خاص: الحوار المتمدن
الزلزال الذي ضرب بعض العواصم العربية قبل سنوات بسبب رواية حيدر حيدر( وليمة لاعشاب البحر) كشف عن خواء ثقافي وكشف عن فضيحة اخلاقية وسياسية تحب دائما ان تتخفى خلف أقنعة طهرانية كاذبة وتدافع بحماسة كاذبة عن وضع منهار ومتهالك ينخر فيه السوس.
وهؤلاء الذين خرجوا ـ أو خرجن ـ الى الشوارع صارخين غاضبين على هذه الرواية لأنها تناولت بمبضع جراح خبير، وروائي موهوب وشجاع، فساد الامكنة والمؤسسات وقواعد السياسة واللغة وغيرها، لم يلتفتوا خلال تظاهراتهم الصاخبة الى ضواحي المدن العربية التي مروا أو بها، وربما كان بعضهم يعيش فيها، ورأوا كيف يمكن تحويل المواطن الى حشرة أو بيهمة في احياء من الصفيح لا تصلح حتى حظائر للحيوانات أو مقابر للموتى أو مجمعات لانتاج العذاب وذبول النساء والرجال والاطفال كالازهار بسبب الفقر والبحث عن ماء أو قطرة ضوء أو فراش يليق بآدميتهم أو في الاقل بموتهم البطيء.
هذا لم يشغل المحتجون الذين حملوا رايات الشرف الرفيع على رؤوس الرماح في تلك العواصم، ولا جرائم الاغتصاب اليومي للخادمات القرويات القادمات للعمل في المدن العربية وألوان الذل والهوان والجريمة التي تمارس على أرواحهن واجسادهن وبعضهن أمهات أو صبايا يذبلن كل يوم بصمت أخرس اصم على مقربة من مؤسسات الدنيا، ومقرات الاحزاب، ومؤسسات الاخرة، ومؤسسات الحاكم، كما لو أن موتهن واغتصابهن العلني عمل مشروع ومباح مادام كل شيء يتم في الظلام، في الديجور، خلف الابواب المغلقة، هناك لا أحد يسمع أصوات الضحايا المغتصبات، كما لا أحد يسمع صراخ السجناء وهم يعذبون ويغتصبون في السجون التي تتكاثر وتعمل بنشاط غريب طوال اليوم كالصيدليات الخفر.
ولم ير المحتجون وهم يمرون في هذه الشوارع عمال الارصفة والنعاس والشحوب والذبول والوجوه اليابسة وهي تموت على الارصفة حالمة بمجرد رغيف وفراش وحلم عائلة.
كما ان هؤلاء ربما لا يعرفون، لأنهم يعيشون خلف عالم وردي صنعته الاوهام والشعارات والاكاذيب، ان عدد العاهرات في العالم العربي صار جيشا يكفي لو جمع لغزو اسرائيل..!واننا نضحك على انفسنا. نح عراة امام ولا يرنا عرينا الا طفل كبير أروائي مبدع مثل حيدر حيدر.
المحتجون تعودوا على الرواية التي يرويها الفقيه عن عالم صلب متماسك لا يتغير، وعن خبز وجواري واعناب في عالم آخر، وتعودوا على رواية يرويها السياسي عن الحزب والانشقاق والسجن والتعذيب وثقافة تمجيد الموت وعن عالم أرضي تصنعه الايديولوجيا حتما ونحن نيام، وعن رواية الجنرال وشيخ القرية والمقاول والسفير، والجلاد، والزعيم.
اما الروايةالتي يرويها روائي خارج من المطحنة وعالم الزور ويكشف لنا فيها حقيقتنا وعالمنا السفلي ودهاليزنا السرية وسخف معاييرنا، فهذا الراوي
الجديد ليس له من وظيفة سوى تخريب عيشنا القرمزي على هذا الخازق الممتد من طنجة حتى البصرة.انه المرتد الجديد.لا شيء في العالم العربي يستحق الاحتجاج ابدا إلا رواية حيدر حيدر أو رواية غيره كما لو اننا نعيش اليوم في الفردوس الارضي المنشود ولم يعد ينقصنا إلا الخوف على مؤخرة المواطن العربي لكي لا يدخل فيها المحرم، مع ان القواعد العسكرية الاجنبية دخلت مددنا وقرانا ومطاراتنا وصارت تتحكم بسرير حكامنا ومناهج تعليمنا وتصادر ذاكرتنا بالقوة والتخويف أو التهديد أو الابتزاز.
