|
كوابيس جمهورية الخوف الأولى - الجزء الاول
طارق المهدوي
الحوار المتمدن-العدد: 5036 - 2016 / 1 / 6 - 00:36
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
طارق المهدوي
كوابيس جمهورية الخوف الأولى
الجزء الاول
سامحوني... لأن أحلاماً ورديةً بحياةٍ أفضل لأعناقنا المنحنية طالما راودتني عن نفسها... وعند اقترابي منها لم أجد سوى كوابيس سوداء كثيفة تحاصر أعناقنا المنحنية... إلى حد الاختناق... طارق المهدوي مقدمة لابد منها...
منذ قيام جمهورية الخوف المصرية الأولى بنجاح الانقلاب العسكري الذي نفذه تنظيم "الضباط الأحرار" عام 1952 يعاني المصريون المعاصرون على كافة المحاور الوطنية والديمقراطية والاجتماعية من حصار خانق يكاد يفتك بهم داخل مثلث كوابيس نشطة وفاعلة، تتصارع أضلاعه حيناً وتتنافس أحياناً ولكنها تتضافر دائماً في مواجهة القطاعات الجماهيرية الواسعة عندما توشك على الالتفاف حول نُخَبها الوطنية الديمقراطية ذات الأعماق الاجتماعية، وهو المثلث الذي يتكون من ضلع التبعية الذليلة ليس فقط لقوى الاستعمار العالمي بل أيضاً لمراكزها وذيولها الإقليمية، إلى جانب ضلع الفاشية بتجلياتها الإرهابية في المجتمع والاستبدادية في الدولة والتوسعية الاستيطانية في الجوار الجغرافي، بالإضافة إلى ضلع الفساد بصفته أسوأ مراحل الجشع والاستغلال الرأسمالي للعاملين والمستهلكين، ورغم تقارب الأضلاع الثلاثة لذلك المثلث الكابوسي في درجات خطورتها المدمرة إلى حد يصعب معه علمياً وموضوعياً التهوين أو التهويل من شأن أحدها مقابل الضلعين الآخرين، إلا أن الاكتفاء بوضعها معاً أمام القطاعات الجماهيرية ونُخَبها الوطنية الديمقراطية ذات الأعماق الاجتماعية وكأنها حزمة كابوسية مجمعة تستوجب حلاً ناجعاً شاملاً واحداً، يتم تصنيفه في علم السياسة ضمن مناورات الهروب الأمامي من المواجهة العملية كبديل مموه عن مناورات الانسحاب الخلفي المكشوفة، لذلك فإن النُخَب المتنوعة الحريصة على استمرار أفكارها وآرائها وأدوارها في المشهد السياسي المصري تحاول ترتيب الخطورة النسبية لأضلاع مثلث الكوابيس بما يتبعه من ترتيب أولويات مكافحتها والتصدي لها، ومع تقديرنا الكامل لمشروعية ونزاهة الاختلافات النظرية بين النُخَب التي ترى أولوية الكفاح الوطني لاعتبارات صعوبة تحقيق الديمقراطية أو إقامة العدالة الاجتماعية بدون توافر السيادة الوطنية، والنُخَب التي ترى أولوية الكفاح الديمقراطي لاعتبارات صعوبة حماية الوطن أو إقامة العدالة الاجتماعية بدون توافر الحريات العامة والخاصة، والنُخَب التي ترى أولوية الكفاح الاجتماعي لاعتبارات صعوبة حماية الوطن أو تحقيق الديمقراطية بدون توافر العدالة الاجتماعية، فنحن نراها اختلافات عقيمة تعرقل حركة التقدم الجدلية التاريخية التي تستوجب تنسيق الأدوار الميدانية بين النُخَب ذات الأفكار والآراء المتنوعة في مكافحة كوابيسنا المشتركة والتصدي لها على أرض الواقع، لاسيما مع سعي كل نُخْبَة إلى فرض برنامج أولوياتها في دائرة لا تنتهي من الاشتراطات التعجيزية المتبادلة للعمل الميداني المشترك، وإذا كانت السياسة هي فن الممكن في حدود المتاح ذاتياً وموضوعياً بالنظر إلى الظرف اللحظي والمرحلة الراهنة دون إخلال جسيم بالثوابت العقائدية والاستراتيجية وإذا كان درء الخطر الأشد أولى من درء الخطر الأقل ودرئهما تباعاً أولى من جلب المصلحة، فإن معاودة القراءة المتأنية للواقع المصري اللحظي في المرحلة الراهنة تكشف عن ضرورات هي بطبيعتها اضطرارية ولكن مكر التاريخ أودع داخل ثناياها إمكانات تجاوز خلافات النُخَب الصديقة وحل كوابيس المثلث المعادي، ذلك أن متابعة الكوابيس الاستعمارية الجاثمة على المحور الوطني والكوابيس الاستغلالية الجاثمة على المحور الاجتماعي، تكشف ميل الأعداء من التوابع والفاسدين ــ في غير حالات المد الثوري ــ إلى تصفية بعض قادة وكوادر النُخَب الوطنية الديمقراطية ذات الأعماق الاجتماعية المعارضين للنهب الذي يرتكبه أولئك الأعداء مع الإبقاء على حياة الأغلبية من أعضاء القواعد الجماهيرية الواسعة الذين يتم نهبهم، بينما تكشف متابعة الكوابيس القمعية الجاثمة على المحور الديمقراطي أن الأعداء الفاشيين يميلون في كل الحالات إلى تصفية جميع المتطلعين نحو الحريات العامة والخاصة سواء كانوا من القادة أو الكوادر النخبوية أو من القواعد الجماهيرية، مما يخلق أمراً واقعاً لا مفر منه يفرض على هؤلاء القادة والكوادر والقواعد أولوية مكافحة الفاشية كإجراء دفاعي ضروري بشقيه الحمائي والوقائي، وصولاً إلى درجة إزالة أنصالها المباشرة عن رقابهم بالمعنى الحرفي للكلمة حتى يستطيعون لاحقاً الاستمرار في الحياة ومن ثم مواصلة مكافحتهم لجرائم أعدائهم الفاشيين والتوابع والفاسدين معاً، وإذا كانت بدايات الفاشية تظهر كفكرة ذات طابع شمولي تدعي أن ثناياها الوهمية المزعومة تختزل الحقائق المطلقة المتعلقة بالفضيلة والخير والمساواة وتحتكر الحلول الجذرية الكفيلة بالسلامة والعدالة والسعادة، ثم تظهر تجلياتها السياسية عند قيام أنصارها بتمجيد ذواتهم تأسيساً على تلك الفكرة الشمولية مع استنادهم لبعض ما بينهم من قواسم مشتركة قائمة أو افتراضية، الأمر الذي يواكبه تحقير للآخرين ممن لا يؤمنون بالفكرة المذكورة ولا يحوزون قواسم المجد المشار إليها سرعان ما تتم ترجمته في الحرمان التصاعدي لهؤلاء "الآخرين" من مصالحهم وحقوقهم وحرياتهم، صعوداً حتى درجة حرمانهم من الحياة ذاتها على أيدي التجليات التنظيمية المسلحة لتلك الجماعات والمتمثلة في خلاياها وميليشياتها الإجرامية القاتلة، ورغم أن معظم الفاشيات التقليدية تحتاج فقط إلى أحد العناصر الثلاثة الصالحة لميلاد ونمو الأفكار الشمولية سواء كان عقائدياً أو عرقياً أو طبقياً فإن هناك فاشيات مزدوجة تجمع بين عنصرين اثنين وفاشيات مُرَكّبة تدمج العناصر الثلاثة كلياً أو جزئياً، ورغم معاناة الإنسانية من تلك الفاشيات الثلاث المذكورة بالتتابع التبادلي على الامتدادين الرأسي والأفقي للتاريخ والجغرافيا فإن المصريين المعاصرين يعانون وحدهم من تكالب جميع أنواع الفاشيات الثلاثة المذكورة معاً فوق رؤوسهم في ذات الزمان ونفس المكان، حيث تحاصرهم فاشية كابوسية تقليدية كبيرة بطابعها الشمولي العقائدي تمثلها جماعات الإسلام السياسي الإرهابية واسعة التغلغل الاحتيالي في المجتمع، كما تحاصرهم فاشية كابوسية مزدوجة كبيرة بطابعها الشمولي العرقي والطبقي يمثلها المجلس العسكري الاستبدادي الحاكم باعتباره الامتداد الطبيعي لتنظيم "الضباط الأحرار" الانقلابي الذي كان بدوره امتداداً معدلاً لجمعية "الحرس الحديدي" النازية، حيث يرفع المجلس العسكري ظاهرياً بعض الشعارات الوطنية الرنانة الجوفاء ليمرر في طياتها المخفية المصالح الأنانية الضيقة للفئة البرجوازية الأوليجاركية الجديدة المكونة من قادة الجيش والشرطة والقضاء والسلك الدبلوماسي، وتحاصرهم أيضاً فاشية كابوسية مُرَكّبة كبيرة بطابعها الشمولي العقائدي والعرقي والطبقي تمثلها العصابات الصهيونية التوسعية الاستيطانية الجاثمة على حدودهم الشرقية، حيث ترفع العصابات الصهيونية ظاهرياً بعض الشعارات الدينية والقومية الرنانة الجوفاء لتمرر في طياتها المخفية المصالح الأنانية الضيقة لفئة وكلاء الإمبريالية العالمية، إلى جانب ما يعانيه المصريون المعاصرون من استشراء عدة أورام فاشية كابوسية أخرى متوسطة وصغيرة متناثرة في أروقة الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية لاسيما داخل الأوساط البيروقراطية والأكاديمية والكنسية والعشائرية وبعض أوساط القوميين والشيوعيين، وبصرف النظر عن حجمها أو موقعها وعن كونها تقليدية أو مزدوجة أو مُرَكّبة فإن جميع تلك الفاشيات وغيرها مما قد يظهر مستقبلاً تتقارب من حيث درجة خطورتها التاريخية على المصريين فكلها تسعى دون أي استثناء إلى قتلهم بنفسها لو فشلت في إخضاعهم لنفسها، وذلك بخلاف التوابع والفاسدين الساعين عموماً إلى إسكات معارضيهم فقط دون إغفال لخطورة استعانتهم أحياناً بحلفائهم الفاشيين لقتل المصريين أيضاً في حالات المد الثوري، الأمر الذي يلغي من "قائمة الاختيارات" المتاحة إمكانية مكافحة أي فاشية على أرضية فاشية أخرى لكونه كالاستجارة من الرمضاء بالنار مُبقياً على إمكانية واحدة متاحة هي مكافحة كافة الفاشيات معاً في ذات الزمان ونفس المكان، مما يتطلب إنشاء أوسع جبهة ممكنة لذلك تضم كل قادة وكوادر وقواعد مختلف النُخَب الوطنية الديمقراطية ذات الأعماق الاجتماعية بقطاعاتها الجماهيرية المتنوعة العريضة تحت أي اسم أو حتى بلا أسماء، ولا شك في أن الانتصارات المأمولة لتلك الجبهة على محور مكافحة الفاشية إذا خلصت النوايا وصح العزم ستشكل قاطرة سياسية كفاحية تقود المصريين المعاصرين لاحقاً نحو الانتصار على جميع أعدائهم التوابع والفاسدين وغيرهم لإزالة كوابيسهم الخانقة، وإلا فإن أجيال الكوابيس المصرية الجديدة في جمهوريات الخوف التالية ستكون أسوأ كثيراً من أجيالها الراهنة التي استمرت تمسك برقاب المصريين منذ قيام جمهورية الخوف الأولى عام 1952، على النحو المأساوي المؤلم الذي نحاول في سطورنا التالية كشف بعض مستوره ولكن ما خفي كان أعظم!!. طارق المهدوي
عندما تصحو الكوابيس... (1) في الخامس والعشرين من يناير 2011 تظاهر عدة آلاف من المثقفين والنشطاء الماركسيين والليبراليين كعادتهم للمطالبة بإسقاط جمهورية الخوف، التي كانت قد أحكمت عليهم الحصار لمدة ستين عاماً متتالية داخل أضلاع مثلث الاستبداد والفساد والتبعية، وسرعان ما تزايدت أعداد المتظاهرين حتى قاربوا العشرين مليوناً من مختلف الاتجاهات العقائدية والفكرية والسياسية والحركية، يعتصمون وينتفضون في كافة المدن المصرية محتجين بالوسائل السلمية رغم شراسة كتائب القمع النظامية وغير النظامية التابعة لأجهزة جمهورية الخوف والتي أسقطت منهم ألف شهيد وعشرات ألوف المصابين في محاولة فاشلة لإخماد احتجاجهم، وبمجرد أن أوشك المحتجون على الانتصار قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمناورة التفافية ذكية أصابت عدة أهداف بطلقة واحدة، حيث أعلن يوم 10 فبراير 2011 عن انعقاده بدعوة من وزير الدفاع وتحت رئاسته للنظر في كيفية الاستجابة لمطالب المحتجين المشروعة، منفذاً بذلك انقلاباً عسكرياً ناعماً على رئيس الجمهورية "حسني مبارك"، باعتباره كان حتى ذلك التاريخ هو حصرياً صاحب السلطة الوحيدة في الدعوة لانعقاد المجلس الذي كان لا ينعقد حتى ذلك التاريخ إلا تحت رئاسته، وبذلك يكون المجلس العسكري قد وأد مسعى "مبارك" لتوريث الحكم إلى نجله رجل الأعمال "جمال"، بما كان سيصاحبه من تقليص لنفوذ العسكريين في مفاصل الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية لصالح رجال الأعمال، وبذلك أيضاً يكون المجلس قد نجح في خداع المحتجين بإيهامهم أنه معهم لينقذ نفسه من العقاب الجماهيري الذي طال بقية أجهزة جمهورية الخوف، ولم يكن ذكاء السيد "عمر سليمان" نائب رئيس الجمهورية يقل عن رفاقه السابقين في المجلس العسكري، لذلك فقد تفاعل مع إعلان الانقلاب العسكري الناعم بنفس مستواه الالتفافي، حيث أعلن من جانبه يوم 11 فبراير 2011 تخلي الرئيس "حسني مبارك" عن الحكم لصالح المجلس العسكري، بعد أن كان "سليمان" قد حصل لنفسه من "مبارك" على تفويض مؤقت بمهام الرئاسة كما حصل في ذات الوقت لنفسه من المجلس العسكري على ضمانات بعدم فتح ملفاته، بصرف النظر عن الاتهامات المتداولة حول جرائمه وخطاياه سواء خلال رئاسته المؤقتة للجمهورية أو قبل ذلك عندما كان نائباً للرئيس، أو حتى فيما قبل خلال توليه لمدة ثلاثين عاماً متواصلة رئاسة الاستخبارات العسكرية ثم المخابرات العامة اللتان كانتا دون منازع أهم وأخطر أجهزة جمهورية الخوف!!. (2) مع حلول الحادي عشر من فبراير 2011 دخلت مصر المرحلة الانتقالية الأولى التي تولى فيها المجلس العسكري منفرداً إدارة شئون الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية بل وأيضاً الدستورية، وحاول العسكريون جاهدين بكل وسائلهم العنيفة والناعمة والالتفافية حماية الحد الأقصى من مكونات جمهورية الخوف المتمثلة في وظائف وأبنية ورموز، أو على الأقل إعادة إنتاجها مجدداً بعد إجراء الحد الأدنى من التعديلات الشكلية في تلك المكونات دون مساس بجوهرها الحقيقي، واستعان العسكريون في محاولتهم بالشبكة العصابية الخفية ذات المهارات والخبرات والباع الطويل في السيطرة على أعماق الدولة والإمساك بتلابيب المجتمع منذ البدايات الأولى لجمهورية الخوف في 23 يوليو 1952، وهي الشبكة التي كان المثقفون قد أطلقوا عليها من باب التورية عدة أسماء مثل "الدولة العميقة" و"القلب الصلب" و"الجهات المعنية" و"مراكز القوة" في حين أسماها المواطنون العاديون "اللهو الخفي"، إلا أن استمرار الاحتجاجات الجماهيرية الغاضبة في الشارع المصري مع الارتفاع المتواصل لسقف مطالب المحتجين قد أفشل نسبياً محاولة العسكريين لحماية جمهورية الخوف، لاسيما وقد أدرك المحتجون من جانبهم أن ثقتهم في المجلس العسكري لم تحقق لهم ما كانوا يتطلعون إليه من كرامة وحرية وعدالة اجتماعية، حتى أنهم ما لبثوا أن شرعوا في القيام ببعض مهام الدولة بأنفسهم عند اكتشافهم لتواطؤ المجلس العسكري أو تقاعسه عن تأدية أدواره، الأمر الذي تجلى في عدة وقائع كان أبرزها اقتحام المحتجين لمقار جهاز مباحث أمن الدولة واستحواذهم على بعض ملفات المعلومات ذات الأهمية البالغة والتي كان الجهاز يسعى لإتلافها، أسوة بأجهزة أخرى أكملت عملية إتلاف ملفاتها تحت سمع وبصر المجلس العسكري في إطار الحرص على عدم كشف مستور جمهورية الخوف!!. (3) أخذت المسافة السياسية تتسع بين العسكريين الذين يديرون الدولة من جهة والمحتجين الذين يحتلون الشارع من الجهة المقابلة، مما منح جماعة "الإخوان المسلمين" فرصة تاريخية نادرة باعتبارها الأكثر تنظيماً