(دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس الروحي)
************************************************************************************
(1)
تبنيت في معالجات سابقة فكرة اعتقدت بها أن الوجود واحد فاعل ، وأن فاعليته الواحدة تتحقق في أفعال كثر.
وأنا أشك الآن في صحة هذه الفكرة أو هذا المعتقد، الذي أحسب أنه لا يتفق مع عقيدتي في واحدية الوجود.
فالعقيدة التي تبنيت الدفاع عنها في معالجات سابقة، لا مهرب لها من تقسيم الوجود إلى فاعل وفعل، رغم إلحاحي على الوحدة المطلقة بين الفاعل وفعله. فإلحاحي قد يكون من باب الرغبة في تأكيد مقولتي في واحدية الوجود، لكنه – إلحاحي – لا يلغي تسليمي، الذي قد يكون غير مقصود، بصحة انقسام الوجود إلى فاعل (خالق) وفعل (خلق). فإني اعترف بأن تفكيري لم يبرأ من ارثي العقيدي المتمحور حول فكرة الله الخالق أو الفاعل الذي خلقَ أو فعلَ خلقا أو فعلا عديدا.
وعندما آمنت بالوحدة بين الفاعل والفعل، كنت في حقيقة الأمر، أريد إنقاذ إيماني بوجود الفاعل (الله)، بواسطة نفي صحة العقيدة التي تفرق بين الله والخلق، العقيدة الثنائية التي كنت أتصور أنها لا تستقيم مع فكرة عن الله تراه مطلق الوجود. كان ر فضي لثنائية الخالق والخلق (المخلوق في الفكر الديني التقليدي) مبنيا على تسليمي بصحة عقيدة مطلقية الوجود الإلهي. وأمام وقائع الكون المؤكدة، وفي مقدمتها واقعة تفكيري وكيانيتي، لم أستطع إلغاء حقيقة كثرة الأفعال. ولأني أحمل إرثا عريقا حملني على الإيمان بالله ذي الوجود المطلق، ذي الوجود الأصيل، ذي الوجود الذي لا يبدأ ولا يتنهي، الحاضر الذي لا يغيب، أمام هذا الإرث، وتحت ضغطه التاريخي، رددت كثرة الأفعال إلى الفاعل الواحد. واستخدمت فكرة الفاعل الواحد، الله الدائم، لضمان وجود الكثرة، كثرة الكيانات الواقعية، ذات الأصل الواحد، هذا الأصل، كما كنت أعتقد، هو الفاعل الواحد، أي: الله الخالق.
إنني اشعر الآن أن تسليمي بالفاعل والفعل لا يجعلني بمنجاة من التسليم بثنائية الوجود، وإن كان ذلك يقع بدرجة مخففة عن درجة الإيمان التقليدي الذي يسلم تسليما فجا بقسمة وجودية ثنائية طرفاها الله والعالم اللذان يمتازان عن بعضهما انميازا فارقا.
إن العقيدة التي تؤمن بوجود الله، الفاعل، هي عقيدة عقلية، ولا تخرج من دائرة الفكر. وكما كنت أرى، فإن الفاعل مطلق الوجود، والفعل ذو وجود محدد، وهذه المقولة تشكك في عقيدتي الواحدية التي تسلم بأن الوجود كله واحد. فعقيدتي الواحدية عقيدة فكرية كما العقيدة في الله مطلق الوجود، أو في الله بأية صفة، عقيدة فكرية. والتسليم بوجود الفعل المحدد هو قضية فكر ثابتة من الوقائع، وتقبل الرد للوقائع، ويمكن التحقق منها، ويمكن اختراعها؛ فهي قضية تجريبية، قضية خبرة، لا مثل قضية الوجود الإلهي. عدم التماثل هذا يحول دون توحيد المقولتين معا في مقولة واحدة، هي مقولة واحدية الوجود.
ستبقى مقولتي في واحدية الوجود هدفا للشك لانطوائها إلى التسليم بقضيتين إحداهما فكرية والأخرى تجريبية، الأولى مطلقة في التصور، والأخرى محددة بالعيان، وبين المطلق والمحدد اختلاف.
والمعالجة الراهنة، ذات هدف مقصود. فإنني سأنتقد مفهومي الذي يعتقد أن ثمة وجود مطلق هو وجود الفاعل، وثمة وجود محدد هو وجود الفعل. ونظريتي في واحدية الوجود تنشأ من اتصاف كل ما يوجد بالوجود. فواحدية الوجود، في عقيدتي، هي واحدية اتصاف كل ما يوجد بصفة واحدة هي صفة الوجود، وألمس الآن عدم دقة قولي الذي يتحدث عن الصفة الوجودية الواحدة لكل ما يوجد، فإن كل ما يوجد لا يقبل أن يوصف بالوجود، فالوجود ليس صفة للوجود، هو ذاتية الوجود، هو ذاتية ما يوجد، فقولنا إن الوجود (س) يوصف بالوجود لا جدوى منه، فهو عقيم علميا. لا ينبغي أن نتحدث عما يوجد بأنه يتصف بالوجود، فالذاتية تغني عن الوصف. ما يوجد بذاتيته، يوجد بشيئيته، بكيانيته. ما يوجد ممتلئ بكيانيته. ولا يوجد ما يوجد إلا ممتلئا بكيانيته. إن الكيانية وجود ممتلئ بذاته، وبالنسبة لنا، فلا وجود لوجود إلا بكيانية ممتلئة بذاتيتها الوجودية.
وميلي للعدول عن استنشاء عقيدتي الواحدية من واحدية صفة كل ما يوجد، التي هي صفة الوجود، لن يهدد هذه العقيدة الواحدية، التي تواصل إثبات جدارتها بمقولة أخرى، أو بأكثر من مقولة. فامتلاء كل كيانية بالوجود مقولة واحدية صادقة بالنسبة لكل كيانية. وأيضا، الذاتية الوجودية مقولة واحدية.. وواحدية كل كيان، كل فرد، مقولة صادقة.. والعوامل الجامعة لعدد من الكيانات (المجتمعات والأنظمة) تخلق حالة واحدية (وحدة وظيفة).. والنزوع الإنساني للتقارب نزوع واحدي.. وفعل الحب الجامع لاثنين فعل واحدي….
أعود الآن إلى مقولة الفاعل والفعل، أو إلى مقولتي الفاعل والفعل. هل يمكن التخلص من أحد طرفيها دون حدوث خلل في تصورنا للوجود؟
بيت لاهيا – غزة في 2/4/1966
(2)
بين مقولتي الفعلية والفاعلية تمايز.
الفعلية كيانية يؤكدها الواقع المشترك. الفعلية كيانية الفعل. والفعل كيان. الفعلية مقولة فكرية، وواقعية، وقوعها ممتد إلى خارج آلة الفكر، فهو ذاتية وموضوعية وموضوعيتها عامة أي يمكن اشتراك أكثر من طرف في تأكيدها استنادا إلى ما هو ليس ذاتيا.
الفاعلية مقولة ذهنية، أي توجد في حدود ما هو ذهني. هي نشاط فكري ولا تقبل حكما مشتركا يقبل التحقق منه بالاستناد إلى ما هو خارج الذات المفكرة.
والفعلية قضية بسيطة يمكن معرفتها بواقعه واحدة ودون حاجة لربط واقعة واحدة بواقعة أخرى.
الفاعلية قضية مركبة، فهي استنتاجية، ولا يمكن ردها إلى الواقع خارج الذاتية، فالواقع يتكون من وقائع كل واقعة منها فعل.
الفعلية قضية لا تمنح قضية الفاعلية.
