حسني إبراهيم عبد العظيم
الحوار المتمدن-العدد: 5053 - 2016 / 1 / 23 - 00:44
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الفكر الاجتماعي
في الحضارة اليونانية 4/1
مقدمة:
تعد الحضارة اليونانية القديمة إحدى المراحل الهامة في تطور الفكر الإنساني بصفة عامة, ويمكن القول باطمئنان إن التفكير الاجتماعي اليوناني يمثل أول تفكير منظم في شئون الإنسان والمجتمع, حيث جاء هذا الفكر في إطار المذاهب الفلسفية اليونانية الكبرى, وقد كان فكراً غنياً وعميقاً وأصيلاً, وظل مؤثراً في المجتمع الإنساني قروناً طويلة.
والحق أن اليونانيين القدماء قد برعوا في كثير من نواحي النشاط الإنساني, وبلغوا شأناً عظيماًَ في العلوم التأملية القائمة علي النظر العقلي المجرد, فبحثوا في كثير من مسائل الفلسفة متحررين من قيود الدين, و صاغوا علماً وفلسفة في الأخلاق توازن بين اللذة والفضيلة, موازنة جدلية.
وقد نشأت الحضارة اليونانية متأخرة عن حضارات الشرق جميعاً، بل إن نشأتها الأولى علي سواحل آسيا الصغرى, إنما يرجع إلى اتصالها بالحضارات الشرقية, والاستفادة من علومها , واستمرت طوال تاريخها متأثرة بالحضارات المجاورة , هذا فضلاً عن رحلات كبار مفكريهم من أمثال صولون, وأفلاطون , وهيرودوت إلي مصر, ولقد خلص اليونانيون علوم الشرق من جوانبها السحرية, وصلاتها بالعمل المباشر, والتجربة المحسوسة.
وسوف نتناول في هذا السياق بعض ملامح الفكر الاجتماعية في الحضارة اليونانية عبر المحاور الثلاثة التالية:
1ـ نشأة الحضارة اليونانية وتطورها.
2- السمات العامة للحضارة اليونانية.
3ـ نماذج من الفكر الاجتماعي اليوناني.
أولا: نشأة الحضارة اليونانية وتطورها:
ترجع نشأة اليونانيين (أو الإغريق) إلى مجموعة من القبائل هاجرت في الألف الثانية قبل الميلاد من أواسط آسيا , واستقروا في بلاد اليونان, فالإغريق في الأساس هم شعب آري أقام في أرض اليونان والمناطق المجاورة لها.
وقد مرت الحضارة اليونانية بثلاث مراحل أساسية:
1ـ مرحلة النشأة
وتسمي بالمرحلة العتيقة, وتمتد من القرن الثاني عشر ق.م حتى القرن السادس ق.م وهي تمثل طفولة الفكر الإغريقي ممثلا في ملاحم هوميروس الشهيرة (الإلياذة والأوديسا)
2ـ مرحلة الازدهار
وهي المرحلة الكلاسيكية التي تمتد من القرن السادس قبل الميلاد حتى الثلث الأخير من القرن الرابع ق.م، وتمثل تلك المرحلة نضج الفكر اليوناني, وظهور كبار المفكرين في الفلسفة والفن والتاريخ, وكانت أثينا مركز الصدارة في ها الإطار.
وتنقسم مرحلة الازدهار بدورها إلى ثلاث مراحل فرعية:
أـ المرحلة الأولي: تضم الفلسفة الطبيعية التى تهتم بمحاولة تفسير الكون وأصل نشأته, وتعرف تلك الحقبة بحقبة ما قبل سقراط, وتضم هذه المرحلة فلسفة السوفسطائيين, وسقراط, حيث تم نقل الفلسفة من مجال الاهتمام بالكون والطبيعة إلى الاهتمام بالإنسان ومشكلاته, والأخلاق والفن والتربية والسياسة ... إلخ.
ب ـ المرحلة الثانية : تضم فلسفة أفلاطون وأرسطو, إذ اشتغل أفلاطون بكل المسائل الفلسفية, وبلغ حقائق جليلة, ولكنه مزج الحقيقة بالخيال، أما أرسطو فقد عالج المسائل والقضايا بالعقل الصرف, واهتم بالجوانب الواقعية, كما اهتم بتأسيس وصياغة العديد من العلوم أهمها علم المنطق وعلم السياسة.
