|
نحو هرمينوطيقيا للفضاء العام-في الاحتفاء بنصر حامد أبي زيد ويوسف شاهين-حميد داباشي
أسامة الخوّاض
(Osama Elkhawad)
الحوار المتمدن-العدد: 5058 - 2016 / 1 / 28 - 06:19
المحور:
الادب والفن
نحو هرمينوطيقيا للفضاء العام-حميد داباشي
ترجمة: أسامة الخواض* _________________________________________________ من أين ومتى نبدأ؟ بالتأكيد قبل ثورة 25 يناير، وفي محيط ميدان التحرير.
ذكَّرني الرحيل المفاجئ لنصر حامد أبي زيد، كواحد من المعجبين به منذ زمن طويل، ليس بواحدٍ، بل اثنين من القدوات المصرية الضخمة، والتي تحت ظلالها المترامية، بُورك ذلك الجزء من العالم، وأصبح مليئاً بالمعنى. في مدى عامين، خسرنا صانع الأفلام يوسف شاهين (في 27 يوليو 2008)، والهرمونيطيقي والسيميوطيقي نصر حامد ابي زيد (في 5 يوليو 2010)، كأننا نشهد السقوط المتتالي لبرجين توأمين شكَّلا خيالنا الجمالي والأخلاقي، لأكثر من نصف قرن، وقيبل تفتُّح الربيع العربي. في العالم العربي والإسلامي وعولمياّ، من الصعب على أولئك الذين عرفوا يوسف شاهين، ان يجدوا سبباً لكي يعرفوا نصر حامد أبي زيد، وكثيرٌ من الذين قرأوا وأعجبوا بالانجازات الفائقة لنصر حامد أبي زيد، من الصعب عليهم أن يسمّوا فيلمين ليوسف شاهين، او يدّعوا أنهم قد شاهدوا فيلمه باب الحديد (1958) عندما كانوا في ميعة الصبا.
علينا أن ننظر إلى، ونقرأ كل منهما، من خلال عدسة الآخر. المجتمع الذي أنتج نصر حامد أبي زيد ويوسف شاهين، في المركز المتوازن لوعيه الذاتي الحصيف، عليه أن يدرك أيضا، كم هو نفيسً ذلك التوازن، حيث يلتقي فضاء خيالنا الجمالي والأخلاقي حقيقة مع الأرض.، ويطرح حجته الختامية. هنالك توازن مصري بين الأمل واليأس، بين الوعد والشلل، الذي يبدو أنه قد عرَّفنا جمبعاً، نحن الذين وُلدنا ونشأنا في عصر محمد مصدّق وجمال عبدالناصر وجواهرلا نهرو، الأبطال المعادين للاستعمار ، الذين جعلوا مِنّا "مابعد استعماريين". إن عولمة الرؤية التي خلقتهم، وبنفس الطريقة أنتجت يوسف شاهين ونصر حامد أبي زيد، كانت دوماً تحت رحمة الوحشية والتعصّب ،واللتين للمفارقة ،نشأتا من نفس المنبع الذي خلق آمالنا وتطلعاتنا الراسخة. أساء سيد قطب وآية الله الخميني، تأويل أحلامنا وأفكارنا، وقاما بتقديمها كما لو أنها كوابيس. لقد قيل الكثير ،وبشكل صائب، عن النزعة الشبابية للربيع العربي، لكنّ الحِكَم الراسخة المتوطنة في عين وعقل شاهين وأبي زيد، تسلتزم قراءات طازجة لأزمان طويلة في المستقبل.
