، والمذهب (الشيعي هنا، والسني هناك) من وسائل الوصول إلى السلطة.] الموازنة بين التخلص من عقدة المصطلح وعدم الانسلاخ عن الهوية وقبل أن نتناول ما يراد من هذا المصطلح اليوم، لا بد من الإشارة بأننا عندما نقول أن علينا كإسلاميين تجاوز عقدة المصطلح - وقد تجاوزه اليوم بالفعل والحمد لله الكثيرون منا -، ينبغي أن نؤكد أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن يسوّغ الإسلامي لنفسه انسلاخه عن أصالته في ما يتبنى من فكر، ويمارس من خطاب، ويستخدم من مصطلحات، ولا يجب فهم التخلص من عقدة المصطلح الوقوع في عقدة استرضاء الآخرين، والتحول إلى حالة من التهالك في اللهث وراء رضا الغرب والمتغربين، ضمن منهج تملقي يفقدنا توازننا وأصالتنا، فنستخدم مصطلحاتهم - بما فيه الديمقراطية - بمناسبة وبغير مناسبة، بل لا بد للإسلامي أن يبقى قويا في طرحه، أصيلا في مصطلحاته، فلا التحرك الحكيم يعني عنده الانسلاخ عن الهوية، ولا منهج الأصالة يعني الجمود على الشكل بمبرر ومن غير مبرر، أو بمبرر ذي أهمية ومبرر ضئيل الأهمية، كما أن الآخرين لا يستخدمون مصطلحاتنا في أدبياتهم. [ما مر من كلام ساذج كان من قبيل دفع الشبهة عني، وبسبب تحذير الكثير من الإسلاميين لي ألا أبالغ باستخدام مفردة «الديمقراطية»، لما لاحظوا من شدة اهتمام مني بموضوعتها، أكثر من كونه كلاما كنت مقتنعا به بالعمق] نريد أن نقول أنه ليس من الصحيح المبالغة في التخوف والتهرب من المصطلح، حيث ينبغي استعماله، وحيث لا يمكن أن يعبر عنه مصطلح بديل آخر بنفس الدلالة، ومن غير أن يقبل اللبس أو التأويل إلى غيره، لما يؤدي ذلك إلى تعميق الهواجس عند الآخرين - والآخرون شركاؤنا على أرض الواقع -، ولكن في نفس الوقت ينبغي للإسلامي الاقتصار في استخدامه لهذا المصطلح - الذي هو [بكل تأكيد[ ليس مصطلحه - على مقدار الضرورة، دون تجاوزها إلى ما لا ضرورة فيه، ولاسيما فيما يمكن للمصطلح الإسلامي كـ(الشورى)، أو المصطلح غير المنتمي كـ(التعددية)، أن يعكس المعنى المراد ويؤدي الدور المطلوب. [حيث كان حيدر العبادي يتمنى عليَّ استخدام «التعددية» بديلا عن «الديمقراطية».] مشروعية الاحتكام إلى إرادة الشعب وإذا تطلبت مصلحة الدعوة ومصلحة الأمة أن نستند في تشكيل الحكومة وتسيير شؤون البلاد على إرادة الشعب، فهذا لا يلغي حقيقة أن النظام الإسلامي الذي يبقى يمثل طموح الإسلاميين، هو وحده الذي يملك الشرعية [حسب توهمي آنذاك] عند الله وعند المؤمنين، وقد كلفنا تعالى بالدعوة إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم نكلف بإكراه الناس على قبول هذه الدعوة. والإسلامي يتخلص من الإشكال الشرعي في كونه لا يتحمل مسؤولية تبني النظام الديمقراطي، وكل إفرازاته من حيث المبدأ، واتخاذه بديلا للنظام الإسلامي، بل إنه يقبل به [حسب ما رجح لي محمد حسن فضل الله الاقتصار عليه، فأدرجته هنا من غير اقتناع كبير]، ويدعو إلى تبنيه [حسبما كنت مقتنعا به خلاف ما رجحه فضل الله] باعتباره المشترك الممكن الأفضل، ويلتزم به لكونه يمثل ميثاقا ملزما بينه وبين الآخرين. وإذا ما خلص الإسلاميون إلى إمكان تبني هذا المشروع، فلا بد من أن يكون ذلك مقترنا بمنهج توعوي على حقيقة أن هذا التبني لا يعني تحويل مصدر الشرعية من الإسلام إلى الديمقراطية، إذ أن قبولنا بالديمقراطية كـ أ) عقد للمصالحة، و ب) أرضية للتعايش، و ج) أسلوب للدعوة، لا يعني تنازلنا عن حقيقة أن الشرعية - بالنسبة للإنسان المؤمن - هي فقط للإسلام [أي لنقيض أو الضد النوعي الديمقراطية]، فكرا