بل هناك ورغم احتمالات الحرب والابادة والغزو والخراب، من لم يعد يعرف أن يكتب حرفا واحداإلا عن شيء واحد ووحيد هو دفاعه الوحيد ،في عالم مضطرب، عن عذريته الجنسية وصيانتها من الاحتلال !
كأن القضية اليوم عندنا ليست هي البحث عن المفاعل النووي السري، بل البحث في الفروج والثقوب، فإذا سلمت هذه من الاذى، سلمت هذه الامة من العار، حتى لو كانت جيوش الاحتلال على مقربة أمتار من المساجد العربية، حتى لو كانت بنات الليل، ضحايا الحاكم الى حد كبير، وضحايا الصمت الى حد أكبر، يسرحن على مقربة من قبور الاولياء ويضربن المواعيد في مقابر السلف الصالح.
ماذا قال حيدر حيدر أكثر مما تقوله أية طفلة في عالمنا هذا وهي تعض على اصابعها تحت انفاس عجوز مخمور مشوه جاء بها من القرية بصفة خادمة فحولها الى جارية؟.
إن دمعة واحدة من دموع طفلة مغتصبة أكبر واخطر وأقدس من كل الكتب والروايات والاماكن بما في ذلك الاماكن المقدسة، فلا مقدس غير الانسان.
هؤلاء لا يعرفون ان اغتصاب السلطة هو انتهاك للشرف، وغياب الديمقراطية هو انتهاك للشرف والعرض، وغياب العدالة هو انتهاك للشرف، وان شرف الانسان ليس موجودا أسفل الصرة فحسب، بل في حريته وخياراته ودولته وحقوقه وفي كونه سيدا على ارضه وجسده وثروته.
من ضواحي الدار البيضاء الى ضواحي عمان ودمشق، ومن إسلام آباد الى طهران، في اي مكان من عالمنا، أو محرقتنا، أو مباءتنا، وجدت الموت العلني المخجل في أزقة ضيقة أو منازل تعيش فيها اشباح بشرية مع الفأر والصراصير والافاعي والقطط والكلاب، وكل هذه المخلوقات تموت بصمت مع المشاعر والرغبات والاحلام والاماني.
كيف، اذن، يتوازن الانسان، ويؤمن بقيم أخلاقية أو دينية أو سياسية أو وطنية اذا كان يتم اغتياله يوميا على حنفية الماء أو قرب محطة الباصات أو من المطر النازل من ثقوب السقف الذي لا يصلح كزريبة؟
ولماذا يبدو الحاكم العربي مشغولا بقضية الاصولية واليسار وحركات الشباب السرية والعلنية، ولا تشغله بالقدر نفسه أو اقل الدعارة الجنسية والدينية
والادبية والحزبية والقومية والحربية والاقتصادية؟.
السبب بسيط جدا: ان الاصولية واليسار وحركات الاحتجاج المتنامية تشكل خطرا على جوهر السلطة وتعيد طرح السؤال الاساسي الملغي والمحذوف والمنفي: من اين لهذا الحاكم الحق بالسلطة؟.
أما الموت في المقابر، اغتصاب الخادمات القرويات، الدعارة، البطالة، مدن الصفيح، التعددية، تداول السلطة، الشفافية، الشرعية الدستورية الحقيقية
وليست المزيفة، الخدمات، الحريات، الحقوق...الخ... لا تبدو موضوعة على جدول اعماله لأنها من اختصاص رجال البوليس والمخابرات وعسس الليل والنهار.
والذين يعبرون البحر بالقوارب ويموتون في الطريق؟ هؤلاء ليسوا بشرا، بل كائنات شهوانية متعطشة للحرية الاوروبية والمرقص والهواء والريح والحذاء وجواز السفر ومائدة طعام تليق في الاقل بكلب.
خبر سمعته البارحة من محطة تلفزة عربية يقول حرفيا( تم انقاذ تسعة غرقى من بين ثمانية عشر كانوا مرشحين للهجرة السرية! ).بالدارجة: حرّاكة !
والحراك لفظ من شمال افريقيا عن المهاجر السري.واستوقفني تعبير( مرشحين!).لمن (مرشحين) هؤلاء؟للبحر، لأسماك القرش، للنسيان، للموت، أم انهم وليمة لأعشاب البحر؟.