على الساحة السياسية برمتها، حيث نجحت في استثمار تلك المسافة المتسعة بين الفريقين لصالحها بشكل براجماتي نفعي عبر عدة مناورات التفافية ذكية هنا وهناك، وهي المناورات التي أرهقت العسكريين المناورين بطبيعتهم فأجبرتهم على تقاسم الحكم مع الجماعة، بسماحهم لمرشح الإخوان المسلمين الاحتياطي الفائز بمنصب رئيس الجمهورية الدكتور "محمَّد مرسي" بأن يتولى منصبه المستحق في 30 يونيو 2012 عقب نزع العديد من سلطات الرئاسة السيادية لصالح المجلس العسكري، بعد أن كانت مناورات العسكريين المتنوعة والمتتالية طوال المرحلة الانتقالية الأولى قد نجحت في إرهاق وتشتيت وشق صفوف المحتجين بكافة فصائلهم ماعدا الإخوان المسلمين، وبذلك تكون مصر قد دخلت في 30 يونيو 2012 المرحلة الانتقالية الثانية التي يتقاسم فيها العسكريون والإخوان المسلمون إدارة شئون الدولة، وهي مرحلة كان واضحاً منذ بدايتها لكل ذي عقل واعي أنها تضع مصر على مفترق ثلاثة طرق، فهي قد تستمر لفترة زمنية طويلة سيراً على خطى النموذج الباكستاني الذي لم يزل الفريقان يتقاسمان الحكم فيه منذ نشأة الدولة الباكستانية قبل خمسة وستين عاماً رغم ميل الكفة أحياناً لصالح هذا الفريق أو ذاك دون إقصاء للفريق الآخر، وقد تنتهي المرحلة الانتقالية الثانية بنجاح أحد الفريقين في الانفراد بالحكم والقضاء على الشراكة الثنائية عبر الاستبعاد الكلي الخشن والعنيف للفريق الآخر، سواء تم ذلك سيراً على خطى النموذج التركي الذي انتهي لصالح الإخوان المسلمين خصماً من العسكريين الذين أصبحت الدولة التركية تطاردهم، أو تم سيراً على خطى النموذج السوداني الذي انتهى لصالح العسكريين خصماً من الإخوان المسلمين الذين أصبحت الدولة السودانية تطاردهم، وقد تقود المناورات والضغوط المتبادلة والمتقاطعة مصر إلى مستقبل مفتوح أمام كافة النماذج المحتملة نظرياً على الأقل بما فيها التراجع للخلف سيراً على خطى النموذج الجزائري، ليعود المصريون مجدداً كما كانوا منذ ستين عاماً داخل زنازين نسخة معدلة لجمهورية خوف جديدة!!. (4) كانت الاحتجاجات الثورية التي أشعلت المدن المصرية ابتداءً من 25 يناير 2011 هي التتويج الناجح لتفاعلات مسيرة الكفاح الشعبي المتواصل ضد مثلث الاستبداد والفساد والتبعية الذي فرضته جمهورية الخوف منذ قيامها في 23 يوليو 1952، وهي المسيرة الشاقة التي خاضها الماركسيون والليبراليون والإخوان المسلمون متجمعون حيناً ومتفرقون حيناً ومتصارعون أحياناً على مدى ستين عاماً متواصلة، فقدوا خلالها مئات الألوف من الشهداء والمصابين والمعتقلين وضحايا التعذيب والمشتتين خارج الحدود إلى جانب ما لحق بهم من ضياع وتعطيل للحقوق والمصالح المشروعة في معاملاتهم الحياتية اليومية، ويتفق الأمناء من المؤرخين على أنه كان يمكن التبكير بهذا التتويج الناجح لتلك المسيرة الكفاحية عبر الاحتجاجات الثورية التي سبق أن أشعلت المدن المصرية قبل حوالي أربعين عاماً وتحديداً في 18 يناير عام 1977، لولا حصول جمهورية الخوف آنذاك على دعم مطلق من العسكريين بدوافع مؤسسية ومن الإخوان المسلمين والسلفيين بدوافع انتهازية، إلى جانب امتناع الليبراليين عن المشاركة بدوافع تنافسية حيث كانت قيادة الجماهير الميدانية منعقدة للماركسيين دون منازع آنذاك، مع مراعاة الانعكاسات الهامة لبعض الانتقالات الكبرى بين الخنادق السياسية، فالقوميون الذين كانوا قد سبق لهم الانضمام الاضطراري للمسيرة الكفاحية بعد الاستغناء عن خدماتهم وطردهم خارج بطانة الحكم العسكري عقب الحركة "التصحيحية" التي قامت بها جمهورية الخوف في 15 مايو 1971، سرعان ما عاودوا الالتحاق بذات البطانة مرة أخرى هاربين من المسيرة الكفاحية الشاقة، بمجرد أن استدعاهم العسكريون مجدداً مع توليهم إدارة شئون الدولة منفردين في المرحلة الانتقالية الأولى التي بدأت يوم 11 فبراير 2011، ليوفر القوميون بذلك بعض الأغطية السياسية والاستشارية للمجلس العسكري، أما السلفيين الذين كانوا قد اختاروا منذ قيام جمهورية الخوف الالتحاق ببطانة الحكم العسكري، مدفوعين بانتهازية يسمونها ضرورات الحفاظ على الرقاب بالسير على نهج "التُقية"، فقد انضموا مع بداية المرحلة الانتقالية الأولى إلى الإخوان المسلمين، الأمر الذي أربك الحسابات السياسية لأنصار الدولة المدنية من رفاق المسيرة الكفاحية ضد جمهورية الخوف لاسيما الماركسيين والليبراليين منهم، والذين وجدوا أنفسهم في مأزق مزدوج شائك بسبب حيرتهم البالغة بين الخيارين اللذين أصبحا يستقطبان الساحة السياسية المصرية وهما خياري الدولة العسكرية والدولة الدينية، وكلاهما فاشي شمولي، مما يستدعي المرارات التاريخية في حلق أي ماركسي أو ليبرالي أو غيرهما من أنصار الدولة المدنية الذين سبق أن مزقتهم أنياب ومخالب الفاشية الشمولية على امتداد العمر الزمني لجمهورية الخوف!!. (5) رغم وقوعي المبكر بين أنياب ومخالب الفاشية الشمولية لجمهورية الخوف منذ ميلادي داخل أحد سجونها الرهيبة حيث كان أبواي رهن الاعتقال الاستثنائي الطويل على خلفية نشاطهما الماركسي، فقد وجدتُني مع انتصاف سبعينيات القرن العشرين منخرطاً كغيري من أبناء جيلي الماركسيين في مسيرة الكفاح الشعبي المتواصل ضد مثلث الاستبداد والفساد والتبعية على كافة المحاور النظرية والعملية، والتي شملت فيما شملته التثقيف والإعلام والتوجيه والتنظيم والعمل الجماهيري والنقابي والأهلي والاتصال والتنسيق السياسي وغيرها، ولما كان الماركسيون هم القادة الميدانيين لاحتجاجات يناير 1977 الثورية فقد أعادت جمهورية الخوف هيكلة أجهزتها المعنية بالأمن السياسي بمجرد إخمادها العسكري العنيف لتلك الاحتجاجات على أساس الانتقام منهم، وأنا بينهم حيث اتفقت أجهزة الأمن السياسي المعاد هيكلتها على تصنيفي منذ ذلك الحين بالمشاغب الماركسي العنيد، مع تفاوت التقديرات من جهاز لآخر حول درجة الخطورة النسبية التي تشكلها مشاغباتي على أمن مكونات جمهورية الخوف، إلا أنها عملت معاً كشبكة أمنية واحدة لقمع مشاغباتي باستخدام كل الوسائل العنيفة والناعمة والالتفافية للاشتباك معها في حينها أو لمعاقبتي عليها بعد حدوثها، أو لردعها بشكل استباقي عبر استنزافي المتواصل كغيري من أبناء جيلي الماركسيين الذين كانوا قد أوشكوا ذات يوم من شهر يناير في عام 1977 على إسقاط جمهورية الخوف، ثم زاد نصيبي من الاستنزاف الاستباقي بعد نجاحي الشخصي في قيادة الاحتجاجات الثورية التي شهدتها أرض المعارض القديمة المطلة على ميدان "التحرير" ضد مشاركة إسرائيل بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير 1981، وهي الاحتجاجات التي يعتبرها الأمناء من المؤرخين بمثابة أول واقعة في التاريخ المصري المعاصر للاصطفاف الوطني العام، الذي ضم الماركسيين والليبراليين مع الإخوان المسلمين إلى جانب القوميين والسلفيين حول هدف سياسي واحد، الأمر الذي أسفر في حينه عن التدمير الكامل لجناح إسرائيل وإلغاء مشاركتها بالمعرض ومنعها من المشاركة في كافة الأنشطة الثقافية التالية، كما أسفر عن نقل أرض المعارض إلى إحدى ضواحي العاصمة بعيداً عن ميدان "التحرير" الذي استمر رغم ذلك يستضيف كل الاحتجاجات الثورية ضد جمهورية الخوف!!. (6) بنجاح احتجاجات معرض الكتاب تحت قيادتي رفعت الأجهزة الأمنية المعنية درجات الخطورة المسجلة على ملفاتي إلى الأعلى تمهيداً لزيادة أنصبتي من جرعات الاشتباك الآني والعقاب اللاحق والاستنزاف الاستباقي، حيث شنت طوال الفترة الممتدة بين يناير 1981 ويناير 2011 عشرات الضربات الموجعة ضد جسدي ونفسي ومحيطي الحيوي الطبيعي، سواء بقصد السيطرة عبر عمليات الاستدراج والتشتيت والاحتواء أو بقصد التصفية عبر عمليات الاغتيال والتقييد المستتر أو الصريح أو حتى بقصد الترويع عبر عمليات الرؤوس الطائرة للمحيطين بي، أو غير ذلك من المقاصد التي اقتضت أن تتخذ الضربات الأمنية أشكالاً متعددة ومتنوعة لا طاقة لي بإيقافها أو تحملها أو تجاهلها أو حتى الهروب منها، ثم أخذت الضربات تتصاعد مع استمرار مقاومتي لها بما تيسر لي من دفاعات متواضعة، حتى أوصلتني إلى أن أصبحتُ وحيداً وقعيداً بعد تفريغ محيطي الحيوي الطبيعي من البشر البسطاء العاديين بالترغيب والترهيب والوقيعة والتضليل وبعد إصابتي بكسور تعجيزية في عمودي الفقري كنتيجة لإحدى محاولات الاغتيال الفاشلة، وهكذا نجحت الأجهزة المعنية بالأمن السياسي لجمهورية الخوف بمهارات وخبرات احترافية شريرة في إشاعة أجواء الموت على كافة أرجاء حياتي تعويضاً لفشلها في إشاعة أجواء الخوف، لتصنع بذلك قرار انسحابي النهائي من الحياة تاركة لي تحديد كيفية وتوقيت تنفيذه، ورغم نجاح هذه الاحترافية مع بعض أبناء جيلي الماركسيين الذين اضطروا لإنهاء حياتهم بأيديهم، إلا أن تفاعلي كان مختلفاً حيث قررتُ الانسحاب الجزئي المكاني بالانتقال من منزلي للإقامة في إحدى دور رعاية معاقي الإصابات الجسمانية والعجزة والمسنين، لعل حياتي بهذا الانتقال تستقبل ما هو جديد وجميل من أشياء وأشخاص يعيدون إليها بعض الأمل الذي كانت قد استنزفته الأجهزة المعنية بالحفاظ على الأمن السياسي لجمهورية الخوف!!. (7) قبيل مغادرتي لمنزلي الكائن في حي "الهرم" بمحافظة "الجيزة" وصلني أحد السعاة يحمل خطاباً موقعاً بواسطة نجم البرامج الحوارية في قنوات التليفزيون الفضائية، ومرفق بالخطاب مظروف ضخم يحوي بعض مكونات الملف الأمني الخاص بي، والذي سبق للمحتجين انتزاعه خلال قيامهم باقتحام مقار جهاز مباحث أمن الدولة لإنقاذ الملفات المعلوماتية الهامة قبل إتلافها بواسطة رموز جمهورية الخوف الساعين للتستر على جرائمهم وخطاياهم، وأوضح النجم التليفزيوني في خطابه أنه بذلك يرد جميلاً سابقاً لي في عنقه، خلال إشرافي قبل ثلاثين عاماً على المكتب الإعلامي الخاص بإحدى لجان رعاية المعتقلين ومسجوني الرأي، حيث أسفرت حملتي الإعلامية عن السماح له باستكمال دراسته الجامعية من داخل السجن الذي كان يقضي فيه آنذاك إحدى العقوبات السياسية، وبعد وصولي إلى دار الرعاية الكائنة في ضاحية "التجمع الخامس" بمحافظة "القاهرة" اكتشفتُ وجود عدد كبير بين نزلائها ممن كانوا قد تعاقبوا على مختلف مواقع المسئولية في جمهورية الخوف، وأفادتني مديرة الدار بأن الأغلبية العظمى لهؤلاء المسئولين السابقين يسعون إلى غسل ذنوبهم قبل ملاقاة ربهم، وذلك عبر اعترافهم العلني بكل ما سبق لهم أن ارتكبوه أو اشتركوا فيه أو شاهدوه أو حتى سمعوا عنه من جرائم وخطايا الاستبداد والفساد والتبعية، ورحبت المديرة باشتراكي كمستمع في جلسات الاعتراف العلنية على أمل أن ترد جميلاً سابقاً لي في عنقها، خلال عضويتي قبل خمسة وعشرين عاماً في مجلس إدارة إحدى النقابات المهنية، التي كانت هي تحتاج آنذاك إلى تدخلها لضمان علاج ابنها على نفقة الدولة، وعند زيارتي لديوان هيئة البريد بهدف الإبلاغ عن تغيير عنواني البريدي من المنزل إلى دار الرعاية استقبلني "حاكمدار" الهيئة ليسلمني رابطة تضم مئات المراسلات، التي أوضح لي إنها الصادر والوارد البريدي الخاص بي والسابق التقاطه بواسطة مندوبي قطاعات الرقابة البريدية المختلفة في جمهورية الخوف منذ عشرات الأعوام، ليتم احتجازه انتظاراً لأوامر "إفراج" لم تصل أبداً من الرؤساء المتعاقبين على تلك القطاعات، ولم تفته الإشارة إلى أن تسليمي مسروقاتي البريدية بدل إتلافها حسب التعليمات الأمنية يأتي لرد جميل سابق لي في عنقه، خلال عملي قبل عشرين عاماً كدبلوماسي في السفارة المصرية بإحدى الدول التي كانت ــ لولا تدخلي ــ على وشك أن تطرده قسرياً خارج أراضيها دون منحه مستحقاته المالية، بحجة تسلله غير الشرعي إليها آنذاك بحثاً عن فرصة عمل أفضل مما كان متاحاً لأمثاله داخل جمهورية الخوف!!. (8) إزاء ما أصبح بحوزتي من تدفق وتنوع معلوماتي كان من الطبيعي أن يتم توزيع وقتي داخل دار الرعاية بين ثلاثة أنواع من الحصص، الأولى لتحصيل المعلومات المنطوقة ضمن اعترافات كبار رموز جمهورية الخوف على أنفسهم وشركائهم بشأن ما سبق لهم ارتكابه من جرائم وخطايا، والثانية لفحص المعلومات الواردة ضمن ملفي الأمني الناجي من براثن جهاز مباحث أمن الدولة والذي تكشف صفحاته العديد من الجرائم والخطايا السابق ارتكابها ضد أجيال متتالية من المصريين، والثالثة لتدقيق المعلومات السابق احتجازها ضمن مسروقاتي المرتجعة من المراسلات المتبادلة بيني وبين الآخرين والتي لم تصلني منهم أو تصلهم مني في حينها، رغم أن أموراً كثيرة كان يمكن اختلافها جذرياً لو وصلت تلك المراسلات المتبادلة آنذاك إلى منتظريها، وتدريجياً بدأت تتسرب خارج حصصي المعلوماتية كوابيس جمهورية الخوف واحدها تلو الآخر من "الحرس الحديدي" إلى "الذكاء السياسي" إلى "المناورات الإخوانية" ثم كوابيس "حظائر السيطرة" و"عصابات البلطجة" و"الهجرة الاضطرارية" و"الجرائم الطبية"، مع كابوس "النظام القضائي الخاضع للاستبداد" وكابوس "الحركة الشيوعية الموبوءة بالفيروس الصهيوني" وماخفي كان أعظم، وأخذت تلك الكوابيس تصحو وتنمو وتتضخم لتضغط على إرادتي بهدف دفعي نحو فك عقالها خارج حصص الاعترافات والملفات والمراسلات ذات النطاقات الضيقة وإطلاق سراحها في الفضاء البشري الواسع والمفتوح، ولم تعبأ كوابيسي بالأعمال الانتقامية التي كانت أجهزة جمهورية الخوف لم تزل قادرة على شنها ضدي لو كشفتُ مستورها، لاسيما وأن تلك الأجهزة قد حافظت على استمرارها في حاضر ومستقبل المشهد السياسي بمناورات التفافية ذكية، تمثلت في اتخاذها عدة خطوات للخلف مع تغيير بعض الجلد القديم المكشوف لصالح جلد جديد يتسم بالمرونة والنعومة اللتان تؤهلانه للمزيد من المراوغة والتستر، ولم تعبأ كوابيسي أيضاً بأن البشر الأسوياء على امتداد التاريخ والجغرافيا قد يصعب عليهم تصديق إمكانية الحدوث الفعلي لما عاشته مصر طوال ستين عاماً متصلة بدأت في 23 يوليو عام 1952 بميلاد جمهورية الخوف!!. ******* الحرس الحديدي، حكام مصر النازيون...