الفعلية هي نقطة البدء لتفكيرنا. فإذا ابتدأنا من قضية الفعلية فلن نصل إلى قضية الفاعلية. فكيف ولدت فكرة الفاعلية؟
لاحظ المفكرون القدماء ظاهرة التغير. وكانوا يعتقدون أن الأشياء (الأفعال) كلها ساكنة، في الأصل، وأن الحركة طارئة عليها، أي، لكي تتحرك، تحتاج إلى من يحركها، ففصلوا، بالتصور، الشيء (الفعل) عن حركته. أو، فصلوا، بالتصور، بين الفعل والمحرك، فقالوا: الوجود فاعل وفعل (= محرك للشيء، وشئ ساكن أصلا، متحرك بحركة طرأت عليه من محرك خارجه).
وكان الفكر يخطئ فهم الشيء (الفعل) ويعتقد أنه مغلق في ذاته. وثبت فيما بعد، أن الحركة هي الأصل، فكل شئ متحرك، وأي شئ منفتح على ذاته، منفتح على غيره، غير مغلق زمانيا ولا مكانيا. فهو متغير تغيرا متواصلا متصلا. إن الشيء (الفعل) يتحرك بحركيته. وحركية الشيء لا تنفصل عن ماديته، فكل مادة متحركة، والمادية حركية. المادية حركة، والحركة مادية، الحركية مادة.
بيت لاهيا – غزة في 5/4/1996
(3)
ها أمامي بناء، مسجد، هل بناه فاعل؟ الرد العاجل على هذا السؤال هو: أجل، قام فاعل بفعل هذا البناء (الفعل).
وهذا الرد العاجل، يصدر عن الرجوع بالخيال إلى اللحظة أو المدة الزمنية التي كان يجري فيها بناء هذا المبنى، كما يصدر عن مفهومنا الذي يفصل الفاعل عن فعله، أو الذي يفصل الفاعلية عن الفعلية. وأنا كنت أقول بالفاعلية والفعلية وأشدد على واحديتهما، زاعما أن الفاعلية هي فاعلية بما تفعله من أفعال، وأن الفاعلية تكون في أفعالها، وقد لا تستغرقها كل أفعالها، فتظل، في زعمي مما قبل، فتظل الفاعلية، في بعض حالاتها على الأقل، وكنت أعنى الحالة الإلهية أو الوجودية المطلقة (الحرة)، أكبر من الفعلية، وأن الأخيرة محددة، ذات بداية ونهاية، غير الفاعلية التي هي صفة الفاعل، وأعني فاعلية الوجود الواحد المستغرق لكل وجود فردي، التي لا أول لها ولا آخر، وغير المحددة بالنهايات.
وكنت أقول إن الفاعل يُعرف من فعله أو أفعاله. وهاأنذا أسأل: إذا كان كل فعل (معاين بالخبرة أو معقول) ذا بداية ونهاية، أي محددا، فمن أين جاءت لي فكرة الفاعل غير ذي البداية والنهاية، والأفعال كما أعرفها لا تمتلك صفة تبرأ بها من مقولتي البداية والنهاية، وما كان خلواً من اللابداية واللانهاية، هل يصلح مقدمة نستنشئ منها نتيجة تزعم أن ثمة فاعل يمتاز عن كل فعل بأنه متحرر من التحديد أو من البدايات والنهايات؟!
ثم ما الذي يدعوني إلى أن أزعم أن الفعل يستر أو يشير إلى أو يُبطن وجود فاعل؟
أعود إلى البناء الذي أمامي… تقول لغتنا الدارجة، أو فكرتنا الدارجة، قام فلان ببناء هذا البناء في عام كذا… وتلغي هذه اللغة، أو يلغي هذا التفكير الوجود كله منذ اللحظة التي يسجلها تاريخ أول البناء وإلى هذه اللحظة… هذا التفكير يغمض النظر عن الاختلاف الحاصل على هذا البناء على امتداد اللحظات التي عاشها. ويلغي هذا التفكير الفروق كلها التي تفرق بين هذا البناء في كل لحظة من لحظات تاريخه.
هذا البناء الذي أمامي هو، بناء مختلف عن البناء الذي تقول لغتنا الدراجة أنه جرى تشييده في تاريخ كذا، وبالفاعل كذا. البناء الذي أمامي الآن هل فعل من فعلية هذه اللحظة التي انظر فيها إليه.
وهذه اللحظة جديدة، وفعليتها جديدة، وفعل فعليتها جديد. إذا دققنا الفحص لهذا البناء الذي أمامي في اللحظة التي انتبهت فيها إلى وجوده أمامي، وإذا دققنا الفحص لهذا البناء الكائن الآن في لحظة غير اللحظة التي انتبهت فيها إليه أول شروعي في هذه الكتابة، فإننا سنكتشف أن ثمة اختلافا بين "هذا (ذاك) البناء"، و"هذا البناء"، وهو اختلاف، إذا صدقنا وتحدثنا بلغة دقيقة، هو اختلاف يستدعي أن تقول إنهما بناءان لا بناء واحدا.
وما زلنا نردد، في سياق دفاعنا عن صدق الإيمان بوجود الله (فاعل للعالم)، قولة الأعرابي:"الأثر يدل على المسير، والبعر على البعير.." وننسى ونحن نردد هذا القول أن نميز بين الأثر والبعر من جهة، والمسير والبعير من جهة أخرى، إني لا أزعم أنه ليس ثمة علاقة بين الأثر والمسير أو بين البعر والبعير، لو خاطرت بزعم هذا الزعم، فسأهدم، في وهمي، القول بنظريتي الواحدية التي تستند إلى قانون السببية، وباعتبار الأخير يعترف بوجود وقائع متعددة، ووجود ارتباط بينها هو الذي ينسج وجود وقائع جديدة. وهذا ما أود قوله هنا. فالأثر واقعة جديدة نسجتها وقائع ارتبطت معا في نسيج جديد هو مباين لكل عناصر تكوين الواقعة الجديدة. فالأثر أوالبعر ليس من إنتاج واقعة المسير أو واقعة البعير فقط. ثمة وقائع أخرى غير المسير أو البعير شاركت في إنتاج واقعة الأثر أو البعر. لو أن المسير لم يكن على أرض تحتفظ بأثر المرور عليها، هل سيكون هناك أثر؟ هل ستكون هناك واقعة الأثر المحفور في الأرض؟. قد يوجد أثر مختلف، ولكنه ليس الأثر الذي تحدث عنه الأعرابي، أثر الأعرابي من خلق الواقع البيئي ومن خلق إدراكية الأعرابي ومن خلق فعل إحداث الأثر في الأرض ومن خلق عوامل أخرى سيكشف عنها تحليل أدق للواقعة التي نشير إليها بقولنا هذا اثر لمسير؛ هو ليس أثرا لمسير، هو أثر لعدد من الوقائع التي تضم واقعة المسير. واقعة المسير واقعة تامة في وجودها، وواقعة الأثر واقعة تامة في وجودها وتقبل كل منهما الإشارة إلى أي منهما بأنهما واقعتان مستقلتان.