قابلتُ نصر حامد أبي زيد أول مرة، في حفل استقبال، أقامه له أدوارد ومريم سعيد في نيويورك. قرأت له الكثير مبكرِّاً، في أيام دراستي في جامعة بنلسلفانيا ،و تعرّفت على عمله الرائد في هرمونيطقيا القران، في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي،بواسطة أستاذي جورج مقدسي (1920-2002). في ذلك الزمان، كان قليل من الناس، يعرف كتاب نصر حامد أبي زيد "الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة" (1982)، او حتى كتابه "فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القران عند محيي الدين بن عربي" (1983). سنوات بعد ذلك، عندما كنت اشتغل على كتابي عين القضاة، اكتشفت كتابيه "مفهوم النص: دراسة في علوم القران" (1991) و "نقد الخطاب الديني" (1998). بعد ذلك، عرّفتني زميلتي الراحلة ماجدة النويهي ، على كتابي نصر حامد أبي زيد "المرأة في خطاب الأزمة" (1995) و "دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة" (1998). جليٌ جدا في كل تلك النصوص، سعي نصر حامد العنيد، إلى هرمونيطيقيا المقدّس، المتضمَّنة في اللغة البشرية للدنيوي. لم يفقد أبداً رؤية تعالقاتهما الخفية. بقي كتابه "التفكير في زمن التكفير" (1998)، كتابي المفضل في عمل نصر حامد، الذي عكس فيه حاله في المنفى والردة، و قد كُتب في أعقاب الحادثة الشهيرة التي تلت طلبه للترقية الأكاديمية في مارس 1993، عندما قضت محكمة مصرية للشريعة، بردّته وفسخت عقد زواجه، واضطرته مع زوجته ابتهال يونس (البروفيسورة في الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة)، إلى اللجوء إلى المنفى في هولندا، حيث أصدرت جماعة اسلاموية متطرفة إعلانا بهدر دمه. حدث هذا خلال واحد من أكثر الفصول حلكة في التاريخ المصري الحديث، عندما خلق مقتل فرج فودة في 1992، ومحاولة قتل الحائز على جائزة نوبل المؤلف نجيب محفوظ في 1994،بيئةً مشحونةً بالتوتر في مصر. بالرغم من الرعب السخيف للحكم بالقتل المعلن ، في حق نصر حامد، كان دائماً هناك حسٌّ جليٌ بالمرح في تفاكيره حول كل ما يتعلق بالحدث الهمجي. كان يحب أن يحكي قصصاً، عن الكاريكاتيرات التي ظهرت في الدوريات المصرية، والتي فيها يتساءل الأزواج في استغراب كيف يمكن أن يخطّطوا لفسخ مماثل لزيجاتهم! عندما سخر كاتب عمود من الزوجين، لان لهما علاقة رومانسية، كروميو وجولييت ،إذ كانت يداهما متماسكتين في مقابلة مع سي ان ان ، قال مازحاً ما هي المشكلة في أن يكونا روميو وجولييت؟ ومن المهم بنفس الدرجة، ان نصر حامد لم يسمح أبداً للميديا الاوروبية أو الامريكية، بأن تسيئ استخدام الحكم الصادر ضده من زملائهم المصريين، كسلاح في ترسانة خوفها من الإسلام، وبالتالي يستخدمه-كما فعل آخرون مثل سلمان رشدي وايان هرسي علي-للترويج لمهنته. لقد تحمّل مشقة المنفى، والحياة تحت الحكم بالقتل، بسمو وتواضع، وظل حتى يوم موته مسلماً مبدئياً ووقوراً. إذا كان تعرّفي على نصر حامد أبي زيد أكاديمياً، وأخذ مني زمناً، لأعرف الرجل الرقيق المبهج، الكامن خلف الأفكار، فإن تعرُّفي على يوسف شاهين، كان مرحاً ويومض بفرح الاكتشاف، وبلغ أوجه في تدريسي السلسلة الكاملة، لعمله السينمائي لطلابي في كولومبيا، التي دعوت في فصولها المايسترو الكبير، ليلقي محاضرة في كل مرة يأتي فيها إلى نيويورك. كان دائما ينكِّت قائلا أن اهتمامي بأفلامه، يعود إلى افتتاني الشبابي بهند رستم (صوفيا لورين السينما العربية)، ممثلة الدور الأول في فيلمه باب الحديد. شاهدت فيلم يوسف شاهين باب الحديد (1958) في أواخر صباي، بينما كان إعداده السينمائي "لرواية" الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي (1969)، حاسماً ومهماً في التربية السياسية للبعض في جيلي. بثلاثيته الابتدائية ورباعيته التالية، صار يُحتفل بيوسف شاهين عولمياً، ككاتب سيرة حياته الشخصية اللامع في أمته. من الناصر صلاح الدين (1963) إلى المصير (1997)، أمسك يوسف شاهين برسوخ مرآة لشعبه، من صدمة الحروب العربية الإسرائيلية إلى أهوال التعصب الديني في موطنه، نفس التعصب الذي أرغم أبي زيد للجوء إلى المنفى.