(1) وفقاً لحكايات إعلام الدولة الرسمي فهو من مواليد حي "منيل الروضة" بالقاهرة عام 1922 وإنه بمجرد حصوله على شهادة الثقافة العامة باجتيازه للصف الرابع الإعدادي دفعه حبه للوطن إلى الالتحاق بالكلية الحربية, التي تخرج منها ليبدأ مشواره العسكري أثناء اشتعال الحرب العالمية الثانية (1939- 1944) بين معسكرين من الدول الكبرى, هما معسكر المحور بقيادة ألمانيا وإيطاليا واليابان ومعسكر الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وفرنسا مع بريطانيا الجاثمة آنذاك بقوة احتلالها العسكري على الأراضي المصرية، وحسب الإعلام الرسمي أيضاً فقد شارك عام 1948 في حرب فلسطين حيث التقى بزملائه الذين شكلوا لاحقاً تنظيم الضباط الأحرار ليطيحوا عام 1952 بالملكية ويقيموا على أنقاضها الجمهورية الأولى التي استمرت حتى عام 2011, وتولى هو فيها كبقية الضباط الانقلابيين عدة وزارات سيادية واقتصادية وخدمية إلى جانب مواقع سياسية أخرى لا تقل أهمية كالمحافظ أو السفير دون أن تفوته رئاسة بعض الأجهزة والهيئات العامة مثل المخابرات والاستعلامات وغيرهما, وذلك على امتداد العهود المتتالية لرؤساء الجمهورية الأربعة من العسكريين المتعاقبين وهم "محمَّد نجيب" و"جمال عبدالناصر" و"أنور السادات" و"حسني مبارك"، ويذكر الإعلام الرسمي إنه بعد سنوات قليلة من بداية عهد مبارك عام 1981 تفرغ للعمل السياسي المباشر كعضو الأمانة العامة بالحزب الوطني الحاكم, بالإضافة إلى استمرار إشرافه على إمبراطورية المشاريع المالية والتجارية الضخمة التي كان قد نجح في تأسيسها بأسماء أولاده تحت مظلة الأجواء الانفتاحية التي عرفتها مصر عام 1975 خلال عهد السادات، وأخيراً يشير إعلام الدولة الرسمي إلى أنه مع انهيار الجمهورية الأولى بالسقوط المدوي والمهين لنظام مبارك عام 2011 استجاب لنصائح الأطباء بالاعتكاف والخلود إلى الراحة, لاسيما وقد أعقب انهيار الجمهورية الأولى دخول مصر مرحلة انتقالية بدأت بصراع العسكريين مع الإخوان المسلمين لتنتهي بانسجام مخادع مؤقت بين الفريقين دون أن يكون مسموحاً لأمثاله بأي دور سواء في الصراع أو الانسجام، إلا أن حقيقة حكاياته كما يرويها هو بنفسه تختلف جذرياً عن حكايات الإعلام الرسمي للدولة بشأنه من حيث بداياتها ونهاياتها وتفاصيل مشوار حياته الطويل الذي يمتزج بأهم وقائع التاريخ المصري المعاصر!!. (2) بالنسبة لبدايات حياته المهنية فهو يؤكد أنه دخل الكلية الحربية هرباً من عقدة نقص لازمت صباه وأزعجته كثيراً بسبب سخرية أقرانه منه ونعتهم إياه بالأنوثة, نظراً لأن أمه التركية الحسناء كانت قد أورثته جاذبية ملامحها وبياض جلدها واصفرار شعرها واخضرار عينيها, ولما استفزته تلك السخرية ذات مرة حتى دفعته إلى محاولة إثبات رجولته عبر تدخين السجائر احتفالاً بحصوله على شهادة الثقافة العامة, رآه أبوه الأزهري الكهل الذي كان بدوره يحاول إثبات رجولته هرباً من عقدة نقص يعانيها في مواجهة زوجة تركية شابة حسناء, فأوسعه أبوه ضرباً أمام أقرانه لتزداد سخرياتهم منه مما أدى إلى تفاقم عقدة النقص لديه, وهكذا لم يجد لنفسه مهرباً سوى دخول الكلية الحربية التي ستبعده عن أقرانه لمدة ستة أيام في الأسبوع كما ستكسبه بعض الخشونة الرادعة لهم، وأما بالنسبة للنهايات فهو يؤكد أنه امتنع عن الطعام والشراب عام 2010 بعد إصابته باكتئاب حاد في أعقاب اكتشافه لغدر زملائه من أعضاء الحرس القديم بالحزب الوطني الحاكم, الذين أطاحوا به خارج الأمانة العامة للحزب بهدف تسليم موقعه لأحد شباب الحرس الحزبي الجديد حرصاً من هؤلاء الزملاء على كسب ود الشباب المستجدين المناصرين لجمال نجل الرئيس "حسني مبارك" في مسعاه لوراثة رئاسة الحزب والدولة بعد أبيه الثمانيني, وفي أعقاب اكتشافه لغدر أبنائه الذين أطاحوا به خارج إمبراطورية المشاريع المالية والتجارية الضخمة التي كان قد سبق له تأسيسها قبل خمسة وثلاثين عاماً بأسمائهم, حرصاً من هؤلاء الأبناء على تحقيق ثروات سهلة بوضعهم لمشاريع أبيهم تحت رعاية "جمال مبارك" وأنصاره، وإزاء فشل كافة المحاولات المبذولة لعلاج اكتئابه وإقناعه بالعدول عن إضرابه نصح الأطباء آنذاك بنقله للإقامة داخل إحدى دور الرعاية المتخصصة, ومع انهيار جمهورية الخوف الأولى عام 2011 بما تلاه من إيداع "حسني مبارك" ونجله "جمال" وبعض الملتفين حولهما من أعضاء الحرس الحزبي القديم والجديد معاً خلف القضبان, انشغل زملاؤه وأبناؤه بخوض عشرات المعارك القضائية الاستثنائية لحماية رقابهم وحرياتهم وثرواتهم في مواجهة اتهامات غير مألوفة لديهم, أجبرتهم على المثول أمام المحاكمات العديدة التي ميزت المرحلة الانتقالية التالية لجمهورية الخوف الأولى, فشاركوا جميعاً في إيداعه رغماً عنه داخل دار رعاية معاقي الإصابات الجسمانية والعجزة والمسنين الكائنة بضاحية "التجمع الخامس" في محافظة "القاهرة", حيث التقاني واسترجعت ذاكرته اليقظة سابق عملي المهني تحت رئاسته في بعض أجهزة الدولة وهيئاتها العامة, بكل مفردات تلك الذكريات حتى الصغيرة منها مثل قطع الشيكولاتة التي كان يخصني بها لمنعي من تدخين الغليون داخل مكتبه, مما شجعه على أن يروي لي تفاصيل مشوار حياته الطويل الذي يمتزج بأهم وقائع التاريخ المصري المعاصر!!. (3) قبيل الحرب العالمية الثانية تم استدراجه بمهارة احترافية عالية لتجنيده داخل صفوف إحدى الجمعيات السرية, ولم يكن مسموحاً له في حينه بالحصول على أية إجابات معلوماتية لأسئلته القلقة حول الجمعية سوى أنها تضم الفدائيين الوطنيين الساعين لإجلاء قوات الاحتلال البريطاني عن مصر بواسطة الكفاح المسلح, إلا أنه بمجرد انتهاء الحرب توصل إلى إجابات لغالبية الأسئلة التي طالما أقلقته حيث أدرك أنه كان قد أصبح عضواً قاعدياً عاملاً في الجمعية السرية المعروفة باسم "الحرس الحديدي", وهي المختصة حصرياً بالعسكريين ضمن عدة جمعيات سرية أخرى موزعة على مختلف الفئات الاجتماعية للشعب المصري مثل جمعيتي "الفلاح" و"الصنائع" وغيرهما, واكتشف أن الجمعية السرية التي ضمته لا تمارس الكفاح المسلح وإنما بعض أشكال العنف لاسيما الاغتيالات ذات الطابع العشوائي, والتي تطول أحياناً مواطنين مدنيين لا يحملون فقط الجنسية البريطانية بمن فيهم المصريين تحت دعوى تعاونهم مع قوات الاحتلال, كما تبين له أن الجمعية تعمل من أجل تحقيق المصالح الضيقة لرعاتها الحقيقيين وهم القصر الملكي وبعض أجهزة استخبارات الدول الكبرى المعادية لبريطانيا وفي مقدمتها ألمانيا النازية, دون علم أعضائها القاعديين المتحمسين, ليتم بذلك استغلال الجمعية ليس فقط في إلحاق الخسائر بقوات الاحتلال البريطاني وأعوانها ولكن أيضاً في إقصاء الخصوم والمنافسين لإحكام السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع, ضمن الصراعات التاريخية الممتدة بين عدة أطراف محلية وإقليمية وعالمية حول السلطة والنفوذ في مصر ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي والثروات الاقتصادية الهائلة, وقد تضاربت شهادات زملائه من أعضاء الحرس الحديدي وتقديراتهم بشأن البدايات الأولى لنشأة جمعيتهم السرية, فمنهم الذي أرجعها إلى وقوع الاحتلال البريطاني لمصر في القرن التاسع عشر ومنهم الذي أرجعها إلى الحملة الفرنسية على مصر في القرن الثامن عشر, إلا أن بعضهم تمادوا في التقدير ليرجعوها إلى القرن الثاني عشر بزحف الصليبيين نحو مصر تحت رايات دينية مسيحية, الأمر الذي اضطرت معه القيادة المدنية للدولة الفاطمية القائمة في مصر آنذاك إلى الاستعانة بالعسكريين المحترفين من المسلمين غير المصريين كالأيوبيين والمماليك والعثمانيين, هؤلاء الذين جلبوا معهم إلى الأراضي المصرية وسائل دفاعية جديدة, ليستخدموها بعد انتصارهم على الصليبيين في صراعاتهم البينية الداخلية من أجل السلطة والنفوذ, وهي الوسائل التي ضمت الجمعيات السرية عموماً وجمعيات العنف السري على وجه الخصوص، ورغم تضارب الشهادات والتقديرات حول بدايات النشأة التاريخية الأولى لجمعية "الحرس الحديدي" السرية, يتفق جميع أعضائها على أن بدايتها الحقيقية ذات التأثير الفعلي في الواقع الميداني المصري كانت خلال ثلاثينيات القرن العشرين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية التي قادت ألمانيا النازية أحد طرفيها بين عامي 1939 و1944!!. (4) بمجرد اندلاع الحرب العالمية الثانية اعتبرت الاستخبارات النازية الألمانية جمعية "الحرس الحديدي" إحدى أهم القواعد الثابتة المؤهلة لدعم وتلبية احتياجات محطتها الخارجية الأكبر الكائنة في مصر, كما اعتبرتها أحد أهم السواتر الصالحة لتغطية مجمل أنشطة تلك المحطة, الأمر الذي أكده لاحقاً "مايلز كوبلاند" رئيس محطة الاستخبارات المركزية الأمريكية بمصر خلال الفترة نفسها في كتابه الشهير "لعبة الأمم"، لذلك فقد قام الألمان بحشد وتعبئة كل إمكاناتهم المادية والمعنوية لإعادة تنظيم جمعية "الحرس الحديدي" وتطويرها على كافة المحاور السياسية والأمنية والعسكرية, والتي شملت فيما شملته استجلاب أكفأ الكوادر العقائدية والاحترافية لتدريب أعضاء الحرس الحديدي على مختلف استخدامات التقنيات الأحدث في حينه, والخاصة بمجالات جمع وتدقيق المعلومات وتوظيفها ومهارات الاتصال والاختراق إلى جانب التحركات الميدانية لتنفيذ الاغتيالات والتصفية الجسدية وما شابه من عمليات العنف المباشر, بالإضافة إلى العمليات المستترة بقصد التأزيم والترويع والتشتيت والسيطرة وغيرها مما يسميه المصريون "فنون اللهو الخفي"، وقد حصل أعضاء الحرس الحديدي عبر هذه التدريبات على احتياجاتهم من التثقيف والتأهيل النوعي وأوراق الهوية الزائفة, التي ساعدتهم في اختراق مؤسسات الدولة السيادية والتنفيذية والتشريعية والقضائية والأحزاب والتنظيمات السياسية ذات التأثير الجماهيري كالوفد والشيوعيين والإخوان المسلمين ومصر الفتاة, كما ساعدتهم في شغل وتولي عدة مواقع قيادية هنا وهناك تسمح لهم بتوجيه المؤسسات والأحزاب والتنظيمات المخترقة ودفعها نحو ما تريده المخططات الألمانية، وفي السياق ذاته جلب الألمان إلى الأراضي المصرية من خلال "الحرس الحديدي" الوسيلة القذرة المعروفة باسم "فتيات السيطرة", وذلك بالتجنيد المنظم والواسع للمنحرفات ذوات التطلعات غير المستحقة من المصريات وبنات الجاليات الأجنبية المقيمة مع الاستقدام السخي لمنحرفات الدول المجاورة, ليحصلن بدورهن على احتياجاتهن من التثقيف والتأهيل النوعي وأوراق الهوية الزائفة التي ساعدتهن في الإيقاع بالعناصر البارزة المستهدفة هنا وهناك, لدفعهم نحو ما تريده المخططات الألمانية أو على الأقل لاستدراجهم إلى عضوية جمعية "الحرس الحديدي" السرية تمهيداً لاستخداماتهم المستقبلية، ومن خلال الجمعية استحدث الألمان وسيلة التلاعب بالصورة الذهنية لمنح الأعضاء والمندوبين وفتيات السيطرة قبولاً مجتمعياً زائفاً يساعدهم في عمليات الاختراق والترقي صعوداً نحو ما تريده المخططات الألمانية, وذلك عبر تنقية تواريخهم وأموالهم وشخوصهم من العفن الذي يملأها والقاذورات التي تحيط بها ثم إغراقهم بمكسبات اللون والطعم والرائحة وتسليط الأضواء على إيجابيات وهمية يتم إلصاقها بهم زوراً, بما يقتضيه ذلك من تلميعهم داخل دوائر الانتشار المجتمعي آنذاك كالمسرح والسينما والآداب والفنون والصحافة والإذاعة والصالونات والمنتديات الثقافية والجوائز المفبركة, وما شابه من "فنون غسيل البشر" المستمرة في مصر حتى الآن على طريقة هيئة الاستعلامات النازية الألمانية!!. (5) انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1944 بتغيير مجمل خرائط العلاقات الدولية جذرياً على كل المستويات التي أسفرت بدورها عن انعكاسات مختلفة في الساحة الداخلية المصرية, حيث أسفرت هزيمة معسكر المحور الذي تقوده ألمانيا النازية عن التوقف المؤقت