ولكن أية واقعة ليست مستقلة عن عواملها التكوينية. وكل واقعة تساوي، بالضبط، عواملها التكوينية وهي مستغرقة في فعل تكوين الواقعة، هذا التكوين الذي يتم بارتباط العوامل كلها، في زمان هو أحد العوامل التكوينية، وفي مكان هو، أيضا أحد العوامل التكوينية، للواقعة المعنية، والقابلية للارتباط بين عدد من العوامل هو أيضا عامل من عوامل تكوين الواقعة. الواقعة هي المعطى المباشر لعوامل التكوين، للتكوين الجديد، هي التكوين الجديد الذي لا يفصله زمان ولا مكان عن عوامله. التكوين الجديد هو عوامله المتوحدة في نسق جديد هو التكوين الجديد. التكوين الجديد فعل (واقعة) ليس بينه وبين التكوينات التي شاركت في تكوينه (العوامل المكونة له)، ليس بينه وبينها مسافة ولا زمن، ليس بينه وبينها فراغ وجودي يسع الإشارة إلى وجود ما.كل وجود هو واقعة وجودية ممتلئة بذاتها في لحظتها.
الوجود فعل وفعل وفعل… فعل يلد فعلا ولادة مباشرة، ولادة متلاصقة الولادات.. (أ- مجموعة عوامل في نسق واحد) من (ب- مجموعة عوامل في نسق واحد)، و(أ) و(ب) أفعال.. والفعل من فعل، فما الذي دعاني إلى الزعم بأنه ثمة فاعل؟
كل فعل هو فعل ممتلئ يالدينامية. ومحددودية الفعل هي ديناميتية، لو كان الوجود كله فعلا واحدا، لكان خلوا من الدينامية، ولا نستطيع القول إن الدينامية شئ آخر غير الكائن، إن كائنية الكائن هي ديناميته، وليس ثمة كائن يستقر على حال واحد. كل كائن هو حركة في حركة الكينونة التي هي حركية الفعلية أي حركة استغراق الوجود في أفعاله. الدينامية ذاتية في كل كائن لا تنفصل عنه ولا تتميز عنه، ولا يشار إليها إشارة مستقلة كما كان الفكر القديم يقسم الموجودات إلى قوة وفعل أو صورة ومادة. لا قوة في الوجود كله بلا فعل، ولا فعل بلا قوة ولا صورة بلا مادة ولا مادة بلا صورة. الوجود كله مستغرق في فعل وفعل وفعل، كل فعل مطابق لقوته الوجودية أو كل صورة مطابقة لمادتها مطابقة تجيز لنا أن نقول عن القوة هي الفعل ذاته أو عن الصورة هي المادة ذاتها.
وكل كائن مستغرق في ديناميته. وديناميته التي هي كينونته هي الخالقة له. ليست خالقا مغايرا، واعتذر عن انزلاق كلامي واستخدام كلمة الخالقة أو الخالق. الكينونة خلْق، أي: فعْل، وخلقيتها أيْ: فعليتها كائنة فيها كائنية مستغرقة لها كلها. الكائنية لا تتسع لمقولة وجود الفاعل لأن الكائنية فيماأذهب هي الكينونة، هي الكون (الفردي)، هي الكائن بالكون (الفردي) هي الكائن بالفعل هي كائنة بالفعل هي خلق للفعل هي فعل للفعل. الفعل خالق ذاته، ولا يصح استخدام كلمة خالق إلا في هذا القول: الفعل يخلق ذاته، فهو، أي الفعل خالق ذاته. الفعل يخلق الفعل بمحدودية الفعل التي هي أصل توتره والتي هي القوة النازعة دوما، بما تنطوي عليه من دينامية هي الفعل كله، المحدودية هي تكثف الفعل واشتداده، ومن هذا التكثف والاشتداد يجاوز الفعل ذاته وينخرط في فعل جديد لتتواصل فعلية الوجود من فعل إلى فعل، كل منهما مفتوح على الآخر بالمحدودية وبالتوثب ليكون الواحد منهما فعلا آخر.
الفاعلية التي ليست من كونية الفعل لا محل لها. وهي افتراض لا حاجة له، ومقولة لا سند من الواقع لها. والفعلية تمتلك صلاحية تفسير الوجود الذي يخلو من غير الفعلية، الممتلئ بالفعلية الخالقة لذاتها.
هذا المبني الكائن أمامي الآن، هو فعل شاركت عوامله المتعددة في تكوينه. والتكوين الراهن له مختلف عن التكوين الذي سبقه لأختلاف عوامل التكوين الراهن عن عوامل التكوين السابق. نرمز إليه بالرمز (ن) إشارة إلى أول تكوين له، و(ن) فعل كان من عوامل تكوينه مجهود إنساني دخل فعل كينونة المبنبي (ن). وفي زمان تال صار (ن) إلى (ن1) و(ن1) له عوامل تكوين غير عوامل تكوين (ن). و(ن) من عوامل تكوين (ن1). الجهد الإنساني لم يكن "فاعلاً" للمبنى ولكنه كان عاملاً من عوامل تكوين المبنى (ن)، فهو لا أهمية له إذا لم يدخل في الفعل الذي هو المبنى (ن). وفي فعل ما، قد يكون أحد العوامل ذا أهمية أكبر من أهمية العوامل الأخرى المكونة للفعل. ولكن الأهمية الأكبر لن تلغي أهمية أي عامل تكويني، فكل عامل تكويني مشارك مشاركة حقيقية هامة وضرورية في الفعل الذي هو معطي مساو لعوامله حينما دخلت هذه العوامل في واحدية خلق جديد . إذا قلنا إن عوامل الفعل (ن) هي (أ، ب، ج، د)، فإن الفعل (ن) هو، بالضرورة معطي هذه العوامل حين دخولها في واحدية (ن). وإذا اختلفت العوامل فكانت (أ، ب، ج) فلن يكون المعطي هو (ن)، سيكون شيئا آخر مختلفا. وعوامل تكوين (ن1) ليست هي بالضبط عوامل تكوين (ن). إن اختلاف العامل الزمني أو البيئي يؤدي إلى اختلاف((ن1) عن (ن). ومع ذلك، فإن المبني يظل هو موضوعا له شخصية تاريخية مستقلة عن شخصية كيان آخر. إن (ن، ن1، ن2..) هو تاريخ المسجد المتميز عن تاريخ آخر يتكون من (س، س1، س2..). إن (ن) أقرب إلى (ن1، ن2..) من قربه إلى (س، س1..). إن ارتباط (ن، ن1، ن2..) معا أقوى من ارتباط (س) و( ن)، أو (س1) و(ن1)، أو(س2) و( ن2)... والفعل (ن) يدخل مع الفعل (ن1) في علاقة اتصال شديد أقوى من العلاقة التي يدخل فيها الفعل (ن) مع الفعل (س). وتأتي شدة العلاقة الاتصالية من كون أن هذا الاتصال هو بمثابة الغزل على مغزل هو جرثومة الكيانية التي تقبل الانخراط العضوي مع عوامل أخرى أقل أهمية تراتبية من العامل الجرثومي الذي هو الأصل المشترك لمجموعة من الفعليات ذات العلاقات الحميمة فيما بينها. للعامل الجرثومي الأهمية الأولى من حيث الترتيب، ولا تلغي هذه الأهمية أهمية أي عامل آخر.
ألغى مذهبي الذي اتحدث عنه هنا، ألغى الفاعل الذي كنت أعتقد بوجوده وبواحديته، وبأنه المرجعية الواحدية للكثرة الوجودية التي هي، كنت أقول، تحققات الفاعل الواحد. هل اقتربت من مذهب الكثرة وابتعدت عن مذهب الواحدية؟
يوجد في الواقع أكثر من فعل (واقعة/ كينونة)، لذلك، نقول إن الوجود مركب من أفعال لكل فعل منها وجوده الخاص به. وعلى وجه آخر، نقول إن الوجود بسيط من حيث هو مركب من موجودات (أفعال، وقائع، كينونات) كل واحد منهما هو فعل (موجودات….)،أي: من حيث مادته التي هي فعل. كذلك، كل فعل هو مركب من عوامل، وكل عامل هو بسيط، فالفعل بسيط لتكونه من العوامل التي كل واحد منها بسيط، والوجود (الفعل) الذي يتكون من بسائط (عوامل) هو بسيط. إن العاملية كما الفعلية، مقولة بسيطة، فالوجود، أفعالا وعواملا (تتكون منها الأفعال) بسيط مركب معا. كل مركب بسيط حيث كل فعل أو عامل يشارك في كائنية هو بسيط. والتركيب هو من بسيط وبسيط.