وقيما، ونظاما، وتشريعات. ففرق بين أن نقبل بالديمقراطية، وندعو إلى تبني هذا القبول، ونثقف عليه، لتشخيصنا بأن في ذلك مصلحة كبرى، وبالتالي ضرورة بالعنوان الثانوي، وبين أن ندعو إليها بديلا عن الإسلام [كاستجابة مخففة لما رجحه محمد حسين فضل الله]، وكما أنه فرق بين أن ندعو للإسلام، وبين أن نكره الناس عليه. وعندما يرى البعض منا تكليفه الشرعي أن يقبل بالديمقراطية، ولا يدعو إليها، لا يعني أننا لا ندعو إلى فكرة القبول بها، ونثقف عليها، إذا ما شخصنا المسوغ الشرعي، أو لعله الوجوب، ولو بعنوان ثانوي، من خلال تشخيص المصلحة. بتعبير آخر، إننا ندعو إلى الديمقراطية كأسلوب عملي، لا كمشروعية مضمونية [وهنا مكمن الازدواجية عند الإسلامي، مهما بلغ من التزام بالديمقراطية]، أي ندعو إليها بالعنوان الثانوي، لا بالعنوان الأولي، دون أن يعني ذلك أبدا أن هذا يمثل تكتيكا احتياليا [بل هو كذلك عند معظم الإسلاميين، مما كنت من أشد المعارضين له]، عندما لا يكون متبنى استراتيجيا، وذلك لوجوب الالتزام شرعا بالعهود والعقود، إذا ما تحولت الديمقراطية إلى عقد وطني، ولثبوت تحقق المصلحة بذلك. تحديد الموقف من خلال تناول ما تعنيه الديمقراطية من أجل تحديد الموقف الشرعي بدقة من الديمقراطية، لا بد من تناول كل المفردات، فيما تعنيه الديمقراطية في خطها العملي، لا في خلفيتها الفلسفية، وحرفية معناها اللغوي. الديمقراطية بمعنى الانتخابات الحرة الإسلام لا يمانع من حيث المبدأ أبدا في قيام انتخابات شعبية حرة، بقطع النظر عما إذا كان نظام الحكم ديمقراطيا، أي تعدديا شاملا، أو إسلاميا صرفا، أي تعدديا ضمن الدائرة الإسلامية، لجواز بل رجاحة التعددية في النظام الإسلامي الاجتهادي، دون النظام الإسلامي المعصوم [عندما يكون الحاكم هو المعصوم، حسب عقيدة الشيعة، والمعصومون من النبي والأئمة لم يبق منهم إلا الثاني عشر المفترض، والغائب المنتظر، الذي لم يولد، فيكون هذا النظام سالبا بانتفاء موضوعه، إلا إذا افترضنا ظهور المهدي، وهو ممتنع لامتناع ظهور اللاموجود]. ولكن هذا وحده - أي الانتخابات الحرة - لا يمثل كل ما يراد من الديمقراطية [ورأينا كيف اختزل إسلاميو العراق، كما إسلاميو مصر بعد سقوط نظام مبارك، الديمقراطية في مفردة الانتخابات، حتى لو أدت إلى انتخاب النقيض النوعي للديمقراطية، وكان لهم في آدولف هتلر أسوة سيئة، لمن أراد السلطة والمال]، باعتبار أن التعددية في إطار الإسلام ستضع حق نقض (ڤ-;-يتو) إسلامي على غير الإسلاميين من المشاركين في الانتخابات، وهذا - مع التسليم بسلامته من وجهة النظر الشرعية النظرية وبالعنوان الأولي - ما لا يمكن أن يتم التوافق عليه مع شركاء الوطن الآخرين، إضافة إلى ما يمثل منح الآخرين من حرية في ممارسة العمل السياسي، والمشاركة في الحياة السياسية، من منفعة كبيرة تعود على الإسلام، وعلى عمليتي الدعوة والتغيير، أكثر بكثير منها في أجواء الاحتكار للعمل السياسي، وقصره على الإسلاميين، إضافة إلى ما فيه من درء لمفاسد أكبر، وتثبيتا لأجواء السلم الوطني، ولا شك أن الدعوة في أجواء السلم الهادئة، هي أفضل منها في أجواء صخب الصراعات الحادة. الديمقراطية بمعنى حرية التعبير عن الرأي وهذا ما يقره الإسلام [إسلامي أنا، أي الإسلام وفق الفهم الذي كنت أعتمده] من خلال مبدأ «لا إِكراهَ فِي الدّينِ» [والذي ينقضه «وَمَن يَّبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دينًا فَلَن يُّقبَلَ مِنهُ وَهوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرينَ» وكذلك «وَمَن لَّم