ج ـ المرحلة الثالثة: وهي مرحلة تدهور الفلسفة اليونانية, حيث ظهرت الفلسفتان الرواقية والأبيقورية, واختلط في هذه المرحلة الدين بالفلسفة, حيث اشتد تأثير الفكر الشرقي.
3ـ مرحلة التدهور
وتعرف بالمرحلة الهيلنستية Hellenistic وتبدأ بفتوحات الإسكندر لبلاد اليونان منذ عام 320 ق.م, حيث بدأ امتزاج الفلسفة بالدين, وانتقل مركز الحضارة إلى الإسكندرية بدلاً من أثينا, ورغم تدهور الفلسفة إلا أن هذه المرحلة شهدت ازدهاراً للعديد من العلوم كالكيمياء , والهندسة , والجغرافيا.
ثانيا: السمات العامة للحضارة اليونانية.
يمكن تحديد أبرز سمات الحضارة اليونانية فيما يلي:
1ـ قيام الفكر السياسي علي أساس نظام دولة المدينة City – state
كانت بلاد اليونان جبلية وعرة, وتتخلل الجبال سهول ضيقة, وقد حالت هذه الطبيعة الجغرافية الصعبة دون قيام سلطة مركزية تبسط سلطانها السياسي على جميع أنحاء بلاد اليونان, فكانت كل مدينة تشكل دولة, وهو ما يعرف بنظام دولة المدينة, وكانت هذه المدن من الكثرة إلي حد أن جزيرة مثل كريت كان بها أكثر من ستين دولة ومدينة, ولم يكن يزيد عدد سكان هذه الدولة عن 5000 نسمة باستثناء مدن محدودة وصل عد سكانها إلي 20.000 مثل أثينا.
وقد أثر ذلك النظام السياسي علي تفكير فلاسفة اليونان, فالنظام السياسي الأمثل عند أفلاطون يجب أن لا يتجاوز عدد سكانه عشرين ألف نسمة, بل أنه حدد ذلك الحجم بـ 5040 فرداً, وهو عند أرسطو ذلك المجتمع الذي يستطيع الخطيب أن يسمع جميع سكانه إذ وقف على قمة جبل , وأن تكون العلاقة بين المواطنين هي علاقة الوجه للوجه.
2ـ ازدراء العمل اليدوي والتجربة:
اعتقد الإغريق أن العلم لا علاقة له بالتطبيق, وأن المثل الأعلي للعالم في نظرهم هو المفكر النظري , أما محاولة تدعيم الحقائق النظرية بمشاهدات أو ملاحظات أو تجارب, فإنها تحط من قدر المعلم, وتقلل من شان العالم وقد اتضح ذلك بجلاء لدى أرسطو الذي اعتبر أن الحرف اليدوية تهبط بالإنسان إلى مستوي الآلة, ويكتسب ما في طبعها من قسوة وغلظة, فالعلوم النظرية في رأيه أسمى من العلوم التجريبية العلمية, لأن الأولي تتصل بالعقل أسمي قدرات الانسان, بينما ترتبط الثانية بالقوة العضلية.
ويرجع ذلك الاعتقاد إلى بنيه المجتمع اليوناني المنقسم إلى رق وأحرار, فالرقيق هم الذين يقومون بالأعمال اليدوية الشاقة, لكي يوفروا لأسيادهم الأحرار الوقت والجهد الذي يسمح لهم بممارسة التفكير والتأمل والحوار في المسائل النظرية الخالصة.
وقد أدي ترفع الأحرار عن الحرف اليدوية ـ والتجارة كذلك ـ إلى النهضة الفكرية اليونانية , فازدهرت الفلسفة , ونشأ المسرح, وتطورت الموسيقي, ولكن نفس هذا العامل هو الذي أسهم في تدهور العلوم فيما بعد.
3ـ الاهتمام بالنواحي النظرية العامة والمجردة:
كانت أعظم انجازات الإغريق اهتمامهم بالجوانب العامة المجردة للظواهر, وإهمالهم الجزئيات, فلقد كان لديهم قدرة هائلة علي التعميم, فهم يهتمون علي سبيل المثال بالخصائص العامة والمجردة للمربع كشكل هندسي, بصرف النظر عن تشكله في صور عينيه كحقل مزروع, أو أرض فضاء, أو ملعب رياضي, أو سقف في حجرة معينة, وهكذا توصل اليونانيون إلى سمة هامة جداً للعلم وهي سمة "العمومية والشمول" generalization وقد عبر أرسطو عن ذلك بوضوح حينما قال : " لا علم إلا بما هو عام", ولا شك أن هذه السمة لا تزال حتى اليوم سمة عظيمة الأهمية للعلم.