والبسيط واحد والمركب كثر، الكثر إذن مركب من واحد وواحد وواحد... (بسيط وبسيط وبسيط...). والبسيط كيانية لا تنفك إلى كيانية أخرى مطابقة للكيانية المنفكة. أي: (أ) (الذي يتكون من أ1،أ2،أ3..) هو كائنية (واحدية) بسيطة لا تقبل أن تنقسم إلى كائنية أخرى.
الماء كائنية بسيطة من حيث هو ماء. فإذا تفكك إلى أيدروجين وأكسجين فإن كائنيات أخرى تظهر غير كائنية الماء البسيط الذي إذا انفك وجوده فإنه لا يستمر محتفظا بوجوده الخاصة بكائنيته المائية. إذا انفك أي كائن فإن كائنات أخرى غيره تظهر في الوجود وكل منها ذات وجود بسيط. الماء الذي ينفك إلى أيدروجين وأكسجين يفقد مائيته أي كائنيته المائية التي هي - وهي تفقد مائيتها - تدخل في تكوين كائنية جديدة وأكثر منها الأكسجين والهديدوجين. وكل كائنية من الكائنيات الجديدة هي بسيطة طالما كان لها كائنيتها.
إن كل كون بسيط. والبسائط تشارك في خلق كائنات جديدة بالتركيب المطابق للبساطة مطابقة تامة لا يحللها إلا التصور العقلي الذي يتمتع بقدر من المرونة التي يمكن تقديرها على أنها نقيصة عدم الدقة في التفكير الإنساني, هذه النقيصة الفكرية هي مطلب عملي، فإن تعاملنا مع معطيات المعرفة أو مع موضوعاتها تتطلب منا شيئا من"التفويت" أو التساهل.
بيت لاهيا – غزة – 12/4/1996
(4)
نحن نحتاج إلى قدر من التساهل لتواصل الحياة . ولو اتسمت معرفتنا بدقة تامة فإننا سننتهي إلى تصور يلغي الوجود تماماً في إطار العقل. نحن نتعامل مع الوجود تعاملاً مباشراً بالإدراك، بالبصر والسمع، وبصرنا وسمعنا ينقلان لنا أخبارا عن حوادث وقعت في الماضيٍٍٍٍٍٍٍ. إنهما لا ينقلان لنا حاضر الواقع . ودائماً، بيننا وبين الأحداث مسافة زمنية هي تلك الذي يستغرقها انتقال صورة الحوادث المرئية والمسموعة إلى أذهاننا إضافة إلى الوقت اللازم لفهمها. مثال: الشمس التي نراها ، إنها شمس مائتة ، فأنا لا أرى الشمس في لحظة وصول صورة الشمس أو تكونها في حاستي المبصرة، لا أرى الشمس التي هي كائنة في ذاتها في هذه اللحظة. أنا أرى الشمس التي كانت كائنة قبل هذه اللحظة بمدة هي المدة التي استغرقتها حركة انتقال الشمس من زمان ومكان وجودها إلى زمان ومكان إدراكي المبصر لها. إن اللحظة التي نرى فيها الشمس غاربة هي لحظة لا تسجل بدقة حادثة غروب الشمس في ذاتها وهى حادثه تكون قد ماتت ولم تعد وجودا في ذاته، إنها وجود في ذاتي لا يعادله وجود حقيقي أو موضوعي، أو وجود مستقل بذاته عني. في اللحظة التي أرى ٍفيها غروب الشمس فإن هذا الغروب واقع في ذهني وليس خارجه، هو صورة ذهنية.
كل الكائنات التي نتعامل معها هي صورة في ذهني عن كائنات نعتقد أنها كانت كائنة. ولو التزمنا بهذا المفهوم فسنقول إن هذا الوجود الذي هو كائنات كانت كائنة ليس له وجود حقيقي موضوعي طالما أن كل ما أعرفه عنه ينتمي للماضي. وليس للماضي وجود قائم بذاته ولكننا أنا وغيري ، نتجاوز عن هذا المفهوم ونتعامل مع الوجود بكائناته (التي كانت) كما لو أنه وجود لكائنات قائمه بذاتها في الحاضر، وهي ليست هكذا . نحن جميعا أنا والآخرين، لا نتعامل مع وجود موجود في الواقع بل مع وجود هو في أذهاننا فقط . كل منا ، يتعامل مع وجود في ذهنه، أيْ يتعامل مع ذهنه، أي مع ذاته، هذا إذا كان تعاملنا مع ذاتنا يجري في الحاضر وبين طرفين كل منهما يتمتع بالوجود الحاضر (الحقيقي). وأنا سأواصل قولي بما اعتقد هنا حول التعامل مع الذات في معرفة الوجود كله والتعامل معه إلى أن يتبين لي أن تعاملي مع ذاتي لا يتم في الحاضر أو بين طرفين يفتقدان، أو يفتقد أحدهما شرط الحضور التام.
ومن فكرتي التي أتبناها هنا أستطيع أن أستنتج أن الوجود، وأعنى الوجود الذي يتوفر له شرط الحضور التام ، أنه لا يضم غيري، وهذا صحيح من وجهة نظري بالنسبة لكل واحد غيري وليس بالنسبة لي أنا. الوجود يتكون من واحد هو أنا ولا وجود، بالنسبة لي، لغيري البته. ولو تتبعت تاريخ وجود غيري الذي تكونت فى ذهني صور عن ماضيه، فإنني سأعمق ثقتي في أن الوجود كان دائما، بالنسبة لي، هو أنا فقط، ولا وجود قبلي ولا وجود بعدي. إن الوجود واحد هو وجودي أنا، إنني أعني إنه وجود "أنا" وكل "أنا" واحد، والواحد بسيط وذو أول وذو نهاية.
الواحدية مقولة لا تزال تصلح لوصف الوجود بها. وتمسكي بمقولة الواحدية مرتكز إلي الإيمان بوجود واحدي فردي هو الوجود الحقيقي. وإن الواقع يشهد وبقوة أن الوجود الفردي هو الوجود لحقيقي. وإن الحياة، والكون كله، علاقات بين أفراد. ولا وجود للعلاقات إلا أنها تصور منسوب للأفراد ومتعلق بهم، وهو نشاط، فرد فرد، وهو نشاط فردي ، هو شيء من الفردية.
الفردية مقولة واحدية . لأن الفردية هي واحدية فرد، هي صفة تطلق علي فرد واحد. والواحدية هي فعل فردي يتجه لبناء علاقة مع فرد واحد آخر لينشأ من هذة العلاقة بين الفرد والفرد يكونية أكبر. والفرد، كل فرد هو واحد نشأ من يكونية معطاة لعوامل فردية كل منها واحد فرد شارك في تكوين فرد جديد. وفي الفرد الجديد تتواصل فعلية اليكونية لخلق واحد جديد هو فرد. تتواصل اليكونية بفرد يفتح الأفق أمام اليكونية التي لا انفصال بينها وبينه. لا انفصال بين اليكونية والفردية. اليكونية هي الفعلية التي تحققاتها فعل وفعل وفعل. واستعيض بمصطلح اليكونية، عن مصطلح الفعلية لأتجنب الوقوع في اللبس الذي ينشأ عن استدعاء الفعلية للفاعلية الذي قد يومئ بالقول، ولو من طرف خفي، بثنائية الفاعل والفعل .