لتدخلات الاستخبارات الألمانية في شئون الدول الأخرى بما فيها مصر من الناحية الرسمية, وأسفر فشل بريطانيا في هزيمة ألمانيا بمفردها عن التراجع النسبي لموقفها العالمي وبالتالي ضعف هيمنتها التقليدية على مستعمراتها القديمة بما فيها مصر, كما أسفر نجاح المجهود الحربي الأمريكي والسوفيتي في حسم الحرب لصالح معسكر الحلفاء عن إعادة ترتيب مراكز القوة في العالم ودخوله مرحلة جديدة ثنائية القطبين دار الصراع حول قيادتها بين واشنطون وموسكو, حيث لجأت الأولى إلى أسلوب الهيمنة الاقتصادية بينما لجأت الثانية إلى أسلوب الهيمنة الأيديولوجية كبدائل حديثة غير مباشرة لوراثة السيطرة التقليدية المباشرة على مستعمرات العالم القديم بما فيها مصر, وفي إطار الصراع بين القطبين على تلك المستعمرات أخذت واشنطون تدعو أتباعها إلى تطبيق النظام الجمهوري الذي تحظى فيه القوات المسلحة بالنفوذ السياسي الرئيسي, بينما أخذت موسكو تدعو أتباعها إلى تطبيق النظام الجمهوري الذي تحظى فيه الأحزاب الشيوعية بالنفوذ السياسي الرئيسي, وهكذا اتفق القطبان الكبيران الجديدان ضمناً وبدون قصد على انتهاء صلاحية الأنظمة الملكية الوراثية الحاكمة لمستعمرات العالم القديم بما فيها مصر آنذاك, الأمر الذي أدركه جيداً الملك المصري "فاروق" فسعى إلى مقاومته لحماية نفسه ونفوذه ومصالحه عبر كافة الوسائل المتاحة أمامه وعلى رأسها جمعية "الحرس الحديدي" السرية, من خلال احتفاظه بوجودها وتطويرها لاستخدامها ضد خصومه ومناوئيه القدامى والجدد لاسيما في ظل استمرار علاقاته المميزة مع قياداتها وأبرز كوادرها من المصريين، وعلى رأسهم معلمه الخاص ورئيس أركان الجيش السابق الفريق "عزيز المصري" وطبيب أسنانه الخاص عضو الديوان الملكي لواء الجيش "يوسف رشاد" مع زوجته "ناهد رشاد" كبيرة وصيفات القصر الملكي وكبيرة ممرضات الجيش، إلى جانب ضابط الجيش النشط العقيد "مصطفى كمال صدقي" الذي كان يتولى آنذاك مهمة قيادة العمل الميداني السري للجمعية مع زوجته الفنانة "تحية كاريوكا" صديقة سيدة الترفيه الشهيرة "حكمت فهمي"، ليحظى الحرس الحديدي بفرصة تاريخية غير متوقعة لاستمرار وجودهم التنظيمي وأنشطتهم السياسية والأمنية والعسكرية, وإزاء اضطرار بعض القيادات العليا وغالبية الكوادر الوسطى والمندوبين القاعديين والميدانيين لأجهزة الاستخبارات النازية الألمانية وحليفاتها الإيطالية واليابانية وغيرها إلى الفرار والتخفي, هرباً من المطاردات واسعة النطاق والرامية لإجبارهم على المثول أمام المحاكمات الجنائية الدولية التي كانت تقضي بإعدامهم كمجرمي حرب, فإنهم لم يجدوا تمويهاً أفضل من الذوبان داخل الجمعيات السرية التابعة لهم والتي كانوا يعتبرونها قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية مجرد قواعد وسواتر لأنشطتهم الخارجية مثل جمعية "الحرس الحديدي", وبترحيب من القصر الملكي تم ذوبانهم داخل الجمعية ليمنحونها بذلك اتساعاً في نطاق العضوية الجديدة ذات المهارات المتعددة والخبرات المختلفة الأمر الذي تحسنت معه أحوالها التنظيمية, حتى وقعت حرب فلسطين عام 1948 والتي أسفرت بدورها عن إعادة ترتيب مجمل الخرائط السياسية الإقليمية بتكريس الوجود الإسرائيلي كأمر واقع في قلب الشرق الأوسط, عقب الهزيمة المخزية والمهينة التي لحقت بالجيوش العربية بما فيها الجيش المصري على أيدي عصابات البلطجة الصهيونية المعادية أيضاً لألمانيا النازية!!. (6) كان الاعتراف بالمسئولية عن هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين عام 1948 يحتاج إلى شجاعة غير متوافرة آنذاك لدى الأطراف الثلاثة المسئولة معاً عن الهزيمة بدرجات متفاوتة, فراحوا يتبادلون الاتهامات فيما بينهم بشأنها, حيث وجه الملك "فاروق" اتهاماً بسوء القيادة والتوجيه لقائد عام الجيش الفريق "حيدر باشا" ورئيس الأركان اللواء "عثمان المهدي", اللذان اتهما من جانبهما الضباط المقاتلين أنفسهم بمن فيهم أعضاء "الحرس الحديدي" الميدانيين بالإهمال والتراخي, فرد هؤلاء باتهام الملك "فاروق" شخصياً بتوريد أسلحة متخلفة عجزت عن مواجهة الأسلحة الأحدث التي كانت في حوزة عصابات البلطجة الصهيونية أو الصمود أمامها وهو ما أصبح معروفاً بعد ذلك بصفقة الأسلحة الفاسدة، ومع استمرار دورة الاتهامات المتبادلة بين الأطراف الثلاثة واتساع نطاقها النخبوي والجماهيري على أيدي الصحافة والأحزاب ازدادت العدائيات حتى وقع الطلاق القاسي بين القصر الملكي والحرس الحديدي, الذين توقفت أنشطتهم واجتماعاتهم السرية لعدة شهور قبل أن يتلقوا تعميماً شفهياً خلال الربع الأخير من عام 1949, لإبلاغهم بأنهم منذ ذلك التاريخ لم يعودوا أعضاءً بجمعية "الحرس الحديدي" السرية بل أصبحوا أعضاءً في تنظيم "الضباط الأحرار" السري الجديد الذي أصدر بيانه السياسي الأول خلال الربع الأخير من عام 1950 بعنوان "نداء وتحذير". ومرة أخرى حالت اعتبارات السرية دون حصوله على إجابات يقينية لأسئلته المقلقة حول ما إذا كانت جمعية "الحرس الحديدي" قد غيرت اسمها إلى تنظيم "الضباط الأحرار" أم إنها انضمت له واندمجت فيه مع غيرها من الجمعيات السرية, رغم بعض الشواهد الهامة التي استوقفته مثل الاختفاء التام والنهائي للجمعية عن الساحة السياسية بمجرد ظهور التنظيم, واستمرار وجود "عزيز المصري" و"يوسف رشاد" وزوجته "ناهد" في الخلفية الغامضة لأنشطة التنظيم واجتماعاته بعد أن كانوا يتصدرون واجهة الجمعية, وكذلك استمرار وجود "مصطفى كمال صدقي" كعضو مؤثر في التنظيم بعد أن كان يقود الأنشطة الميدانية للجمعية, إلى جانب بعض الذين سبق لهم العمل معه كأعضاء في الجمعية ثم أصبحوا يقودون التنظيم مثل "أنور السادات" و"زكريا محيي الدين" و"صلاح سالم" و"حسن عزت" و"عبدالمنعم عبدالرؤوف" و"حسين صبري ذوالفقار" وغيرهم, والأهم من ذلك كله بالنسبة إليه هو شخصياً أن فتاة السيطرة الصغيرة ابنة إحدى الجاليات الأجنبية المقيمة والتي كانت قد استدرجته بمهارة احترافية لتجنيده داخل صفوف الجمعية في أواخر الثلاثينيات, هي نفسها قد أصبحت زوجة لأحد أبرز قيادات التنظيم بعد اكتمال نضجها الأنثوي في أواخر الأربعينيات, ليعلو نجمها مع زوجها لاحقاً وتصبح على مدى عقد زمني كامل أهم شخصية نسائية في مصر!!. (7) في عام 1952 أطاح الحرس الحديدي بعد أن أصبحوا الضباط الأحرار بالملك "فاروق" عقب نجاح انقلابهم العسكري الذي نفذوه تحت حماية واشنطون, حيث كان للسفارة الأمريكية في القاهرة اثنين من "الأصدقاء" أعضاء مجلس قيادة تنظيم الضباط الأحرار هما "علي صبري" و"عبدالمنعم أمين", وعن طريقهما تم الاتفاق بين الطرفين على التزام الولايات المتحدة الأمريكية بمنع قوات الاحتلال البريطاني من التصدي للانقلاب أو التدخل بأي شكل لدعم الملك, مقابل التزام الانقلابيين بحماية المصالح الأمريكية في مصر والشرق الأوسط, بما يقتضيه ذلك من تعهدهم بالإسهام النشط في الحملة الأمريكية "المكارثية" لمكافحة الشيوعية والشيوعيين على كافة المحاور والمستويات المحلية والإقليمية والعالمية, الأمر الذي أكده لاحقاً عضو مجلس قيادة التنظيم "خالد محيي الدين" في كتابه الشهير "والآن أتكلم", وقد اطمأنت الإدارة الأمريكية تدريجياً لدقة التزام الانقلابيين بتعهداتهم بعد اجتيازهم الناجح لعدة اختبارات ولاء متتالية خلال الفترة الواقعة بين عامي 1952 و1954, منها على سبيل الأمثلة لا الحصر إقصائهم لرئيس مجلس القيادة ذاته اللواء "محمَّد نجيب" بدعوى رضوخه لمطالب الجماهير الشعبية المصرية والتي كان الأمريكيون يخشون أن تدفعه نحو الاقتراب من الشيوعية, وإقصائهم لاثنين من أبرز أعضاء مجلس القيادة هما "يوسف صديق" و"خالد محيي الدين" بدعوى سابق تعاملهما مع الشيوعيين المصريين, وإلغاء تكليف المستشار"عبدالرزاق السنهوري" برئاسة الحكومة عقب إعلان "علي صبري" لموقف السفير الأمريكي في القاهرة ضده بحجة تعاطفه مع أفكار حركة السلام العالمي التي تتهمها واشنطون بالميول الشيوعية، فيما فسره الرجل الأقوى "جمال عبدالناصر" لاحقاً بأنه كان مجرد تمويه اضطراري لحين اكتمال انسحاب قوات الاحتلال البريطاني عن مصر عام 1956, ولكن التمويه الاضطراري وحده لا يفسر أبداً الإجراءات العنيفة التي اتخذها عبدالناصر آنذاك لقمع هؤلاء وقهرهم كتحديد إقامة "نجيب" تحت الحراسة الجبرية المشددة في أحد المنازل الريفية النائية ونفي "صديق" و"محيي الدين" خارج الحدود ومنع عودتهم للبلاد, وتحريض المئات من عمال النقل العام والسكة الحديد لمهاجمة مكتب "السنهوري" بالمحكمة وشروعهم في قتله لولا تدخل جمهور المتقاضين لإنقاذ حياته، علماً بأن هذا الهجوم قد تم تنفيذه مقابل أربعة آلاف جنيه حصل عليه المهاجمون بواسطة اثنين من الضباط الأحرار هما "أحمد حمروش" و"إبراهيم الطحاوي" إلى جانب بعض القيادات العمالية الصفراء مثل "أحمد طعيمة" و"الصاوي أحمد الصاوي", كأول مصاريف سرية يتم خصمها من الخزائن الخاصة بالجهازين الوليدين اللذين كان "جمال عبدالناصر" قد أنشأهما لتوه برئاسة اثنين من أعضاء مجلس القيادة هما "زكريا محيي الدين" للمخابرات العامة و"صلاح سالم" لهيئة الاستعلامات, ليخلف هذان الجهازان معاً جمعية "الحرس الحديدي" السرية على محاور المعلومات والاتصال والاختراق والعنف المباشر واللهو الخفي والتلاعب بالصورة الذهنية وفتيات السيطرة, وغيرها من محاور العمل السري الذي مازال محاطاً بعدة محاذير ومحظورات تحول دون إثبات تلك الخلافة رسمياً, حتى بالنسبة لشخص مثله أمضى عمره الطويل كله متنقلاً بين المواقع القيادية هنا وهناك وحتى لو كان يحدثني أنا شخصياً مرؤوسه السابق وصديقه الحالي، لدعم خطتي الرامية إلى نشر حقائق وكشف مستور جمهورية الخوف الأولى باعتبار ذلك فرض عين على كلينا من أجل مستقبل أفضل لمصر والمصريين!!. (8) بانتصاف خمسينيات القرن العشرين كان الرجل الأقوى في مجلس القيادة "جمال عبدالناصر" قد تخلص من كافة خصومه ومناوئيه ومنافسيه وشركائه غير الضعفاء بالداخل تباعاً, عقب خلع الملك "فاروق" وتحديد إقامة رئيس المجلس اللواء "محمَّد نجيب" وإقصاء أعضاء المجلس "عبدالمنعم عبدالرؤوف" و"يوسف صديق" و"خالد محيي الدين", وطرد قوات الاحتلال البريطاني ومحاصرة الوفديين والشيوعيين والإخوان المسلمين وغيرهم من السياسيين الوطنيين, عبر سلسلة مؤامرات احترافية متتالية ومتداخلة تم تدبيرها بمهارة عالية وتنفيذها بنجاح ساحق من خلال جهازي المخابرات والاستعلامات, ليستأثر "عبدالناصر" وحده بكل سلطات الدولة المصرية محاطاً بأتباعه المطيعين فقط مع هذين الجهازين، وفي إطار سعيه لتحقيق التنمية الاقتصادية التي سبق أن وعد بها جماهير الشعب المصري كسباً لودهم وجد نفسه مضطراً لإنجاز بعض المشاريع الضخمة مثل السد العالي, الذي كان يحتاج إلى تمويل مالي من المؤسسات العالمية التي أوقفت تمويلها للمشروع تحت ضغط بريطانيا الغاضبة لأنها أكملت لتوها سحب قوات احتلالها من الأراضي المصرية كرهاً, فرد "عبدالناصر" بتأميم شركة "قناة السويس" المملوكة لبريطانيا وفرنسا فردتا من جانبهما بالمشاركة مع إسرائيل في شن عدوان عسكري غاشم على مصر عام 1956, وتوزعت المهام القتالية بين أطراف الغزو فقامت بريطانيا بالقصف الجوي لمدن القناة ودلتا النيل بينما قامت فرنسا بالقصف الجوي للقاهرة والإسكندرية ومدن الصعيد أما إسرائيل فاجتاحت سيناء بقواتها البرية، ورغم التدخل الأمريكي- السوفيتي المشترك لوقف العدوان الثلاثي وإرغام أطرافه على الانسحاب من الأراضي المصرية المحتلة إلا أن أجواء التعبئة العامة المصاحبة لحرب السويس باعتبارها أولى حروب جمهورية الخوف الأولى لم تتوقف, حيث كلف "عبدالناصر" المحترفين داخل جهازي المخابرات والاستعلامات بالبحث الموسع عن أفكار جديدة تكفل اتخاذ إجراءات دفاعية إضافية مستحدثة وغير تقليدية في مجال