يَحكُم بِما أَنزَلَ اللهُ فَأولئِكَ هُمُ الكافِرونَ»]، ومبدأ الدعوة «بِالحِكمَةِ وَالمَوِعظَةِ الحَسَنَةِ»، ومن خلال أخلاقية انشراح الصدر، والحوار والمجادلة «بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ»، والتعايش على أساس (البر والقسط) مع الذين لم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا. وهذا - أي حرية التعبير عن الرأي - مطلوب حتى في ظل النظام الإسلامي، ومن هنا قد يقول كثير من الإسلاميين، ألا حاجة لنا إذن بالديمقراطية، لأن الإسلام يمنح ما تمنحه الديمقراطية من حرية الاعتقاد، وحرية التفكير والتعبير. ولكن هذا يعبر عن حالة خلط بين حرية التعبير عن الرأي، والحرية السياسية، أي حرية، أو قل حق ممارسة العمل السياسي، والمشاركة في الحياة السياسية، لأن الآخرين لا يكتفون بالأول، بل يرون حقهم الطبيعي في أن يشاركوا في الحياة السياسية مشاركة متكافئة. وهذا ما قد تم الإجابة على إشكالياته الشرعية ضمن مناقشة الديمقراطية بمعنى حكم الشعب. [ووجدنا الإسلاميين في العراق، وفي مصر أثناء عهد محمد مرسي، كيف يحاولون حتى في ظل ما يفترض به أنه نظام ديمقراطي، أن يضيقوا على الحريات، كلما سنحت لهم الفرصة، فكيف يكون الحال في ظل حكم إسلامي؟ ولنا في تجربة جمهورية ولاية الفقيه الخمينية الخامنئية في إيران، وتجربة جمهورية الطالبان في أفغانستان في سنوات حكمهم لها، شواهد على مدى احترام الإسلاميين للحريات عموما، ولحرية التعبير على وجه الخصوص.] الديمقراطية بمعنى التعددية السياسية التعددية ينظر إليها - كما مر آنفا - تارة في إطار النظام الإسلامي، وهي تمثل الأسلوب الأمثل مع غياب القيادة المعصومة، وتتوفر على العديد من عناصر القوة في مقابل سلطة اللون الواحد، وهذه تتلخص فيما يلي: 1. التعددية تتيح الفرصة لإيجاد التوافق بين الرؤى المتفاوتة، والاجتهادات المتباينة، ضمن الدائرة الإسلامية. 2. التعددية تسهم في إثراء الفكر وأساليب الأداء. 3. التعددية تحل إشكالية الاختلاف في الرأي والاجتهاد، من خلال الممارسة الحرة لممثلي الرؤى المختلفة، على أساس نسبة التمثيل لكل منها في مجلس الشورى، التي تكون قد أفرزتها الانتخابات الحرة. 4. التعددية تجنب الأمة احتمالات الاستبداد، وما يمكن أن يترتب عليه من مفسدة. 5. التعددية تجنب الأمة الصراعات الحادة وآثارها السلبية. 6. التعددية تمنح الفرصة لتيار أو حزب آخر، عندما يعجز غيره عن حل مشاكل البلاد، أو تحقيق طموحات الجمهور الناخب، أو عندما لا يفي بالوعود التي قطعها على نفسه. 7. التعددية تجعل الطرف الخاسر في الانتخابات يعيد النظر في أدائه. وتارة أخرى تكون التعددية شاملة للإسلاميين وغير الإسلاميين، فالنوع الأول من التعددية في الدائرة الإسلامية يفترض ألا يكون موضع إشكال من وجهة النظر الشرعية. ولكن تظهر الإشكالات في الحالة الثانية، عندما يكون هناك إقرار لمشاركة التيارات العلمانية في الحياة السياسية، وفي صناعة القرار السياسي، وفي التشريع القانوني، مما يوفر لها حتى فرصة الهيمنة على زمام أمور الحكم [ويا ليتها]، من خلال ما يمكن أن تفرزه الانتخابات، وهذا ما جرى مناقشته أيضا ضمن إشكالية الديمقراطية، بمعنى حكم الشعب. [لاهوتي يزعم إن الله يحب العلمانيين.] الديمقراطية بمعنى تداول السلطة هنا يبرز عند بعض الإسلاميين الإشكال الشرعي بدرجة أكبر، لما يترتب على احتمالات تخلي الإسلاميين عن السلطة، من بعد ما يكونون قد وصلوا إليها من خلال الانتخابات [وتجربة الإخوان في مصر شاهدنا في ذلك]، وذلك من جراء ما يمكن أن تفرزه