ان رواية حيدر حيدر( وليمة لأعشاب البحر) هي نشيد حزين عن الحرية والموت والسجن والحلم والامل.انه نشيد ايوب الديني.مجموعة من اليساريين العراقيين نزلوا الى الهور في بداية السبعينات يراودهم حلم كبير وطفولي في تغيير صورة الوطن وجعله أجمل وأفضل ولو بالسلاح. صحيح ان هذا
الحلم ضخم، وان فتية بواسل مثلهم ليس بمقدورهم اعادة صياغة وطن تتحكم فيه قوى المال والنفط وفائض هائل من الجيش والذهب والشركاء والحلفاء الكبار والصغار، الا ان الحلم نفسه جميلا ومشعا ونقيا، وان هدف هذه المحاولة ليس في نتائجه المأساوية بل في غايتها وهي غاية كانت ولا تزال نبيلة: حلم التغير وجعل الحياة مكانا قابلا للعيش وليس زريبة بهائم كما هي الان.
وفي كل مكان ذهبوا اليه، تكون الصورة القاتمة نفسها، ومع مجاميع هاربة اخرى من دول أخرى. وفي الجزائر تبدأ رحلة الذكريات ومحاولة تعويض مافات من قطار العمر سواء عن طريق الخمرة أو الجنس أو الحب أو التأمل أو الحنين أو الحزن أو القلق أو الكآبة مفجرة للاسئلة الكبيرة والمصيرية.
لكن كل ذلك لم يجد ابدا.
انه الوقت الضائع وهؤلاء سيطر على حواسهم جنون الثورة والعصيان والتمرد ولوثة تحقيق العدالة وانجاز حلم الحب والنقاء العاري.وكرد فعل على عالم يتكلم بلغة وهم يتكلمون بلغة اخرى، شرعوا في انتهاك اللغة وتعريتها والكلام بلغة جارحة عارية تقول الشيء وتمسه بما في ذلك أشد المناطق حساسية في الجسد.
وانتهاك اللغة في هذه الرواية ليس ابتذالا كما ذهب المحتجون الذين سيعود بعضم الى منازله لإغتصاب الخادمات الفقيرات، بل هو نوع من التمرد على لغة
المؤسسة التي ترفضهم، اي انه نوع اخر من العصيان.
اللغة هي مؤسسة وسلطة.
ورفض التحدث بلغتها هو موقف سياسي واخلاقي مادامت هذه المؤسسة ترفض هي الاخرى اي حوار معهم سوى حوار الاغتيال والسلاح والموت.
والجنس الموجود في هذه الرواية ليس جنسا، بل هو رغبة وشهوة بشرية طبيعية ونهم للحياة بعد كل الخسارات.
والشهوة نقيض السلطة، لأن الشهوة فردية والسلطة مؤسسة. اذن ان انغمار هؤلاء في شرب الحياة من خلال الرغبة والجسد وانتهاك اللغة هو تمرد جديد على بربرية المؤسسة.
ان الدولة/ المؤسسة/ تريد مصاردة ليس فقط أعضاء الجسد البشري لمصالحها في الحروب وبناء الثكنات والسجون والسرقة، بل تريد مصادرة الرغبة والعاطفة من هذا الجسد على اساس انه ليس جسدا، بل عقارا، وهو ليس مواطنا في دولة بل خادما في مزرعة، وهو ليس بشرا بل بهيمة في مصنع أو في جيش أو حقل.
ليس هناك مبدأ الشراكة في الارض، بل مبدأ السيد والاجير.
نحن لسنا مواطنين في هذه الارض التي ولدنا فيها سهوا بعد نزوة آدم وخروجه من الجنة من اجل تفاحة لعينة كان يمكن أن نشتري له منها اطنانا لو انه انتظر، وخرجنا عراة الى هذه البرية المخيفة،بل نحن مخلوقات وجدت متسللة الى أوطان مسموح لكل مخلوقات الارض من جيوش اجنبية وجواسيس ومقاولين وأصحاب شركات وراقصات وادوات حلاقة واحذية ومكانس كهربائية الدخول اليها بإحترام إلا نحن.
نحن لنا الليل، والسجن والمقبرة والمشرحة، والمنفى،ونحن ايضا وليمة لأعشاب البحر!