مكافحة الاستعمار والصهيونية, وسرعان ما وافق على التنفيذ الفوري لفكرة عرضها عليه "زكريا محيي الدين" رئيس المخابرات العامة الذي كان بدوره قد تعلق بها بمجرد أن شرحها له مبتكرها "سعد عفرة", ضابط المخابرات المصري المسئول عن متابعة أنشطة ألمانيا ودول معسكر المحور السابق وقواعدهم وسواترهم الداخلية والخارجية سواء كانت قائمة أو نائمة بما فيها الجمعية السرية للحرس الحديدي, وكافأ "عبدالناصر" ضابط مخابراته "سعد عفرة" على فكرته بمنحه رتبة سفير ثم تعيينه رئيساً لهيئة الاستعلامات خلفاً لصلاح سالم, وكانت الفكرة هي تشكيل وحدة عمليات سرية خاصة من ضباط المخابرات العامة والاستخبارات العسكرية الجدد وانتدابهم إلى الخارج للعمل تحت سواتر إعلامية ودبلوماسية برئاسة السفير "سعد عفرة" رئيس هيئة الاستعلامات وإشراف الفريق "عزيز المصري"، الذي استمر يشغل موقع سفير مصر في الاتحاد السوفييتي منذ بداية حكم الضباط الأحرار سنة 1952 حتى وفاته سنة 1965 عن عمر يناهز الثمانين عاماً كمكافأة نهاية خدماته العديدة لجمعية "الحرس الحديدي"، وحسب فكرة "عفرة" التي تبناها "جمال عبدالناصر" فقد حصلت تلك الوحدة العملياتية الخارجية على صلاحيات سيادية مطلقة حتى تقوم بالاستقدام السري لأكبر عدد ممكن من فلول دول المحور، الفارين والمتخفين في مختلف بلدان العالم تحاشياً للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية أو هرباً من تنفيذ قراراتها بإعدامهم لارتكابهم جرائم حرب وإبادة ضد الإنسانية, وبموجب فكرة "عفرة" فإنه يجب التركيز على الألمان منهم ولاسيما ضباط الاستخبارات النازية المعادين بطبيعتهم للصهيونية والمعادين أيضاً بنفس الدرجة لكل من الشيوعية والليبرالية, ليكونوا بمثابة خبراء ومدربين ومستشارين للأجهزة الأمنية المصرية الوليدة بشأن كيفية مكافحة الاستعمار والصهيونية إلى جانب مكافحة الأفكار الأخرى "الهدامة" كالشيوعية والليبرالية حسب وصف تلك الأجهزة, ووفقاً للفكرة ذاتها فإنه يتم استقدام هؤلاء النازيين والفاشيين والعسكريين فلول الأنظمة الشمولية الاستبدادية لدول معسكر المحور من مشارق الأرض ومغاربها بمساعدة أعضاء الجمعية السرية للحرس الحديدي ذوي الصلات بهم, على أن يتم منح "الخبراء الألمان" سواتر جديدة تليق بكل واحد فيهم وفقاً لأحواله من حيث الاسم والجنسية والديانة والوظيفة وكافة البيانات الأخرى, المدونة في مستندات وأوراق هوية "سليمة" تثبتها وكأنها حقيقية, أسوة بما كان معمولاً به أثناء العصر الذهبي لجمعية "الحرس الحديدي"!!. (9) أثناء استغراقي في الاستماع لشهادته حول تفاصيل مشوار حياته الطويل الذي يمتزج بأهم وقائع التاريخ المصري المعاصر باغتني بسؤال نقلني إلى موقع المشارك في بعض تلك الوقائع, حيث سألني عن مدى تذكري لأحد جلساء الصحبة التي طالما شاركتني سهراتي بمنتديات وسط القاهرة في أوائل ثمانينيات القرن العشرين, وهو طبيب الأسنان "طارق فريد حسين" الذي كثيراً ما أفادتني نصائحه الخاصة بكيفية وقاية أسناني كما أفادتني ثقافته اللغوية المتنوعة والعميقة, ثم فاجأني بإشارته إلى أن ذلك الجليس لم يكن سوى الجنرال "هيربيرت هايم" النمساوي الجنسية, الذي سبق توليه لعدة مواقع قيادية هامة في الاستخبارات النازية الألمانية على مقربة من الفوهرر "أدولف هتلر" شخصياً خلال اندماج النمسا وألمانيا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية, الأمر الذي جلب له عداء صهاينة العالم مما تسبب في فراره عقب انتهاء الحرب بهزيمة ألمانيا واستمرار تخفيه وتنقله سراً بين الدول الأوروبية بعد إرساله لأولاده إلى أمريكا الجنوبية كي يختبئون هناك, هرباً من مذكرة إيقافه الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بمكافحة مجرمي الحرب النازيين, وأوضح لي أنه كان قد تم استقدامه إلى القاهرة عام 1956 كأحد المستفيدين من فكرة "سعد عفرة" التي أصبحت فيما بعد تحمل اسم "ملف الخبراء الألمان", حيث حصل الجنرال "هايم" على مستندات وأوراق هوية سليمة باسم طبيب الأسنان المصري "طارق فريد حسين" إلى جانب دورات تدريبية مكثفة في اللغة العربية عموماً واللهجة المصرية على وجه الخصوص, ونظراً لمخاوف "هايم" الأمنية المفهومة فقد ظل يتنقل بين الفنادق الشعبية الواقعة داخل الأحياء المزدحمة بالقاهرة ولا يستخدم في تحركاته سوى المواصلات العامة المكتظة بالركاب حتى وفاته عام 1992 عن عمر يناهز الثمانين عاماً, تحت متابعة لصيقة على مدار الساعة من قبل مندوبي الأجهزة السيادية المعنية بالأمن السياسي التي جلبته لتوظفه لديها كمستشار, وذلك حتى يقوم المندوبون بحمايته وتغطيته عند الضرورة فيما فسر لي كيفية تسرب المعلومات الخاصة بتكرار جلوسه ضمن صحبتي، وأضاف وهو يتباهى بكفاءة مندوبيه الذين تدربوا مثلي على يديه أن مطاردي "هيربيرت هايم" من مندوبي الأجهزة المعادية لم يعلموا بأمره إلا بعد وفاته بسبعة عشر عاماً, عندما خرق أبناؤه المقيمين في أمريكا الجنوبية التعليمات الأمنية بتوجههم لصرف أموالهم المورثة عنه والمودعة لدى البنوك السويسرية والتي كانت معاملاته بشأنها قد توقفت في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية, مؤكداً لي أنه لولا ضخامة تلك الأموال بدرجة مغرية لأولاده الطامعين ما كان أحدهم قد علم أي شيء عنه مطلقا أسوة ببقية زملائه النازيين والفاشيين والعسكريين من فلول الأنظمة الشمولية الاستبدادية لدول معسكر المحور السابق, حيث اضطر أبناؤه لكي يصرفوا أموالهم إلى تقديم ما بحوزتهم من مستندات تثبت أن أباهم طبيب الأسنان المصري "طارق فريد حسين" الذي هو نفسه الجنرال الألماني "هيربيرت هايم" قد توفى في "القاهرة"، هذه المدينة التي استضافته بصفة دائمة لمدة ستة وثلاثين عاماً كمستشار خاص وسري للأجهزة السيادية المعنية بالشئون السياسية والأمنية والعسكرية, بعد أن كان مقيماً فيها بصفة مؤقتة قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية للتفتيش والمتابعة في إطار مسئولياته الاستخباراتية النازية عن الجمعية السرية للحرس الحديدي, التي كان يشرف عليها آنذاك من الناحية الظاهرية طبيب أسنان مصري حقيقي اسمه اللواء "يوسف رشاد" إلى جانب رئيس أركان الجيش الفريق "عزيز المصري"!!. (10) بعد ترديده لعبارات الامتداح والإعجاب بذاكرتي المبرمجة واليقظة كما سبق له وصفها خلال عملي تحت رئاسته قبل ثلاثة عقود زمنية، أعرب عن ثقته بأنني لم أزل أتذكر واقعة استضافتي داخل شقة "نشوى" ذات مرة كعابر سبيل في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، تاركاً إياي مع ذاكرتي حتى يكمل امتصاص قطعة الشيكولاتة الضخمة التي سمحت لي مديرة دار الرعاية بتهريبها إليه رغم تحذيرات الأطباء، حيث كان الاتحاد السوفيتي قد وضع يده عقب سقوط النازية عام 1944 على ربع الأراضي الألمانية وأسماها "ألمانيا الشرقية" ليفرض عليها نظام الحزب الواحد الذي هو الحزب الشيوعي، بينما وضعت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا أياديها معاً على الثلاثة أرباع المتبقية وأسمتها "ألمانيا الغربية" لتفرض عليها نظام الحزبين الكبيرين اللذان يتداولان السلطة فيما بينهما وهما الحزب الاشتراكي والحزب المسيحي، وبينما كان الحزب الاشتراكي يحكم ألمانيا الغربية آنذاك دعاني كي أشارك في أحد مؤتمراته الموسعة بورقة حول الأدب السياسي لدي شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط عموماً والشعب المصري على وجه الخصوص، فالتقطت الأجهزة السيادية المعنية بالأمن السياسي عن طريق هيئة البريد المظروف الذي يحوي تلك الدعوة قبل وصوله لي واحتجزته بهدف إجراء الفحوصات اللازمة والمعتادة مع مراسلاتي، لاسيما وأنني كنت ممنوعاً من السفر في تلك الأثناء دون علمي على خلفية توصيفي أمنياً كمشاغب ماركسي عنيد، وتصادف أن أجرى الرئيس "حسني مبارك" اتصالاً هاتفياً بالمستشار الألماني الغربي الذي كان يرأس الحزب الاشتراكي أيضاً في نفس التوقيت وتطرق حديثهما إلى ورقة الأدب السياسي التي ينتظر الألمان مشاركتي بها ضمن أعمال مؤتمرهم، وهكذا وجه "مبارك" تعليمات فورية إلى أجهزته السيادية لتسليمي الدعوة المحتجزة لديها مع قرار وزاري بمشاركتي ممثلاً للدولة المصرية وعلى نفقتها في المؤتمر الذي لم يكن متبقياً سوى عدة ساعات فقط لافتتاحه، وبما أن بطاقتي العائلية كانت تالفة وغير صالحة للاستخدام ولم يكن بحوزتي أي صور فوتوغرافية حديثة كما أن محاولة استخراج جواز سفر عبر القنوات العادية كانت ستؤدي حتماً إلى معرفتي بقرار منعي من السفر، فقد أصبح الحل الوحيد هو مروري على شقة "نشوى" الكائنة في الطابق الثلاثين بالمبنى التقني التابع لأحد الأجهزة السيادية، وهي عبارة عن خزانة حديدية باتساع ثلاث غرف تضم نظاماً إليكترونياً متكاملاً شيدته شركة "نشوى" اليابانية ليقوم بالطباعة الفورية لكل شيء، كالبطاقات والكارنيهات وجوازات السفر والشهادات والمستندات بمختلف لغات وتوقيعات وأختام العالم والصور الفوتوغرافية الحقيقية والمعدلة والمزيفة وكافة أنواع العملات الورقية المحلية والأجنبية، بالإضافة إلى المعلومات المطلوبة عن أي شخص والمستخرجة من أرشيف إليكتروني عالمي كانت الأجهزة السيادية تستخدمه قبل ظهور الإنترنت بثلاثة عقود زمنية، وطمأنني المسئول التقني المرافق لي بأن أي مطبوع تصدره "نشوى" يتم إثباته فوراً في صفحات الدفاتر والميزانيات والمعاملات الرسمية التي تخصه لتصبح مطبوعات "نشوى" وكأنها حقيقية باعتبارها مسجلة ضمن مستندات الدولة "السليمة"، وخلال إشادة المسئول التقني بنظام "نشوى" المتطور كشف لي أنه آخر العنقود في حينه لسلسلة أجيال متتالية من الأنظمة الشبيهة، الجاري استخدامها منذ البدايات الأولى للعمل السري على أيدي الآباء المؤسسين لما كان يسمى آنذاك بجمعية "الحرس الحديدي"، والذين حققوا نجاحات مبهرة حسب وصفه رغم استخدامهم لنظام تقني تقليدي عتيق كانت قد شيدته لهم شركة "فيليبس" الألمانية!!. (11) رغم مرور عشرات الأعوام على الظهور العلني المؤثر في الساحات السياسية والأمنية والعسكرية لجمعية "الحرس الحديدي" السرية، ورغم تباين أنظمة الحكم التي عرفتها مصر خلال تلك الأعوام ما بين الاحتلال والاستقلال من جهة وبين الملكية والجمهورية من جهة أخرى وبين المدنية والعسكرية والدينية من جهة ثالثة، ورغم ما شهدته الأعوام نفسها من عدة انقلابات ناعمة وخشنة أسفرت عن تغييرات هامة في خرائط الجغرافيا السياسية لاسيما تلك المتعلقة بتبديل التحالفات والعدائيات على مختلف المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، ورغم اتساع حركة التوثيق والبحث العلمي خلال الأعوام المذكورة وقيامها بفتح ملفات المعلومات السرية لكافة أطراف التحالفات والعدائيات السياسية مدحاً أو قدحاً لنشرها أمام الرأي العام، إلا أن أحدهم لم يقترب من ملف جمعية "الحرس الحديدي" بكل امتداداتها المباشرة والملتوية سواء تلك المتمثلة في "ملف الخبراء الألمان" أو غيره من الملفات، ليبقى الغموض محيطاً بحقيقة الانسجام التاريخي الذي حدث بين الأجهزة السيادية المعنية بالشئون السياسية والأمنية والعسكرية خلال العهود الأربعة لجمهورية الخوف الأولى، وبين النازيين والفاشيين والعسكريين فلول دول معسكر المحور السابق الذين تم استقدامهم سراً من مخابئهم في مشارق الأرض ومغاربها ليعملوا مع تلك الأجهزة، فهل حدث الانسجام بسبب اتفاق مصالح الطرفين ضد عدو مشترك هو الاستعمار والصهيونية أم بسبب توافق الميول الشمولية الاستبدادية المتأصلة عند الطرفين أم حدث للسببين معاً، وما هي علاقة هؤلاء المستقدَمين بما ذاقه المصريون في حياتهم اليومية من مرارات الاستبداد والفساد والتبعية على مدى الستين عاماً المنصرمة التي شكلت إجمالي عمر جمهورية الخوف الأولى، والأرجح أن الغموض سوف يبقى