اليكونية لا تتسع للقول بالفاعل، فهي "يكون" متواصل لا تحتاج إلى غيرها ، لأنه لا غير لها. وهي يكونية الكون المتعدد في حدوده الكونية الواحد في علاقته الارتباطية مع كون غيرة.
بيت لاهيا13/4/1996
(5)
والنظرية التي لا مجال فيها للقول بوجود فاعل (خالق يخلق الخلق ويعلو عليهم في الرتبة ويسبقهم في الوجود ويمحقهم ويستمر بعدهم في الوجود)، تجعل الحقيقة الوجودية (الواقعية بما في ذلك إمكانية الوقوع) هي الحقيقة اليكونية. الحق هو الكائن، والكائن ليس فاعل، فالفاعل يصح منه الغياب، لكن الكائن حاضر في الحاضر، هو اليكون محسوسا لنا ومعقولا بعقل لا يصدر من مفاهيم غير صادرة عن الحقيقة التي هي الكائنية. اليكونية نظرية تتسع للقول بالفعلية التي لا تستدعي الفاعلية من خارج إطارها. الفعلية طاقة حركية خالقة، الخالقية طبيعة للخلقية؛ أي: الفاعلية طبيعة للفعلية، والفعلية هي الأصل، والفاعلية هي فاعلية الأصل. الفردية (الفعلية) هي الأصل، هي المقولة الوجودية المطلقة، هي مادة كل فعل وجودي، هي المادة المتحركة بطاقتها الذاتية. وإذا كان ثمة ما يدعو للحديث عن إلاه، فإن إلهية هذا الإله هي اليكونية (أو الفعلية). إن الله في مذهبنا، هو مادة الكون التي هي طاقة متحركة بذاتها. الله هو اليكون الممتلئ وجوديا بذاته، الذي لا يسع معه غير ذاته، لأنه يملأ الوجود الذي هو ذاته، ولأن وجودا غيره لا يوجد.
الفردية هي المنتج (بكسرة على التاء) وهي المنتج (بفتحة على التاء). هي الأصل هي الكل. وكل تكوُّن جديد هو معطى للنشاط الفردي الذاتي في الفردية، وهو، التكوُّن الجديد، وجود ذو فردية. إن كلا من أ، ب، ج أفراد لكل منهم وجوده الفردي. والكيان الذي يتكون من قيام ارتباط ما بين أ، ب، ج هو كيان فردي لأن الفردية هي مربط العلاقة الارتباطية بينهم، ولو تلاشت فردية أي منهم فلن تظل هناك علاقة، إن العلاقة هي دائما بين أطراف، بين أفراد. من جهة أخرى، فإن الكيان الذي ينشأ من ارتباط أ، ب، ج يحوز على وضعية فردية قياسا إلى وضعيات (فردية) أخرى.
الفردية مقولة واحدية لأن الفرد لا يكون إلا واحدا. والفردي بسيط والبسيط واحد.
الفردية هي عنصر اليكونية الذي لا غير له. إن عناصر أو أفراد اليكونية كثيرون، وهذه الكثرة كثرة أفراد، لكن كل منهم فرد واحد، فعل واحد، مرتبطون بعلاقات تعطي كيان واحد فردي أيضا باعتباره كيانا.
الفردية حرة بطبيعتها، لها حق وجودي أصيل. الفردية حرة بفعليتها الذاتية، وعندما تفقد فردية ما حريتها، فإن هذا معناه أنها تفقد فعليتها. فالفرد حر بحكم طبيعته الوجودية، طبيعة الفعل الذي هو عنصر اليكونية التي لا تَوَقـُّف لها.
بيت لاهيا – غزة في 15/4/1996
(6)
الفعلية لا تعطي فردا مغلقا. الفعلية منفتحة. إن الفعلية غير جامدة، وهي، كل آن، تنتقل من كيانيتها إلى كيانية أخرى، بدافع من ميلها الطبيعي للتواصل مع كيانية أخرى لخلق كيانية جديدة هي فرد جديد. نسمي هذا الميل الطبيعي للتواصل الكائن في كل الكيانات، نسميه الحب. الحب ميل طبيعي كائن في كل فرد للتواصل (لمواصلة فعليته)، مع فرد آخر.
الحب هو حركة الاستمرار. ومن لا يحب يتوقف، من لا يحب لا يكون إلهيا.. الإلهية هي اليكونية، ومن لا يحب، أي: من لا يستمر يفقد يكونيته، أي: يفقد إلهيته.
الإلهية هي اليكونية، هي شرط احتفاظ الفعلية بوجوديتها المتواصلة التي تعطي الفرديات هذه التي تكون باليكونية، أي: بالإلهية، لا باعتبار الإلهية فاعلا، ولكن باعتبارها الأصل الوجودي للفعلية، الأصل الذي له طبيعة الفعلة، الذي يستمد طبيعته من الفعلية، كما الفعلية تستمد طبيعتها منه.
الفعلية وحدها هي التي تمنحنا المعرفة. وعندما لا يكون هناك ما يمنحنا المعرفة غير الفعلية، فإن معرفتنا ستبقى مؤطرة بالفعلية، أي: بما هو كائن و ما يمكن أن يكون؛ أي: باليكون. إني أؤكد من جديد: ليس يوجد فاعل فوق الفعل، وفاعلية الوجود هي في فعليته، هي في اليكونية.
ودليل العلة الأولى لا يُثبت وجود فاعل فوق أو قبل أو ما وراء الوجود الفعلي. القائلون بهذا الدليل استدلوا عليه من قانون العليّة الذي يقول إن لكل معلول علـّة. وليس في وسع هذا الدليل أن يقبل ما ينقضه، والقول بالعلة الأولى التي لا علة لها مساو للقول بأن قانون العلية هو قانون غير صحيح. القول بالعلة الأولى إلغاء للقول بأن لكل معلول علة، بمعنى: لا يوجد وجود من غير أسباب. دليل العلة يسمح بالإيمان بوجود وجود ليس له أسباب وجودية وبأن هذا الوجود هو خالق الأسباب، هو سبب كل الأسباب وبالتالي سبب الوجود كله ما عدا وجوده.
وأصحاب مذهب القول بالعلة الأولى يدعمون موقفهم بقسمة الوجود إلى وجود واجب الوجود ووجود ممكن الوجود. وهم يبدؤون من الوجود الممكن فيقولون إن له أسباب ترجِّح ظهوره في الوجود على عدم ظهوره، ويقولون إنه (الوجود الممكن) وجود محدَث، فهو لديهم وجود لاحق لوجود سابق قديم وصفوه بأنه واب الوجود ليقفوا بسلسلة الأسباب عند نقطة أولى قالوا عنها هي العلة الأولى وهي الوجود الواجب القديم في مقابلة الوجود الممكن المحدَث.
والعقل عندما يستدل على وجود واجب من وجود ممكن، إنما يقوم بالقفز من مقولة اليكونية ليرمي بنفسه في خواء من صنعه ه، خواء لا وجود له خارج العقل الخاوي. إذا كان الوجود كله من حولنا ممكنا، فمن أين تأتي فكرة وجود واجب؟ تأتي من الاعتقاد بأن الوجود الممكن، بتقديرهم، لا يمتلك عوامل الوجود التي يتطلبها وجود العالم. إن العالم حائز على عوامل وجوده. إنه غني بذاته؛ والجهل بهذه الحقيقة هو الذي يسمح للعقل بالقفز في الخواء (العقلي/ الوهم) للبحث عن دعامة لوجودنا.