انتخابات لاحقة. من وجهة النظر الشرعية تمثل هذه الحالة مفسدة كبيرة، ولكن إصرار الإسلاميين على البقاء في الحكم، رغما عن قناعة وإرادة الغالبية من جماهير الشعب، له مردودات سلبية أكبر بكثير على الإسلام، ويمثل بالتالي مفسدة أكبر من الأولى. ولذا يكون استعداد الإسلاميين للتخلي عن السلطة بقرار ديمقراطي، من أجل أن يعاودوا الكرة في كسب الجماهير، وإعادة النظر في أساليب العمل السياسي، وأساليب الدعوة، وتصحيح الأخطاء - إن شُخِّصت ثمة أخطاء - هو الأسلوب الأنجح للدعوة. [واضح هنا وفي مواقع أخرى الجهد المبذول من قبلي بإقناع الإسلاميين بشرعية الديمقراطية، على ضوء (إسلامي) أنا، أي ذلك (الإسلام) الذي كنت أعتمده.] المفاسد المحتملة للديمقراطية لا شك في أن للديمقراطية من وجهة نظر الإسلام الكثير من المفاسد، مما يجعل المتحفظين من الإسلاميين يتوقفون كثيرا عند فكرة القبول بالنظام الديمقراطي. ويمكن طرح هذه المفاسد ومناقشتها كالتالي: خطر إفراز الديمقراطية لأنظمة علمانية وهذه المفسدة [برأي الإسلاميين] أي العلمانية الديمقراطية، تكون موضع قبول، إذا ما قورنت بمفسدة العلمانية الدكتاتورية. بل حتى يمكن القول أننا إذا كنا بين خياري مفسدة إمكان إفراز النظام الديمقراطي للحالة العلمانية، و مفسدة إمكان إفراز النظام الإسلامي للحالة الاستبدادية، أي بين خطر محاولات علمنة المجتمع، من غير أن يتحول بالضرورة إلى حالة عداء للإسلام، وخطر استعداء المجتمع الإسلامي تجاه الإسلام في ظل نظام حكم (إسلامي) مستبد، أو مفروض من غير قبول جماهيري له، إما من خلال خلل في أداء القائمين عليه، أو من خلال غياب أو ضعف الوعي الإسلامي عند الجماهير. هنا لا بد أن يكون قرار كل العقلاء من دعاة الإسلام، بأن اختيار المفسدة الأولى أكثر فائدة للإسلام، أو - على أقل تقدير - أقل ضررا عليه، خاصة إذا كان واضحا لدينا، أن الحكم الإسلامي لا يمثل غاية بذاتها بالنسبة للإسلاميين في كل الأحوال، بل هو بالدرجة الأولى وسيلة - وإن كانت وسيلة مهمة جدا - لمهمة الدعوة، ورسالة التغيير، لأننا إذا نجحنا بالدعوة، سننجح - ولو على المدى الأبعد - في الدولة، لكن تقديم هدف الدولة بدون توفر الأرضية المناسبة له، هو مما ستدفع الدعوة ثمنه حتما. من حق الإسلاميين هنا أن يستشهدوا ببعض الشواهد التي تجعلهم لا يثقون ببعض - ولا نقول بكل - العلمانيين، ومن تلك الشواهد التجربة التركية، عندما صعد الإسلاميون في حزب الرفاه ضمن ائتلاف إلى سدة الحكم. وفي الواقع لم يكن الخلل في التجربة التركية في الديمقراطية نفسها، بقدر ما كان يكمن هذا الخلل في (الأصولية العلمانية الكمالية) [ولكني فهمت لاحقا أن العلمانية - المقترنة بالديمقراطية طبعا - هي ضمانتها، أي ضمانة الديمقراطية، وبدونها، أي بتسييس الدين، تبقى الديمقراطية مهددة، ويبقى حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم إسلاميا يمارس الباطنية والمؤامرة طويلة المدى على علمانية تركيا، وبالتالي على الديمقراطية]. وكما أننا لا نرضى كإسلاميين أن تعمم علينا ظواهر التطرف والأصولية - بمعنى إلغاء الآخر لا بمعنى الأصالة - هنا وهناك، فإننا نميز كذلك بين العلمانيين المعتدلين، الذين تعني علمانيتهم أقصى ما تعني الحياد من الدين، عن العلمانيين المتطرفين الأصوليين، الذين تعني علمانيتهم العداء للدين. [مع وجوب التمييز بين العداء للدين، وبين اعتماد إنسان ما لفلسفة أو قناعة لادينية، على أن تكون لادينيته أيضا علمانية، بمعنى أن الفصل بين الدين والسياسة، يشمل الدين إيجابا