محيطاً بالحقيقة إلى أجل غير مسمى، ربما لأن ملف "الحرس الحديدي" بامتداداته المتمثلة في ملفات "الضباط الأحرار" و"الأجهزة السيادية" و"الخبراء الألمان" ليس فعلاً ماضياً بقدر ما هو فعل مستمر في الماضي والحاضر والمستقبل، وربما لأن المعلومات الخاصة بذلك الملف لا تقود حائزها إلى سبق بحثي علمي بقدر ما تقوده نحو متاهات كابوس خانق كالذي ابتُليَ به "إحسان عبدالقدوس" في الأيام الأولى لجمهورية الخوف عام 1952، قبل ستة عقود زمنية من ابتلائي أنا شخصياً به في أيامها الأخيرة عام 2010، وقد دفع الابتلاء نفسه بكلينا إلى الاتجاه نحو الكتابة ذات الطابع الأدبي بدلاً من مقالات الرأي السياسي مع فارق نوعي هام بين نصوص إحسان الرومانسية الحالمة ونصوصي أنا الواقعية المؤلمة، ليس فقط بسبب اختلاف الظروف الذاتية لكلينا ولكن أيضاً لأن الأيام الأخيرة لجمهورية الخوف البائدة كانت قد اختلفت كثيراً عن أيامها الأولى رغم استمرار طابعها الشمولي الاستبدادي منذ نشأتها حتى انهيارها!!. (12) ارتبط الكاتب الصحفي "إحسان عبدالقدوس" بعلاقة صداقة شخصية مع "جمال عبدالناصر" الرجل الأقوى في التنظيمات العسكرية السرية منذ حرب فلسطين عام 1948، مما دفعه لترويج رواية الحرس الحديدي عما أسموه بصفقة الأسلحة الفاسدة وغيرها من رواياتهم المفبركة والتحريضية ضد الملك "فاروق" الذي خلعوه وأطاحوا به في انقلاب عام 1952، وذلك على صفحات مجلة "روزاليوسف" التي كان يديرها هو وتمتلكها أمه "فاطمة اليوسف" الفنانة المعتزلة وصديقة "تحية كاريوكا" زوجة الضابط "مصطفى كمال صدقي" قائد عمليات جمعية "الحرس الحديدي"، إلا أنه بمجرد إشارة "إحسان عبدالقدوس" تلميحاً إلى الجمعية بعد شهور قليلة من نجاح انقلاب 1952 في أحد مقالاته المنشورة بالمجلة ذاتها تحت عنوان "الجمعية السرية التي تحكم مصر"، حتى تم اعتقاله داخل السجن الحربي بأوامر مباشرة من صديقه "عبدالناصر" الذي لم يفرج عنه سوى عقب تعهده بعدم الكتابة مستقبلاً في الشأن السياسي، وهو نفس التعهد الذي تم انتزاعه مني أنا شخصياً بمعرفة صديقي"عمر سليمان" رئيس المخابرات العامة الذي أصبح نائب رئيس الجمهورية ثم تولى لاحقاً موقع "جمال عبدالناصر" برئاسته لجمهورية الخوف البائدة في يومها الأخير، والذي طالما استفاد من سابق عملي المهني تحت رئاسته المباشرة لفترة زمنية طويلة، ذلك أنه بمجرد نشر أحد مقالاتي الصحفية حول الحرس الحديدي في الربع الأخير من عام 2010 تحت عنوان "المجد للجمعية السرية"، حتى حوصرت رقبتي بالعديد من سيوف الإزالة النظيفة التي تمنح القاتل خروجاً نظيفاً بينما يحصل القتيل على ميتة مليئة بالقاذورات الكفيلة بتشويه صورته أمام الجميع، لذلك فقد كانت مقايضة "عمر سليمان" لي واضحة برفعه لسيوف الإزالة النظيفة عن رقبتي فور تعهدي له بوقف كتاباتي السياسية المزعجة، والتي تحرجه مع شركائه المستبدين والفاسدين والتابعين الذين يقودون جمهورية الخوف باعتباري كنت ذات يوم من مرؤوسيه المسئولين عن بعض الأنشطة السياسية الخارجية الهامة رغم الصفة الدبلوماسية الظاهرة لتلك الأنشطة، لاسيما بعد تجاوزي للخطوط الحمراء باقترابي من ملف "الحرس الحديدي"، ورغم عدم التزامي بتعهداتي على النحو الذي أراده "سليمان" آنذاك مما تسبب في إبقاء سيوف الإزالة النظيفة حول رقبتي، إلا أن التطورات السريعة والمتلاحقة للاحتجاجات الشعبية العامة والتي أسفرت عن السقوط المدوي والمهين لجمهورية الخوف الأولى عام 2011 قد أنقذت رقبتي ولو إلى حين!!. ******* مؤسسة الذكاء السياسي... (1) عندما يصاب الجسد البشري بالمرض في أحد أعضائه أو إحدى وظائفه يشعر الشخص المصاب بآلام مرضه فور حدوثه ويسعى منذ اللحظة الأولى لمكافحته وصولاً إلى تعافيه واستعادة توازنه الجسماني المفقود، وينطبق ذلك أيضاً على العضو المسمى بالدماغ الذي تتم معاملته تشريحياً باعتباره من مكونات الجسد البشري، أما عندما يصاب الدماغ البشري بالمرض في وظائفه العقلية التي تشمل الإحساس والضمير والإدراك والتفكير والإرادة والطموح والذاكرة وغيرها، فإن الشخص المصاب يتضرر بشدة تتجاوز كثيراً ضرر المرض الجسدي لكنه لا يتألم نظراً لتعطل وظيفة الإحساس لديه تحت وطأة مرضه العقلي، تاركاً المحيطين به يعانون آلام مرضه فيسعون هم لمكافحته وصولاً إلى تعافيه واستعادة توازنه العقلي المفقود، رغم صعوبة ذلك في ظل مقاومة الشخص المصاب ذاته لغياب إحساسه بحقيقة أن مرضاً قد أصاب إحدى أو بعض الوظائف العقلية لدماغه، وتزداد الصعوبة حسب عمق الإصابة والمدى الزمني لاستمراريتها قبل ظهور العلامات الدالة عليها وحسب اتساع نطاق تداعياتها حيث يمكن لمرض عقلي واحد إتلاف عدة وظائف دماغية في الوقت ذاته، وأيضاً حسب نوع الإصابة ذلك أن خريطة الأمراض العقلية المعروفة تتسع لتشمل الفصام والاكتئاب والهيستيريا والارتياب والوسواس القهري، إلى جانب الانحراف السلوكي المتمثل في الاستعلاء أو الدونية أو انعدام الإحساس أو فقدان الضمير أو في الهوس بما هو حقيقي أو خيالي من أشخاص وأشياء أو في الاستمتاع بالتأذي أو بأذى الغير أو ما شابه، وفي الوقت الذي اختارت فيه المجتمعات البشرية التقليدية مبكراً عزل مصابي الأمراض العقلية بمجرد ظهور العلامات الدالة على خطورتها، فإن الأجهزة الإدارية لمختلف حكومات العالم الحديثة قد اختارت محاولة علاج الأمراض العقلية بواسطة منظومة متكاملة تضم ثلاثة محاور متشابكة، للتحكم في المرض داخل الدماغ عبر الجرعات الكيميائية والكهربائية والإشعاعية المحددة التي يشرف عليها المتخصصون في الطب النفسي، وللتحكم في السلوك الخارجي الناجم عن المرض العقلي عبر جلسات الإقناع والإرشاد والتوجيه المبرمجة التي يشرف عليها المتخصصون في علم النفس الفردي، وللتحكم في إعادة دمج المريض العقلي داخل أوساط المحيطين به عبر الخطوات التدريجية للتأهيل المجتمعي التي يشرف عليها المتخصصون في علم النفس الاجتماعي، ولمنظومة علاج الأمراض العقلية سلم وظيفي يحتل المتخصصون في الطب النفسي رأسه يليهم المتخصصون في علم النفس الفردي ثم المتخصصين في علم النفس الاجتماعي، بترتيب هرمي شبه عسكري يعتمد على طاعة الأدنى للأعلى وتنفيذ تعليماته حتى لو كانت خاطئة، ورغم سلامة نوايا هؤلاء الذين كانوا يعزلون المرضى العقليين بدافع حماية الأصحاء من خطورتهم، وأولئك الذين مازالوا يحاولون علاجهم بدافع منحهم فرصة حياة أخرى، فإن سوء النوايا هو الدافع الوحيد لفريق ثالث كان ومازال يستخدم أصحاب الأدمغة المصابة بالمرض العقلي كمعامل حية متحركة لاختبار الألعاب النفسية الرامية إلى حيازة أدوات التحكم في السلوك البشري، وصولاً لفرض سيطرة أنظمة الحكم على شعوبها، حتى لو كان أعضاء ذلك الفريق من الثعالب البشرية يصفون أنفسهم بأنهم فريق "مؤسسة الذكاء السياسي"!!. (2) لا يوجد نظام حكم على امتداد التاريخ والجغرافيا يخلو من مؤسسة ذكاء سياسي، باعتبارها المسئولة نظرياً عن تحصيل وفحص وتدقيق أوسع نطاق ممكن من المعلومات المتنوعة بشأن الاهتمامات المختلفة لدى الشعوب الأخرى، مع التشغيل الأمثل لتلك المعلومات باستخدامها في محاولة تلبية المساعي المشروعة لشعوبها نحو تحقيق التنمية الشاملة، رغم أن الواقع العملي للعديد من مؤسسات الذكاء السياسي على امتداد العالم يكشف اختلاف حقيقة مسئولياتها الميدانية، التي أصبحت تدور حول تحصيل وفحص وتدقيق أوسع نطاق ممكن من المعلومات المتنوعة بشأن الثغرات النفسية والسلوكية المختلفة لدى أبناء شعوبها ذاتهم، مع التشغيل الأسوأ لتلك المعلومات باستخدامها في محاولة تلبية المساعي غير المشروعة لأنظمة الحكم نحو السيطرة على الشعوب، وإذا كانت المساعي المعلوماتية الخارجية لتحقيق التنمية الشاملة لا تستغني عن المتخصصين في مجالات الدبلوماسية الشعبية وفنون الاتصال فإن المساعي المعلوماتية الداخلية لتحقيق سيطرة أنظمة الحكم على شعوبها لا تستغني عن المتخصصين في مجالات الطب النفسي وعلم النفس الفردي والاجتماعي، باعتبارهم يشكلون الأعمدة الفقرية لمدارس السيطرة الثلاث التي ترى كل واحدة منها أنها الأقدر على التحكم في السلوك البشري، وهي المدارس التي آمنت بها مؤسسة الذكاء السياسي المصرية طوال العمر الزمني لجمهورية الخوف الأولى الممتد بين عامي 1952و2011، لتستخدمها جنباً إلى جنب وبتنسيق بيني تام يضمن حصول المدارس الثلاث معاً على الخدمات المتنوعة للمتخصصين في الطب النفسي وعلم النفس رغم اختلاف أساليب عمل تلك المدارس، حيث تلجأ مدرسة الترويع إلى أسلوب الردع الاستباقي لنوايا المعارضة والتمرد الفردي أو الجماعي عملاً بقاعدة رأس الذئب الطائر، بما يعنيه ذلك من توسيع نطاق إعلان وإشهار عمليات البطش وقهر الخصوم أو قتلهم بأعلى درجات القسوة والشراسة، بينما تلجأ مدرسة السيطرة النظيفة إلى أسلوب تنظيف المجتمع من الوجود الجسماني لخصوم نظام الحكم حتى تخلو له الساحة السياسية، بما يعنيه ذلك من تصفيتهم جسدياً أو إبعادهم بالنفي أو تقييدهم بالاعتقال أو تعجيزهم بإصابات مدبرة، في وقائع تبدو منفصلة مع ترك أدلة زائفة وإخراج درامي مفبرك للتضليل والتمويه بشأن ملابسات تلك الوقائع ودوافعها ومرتكبيها للتنصل من المسئولية عند الضرورة، أما مدرسة السيطرة السلوكية فتلجأ إلى أسلوب نزع عوامل القوة المعنوية من أيدي الخصوم، باختراق مجالاتهم الحيوية وتفكيك روابطهم الطبيعية وكياناتهم الاختيارية واستدراجهم إلى مختلف أنواع الأفخاخ المجهزة بعناية لخداعهم واحتوائهم أو لاستنزافهم وإنهاكهم وتشتيتهم، بحيث لا يترتب على وجودهم الجسماني أي إزعاج سياسي لنظام الحكم، وقد التزم المتخصصون في الطب النفسي وعلم النفس الفردي والاجتماعي بتقديم كافة الاستشارات السلوكية التي طلبتها مدارس السيطرة الثلاث المذكورة خلال مواجهاتها المستمرة مع أبناء الشعب المصري من الخصوم السياسيين لحكام جمهورية الخوف، كما قدموا الدعم النفسي لمؤسسة الذكاء التابعة لتلك الجمهورية على محاور احتياجاتها العديدة بامتداد ستة عقود زمنية، مثل قيامهم بفحص الشخص المستهدف لتحديد الكيفية الأنسب لتسلل المؤسسة إليه واختراقه سواء من أجل اقتناص صداقته والتأثير عليه لإيقاعه تحت السيطرة بهدف تجنيده كعضو أو مندوب دائم، أو من أجل تضليله لاستخدامه كمندوب مؤقت في تنفيذ دور عملياتي عابر، ومثل قيامهم بإجراء اختبارات حول مدى طاعة الشخص المستهدف وخضوعه للمؤسسة قبل تصعيده إلى المراكز الوظيفية أو الأدبية أو المالية الأعلى، ومثل قيامهم بإعادة التأهيل النفسي والسلوكي لأعضاء المؤسسة عقب تنفيذ عملياتهم القذرة بمحو ذاكرتهم السلبية عما ارتكبوه من شرور خلال العملية الأمر الذي يسمح لأولئك الثعالب البشرية بمعاودة ارتكاب المزيد من الشرور، والأهم من ذلك كله هو تقديمهم للخطط "المركزية" المتعلقة بالتنميط السلوكي الجماعي عبر تحسين الصورة الذهنية المجتمعية!!. (3) تسعى أنظمة الحكم المختلفة بامتداد التاريخ والجغرافيا إلى الحصول على القبول المجتمعي بالأمر الواقع الناتج عن قراراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لضمان الاستقرار الذي يكفل استمرارها في الحكم، وهو مسعى سهل المنال لو كانت مؤشرات الأمر الواقع تخلق في الأذهان المجتمعية تصورات إيجابية، من حيث مدى تعبيرها عن الرأي العام وتلبيتها لاحتياجاته الحياتية الهامة المتمثلة في التنمية والوفرة والمساواة والعدالة والحرية والشفافية والاستقلال الوطني وغيرها، أما لو كانت مؤشرات الأمر الواقع على تلك الأصعدة تخلق تصورات سلبية في الأذهان المجتمعية فإن رد الفعل الطبيعي يصبح رفض الرأي العام لاستمرار نظام الحكم، بما ينتجه من تداعيات سلوكية لإسقاطه عبر آليات التغيير المتاحة أو المبتكرة حسب الأحوال، وهو رد فعل تخشاه أنظمة الحكم الشمولية فتسعى لإجهاضه برفع شعار الحفاظ على الاستقرار الذي يتم تنفيذه