إن الوجود كما نعيشه في الواقع، كما هو في عالم الأشياء، هو وجود واجب وليس وجودا ممكنا. لم يكن أمام الوجود (س) أن لا يكون أو لا يكون. إنه كائن بضرورة تكوينه التي أوجبت وجوده. إن وجود كل وجود محكوم بضرورة عوامله التكوينية. ولو اختلفت العوامل لكان قد نتج وجود آخر مختلف هو أيضا واجب الوجود بضرورة عوامله التكوينية في كائنيتها الخاصة.
وقانون العلية لا يعني أن هناك أسبابا مختلفة أو متميزة عن أسبابها؛ إن الأسباب في حالة كائنية ما هي المسبَبات. الكائنية لا تحتاج على أسباب خارجة عن ذاتيتها. والكائنية حركة لا تتسع لقبول فكرة محرك أول لا يتحرك (فكرة العلة الأولى). لا وجود لمحرك لا يتحرك، فهو يتحرك هو يُحرِّك (بتحرُّكه)، فمن أين إذن يمد غيره بالحركة إن لم يحزها حياة مادية؟
فكرة العلة الأولى وفكرة الوجود القديم واجب الوجود مقابل الوجود المحدَث الممكن، هما فكرتان يدعم بهما القائلون بقسمة الوجود على فاعل وفعل بينهما تمايز مع اختلاف درجات هذا التمايز. والمؤمنون بمذهب هؤلاء، يعززون هذا الإيمان بما عُرف بدليل التصميم، وهو دليل يتحدث عن مهندس للكون. وسبق القول في تاريخ الفلسفة إن هذا الدليل لا يتحدث عن خلق للعالم أو فاعل له؛ هو يصف "المصمِم" بأنه فاعل "في العالم". وفاعلية الخالق "في" العالم تفتح المجال أمام القول باندماج "خالق العالم" في "خلقه"؛ ولكنه اندماج لا يقضي على التمايز بين "الخالق" والعالم أو "الفاعل" و"الفعل" قضاء تاما.
وتصميم الفعل – أرى – هو فعل ذاتي للفعل الذي يجري تصميمه. إن عوامل الفعل هي التي تصممه. إن التصميم لا يقع من "فاعل" خارج الفعل. التصميم هو فاعلية الفعل، فاعلية كيانيته.
كيف يمكن تصميم فعلين، الأنثى والذكر مثلا، كل منهما يتجه للآخر بغاية؟ هل للفعل غاية؟ وفقا لمذهبي فإن غاية الفعل ذاتية للفعل أي: هي كيانيته. ولكي تكون غاية الفعل (أ) ملتقية مع غاية الفعل (ب) فلا بد أن يكون في تكوين (ا) ما يشده إلى (ب) وفي تكوين (ب) ما يشده إلى (أ). وحتى الآن لا نزال في نطاق ذاتية الفعل. هذا الشد المتبادل، هل يعود للصدفة أم لإرادة؟ إذا قلت بالصدفة، فقد اصطدم بحقيقة ما هو كائن في الوجود كله القائم بعلاقات انشداد الفعل لغيره انشدادا يُنتج نسقا كليا مختلفا في درجات كليته. ليس من السهل القبول بمبدأ تكوين أنساق متمايزة وجوديا وفي الوقت ذاته، متتامة، مثل الأنثى والذكر في نوع ما، بمبدأ غير واع بذاته، كمبدأ الصدفة.
إن القبول بمبدأ وعي الفعلية بما تفعله أسهل وأنفع من القبول بمبدأ (أعمى) ينكر الوعي. ونحن في حياتنا الاجتماعية سندفع ثمنا باهظا إذا اعتقدنا بصحة مذهب ينكر الفعلية الواعية. إننا بحاجة إلى أن نعي ما نفعل كي لا نخرِّب حياتنا، أو لكي نقلل ولا نزيد ما فيها من خراب. ونحتاج أيضا على الإرادة (الواعية) التي تخلق عالما أجمل. الإرادة الواعية هي الفعل الجميل والفاضل.
إنني أُسلِّم بأن في العالم إرادة. ولكنني لا أقول أن هذه الإرادة فوق العالم. إنها خاصة من خصائصه. وهي خاصة مندمجة في الفردية لكنها غير محدودة بها. إنها خاصة من خصائص اليكونية، واليكونية تحتفظ بديمومتها من خلال فعليتها، وفعليتها تأتي من أكثر من فعل، تأتي من كل فعل. وكل فعل به ميل لفعل آخر (وهذا دليل على حقيقة وجود الآخر خارج وجود الذات ولكنه وجود نعيه بوعي الذات به). هذا الفعل موجه باليكونية على قدر إسهامه في اليكونية. والميل لدى فعل ما تجاه فعل آخر، هو صورة الإرادة في كيانيتها الواقعية.
اليكونية فعل، وخاصة الإرادة فيها هي خاصة الفعل، الإرادة لا تكشف وجود فاعل، هي تؤكد وجود فعل هو صفة مطابقة لموصوفها الذي هو اليكونية.
اليكونية، أو الإله، ذو إرادة وظيفتها التأكيد المستمر على فعليته باعتباره واحدا من حيث جمعه في مقولة واحدة للكثرة الوجودية التي هي كثرة افراد، كل فرد منها ذو ميل طبيعي للتقدم من واحديته كفرد إلى واحدية جديدة لنسق آخر هو فرد أيضا.
واليكونية لها إرادة واعية، لكن لا اختيار لها بين أن تفعل ما تفعله وأن لا تفعل ما تفعله؛ إنها تفعل ما تفعله بضرورة ذاتيتها.
واليكونية حرة من حيث أنها لا تخضع للقيود التي تمنعها من مواصلة فعليتها، ولكنها ليست حرة من حيث أنها يمكن أن تخالف ضرورة ذاتيتها. حريتها محكومة بذاتيتها.
والفعلية اليكونية متعددة بسبب غناها الذاتي الذي يمنحها حرية التنوع في إطار وعاء واحد يضم أفرادا كثيرين يترابطون باليكونية ترابطا لا يلغي وجودية أي واحد منهم. وترابطهم يخلق نسقا واحدا يستمد من الواحدية الفردية مشروعية وجوده، ويغذي في الوقت ذاته الواحدية الفردية بقوة تؤصل وجودها الذي يتأصل بفتح أفق واسع أمامه بخروجه من حدوده الضيقة أو بتحرره من انحصاره في الفردية المغلقة. كل واحد منا يمنح الجماعة الإنسانية مشروعية وجودها، ونأخذ من الجماعة الإنسانية ما يؤصل وجوديتنا الفردية.
والجماعة الإنسانية بالنسبة للإنسان الفرد هي يكونيته في إطارها النوعي.