يوسف شاهين ونصر حامد أبوزيد، هما مكوِّنان متكاملان للكوزوبوليتانية الفنية والثقافية المصرية في القرن العشرين، لكي تعرف واحدا منهما، يجب أن تعرف الآخر، ومن خلالهما يفهم المرء الثوران الإبداعي الذي بشَّر به كلاهما.تستند هرمونيطيقيا أبي زيد كلها، إلى سيموطيقيا بنيوية، تقرأ المجازات الأدبية القرانية، كسيرورة معنى للمنطق السردي الذي ينبغي أن يؤوَّل، بواسطة الاندغام في ومن خلال بلاغة إيمان القارئ المسلم. لقد جعل من الإيمان-وهذه علامة فريدة فذّة لعبقريته التأويلية-قضيةً هرمونيطيقيةً، في قراءته السيموطيقية للنص المقدّس. هذا في الواقع ، كيف بيَّن أن الوحي دال مركزي (كطريقة عمل للتنزيل)، في أية قراءة للنص المقدّس، تحيله إلى علامة أدبية كبرى، بدون ان تسلبه مضمونه الميتافيزيقي. تصبح سيروة المعنى المفتوحة النهاية، في المقابل، نسيج الجمالية الوهّاجة، والتي استلفها شاهين، من جانبه، من الواقعية الجديدة الإيطالية اللاحقة ، ومن فيلليني بالذات، ليصنع حسّه السينمائي الخاص، لسبر غور الطيش.اكتشف أبوزيد المعاني المجهولة من القران،مستخدماً نفس اللعب الحر الهرمونيطيقي، الذي بواسطته حلّ شاهين، عُقد الواقع الخطيرة في نسخته الخاصة من الواقعية الجديدة.
وعليه، فان الأهمية الراسخة لهرمينوطيقيا أبي زيد، هي طرحه للقران،كلعب انفجاري لانهائي للعلامات ذاتية القداسة، والتي تنظّم داخلياً النص المقدَّس، كشاهد كلاسيكي للحرم الداخلي، الذي يعطي قارئه-مؤوِّله المؤمن، حسّاً مقنعاَ بإيمان لا-طوعي، والذي هو في نفس الوقت إلهامي ووهمي.بكلمات أخرى، بالنظر إلى النص المقدّس، كنظام من العلامات، يضع أبوزيد موقع النزعة الإلهامية "الوحيية" (للكاميرا الهرموينيطيقية، عموماً، ليس فوق ولكن من الداخل، ليس في قصد المؤلِّف (والذي في هذه الحالة، ليس في منال الإنسان) ،ولكن يضعها في أمل القارئ (والذي هو دائماً تاريخي ودنيوي). لكي يفعل ذلك، ويظلّ مؤمناً،وقد فعل،كان ذلك علامة فذّة فريدة من عبقريته الهرمينوطيقية. يقرأ أبوزيد القران، بطريقة يمكن مقارنتها بتجربة مشاهدة فيلم ليوسف شاهين: النص كبهوٍ من المرايا المليئة بعلامات مقدّسة، منتظرة تكشّفها بشكل جديد-ليس فقط اللامرئي من خلال المرئي، ولكن الرائي من خلال العلامة. هو، باختصار، أعاد هرمونيطيقياً تمثيل لحظة الوحي المقدّس، من الرجل النبي محمد إلى الرجل-المرأة المسلم-ة. لقد غرس نصر حامد أبوزيد، لو جاز التعبير، كاميرا يوسف شاهين داخل رأس كل مسلم، يذهب ليشاهد-يقرأ القران. بشكل غريزي، رأي المسلمون عديمو العقل والروح، في مداره، الخطر الداهم من تلك الرؤية للقران، وفزعوا من فِطَنهم، وبالتالي كان حكمهم ضد الهرمينوطيقي المسلم الأكبر في زماننا. ظلّت اهتمامات نصر حامد، هرمينوطيقية بشكل راسخ. لم يكن مهتماً ،بشكل رئيس، بخلع القداسة عن القران أو إضفائها عليه. بالنسبة له كان القران، نصّاً مقدَّساً، تُوسِّطت دائرته الهرمينوطيقية والانتظام الاصطلاحي لعلامات،ه من خلال فعل الإيمان الأعمى من جانب القارئ بقداسته الوحيّية. كانت عبقريته في انه قد تعامل مع حقيقة ذلك التوسُّط، كمجاز هرمينوطيقي ،أكثر من الإبقاء عليه كنص للإيمان. وكنتيجة لذلك، ظل في اتساق، مهتماًّ بالطريقة التي يتولّد بها المعنى، في تلك الدائرة الهرمينوطيقية، التي يتم توسّطها من خلال الإيمان بالنص الوحيي.