فمنذ العصر اليوناني أصبحنا ندرك أن العلم لا يتعلق بدراسة حالات فردية لذاتها, وإنما ندرس هذه الحالات من أجل الوصول إلى قانون عام يسري على كل الحالات المشابهة, ويري بعض المفكرين أن ما ابتكره الإغريق من التعميم النظري يعد اكتشافاً عظيماً يماثل في أهميته اختراع الإنسان للكتابة.
4ـ ضعف سلطة الدين:
كان الدين أضعف مظاهر الحضارة الإغريقية, حيث اتسم بكثرة الآلهة, وتعدد وظائفها, فهناك آلهة الأرض, وآلهة السماء, وآلهة ما تحت الأرض, وآلهة الخصب,وآلهة الجمال, وكان لكل مدينة إله يرأسهم الأله "زيوس" Zeus. والآلهة تشبة البشر في كل شئ ، إلا أن بها سائلاً يمنحها الخلود, ولا تثير الآلهة في نفوس اليونانيين آية قداسة, لأن الآلهة أشبة بعصابة من عمالقة البشر, يبتزون الناس, ويتحاربون فيما بينهم, ويسكرون, ويمرحون.
وبالإضافة إلي ذلك, فإن الدين لا يقدم تفسيراً لنشأة الكون, ولا يطرح تصوراً لمرحلة مابعد الموت, ولا يحدد معاييراً أخلاقية للسلوك, ما دام أن الآلهة أنفسهم لا خلاق لهم, وقد أدي ذلك إلى ازدهار الفلسفة لكي تملأ الفراغ الذي خلفة الدين, وتحاول أن تجيب علي كافة الأسئلة المتعلقة بالوجود والطبيعة والانسان والأخلاق.
5ـ اصطباغ الفكر الفلسفي بصبغة مثالية:
غلب علي الفكر اليوناني ـ خاصة لدي أفلاطون ـ الطابع المثالي, أى الاهتمام بما ينبغي أن يكون عليه الواقع , وليس بما هو قائم بالفعل , ويرجع ذلك إلي عدم الاستقرار السياسي والحروب والصراع الطويل بين المدن اليونانية ـ وخاصة الحرب التى دارت بين أثينا وأسبرطه ـ وتركت أثارا مريرة علي أفراد الشعب, ومنهم الفلاسفة, وكان رد فعلهم صياغة أفكار توضح, ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع من النواحي الاجتماعية والفكرية والأخلاقية.
وقد اتضح ذلك لدي الفلاسفة الكبار " سقراط وأفلاطون وأرسطو" فقد قام سقراط بدور المرشد الأخلاقي,. حيث كان يحث مواطنيه علي الفضيلة ويرشدهم إلى الصلاح, أما أفلاطون فتحدث عن مدينة مثالية فاضلة تقوم علي مبادئ الحق والخير والجمال, كما أن أرسطو تحدث عن الحجم الأمثل للمجتمع, وضرورة أن يكون صغيراً حتى يتسنى لكل أفراد المجتمع المشاركة في كل الأنشطة الاجتماعية في المجتمع.
6ـ الحرية الفكرية المطلقة:
أدي نظام دولة المدينة إلى اتصاف الشخصية اليونانية بالفردية, حيث انعدمت السلطة المركزية السياسية والدينية التي تحكم قبضتها علي المواطنين, وتحد من حريتهم, وبالتالي نضجت شخصيات الأفراد، وانطلقت مواهبهم, إن الفردية من مقومات التفكير الحر, والإبداع المتميز, ذلك أن الإنسان عندما تنتهي مخاوفه من السلطة السياسية أو الدينية, فذلك يتيح له حرية الحركة, وعن حرية الحركة تنتج حرية الفكر, فإن اتهم فيلسوف بالتعريض بالآلهة مثلاً, يمكنه الهروب إلى مدينة أخري, كما حدث مع أرسطو علي سبيل المثال.
لقد أدت الحرية الفكرية إلى مناقشة الفلاسفة لكل القضايا المطروحة بكل جرأة, وأدت إلي نقد التفكير الأسطوري القديم, وهو ما أسهم في النهاية في ازدهار الفلسفة وتطورها , ثم في تقدم العلم الطبيعي في المراحل التالية, لقد ارتبط الإبداع في مجال العلوم والآداب والفنون والفلسفة بمقدار الحرية التي يتمتع بها الأفراد.
#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