اليكونية صميمية في الفردية الطبيعية (بما فيها الحالة الاجتماعية الإنسانية). واليكونية توجد بالفردية. واليكونية تمنح الفردية مشروعية وجودها الفردي اليكوني. اليكونية هي التي تـُصدر صك الوجود الفردي لا عن اختيار، إنما عن طبيعة. إنها لا تستطيع التوقف عن إصدار صكوك الوجود الفردي. ولو توقفت لمرة واحدة، فإنها ستتوقف للأبد؛ ولكنها لن تفعل ذلك، فهذه هي طبيعتها، ولا يتوقف شيء عن مواصلة فعلية طبيعته. والطبيعة اليكونية تملأ مقولة الوجود، ولا مجال وجودي أمام الطبيعة اليكونية للتبدل، لا خيار أمامها. الفعلية تملأ الوجود. واليكونية وعاء الفعلية، وعاء لا ينفصل عن الفعلية، وعن المفردات. اليكونية هي الوعاء بمفرداته. هي وعاء متغير وباستمرار. ولو توقف الوعاء (المتحرك بطبيعته) عن إصدار صكوك فردية جديدة، فإن ذلك يعني أن حركة الوجود ستتوقف. والتوقف مقولة ضد مقولة الحركة. إن مقولة الحركة مطلقة؛ أي: لا وجود إلا هو حركة. الحركة طبيعة الوجود. من هذه الحركة تكون الفرديات (الأفعال). إن الفعل حركة. حركة الفعلية هي التي تمنحنا المعرفة (معرفة) باليكونية. نحن لم (ولا) نعرف اليكونية إلا بالحركة؛ أي: بالفعلية (المتحركة). فلا أستطيع تخيل اليكونية وهي خلو من الحركة. اليكونية مفهوم يعني الحركة. الحركة طبيعة اليكونية. اليكونية لا تستطيع التخلي عن طبيعتها الحركية. هذه الطبيعة الحركية لليكونية هي فعل إصدار الصكوك الوجودية الفردية وباستمرار؛ أي: هي الفعل الذي يملأ الوجود كله؛ أي: المطابق للوجود كله، الذي هو الفعل الكبير الواسع (الواحد / فرد) لكل فعل فردي، الذي (الفعل الواسع) يتبادل مع الفعل الفردي التأكيد على الوجودية المشتركة لكل منهما: وجودية يكونية ذات وساعة مطلقة (= حرة وبلا بداية ولا نهاية) تواصل يكونيتها بالفعلية الفردية؛ وجودية فعلية ذات وساعة مطلقة تواصل وجوديتها بالفعلية الفردية.
لو توقفت اليكونية عن طبيعتها الحركية، طبيعة مواصلة الفعلية الفردية، فإن الوجود يؤول للعدم؛ أي: إلى لا شيء مطلقا. وهذا اللاشيء مطلقا سيكون، لو حصل، ناتجا من مصدر الوجود؛ لكن لا ينتج من الوجود ضد الوجود؛ أي: العدم أو الإلغاء المطلق للوجود.
واليكونية تتحرك حركة ذات تصميم ذاتي؛ أي: كل حركة لليكونية تنتج تصميما وجوديا مطابقا للحركية التي لا تخرج عن الحدود التي ترسمها لها عواملها التكوينية (مثال: الجنين الذي تتحكم فيه عوامل تكوينية: الحيوان المنوي والبويضة وبيئة الرحم وغير ذلك من العوامل المؤثرة عليه). وتصميمية اليكونية تقاس بالنسبة غليها لا بالنسبة على مداركنا. فنحن قد نعتبر أن فعلا ما هو فعل وقع بلا تصميم، أو بلا هدف له. ونحن ، بمداركنا، لا نحتل موقع المرجعية لليكونية كلها، ليحق لنا أن نصدر، ونحن منحصرين في وجوديتنا الضيقة، أحكاما تنفي الهدفية عن أفعال اليكونية. عن ما تفعله اليكونية هو هدفيتها. إن حيواتنا هي أهدف لها، وموتاتنا أهداف لها. إن اليكونية تفعل بضرورة طبيعتها. إنها تُنتج من الأفعال ما تُنتجه طبيعتها.
بيت لاهيا – غزة في 2/5/1996
(8)
اليكونية – الله:
نظريتي في اليكونية لا تقبل فكرة الله المتعالي المفارق المحتجب التي يقبل بها المسلمون أتباع النبي محمد. عن الوقع يساهم وإلى حد كبي، في ابتداع الأفكار. وفكرة الله في دعوة النبي محمد –كما في الظاهر – ليست فكرة جديدة جدة تامة. كان العرب، قبل النبي محمد، يعتقدون بوجود الله المتعالي. لكن لم يكن العرب قبل محمد، يقومون بتوظيف عقيدتهم في الله المتعالي توظيفا اجتماعيا سياسيا كما فعل النبي محمد. وهذا التوظيف من جانب النبي لمعتقد قديم لقومه حول الله، هو الإبداع الذي يُحسب لصالح النبي محمد. والمشروع المحمدي مشروع توحيد للعرب، واقتضى هذا المشروع إلغاء تعددية الآلهة التي كان العرب يؤمنون بها كما يؤمنون بالله الواحد معها. وكانت دعوة محمد إلى إله واحد فقط تعادل معادلة موضوعية دعوته السياسية الاجتماعية (الأخلاقية) إلى أمة عربية واحدة.
وفي نظريتي، فإن الله لا يقع خارج العالم، كما تقول النظرية المحمدية في الفهم الشائع عنها. إن الله هو العالم، ما نعرفه وما لا نعرفه. الله فينا ونحن فيه. نحن (من) الله، والله (في) نحن. لكن أيا منا لا يساوي الله كله، إن الله أكبر من أي منا.
ومخيلة النبي محمد، أبدعت الإله الذي كان زمانه بحاجة إليه. ويعود نجاح المشروع المحمدي إلى استجابة النظرية المحمدية، خاصة فكرتها المحورية، فكرة الله بمواصفاته القرآنية، إلى ستجابتها لمتطلبات المرحلة التي ظهر فيها النبي محمد، والتي كانت الدعوة المحمدية بلورة واضحة لها.
والفكر العربي حسي تشخيصي، والله المحمدي مشخص، وهو إنساني المواصفات، حاكم، لكنه متفوق ومطلق القدرة. إن اله في القرآن المحمدي ملك (الناس من العرب وغير العرب)، له عرش وكرسي، وعرشه محمول على أعناق 19 من أشدّاء جنده. ولله جنود كما لكل ملك (الله ملك الملوك)، ويتدخل جند الله السماويين لصالح جنود الله الأرضيين (حلفاء الملك الله- الملائكة قاتلوا مع جيش محمد في معاركه ضد أعدائه، أعداء الله). والله يثيب ويعاقب، لا وفقا لقانون (في الحديث النبوي: لا يدخل أحدكم الجنة بعمله..)، فالله الملك (الحاكم) المطلق، لا يحاسَب (في القرآن: الله لا يُسأل عما يفعل، لكن الناس (الرعية) تُسأل- وتاريخيا، تجسدت هذه الفكرة، ولا تزال، في حكام المسلمين وفي النبي أيضا- الحكام خلفاء للنبي). كان النبي يحتاج هذا الإله ليضمن لنفسه ولاء العرب العميق، خاصة وأن العرب لم يكونوا قد عرفوا نظام حكم صارم يضمن ولاءهم له، والسلوك العربي نافر بطبيعته، أو بتكوينه البيئي (الجغرافي والإنساني) من الانصياع للقانون الاجتماعي الذي هو شرط لبناء مجتمع مدني استهدف النبي إنشائه.
أبدع النبي محمد (مفهوم) الله من جديد. ابدع فهما وجوديا جديدا له؛فابدع حضارة جديدة تنطلق من هذا المفهوم الجديد (المفصل) لله. إن فكرة الله تحتل مركز الثقافة العربية. وكان الله دائما مطلبا عربيا، وفكرة الله الدينية النبوية هي فكرة احتكرها المجال العربي (إبراهيم - موسى- عيسى – محمد). ويلوح لي أنه لن يكون في مقدور الثقافة العربية التخلص من فكرة الله كفكرة حضارية محورية. وتجربة النبوة المحمدية برهنت على أن بعثا جديدا لفكرة الله هو بعث حضاري جديد للأمة العربية. وفي الواقع، كانت التجربة المحمدية إبداعا للأمة العربية، وهو إبداع تأسس على توظيف ممتاز (بمعايير عصر محمد) لفكرة الله.