يوسف شاهين ونصر حامد أبوزيد، هما وجهان لمصر كعلامة، وكرمز للثوران الفكري الثقافي، واليوم كنموذج للانتفاضة الثورية مفتوحة النهاية،و دنيويتها كما كان بوسع أدوارد سعيد أن يقول، وهما النزعة المؤثِّرة لمطلبها في خيالنا الأخلاقي. هنالك حاجة لعدسة شاهين الموشورية، لنرى من خلالها ونحس، بالخيال الهرمينوطيقي الجرئ لأبي زيد، لننظر إلى القران، ونُبصر نظاماً من العلامات المتجمِّعة في نص، منتظرة معنى جديداً، في السميوطيقا الآسرة لدنيويته. العكس أيضاً صحيح: ساعدنا طيش أبي زيد الهرمينوطيقي التحرّري البهيج، ومتعة فالسه الأدبي في النص المقدّس ، على أن نرى ما يكمن خلف اللعب الفيلليني لرباعية الاسكندرية لشاهين.
إن هرمينوطيقيا أبي زيد، مشحونة بنفس الحساسيات الجمالية والأدبية، التي هي جلية الوضوح في سينما شاهين- ذلك التقدير المتهلِّل للعلامات شبه الشفّافة، التي ناهضت السيميوطيقيا المكبوحة المركزية للسلطة والهيمنة، التي اصطلح الخبراء في القانون الإسلامي على تسميتها "دين". إذا كانت بشاشة شاهين الفيّاضة، ذات نزعة مؤقتة للتحوّل إلى كيتش، مشيرةً إلى بقعة عمياء في احتفالياته الكرنفالية الرؤيوية، كما في فيلمه المصير، فهناك عند أبي زيد بقعة عمياء، شكّلت استقبال تلاميذه الإيرانيين له ، مختزلين هرمينوطيقيته التحرّرية إلى تثيت رهين، لكي يجعلوا إسلامهم الخاص، ذا معنى في كارثة الجمهورية الايرانية الدموية. في أرقى أفلامه رباعية الاسكندرية، وخاصة اسكندرية ليه، يبحث شاهين، كما أبوزيد في كتابة مفهوم النص (1991)، يبحث عن هرمينوطيقيا أدبية بحتة للقران، و يبثُّ حياة جديدة فيه، من أجل أولئك الخائفين، رهائن للطفولة الباكرة لقراءته للنص. أبوزيد في هرمينوطيقيته، هو بشكل جوهري، سيموطيقي يشاهد رؤية الكوكبة المبجّلة في النص المقدّس ، التي هي في المقابل، محجوبة عن "المثقفين الدينين"، ونظرائهم المسلمين المتعصبين في مصر، الذين جرّوا القران ودفعوه في هذا المسار المشوه أو ذاك.
هنالك تراسل سيموطيقي، بين النزعة الادبية لهرمينوطيقيا نصر حامد أبي زيد، والخفّة الحيوية لسينما يوسف شاهين، والتي هي منعدمة بتاتاً، في الفترة بين الميلاد العنيف الدموي للمثقفين الدينيين في المشهد الإيراني، وسينما الاغتراب الذاتي لعباس كيارستمي، أو سينما التدمير الذاتي لمحسن ماخمالباف. كان هؤلاء "المثقفون الدينيون"، النتاج الأجود للقتل الثيوقراطي للفرح في إيران: تفلسفهم في المقابل، كان قاتماً وفتّاكاً وشديد الإملال ومبتذلاً. ولهذا السبب بالذات ، وبالرغم من حقيقة أن أبازيد كان "مطروداً كنسياً"، وموضوعاً تحت حكم الإعدام، قد استطاع إن يرجع إلى وطنه، ويموت بكبرياء، محبوباً ومقدّراً من زملائه المصريين. وفي الجانب الآخر، معظم تابعيه هم في المنفى، وإذا جازفوا بالرجوع إلى بلدهم، إما أنهم سيجبرون على الظهور في التلفزيون، ويعترفوا بأن كل ما فكروا فيه أو كتبوه، كان غلطاً، ثم يطلبون العفو من القائد الأعلى ، أو سيعانون من إهانة السجن لأمد طويل، أو أسوأ منها ، كلّ ذلك سيكون بمثابة كفّارة عن الرعب الذي مارسوه، على أولئك الذين فكّروا بطريقة مختلفة عنهم.