بواسطة منظومتين متداخلتين، أولاهما تدفع بالرأي العام نحو الخضوع للأمر الواقع تحت وطأة الخوف من ملاحقات أجهزة العنف ذات الوظائف القمعية المعروفة، أما الثانية فتدفع بالرأي العام نحو الانخداع في الأمر الواقع تحت وطأة تزييف الوعي الذي تمارسه أجهزة التعبئة ذات الوظائف الدعائية المعروفة، علماً بأن المنظومتين كانتا خلال جمهورية الخوف المصرية الأولى تخضعان معاً لمؤسسة الذكاء السياسي بأعضائها المتخصصين في الطب النفسي وعلم النفس الفردي والاجتماعي، الذين لم يتوانوا عن تقديم الاستشارات الخاصة بعمليات تخويف المجتمع إلى جانب مساهماتهم الأكبر في عمليات التنميط السلوكي الجماعي بتزييف الوعي والذي يسمونه تحسين الصورة الذهنية المجتمعية، حيث يبدأ المتخصصون النفسيون عملهم بالدراسة الميدانية الوافية لمختلف القضايا محل اهتمام الرأي العام وفقاً لواقعها الفعلي وأهميتها النسبية، مع تصنيف الجمهور المتعلق بكل قضية على حدا حسب مدى تأثرهم المباشر بها ونوعية أفكارهم ومشاعرهم حيالها، ثم يقيسون التصورات الذهنية الحقيقية لكافة الفئات الجماهيرية السابق تصنيفها تجاه تلك القضايا مع تقدير ردود أفعالهم السلوكية المتوقعة لترجمة تصوراتهم الذهنية حول كل قضية على أرض الواقع، ثم يقترحون ما لديهم من حلول تؤدي إلى الحفاظ على الاستقرار بإزالة احتمالات رفض الأمر الواقع لدى الرأي العام عبر اللعب المبرمج في أدمغة الجماعات والأفراد، فإذا كانت زيادة المسافة بين الواقع الفعلي والتصورات المجتمعية لما ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع هي مصدر رفض الرأي العام وإذا كان نظام الحكم الشمولي يمتنع عن الاستجابة للرأي العام بعدم تغيير قراراته التي أنتجت هذا الواقع، فإن المتخصصين في الطب النفسي وعلم النفس التابعين لمؤسسة الذكاء السياسي يلعبون في تصورات الجماعات والأفراد حول الواقع السلبي لتزييف وعيهم به، عبر جرعات مبرمجة ومكثفة من الكذب المتكرر والمتنوع الذي يستخدم تقنيات نفسية عالية للحذف والإضافة والاختلاق والإنكار والتعديل والتبديل في كافة المفردات الحقيقية المكونة للقضايا محل اهتمام الرأي العام، بما يؤدي إلى الإحلال التدريجي لتصورات إيجابية زائفة محل التصورات السلبية القائمة بشكل طبيعي حول تلك القضايا، وصولاً إلى تحسين الصورة الذهنية المجتمعية للدرجة الكفيلة بدفع الرأي العام نحو مخرجات سلوكية نمطية خاضعة لنظام الحكم، سواء على نمط أهل الخليج العربي المنصرفين برفاهيتهم عن الشأن العام أو على نمط أهل الصين المطيعين كالجنود لحكامهم أو على نمط الأميركيين الذين لا يهتمون سوى بمصالحهم الخاصة أو غيرها من الأنماط الخاضعة، ولتزييف وعي الرأي العام وصولاً إلى صورة ذهنية مجتمعية إيجابية تنتج نمطاً سلوكياً جماعياً خاضعاً لنظام الحكم، فإن المتخصصين النفسيين كانوا يستخدمون في الوقت ذاته كل وسائل الإعلام والصحافة والثقافة والفنون والتربية والتعليم والتكنولوجيا إلى جانب الوسائل المباشرة كالخطب السياسية والدينية، كما كان حكام جمهورية الخوف الأولى يستجيبون لهم فيما يفرضونه عليهم من أقوال وأفعال تؤدي إلى تغيير المناخ العام المحيط سلباً أو إيجاباً، لتدفع نحو الأوضاع التي تلائم معرفتهم الحصرية بردود فعل الرأي العام المصري المترتبة على اختلاف حالته النفسية في ظل الظروف الاستثنائية المفتعلة!!. (4) تتباهى مؤسسة الذكاء المصرية باحتلالها للموقع الرابع في الترتيب العالمي من حيث القدرة على السيطرة والتأثير في السلوك السياسي للرأي العام بالاعتماد على التطبيقات الميدانية لعلم النفس السلوكي، وليس من باب المصادفة أن مقر تلك المؤسسة قد احتل ذات الموقع الجغرافي لمستشفى خاص بالأمراض العقلية المزمنة أنشأه طبيب نفسي شاب، كان فاشلاً قبل تصعيده الصاروخي بدعم المؤسسة ليصبح عميداً لإحدى كليات الطب ثم مديراً لجامعة عريقة، حتى بلوغه سن التقاعد الذي سمح له برئاسة عدة منظمات محلية وإقليمية وعالمية متخصصة في مجال الطب النفسي تحت رعاية شقيقه عضو تنظيم "الضباط الأحرار" وأحد وزراء عهد "جمال عبدالناصر"، وطوال الفترة الزمنية لجمهورية الخوف الأولى كان الطبيب النفسي نموذجاً للصمت والكتمان وعدم الإفصاح عما شارك فيه أو شاهده أو سمعه، بشأن شرور الممارسات التي نفذتها مدارس السيطرة الثلاث التابعة لمؤسسة الذكاء المصرية من أجل الحفاظ على استقرار نظام الحكم وضمان استمراره، لاسيما وأنه شخصياً حصل خلال تلك الفترة على مقابل سخي لخدماته في شرور السيطرة بمنحه ما لا يستحقه من سلطة وشهرة ومال وجنس، إلى جانب تعيين الذين يمتون له بصلات قرابة أو نسب أو صداقة في المواقع الوظيفية البارزة والمؤثرة داخل أروقة الدولة والمجتمع حسب رغبات كل واحد فيهم، حتى أنهم شكلوا فيما بينهم شبكة منتفعين تحمل اسم الطبيب النفسي ذاته، وقد فوجئ الجميع قبيل سقوط الجمهورية الأولى في فبراير عام 2011 مباشرةً بانفلات لسانه من عقاله ليصبح شخصاً كثير الكلام والبوح والفضفضة التي تتجاوز كافة الخطوط الحمراء، مما أقلق أعضاء شبكة المنتفعين الذين أدركوا أن انفلات لسان الطبيب النفسي لا يشكل خطراً على حياته فقط بل يهدد أيضاً مصالحهم غير المستحقة المكتسبة بفضله، فقرروا العمل معاً للسيطرة على لسانه المنفلت حيث اجتمعوا عليه وأودعوه بغير إرادته داخل دار رعاية معاقي الإصابات الجسمانية والعجزة والمسنين الكائنة بضاحية "التجمع الخامس" في محافظة "القاهرة"، وهناك التقاني وأفلت لسانه عامداً متعمداً الاعتراف بعشرات الوقائع التاريخية منذ استدعاء الرئيس "جمال عبدالناصر" له في منتصف خمسينيات القرن العشرين، لإبلاغه بأن مؤسسة الذكاء الوليدة قررت الاستعانة به كاستشاري سلوك بشري مع استخدام مستشفاه الخاص كمقر دائم للمؤسسة، حتى ذلك اليوم الذي شهد مصرع ابنه الوحيد المترجم بالأمم المتحدة عقب سقوطه من شرفة مسكنه في إحدى العواصم الأوروبية ومصرع شقيقه الوحيد الوزير السابق صعقاً بالكهرباء داخل حمام منزله الريفي الواقع في صعيد مصر، وهما الحادثين اللذين شهدهما يوم واحد من الأيام الأخيرة لجمهورية الخوف وسارعت جهات التحقيق بحفظهما بعد قيدهما تحت وصف "وفاة طبيعية"، رغم إفادته بالسرقة المزدوجة لدفتر مذكراته الذي كان قد أودع نسخة منه لدى ابنه والأخرى لدى شقيقه كأمانات للحماية والاحتياط التاريخي، مما أدى إلى انفلات لسانه كرد فعل دفاعي نحو المؤسسة الوحيدة صاحبة المصلحة في اختفاء دفتر مذكراته، حيث شرع يروي شفاهةً كل ما كان مدوناً داخل الدفتر المسروق حول تفاصيل شرور السيطرة التي شارك في ارتكابها لصالح مؤسسة الذكاء المصرية على امتداد الفترة الزمنية لجمهورية الخوف الأولى، كاشفاً في اعترافاته عن وقائع إجرامية آثمة تضعه مع شركائه من ثعالب المؤسسة تحت طائلة الإعدام السياسي والجنائي عدة مرات، بما في ذلك توصيته الخاصة باستغلال حماسي الوطني من أجل تضليلي واستدراجي إلى مؤسسة الذكاء لإرسالي في مأمورية وطنية حقيقية خارج الحدود، اعتقد الطبيب النفسي واستشاري علم السلوك البشري أنها ستودي حتماً بحياتي فتريح نظام الحكم من مشاغباتي، وهي المأمورية التي أسفرت عن تحطيم عمودي الفقري لألتقيه في دار الرعاية وقد تحطم قلبه بنفس الأيدي الآثمة لثعالب المؤسسة الذين رافقوه طوال عمر جمهورية الخوف الأولى، ولكنه سرعان ما حصل من جمهورية الخوف الثانية على اعتذار عملي بتعيينه عام 2015 رئيساً لأهم وحداتها الاستشارية فتركني وحدي في محنتي وعاد إلى تكرار ذات ممارساته القديمة رغم سابق إعلانه لتوبته عنها!!. (5) منذ البدايات الأولى لالتحاق الطبيب النفسي ومستشفاه بمؤسسة الذكاء المصرية في منتصف خمسينيات القرن الماضي وهو يقدم الخدمات الاستشارية المتعارف عليها في هذا المجال، لاسيما تلك المتعلقة بالتنميط السلوكي الجماعي عبر تزييف الوعي الذي يسمونه تحسين الصورة الذهنية المجتمعية، إلى جانب العديد من العمليات القذرة الموصوفة بالاعتيادية نظراً لتكرارها اليومي بانتظام روتيني، والتي شملت فيما شملته عمليات برمجة أدمغة مندوبي المؤسسة الذين يتم اختيارهم أصلاً من بين الشخصيات المنحرفة نفسياً، ليسهل تعبئتهم في بضعة جلسات نحو الممارسة الحماسية لأفعال تحتاج بطبيعتها إلى دوافع شعورية غير متوافرة لديهم، مثل إقناع فتيات السيطرة بالحماس عند ممارستهم للأفعال الغرامية مع الأشخاص المستهدفين دون وجود أي مشاعر غرام لدى الفتيات تجاههم، وإقناع رجال التعذيب البدني بالحماس عند ممارستهم للأفعال العدوانية العنيفة ضد الأشخاص المستهدفين دون وجود أي مشاعر عدوانية لدى الجلادين تجاههم، وكذلك إقناع مندوبي المؤسسة في أوساط الصحفيين والمحامين بالهجوم الشرس أو الدفاع الحار دون شعورهم بمدى استحقاق الأشخاص المستهدفين لهذا الهجوم أو ذاك الدفاع، كما شملت العمليات الاعتيادية القذرة أيضاً إحكام السيطرة النفسية على الخاضعين للاستجواب المعلوماتي بتعريضهم لجرعات محسوبة بدقة من مختلف أنواع المعاملات الكيميائية والكهربائية والإشعاعية والسلوكية، سواء بهدف الحصول على اعترافاتهم الحقيقية أو لدفعهم نحو الإدلاء باعترافات كاذبة عن أنفسهم أو حول غيرهم من الأشخاص المستهدفين، وأيضاً شملت تلك العمليات الاعتيادية القذرة إصدار تقارير طبية عقلية كاذبة لتلبية احتياجات مؤسسة الذكاء دون معاينة الأشخاص الصادرة بشأنهم التقارير، فإذا كان أحد أتباع المؤسسة قيد المحاكمة الجنائية فإن تقريراً بمرضه العقلي يسقط جرائمه تمهيداً لتبرئته وإذا كان أحد خصومها صعب المراس فإن تقريراً بمرضه العقلي يسقط أهليته تمهيداً لاحتجازه داخل المستشفى والتخلص منه، أما التقارير الكاذبة بشفاء أشخاص مازالوا يعانون المرض العقلي فهي تسمح بإطلاق المريض وهو تحت سيطرة المؤسسة، لتدفعه نحو تنفيذ عملية انتحارية ضد الشخص المستهدف فيموت الاثنان معاً ويخلو موقع الجريمة من الأدلة السياسية بادعاء أن مجنوناً عاوده المرض فقتل المجني عليه ثم انتحر، ولم يُفَوِتْ أعضاء قسم السموم بالمؤسسة فرصة استغلال أجساد المرضى المحتجزين في المستشفى لتجربة ابتكاراتهم الجديدة من مختلف أنواع السموم القاتلة، كاختبار معملي حي يوفر لهم معرفة مسبقة بالآثار المحتملة لاستخدامات تلك السموم ضد الأشخاص المستهدفين لاحقاً مع معرفة أنواع الترياق الأصلح لإزالة آثار مختلف السموم لو استخدمتها ضدهم المؤسسات المعادية، ولم يكن نجاح الاستشارات السلوكية التي يقدمها الطبيب النفسي حول العمليات القذرة أو فشلها يقاس بمدى تعافي شخص مريض كما هو معروف في الأوساط الطبية الطبيعية، بل كان يقاس بمدى تلبيتها لاحتياجات مؤسسة الذكاء السياسي المصرية التي تدور حول التحكم في النفس البشرية والسيطرة على السلوك البشري للأشخاص المستهدفين، وحسب هذا القياس الشاذ فقد نجحت نصف استشارات الطبيب النفسي بينما أسفر ربعها عن عدم نجاح بدون خسائر، أما الربع المتبقي فقد حقق فشلاً مصحوباً بخسائر بشرية مما جعله الأكثر مرارة في ذاكرة الطبيب النفسي وبالتالي الأكثر إلحاحاً على لسانه المنفلت خلال اعترافاته!!. (6) في ظل الالتزام الصارم بخريطة مهنية تراتبية داخلية تمنح العسكريين كل المواقع القيادية وثلثي المواقع الوسطى ونصف المواقع القاعدية وتوزع النصف الآخر وفقاً لجدول أهمية نسبية تراتبية أيضاً، يشغله الخريجون من التخصصات شبه العسكرية والشُرَطية والتربية الرياضية ثم الطب النفسي وعلم النفس الفردي والاجتماعي ثم الصيدلة والكيمياء ثم العلوم السياسية مع مراعاة استثناءات التوريث المهني، فقد انقسمت مؤسسة الذكاء السياسي المصرية لعدة قطاعات حسب النطاق الجغرافي والمجال الوظيفي، إلى جانب القطاع الفني الذي يشمل فيما يشمله وحدتين للمتخصصين في الطب النفسي وعلم النفس الفردي والاجتماعي، وهما وحدة الدعم النفسي التي تختص باللعب في الأدمغة