وسلبا، فكما أن الدين لا يجوز إقحامه في الشأن السياسي، فإن اللادينية، والإلحاد، لا يجوز إقحامهما في الشأن السياسي، ويبقيان كما يبقى الدين والتدين، يبقى كل منها شأنا شخصيا، ترعاه الديمقراطية العلمانية، كجزء من رعاية وصيانة الحريات، حرية الدين، وحرية اللادين، وحرية نقد الدين، وحرية نقد اللادين والإلحاد، وحرية نقد الدين المغاير، بما لا يثير الكراهة والعداوات.] فكما إننا [أي الإسلاميين يوم كنت منهم] لا نريد أن نجعل الديمقراطية مشروطة بشروطنا، بحيث نجعلها لا تشمل من هو خارج الدائرة الإسلامية، نحذر من مغبة أن يفكر المتطرفون من العلمانيين ومراكز صناعة القرار الغربية - تلك - المتحسسة بإفراط [وبحق] من الإسلام - إذا ما أراد الغرب أن يهيئ صيغة بديلة جاهزة مفصلة حسب مقاييسه يمليها على شعبنا - بفرض ديمقراطية مشروطة، وذلك بشرط استثناء الإسلاميين [وستبقى الديمقراطية غير متحققة حق التحقق إلا بالعمل بهذا الشرط]، بل إن العقد الوطني الذي نتصوره هو أن نتعهد نحن على ألا نلغي أحدا، مهما كانت عواطف الشارع معنا، ومع الأطروحة الإسلامية، وكما نرفض رفضا قاطعا أن يعمل أحد على إلغائنا. [لكني أقول اليوم، كمؤمن إيمانا عميقا وحاسما بالعلمانية، أننا سنبقى نناضل بالأساليب السلمية والحضارية والديمقراطية، من أجل أن نحقق الهدف في جعل دستور البلاد دستورا علمانيا، بمعنى أنه يحظر تسييس الدين، وإقحامه في الشأن السياسي، ويحظر تأسيس أحزاب قائمة على أساس ديني أو مذهبي. وهذا لا نستطيع تحقيقه إلا بتوفر البيئة الاجتماعية، لأننا لا يمكن أن نفرض الديمقراطية بآليات لاديمقراطية، حتى لو افترضنا أنا امتلكنا الفرصة لذلك. فكما قلت سابقا كإسلامي ديمقراطي، أن الإسلاميين يمكن أن يدعوا بالحكمة والموعظة الحسنة إلى نظريتهم الإسلامية، فمن حقنا كعلمانيين أيضا أن ندعو إلى نظريتنا العلمانية بالحكمة والموعظة الحسنة، فيوم تقتنع الأكثرية برؤيتنا، سيتحقق لنا ذلك، ما لم يجر إجهاض الديمقراطية والرجوع - لا قدر الله - إلى الديكتاتورية.]
#ضياء_الشكرجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 33
-
أمراض المتعصبين دينيا أو مذهبيا
-
ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 32
-
ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 31
-
لست مسلما .. لماذا؟ 3/3
-
لست مسلما .. لماذا؟ 2/3
-
لست مسلما .. لماذا؟ 1/3
-
مقدمة «الله من أسر الدين إلى فضاءات العقل»
-
مناقشتي لمناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين» 10/10
-
مناقشتي لمناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين» 9/10
-
مناقشتي لمناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين» 8/10
-
مناقشتي لمناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين» 7/10
-
مناقشتي لمناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين» 6/10
-
مناقشتي لمناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين» 5/10
-
مناقشتي لمناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين» 4/10
-
مع مناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين ...» 3/10
-
مع مناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين ...» 2/10
-
مع مناقشة صادق إطيمش لكتابي «الله من أسر الدين ...» 1/10
-
ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 30
-
ربع قرن من عمري مع الإسلام السياسي 29
المزيد.....
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|