إن نهر النيل الذي أنجب أمة، يمكن أن تلد يوسف شاهين ونصر حامد أبي زيد، وآخرين يقاسمونهما خيالهم الجسور ، هو نفس نهر النيل الذي على ضفته الشرقية يقف ميدان التحرير. لم يعد يوسف شاهين ونصر حامد أبوزيد بيننا، كي يريا فجر بداية جديدة، في إيران ومصر وبقية العالم العربي والإسلامي ،حيث كان المرء يأمل أن يرى تفاكير ألمعيتهم المركّبة، حول الضمير الكوزوبوليتاني للناس المُستعاد بالكامل. ولكن في موتهما كما في حياتهما، يستمر يوسف شاهين ونصر حامد أبوزيد، في أن يعرضا علينا عالماً راقصاً، كحبيبات الضوء المغبّر (استعارة الرومي) أمام أعيننا تماماً-ذلك العالم هو علاماتُ لانهائيةِ إمكانيات تغيير ميتافيزيقيا اليأس(التي تُخْبر السياسية)، تلك الميتافيزيقيا التي ألقت مطلباً عنيفاً على أرواحنا. إن صانعي أفلام مثل شاهين، ومفكِّرين مثل أبي زيد، كانا سلفاً –رؤيوياً وخيالياً وبلغة جمالية وهرمينوطيقية-قد وسّعا فضاء السرد، الذي فيه نسمع تلك الثورات، تتحدّث عن إمكانياتها المفتوحة النهاية.
العالم في ذاته
العمل المتاح لنا، هو كيف نشرع في إنتاج جسم من المعرفة، في لغة خليقة بأولئك الأبطال الذين يهتفون في ميدان التحرير وميادين أخرى. عندما صاحوا "الشعب يريد إسقاط النظام"، لم يعنوا فقط النظام السياسي، أيضا كانوا يعنون نظام المعرفة واللغة التي بوساطتها نفهم وننتقد الأشياء. ينبغي أن نأخذ في الاعتبار، الأحداث والحقائق المتعلقة بأولئك المتمردين، كي تتحدث بطقم متجدِّد من المعاني، وألا نماثل الأشياء ارتدادياً بما نعرفه ونخشاه، ونضيِّع الزمن في معارك مع أشباح الأزمنة الغابرة، مع "الاستشراق". نحتاج أن نتغلّب على جزع الاستشراق ، وأن نحوِّل عدسة تفلسفنا إلى تاريخنا المتطوِّر، وأن نمتنع عن محاولة أن نفسّر الأشياء، استناداً إلى ذلك الرجل الأبيض الزائف، الذي جلس في عقل ادوارد سعيد مدى الحياة. ذلك الرجل الأبيض الزائف ميت-ولا يمكن أن يحيا-ولم يكن حيّاً أبداً. كان كائنا ً خرافياً-صُنع بواسطة الحقبة ما بعد الاستعمارية، التي أطالت حياة الوهم الأكبر بالغرب بما يقابله "باقي العالم". بدلاً من أنْ نستشهد بما قاله ادوارد سعيد، قبل حوالي ثلاثين أو أربعة سنين مضت، في سعينا لأن نعرف ماذا يحدث الآن، علينا أن نبدأ التفكير مثله:ماذا كان يمكن أن يقول أو يفكِّر، لو كان هو، وبالطبع المفكرون الآخرون المهمِّون، لو كانوا ما يزالون بيننا. لشيئ واحد، بدلاً من محاولة أن نفسّر دلالة ما حدث في ميدان التحرير، لبعض أجهزة المخابرات الكبرى في الغرب، الذي مهمِّةٌ موافقته، حتى يتم إدراك الوقائع كوقائع حقيقية أو لها أهمية، نحتاج أن نفكِّر أفقياً: هيَّا ننظر إلى الأعمال المقارنة في وحَول آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، وننظر عبر الانقسام الايراني العربي ، والانقسام السني الشيعي، والانقسام الاسلامي المسيحي، والانقسام الديني العلماني. هذه هي التفسيرات والأفهام المترابطة والعاجلة التي نحتاجها،كونها شديدة القرب من الواقع المعاش، أكثر من تلك الأعمال التي تنتمي إلى تصوُّرات ومعايير فارغة. جاء نصر حامد أبوزيد ويوسف شاهين معاً-اثنان ضمن مجموع- كي يخلقا العالم الواثق من نفسه، الذي تقبّل وعرّف حقائق العالم العربي، ضاماً المقدّس والمدنّس، والسامي والتافه. ما هي أهمية الاستشراقيين البالين، وكتّاب الأعمدة الضحلين، عدا عن أن يثيروا الضحك ويوفِّروا التسلية؟ لم تعد نيويورك تايمز، تلك الجريدة ذات المعايير الصحافية العالية، ولا سي ان ان أو أي شبكة أخرى تُدعى الميديا الغربية، يمكنها أن تدّعي انها صوت السلطة. لأمد طويل، لم يستطع هذا المركز الزائف للشبخ الوهمي أن يبقى. ماذا يهم إذا كان ملايين من الناس، لا يستطيعون قراءة العربية والفارسية والتركية أو الاردية، ولم يسمعوا أبداً بهرمينوطيقيينا و سيموطيقيينا وفلاسفتننا وروائيينا وشعرائنا وصوفيينا أو علمائنا؟ إننا نعرفهم، ولدينا كل اللغات التي نحتاجها، لكي نتكلم ونكتب ونغنِّي ونصرخ ونجادل ونتظاهر ونُقنع.
لستين سنة، اساء الصهاينة استخدام ذاكرة الهولوكست الغربي، ليسرقوا فلسطين، وكانوا يملكون ماكينة الدعاية الفذة في التاريخ العالمي،مع أمبراطورية بأكملها تحت تصرفهم. فماذا حدث؟ رواية واحدة لغسان كنفاني، وقصيدة لمحمود درويش، وفيلم قصير لأيليا سليمان، وفيلم تسجيلي لمي المصري ، ومقالة لادوارد سعيد،وكتاب لجوزيف مسعد، بدأت تنشأ أجيال مسلّحة بالمعلومات، والأسباب، والدليل،وأكثر من ذلك :أحسن ما في العالم: من كل القارات، أبحرت أساطيل الحرية إلى غزة، مجازفين، وفاقدين لأرواحهم النبيلة، كي يُعرّوا الفظائع الإجرامية لدولة الأبارتايد الاسرائيلية. يجب أنْ نُوقف عملنا المضجر في خوض معارك، مع تلفيقات خيالنا الخاص. الأكاديميون العرب والمسلمون، الذين تدرّبوا في أمريكا الشمالية وأوربا الغربية، فائقو التأثر بذكريات مسكونة بالأشباح. رفاقنا عولميون ( يهود، ومسيحيون، وملحدون، وشباب، وشيب، ورجال، ونساء، ومثليو وغيريّو الجنس،وأغنياء ،وفقراء) وهنالك كثير من الأعداء في (الشرق). هل بن لادن ومبارك والخميني، من الغرب أم من الشرق؟ لم يعد الشرق شرقاً: لم يعد الغرب غرباً. لقد التقيا. الشرق هو الغرب ، والغرب هو الشرق. علينا أن نُوقف توجيه السؤال الغريب: هل يمكن للتابع أن يتكلم؟ بالتأكيد يمكنه-ا، بالتأكيد لديه-ا القدرة. لا يحتاج التابع، إلى تمثيل أو تنظير أو إرهاب، من أي قسم للغة الانجليزية والأدب المقارن. هذا هو درس ادوارد سعيد الدائم، هو الذي مدّ لغته التحرّرية، خارج قسم اللغة الانجليزية، وهو الذي ظلّ حتى يوم وفاته، ناقداً لزملائه الذين يعمّون نضالات الناس في نثر وسياسة، لا يفهمها حتى زملائهم، فما بالك بأولئك المجازفين بحيواتهم، مقاتلين من أجل الحرية والعدل الاجتماعي والكرامة. القِ نظرة على شوارع وأزقة وميادين العالم العربي، من هذا الطرف إلى الطرف الآخر في 2011 ومابعدها: التابع يتكلم ، والعرب يتكلمون. هم في الحقيقة يصرخون بصوت عالٍ: الشعب يريد إسقاط النظام. أمر بسيط وبشكل مجيد: دعونا لا نعمِّيه. ________________________________________________________ *هذه ترجمة لقسم من الفصل الثالث من كتاب حميد