تبدأ الحضارة الجديدة لأمة بابداع مفهوم حضاري جديد متحرر من مفهوم حضاري قديم، كان فيما مضى، استجابة لعصره، المختلف عن العصور التالية له. ويمكن للمفهوم الجديد، وكما فعل النبي محمد، أن يتمحور، أو أن ينطلق من فكرة محورية لمفهوم حضاري قديم، خاصة إذا كان الواقع مازال ملتحما بهذه الفكرة المحورية، هذا بشرط أن يتم إعادة إبداع الفكرة المحورية – وباعتبارها حلقة وصل، حلقة انفتاح القديم على الجديد – بشرط أن يتم إعادة إبداع الفكرة المحورية إبداعا عصريا، جديدا. ونحن – العرب – نستطيع أن نبدع حضارة جديدة ابتداء من إبداع مفهوم جديد لله، مفهوم ينطلق من، ويستجيب لـ،واقع زماننا الخاص والعام (الإنساني)، وبما لا يتعارض مع المفاهيم العقلية التي هي مكتسبات للإنسان، التي لا يصح لنا أن نتنازل عنها، أو أن ننعل عنها. إن الانفتاح هو أهم معالم عصرنا الراهن، و مفهوم عن الله لا يعزز، ويوجه توجيها سليما هذا المعلم الحضاري العالمي المعاصر، فإنه لن يكون مفهوما مطلوبا ولا صحيحا؛ الانفتاح إنجاز عقلي يسير في الخط الصحيح لحركة الوجود، وذروتها حركة الإنسانية. ونحن - الإنسانية – بحاجة إلى مفهوم إلهي يضمن التوجه الصحيح لانفتاحية الإنسان على الإنسان وعلى العالم كله، يضمن انفتاح الحب والعدل والحرية والسلام البهيج والجمال ويتصدى للانفتاحية العدوانية التي تهيمن قواها الظلوم الغشوم على العالم المعاصر.
مشروعنا الحضاري العربي المعاصر، سيكون هو المشروع المطلوب للعصر الإنساني الراهن، إذا ابدعنا فهما جديدا لمحورنا الثقافي، لقضية الله، وبعطيات العقل الإنساني المعاصر. لو فعلنا ذلك، فإننا سنقدم للعالم وللمرة الأولى، نظرية توحد الروحي والمادي (موضوع العقلي)، وتجمع التباينات الثقافية الإنسانية في نقطة مركزية العالم: نقطة الوجود الإلهي؛ نقطة التقاء للكثرة التقاء منفتحا عقليا ووجدانيا، لا نقطة لإلغاء التنوع. إن مفهوما لله ينسجم مع نظريتي في الفعلية اليكونية الفردية، سيحفظ حق كل موجود في التعبير عن ذاته، وعن حقه في التباين مع غيره في الوقت نفسه، وبحرية أصيلة (أصالة ضرورة ما ليس اختياريا)، وبمشاركة كريمة، مشاركة في الانتاج، كما مشاركة في قطف الثمار، وبعدل، وبحب، وببهجة.
نحن نحتاج للإله كعامل ترابطي، ونحتاج لإله يضمن لنا استمرارنا الوجودي كأمة لها ثقافتها المتميزة، ونحتاج لإله نحافظ به على توازننا النفسي والاجتماعي.
نحتاج للإله الذي يضمن لنا الحرية، ويمنحنا الثقة، نحتاج للحرية الفردية والحرية الاجتماعية، وللثقة، ولنبني مشروعنا النهضوي الحضاري؛ مشروعا لإنسان كريم..
ونظرية الفعلية (اليكونية) التي تستغني عن فرضية "الفاعل" الكائن خارجها، هذه النظرية تمنحنا الحرية والثقة بكرامتنا الفردية والاجتماعية. فنحن – بها – وباعتبارنا أفعالا لا فاعل فوقها (قاهر لها وسالب لوجودها)، نحن الذين نفعل.. نفعل بطبيعة فعليتنا، نفعل بحرية لأن طبيعة الفعلية حرة، لا شيء فوقها، لا شيء يقهرها؛ ولن نبني مشروعا نهضويا جديدا كريما بإنسانه، إن لم نبرأ من مصيبة القهر، من كارثة القاهرين، وعلى كل صعيد. بنظرية الفعلية (اليكونية) يفعل كل واحد منا بذاتية حرة غير قاهرة للغير ولا مقهورة من الغير. وبهذه النظرية، لن يكون فعلنا، باعتبارنا أداة لفاعل، حيث _في نظريتي – لا فاعل من خارجنا إو غيرنا (نحن الكيانات الحاضرة)؛ الفاعلية هي من نشاط فعليتنا، وليست مقولة يعطيها فاعل مستقل بذاته عنا. إننا بنظرية الفعلية نفعل بينما الله فينا ولنا ومعنا (حولنا). الله معنا معية غير مفارقة وغير محتجبة وغير عدائة. أن الله – في مفهومي - هو اليكونية المتصلة المنفصلة التي توحدنا معا، وتسمح، وعلى قدم المساواة، بكثرة فردية متمايزة بالحرية.
وبنظرية الفعلية، لا يبقى الله فكرة فقط، إنه يصير حقيقة لها وجودها فيما هو خارج عالم الخيال (العقلي أو اللاعقلي). يصير الله حقيقة حاضرة في العقل وفي الواقع (عالم الفعل خارج الخيال) ليوحد بينهما باعتباره مقولة خيالية (عقلية) واقعية. لن يكون لله وجوده الكامل المترامي في الخيال وفي الواقع الموضوعي إلا إذا كان هو الفعلية اليكونية. والفعلية متجددة، إن التجدد حقيقتنا، هو حقيقة إلاهية. إن مفهوم الله يجب أن يتجدد. وكان الله دائما فكرة يصبغها خيال الإنسان. ولإنسان لا يبدع وجود الله، إنما يبدع مفهوما عنه. والله يستجيب لنا دائما كما يقتضي التغير من عصر إلى عصر أن نبدع مفاهيمنا عنه؛ لأن الله يحبنا ولأنه منا وفينا ولأنه مفاهيمنا عنه. الله وجودنا ومفاهيمنا من وجودنا. الله كمفهوم هو جزء من كينونتنا، ولكنه كوجود، أكبر من كينونتنا الفردية. الله هو اليكونية؛ اليكونية التي لا وجود لها إلا بالفردية – التي تعود أصولها إلى فردية الله – والفردية معطى الفعلية: اليكونية هي معطى الفعلية، بواسطة الفردية.
إن نظريتي تجعل الوجود الإلهي فعلي (في فعليتنا / يكونيتنا)، وتخلق لحمة بين الوجود الإلهي وبين الفردية الإنسانية، هذه اللحمة هي الفعلية التي هي من جانبها المطلق هي الله، ومن جانبها المحدد هي الفرد. إنني بذلك أُعمِّق الوجود الفردي بالوجود الإلهي، وأؤكد الوجود الإلهي بالوجود الفردي. أستطيع القول الآن: أنا (الفرد) موجود، إذن الله موجود. الله هو اليكونية، الكائن بي، معرفة ووجودا؛ أنا الكائن به وجودا ومعرفة.
بيت لاهيا – غزة في 6/5/1996.