داباشي :*Dabashi, Hamid, The Arab Spring, The end of Postcolonialism, Zed Book, New York, First edition, 2012. وُلد حميد داباشي في إيران، في الخامس عشر من يونيو 1951، في جنوب شرق مدينة الأهواز في محافظة خوزستان في إيران. تلقّى تعليمة الجامعي الباكر في طهران، ثم هاجر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية. هو بروفيسور في الدراسات الإيرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا.حصل على دكتوراة مزدوجة في علم اجتماع الثقافة والدراست الإسلامية من جامعة بنسلفانيا سنة 1984 عن السلطة الكاريزمية في نظرية ماكس فيبر.أتبعها بزمالة مابعد الدكتوراة من جامعة هارفارد. ألّف أكثر من خمسة وعشرين كتاباً، وكتب مائة فصل ومقالة وعروض كتب. ناقد ثقافي معروف عالمياً. تُرجمت كتاباته إلى عدة لغات، تشمل اليابانية والألمانية والفرنسية والإيطالية والبرتغالية والفارسية والأردية و الأسبانية والعربية والتركية والعبرية والبولندية والكاتالانية والروسية والدنماركية والكورية. صدرت نماذج مختارة من كتاباته في كتاب بعنوان: The World is my Home: A Hamid Dabashi Reader (Transaction, 2010) وقام بتحريرها كل من أندرو ديفسن وهيماديب موبيدي. كاتب عمود في الاهرام ويكلي الإنجليزية المصرية لأكثر من عقد، ومساهم منتظم في شبكتي الجزيرة وسي ان ان. مناهض للحرب، ومهتم بالسينما،ومؤسِّس ل"أحلام أمة-مشروع الفيلم الفلسطيني". كما أنه خطيب جماهيري.* ______________________________________________________________________________________ http://hamiddabashi.com/books*
#أسامة_الخوّاض (هاشتاغ)
Osama_Elkhawad#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فوكوياما: الربيع العربي والإسلام وأوروبا القرن التاسع عشر وا
...
-
مفلوك (ملبورن): في الثناء على الكانجرو
-
(لاهوت الوردة):قراءة نقدية بقلم: صابر جمعة بابكر
-
في(الميدان الثقافي): عادل كلر و أسامة الخوّاض و(حصاد المشَّا
...
-
في(الميدان الثقافي): عادل كلر و أسامة الخوّاض و(حصاد المشَّا
...
-
حوار الهجرة والتجريب مع أسامة الخوَّاض-محمد نجيب محمد علي
-
(لاهوت الوردة) لأسامة الخواض.. آفاق الحكمة المنسية-محمد نجيب
...
-
عشتُ عصر -سلوى- : قمح اعتذار
-
مُقالدة -بوذا-- شعر عامي سوداني
-
-قبر الخوَّاض-*: جماليات النص..حفريات الكتابة-قراءة نقدية بق
...
-
أكلوني الطفابيع
-
كلّ حربْ، و أنتم و نحن جميعاً بخير
-
مقدمة: إضاءات خافتة على المكان في خطاب (عفيف إسماعيل) الشعري
-
تفكيك خطاب النماذج: -معركة الأفكار- حول الشرق الأوسط ما بعد
...
-
الأصوليَّات الدينيَّة في المدينة: تفاكير حول الربيع العربي-ن
...
-
(قبْر الخوَّاض) في أمازون دوت كوم
-
لاهوت الوردة: شعرٌ لا تخطئه العين الحرّة-
-
استعمال للنص أم قراءة خاطئة؟ درس النهاية غير السعيدة للتأويل
...
-
سبحانه الثلج! مراثي (بهْنس) الباسفيكيِّة
-
مفاتيح -البرنس- النقديَّة: عن -قبر الخوَّاض-تائهاً كالأراميّ
...
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|