البشرية الفردية مع وحدة التنميط السلوكي الجماعي التي تختص بتزييف الوعي المجتمعي، بالإضافة إلى قطاع العمليات الذي يتكون من تشكيلات الثعالب البشرية المعروفة باسم مجموعة المحطات الميدانية السرية، حيث تختص كل محطة منها بملف نشاط محدد يتسع ويضيق حسب عدد ونوعية الأشخاص المستهدفين وموقعهم الجغرافي، وكأي خلية سرية فإن التخصصات داخل المحطة تتوزع بين ما هو مكتبي وما هو ميداني لتتوزع الأدوار الميدانية بين التنفيذ والاتصال والتشغيل والتجنيد والمراقبة والتمويه والتغطية والإمداد والتطهير وخلافه، مع إمكانية تبديل الأدوار فيما بين أعضاء المحطة الواحدة أو المحطات المختلفة وفقاً للاحتياجات العملياتية على أرض الواقع، هذا وتستخدم كل محطة عدداً كبيراً من المندوبين الدائمين ذوي الصلات الطبيعية بالملف الذي تباشره المحطة ليكونوا بمثابة أتباع المؤسسة المقيمين بصفة دائمة داخل العملية والأدرى بشعابها، ويلتحق هؤلاء المندوبون الدائمون بخدمة مؤسسة الذكاء السياسي لتحقيق منافع شخصية لا يستحقونها، سواء تمثلت في تحصيل الأموال أو النفوذ أو الشهرة أو الوجاهة الاجتماعية أو العلاقات الغرامية غير المشروعة أو تمثلت في محو وإتلاف الوقائع التاريخية المسيئة من ملفاتهم أو تصفية حساباتهم الشخصية مع بعض خصومهم أو ما شابه، ويعمل المندوبون الدائمون تحت الإشراف اليومي المباشر لضباط التشغيل بالمحطات المعنية، ويضطر قطاع العمليات أحياناً خلال مباشرته للملفات الأكثر خطورة وصعوبة إلى الاستعانة ببعض المندوبين المؤقتين المعروفين باسم المتعاونين أو أدوات التنفيذ البشرية، هؤلاء الذين يتميزون عن الأعضاء والمندوبين الدائمين بتقدمهم صفوف التنفيذ الميداني للعمليات دون أية أغطية أو سواتر أو حماية اللهم إلا مهاراتهم الشخصية ودون أي مقابل مدفوعين في ذلك بحماسهم الوطني وبما يؤمنون به من قيم مثالية عليا، وهي المداخل التي تسمح لوحدة الدعم النفسي باختراقهم وتضليلهم وغسل أدمغتهم ليتم تجهيزهم من أجل تنفيذ العملية وهم يظنون أنهم يدافعون عن الأوطان والشعوب وحقوق الإنسان حتى لو كانت العملية بعيدة عن ذلك، ويتولى كبار قادة مؤسسة الذكاء بأنفسهم تشغيل المتعاونين بعد ادعاء صداقتهم على النحو الذي تنصح به وحدة الدعم النفسي، تماماً مثلما حدث معي شخصياً قبل ربع قرن زمني، ونظراً لصعوبة تضليل نفس الشخص مرتين فإن المؤسسة تتخلص من المتعاونين بمجرد انتهاء مأمورياتهم وبصرف النظر عن مدى نجاح أو فشل العملية التي شاركوا في تنفيذها، غير عابئة بما عساه يكون قد لحق بهم من وفيات أو إصابات جسمانية وعقلية أو خسائر مادية واجتماعية خلال تنفيذهم للمأموريات التي كلفتهم بها المؤسسة، أما المندوبين الدائمين فإنه لا يتم الإبقاء عليهم إلا إذا نجحت العمليات التي قاموا بها أما في حالات عدم النجاح بدون خسائر أو الفشل المصحوب بخسائر فإن المؤسسة تتخلص منهم أيضاً لاسيما وقد حصلوا على مقابل أتعابهم سلفاً، وتعتبر مؤسسة الذكاء نفسها قد خسرت فعلياً في حالات فشل العمليات مع حدوث وفيات بين أعضائها سواء بنيران معادية أو نيران صديقة، أو حتى لو حدثت الوفيات بنيران وحدة تصفية الشهود التابعة لقطاع عمليات المؤسسة ذاتها والتي تتلقى تكليفاتها من رئيس المؤسسة، فتسارع بتصفية العضو المستهدف لمنع تسرب أي معلومات أو اعترافات قد تصدر عنه بوعي أو غير وعي مما يكشف مستور مؤسسة الذكاء السياسي أمام الآخرين!!. (7) يشرف المتخصصون في الطب النفسي وعلم النفس الفردي والاجتماعي التابعون لمؤسسة الذكاء السياسي على اختيار الأعضاء الجدد المطلوب ضمهم إلى المؤسسة، حيث تشترط العضوية توافر بعض المؤهلات النفسية والتي على رأسها الذكاء الفطري إلى جانب الميول العدوانية والانتهازية والارتياب والاستعلاء، كما تشترط في الوقت ذاته غياب بعض الاعتبارات النفسية مثل الإحساس والضمير والإيمان بالمبادئ السامية، لتسفر عملية الاختيار عن عضوية لا تضم سوى الأشرار من الأذكياء المعروفين بالثعالب البشرية والذين تزداد شرورهم عقب التحاقهم بالمؤسسة، ذلك الالتحاق الذي يمنحهم سلطات مطلقة تصيبهم بالمزيد من الآفات النفسية الموجهة ضد الآخرين لاسيما الموهوبين الموجودين في أروقة الدولة والمجتمع، فالثعالب يكرهون الموهوبين بدافع من غريزتي حب الذات وروح الفريق ليس فقط لأفضليتهم الأخلاقية ولكن أيضاً لحصانتهم في مواجهة التضليل، بما تعنيه تلك الحصانة من صعوبة استغلالهم في التنفيذ الأعمى للعمليات الميدانية القذرة إلى جانب عرقلة خطط التنميط السلوكي الجماعي وتحسين الصورة الذهنية المجتمعية، لذلك تسعى المؤسسة للاستعانة بالبدلاء الذين هم أشخاص عديمي المواهب من ذوي المهارات المتواضعة والكفاءات الضعيفة والطموحات غير المستحقة، فتقوم باستدراجهم وغسل أمخاخهم ثم تجنيدهم كمندوبين وإخضاعهم لسيطرة المؤسسة تمهيداً لتلميعهم بشكل مبرمج حتى يصبحوا نجوماً داخل الأوساط المستهدفة، الأمر الذي يسمح بتصعيدهم وإحلالهم محل الموهوبين على رأس المواقع القيادية المختلفة للدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية مع استمرار الإمساك برقابهم من ثغراتهم ونقاط ضعفهم لضمان السيطرة، وفي هذا السياق تم استدراج وتجنيد امرأة فاشلة لعوب كانت قد دأبت على مطاردة مشاهير الوسط الثقافي المصري لانتزاع السهرات الحمراء والليالي الساخنة معهم، مدفوعة في ذلك بآفة نفسية هي هوس الشهرة والتي شكلت الثغرة الأسهل لاختراقها من قبل ثعالب مؤسسة الذكاء ثم سيطرتهم عليها، وسرعان ما استضافت واجهات المكتبات وصفحات الجرائد والمجلات وترددات البث الإذاعي والتليفزيوني نصوصاً أدبية لم تكتبها هي بل استولت عليها المؤسسة من بعض الأدباء المقهورين أو المخدوعين ونشرتها باسمها، لتتحول هذه النصوص الأدبية في زمن قياسي إلى مسرحيات ومسلسلات وأفلام سينمائية تحصد جوائز المهرجانات الرسمية وتجلب للمندوبة الكثير من المال والشهرة وعضوية مجالس إدارات الجهات المشرفة على مختلف الأنشطة الثقافية، وطوال مسيرة تلميعها وتصعيدها وتمكينها للمواقع القيادية لم تتردد المثقفة الزائفة في التنفيذ الدقيق لأدوارها المطلوبة ضمن نطاق العمليات القذرة للمؤسسة، حتى كلفها ضابط التشغيل بمهمة الاستدراج الجنسي لأحد المشاركين في مؤتمر ثقافي عالمي منعقد خارج الحدود، كان الشخص المستهدف الذي يتمتع بقدر كبير من المهارة الاجتماعية والجاذبية الجنسية زائفاً بدوره كما كان قد تم تكليفه باستدراجها جنسياً لصالح مؤسسة ذكاء سياسي أخرى تابعة لدولة معادية، ونظراً لعدم التكافؤ بينهما فقد انتهت مباراة الاستدراج الجنسي لصالحه حيث وقعت مندوبة المؤسسة المصرية في الفخ وأصبحت تحت سيطرة مندوب المؤسسة المعادية، فحاول ضابط تشغيلها التدخل لوقف استدراجها بتخديرها واختطافها داخل طرد دبلوماسي لإعادتها إلى "القاهرة" حيث تنتظرها وحدة تصفية الشهود، إلا أن أعضاء فريق العمليات الميدانية في المؤسسة المعادية تصدوا له بالقوة مما أسفر عن مصرعه هو والمندوبة المخدرة معاً دون أن يترك المهاجمون خلفهم أي أثر أو دليل، الأمر الذي خلق لدى الرأي العام العالمي عدة علامات استفهام واستنكار حول اختراقات مؤسسة الذكاء السياسي المصرية للأوساط والأنشطة الثقافية العالمية، واعترفت المؤسسة بخسارة تلك العملية مكتفية بتوجيه اللوم الوظيفي إلى المشرف على تجنيد المندوبة الفاشلة وهو الطبيب النفسي استشاري علم السلوك البشري، الذي أدرك بعد فوات الأوان إحدى أهم الحقائق الميدانية للسلوك البشري، ومفادها أن البدلاء عديمي المواهب الخاضعين للتدريب على أيدي الأعضاء الانتهازيين يبيعون أوطانهم بسهولة للعدو الخارجي بعد أن باعوا أهاليهم للعدو الداخلي، ذلك لأن حب الوطن غريزة تشغل الاتساع الممتد في الإحساس والضمير والإيمان بالمبادئ السامية، وهي الاعتبارات التي كان يتعين غيابها كشرط للالتحاق بعضوية مؤسسة الذكاء السياسي المصرية التابعة لجمهورية الخوف الأولى!!. (8) تسعى مؤسسات الذكاء السياسي لاصطياد المندوبين والمتعاونين وهم في بدايات أعمارهم، لإحكام السيطرة مبكراً بما يضمن طاعتهم العمياء عند تنفيذهم لأدوارهم في العمليات الميدانية القذرة التي تشنها المؤسسة ضد ضحاياها من الأشخاص المستهدفين، لذلك يقوم الصيادون التابعون لتلك المؤسسة باختراق المدارس الثانوية والإعدادية، إلى جانب منظمات واتحادات الشباب والطلائع وجمعيات الجوالة والكشافة والأشبال والزهرات، بالإضافة إلى فرق اللاعبين الناشئين من فتيان وفتيات الأندية الرياضية بحثاً عن ضالتهم المنشودة، وفي هذا السياق كانت وحدة الدعم النفسي بمؤسسة الذكاء المصرية قد تلقت إخطاراً بوجود تلميذة مراهقة فاتنة الجمال ذات سلوك مستهتر فوضوي وكارهة للمجتمع بسبب استمرار تعرضها لزنا محارم قهري داخل منزل أهلها الكائن في أحد الأحياء العشوائية بالعاصمة، وسرعان ما التقطها ضابط تجنيد شاب منتحلاً صفة طالب فاشل في معهد الطيران المدني ومدعياً تمرده على الأوضاع العامة، رغم وفرة أمواله المستمدة من عائلته الثرية المنشغلة بأطيانها الزراعية الواقعة شمال الدلتا عنه وعما يخصه من دراسة وإقامة منفردة في إحدى الشقق الفاخرة بالعاصمة، والتي لم تكن سوى مقراً آمناً وسابق التجهيز لعمليات السيطرة على المرشحات للتجنيد كمندوبات، وتجاوزت الصبية نسبة الغياب المسموح بها فتم فصلها من المدرسة بعد أن كانت قد غرقت في أوحال الكحول والمخدرات، وعندما بدأ الجنين يتحرك داخل أحشائها طردها ضابط التجنيد من "شقته" ليلتقطها زميله ضابط التشغيل في "شقته" المجاورة، كاشفاً لها عن شخصيته الحقيقية ومرغماً إياها على أن تتزوجه عرفياً بورقة واحدة في حوزته مقابل إحضار الطبيب لإجهاضها، ثم أبلغها ضابط التشغيل بإلغائه لقرار فصلها من المدرسة وأخذ يستخرج لها شهادات نجاح متتالية كانت آخرها تفيد بحصولها على الليسانس الذي سمح لها بالعمل كموظفة علاقات عامة في جامعة القاهرة، وطوال تلك المسيرة كانت المندوبة تنفذ بدقة متناهية كافة أدوارها المطلوبة ضمن العمليات الميدانية القذرة للمؤسسة مع حصولها على كل التدريبات الناعمة والخشنة اللازمة لذلك، في ظل استمرار خضوعها لضابط التشغيل الذي يمسك بيديه ورقة الزواج العرفي إلى جانب ورقة المال الضروري لشراء الكحول والمخدرات، بالإضافة إلى ورقة عدم كشفه عن حقيقة شهاداتها الدراسية التي انتظر حتى قامت باستخدامها رسمياً لإبلاغها بأنها مزورة، وفي تلك الأثناء كان فريقان من الاتجاه الليبرالي يستعدان للتحالف السياسي عقب نجاح التنسيق المشترك بينهما أثناء خوضهما انتخابات نادي أعضاء هيئة التدريس الجامعي، الأمر الذي حرصت مؤسسة الذكاء على إفشاله بأية طريقة وأي ثمن، ولما كان أحد الفريقين يقوده أستاذ جامعي أرمل بينما يقود الفريق الآخر أستاذ جامعي مُطَلّق، فقد أوصت وحدة الدعم النفسي بأن يتم دفع المندوبة الجميلة موظفة العلاقات العامة لاختراق الاثنين معاً من الناحية الجنسية في الوقت ذاته لتخلق بينهما خصومة شخصية تعرقل التحالف السياسي، وبمضي المدة الزمنية لتنفيذها مهمتها في تلك العملية ومع استمرار احتكاكها اليومي بالشخصين المستهدفين اتسع أفق المندوبة وتعمقت رؤيتها الأخلاقية للحياة على كافة محاورها، حيث اكتشفت أنه لدى الأستاذين الجامعيين معاً منظومة متكاملة من الإحساس والضمير والإيمان بالمبادئ السامية التي كانت تظنها غائبة، وأن الأوصاف السلبية التي اعتاد ضابط التشغيل استخدامها حيالهما بعيدة كل البعد عنهما بل هي تنطبق تماماً عليه هو وأمثاله كضابط التجنيد والزاني العائلي الذي اغتصبها بدلاً من حمايتها، وتدريجياً استعادت موظفة العلاقات العامة إنسانيتها المفقودة برعاية الأستاذين فأقلعت عن إدمان الكحول والمخدرات، وشعرت بحب حقيقي تجاه أحدهما فتزوجته كما دفعها احترامها للآخر إلى احتفاظها بموقعه كصديق لزوجها، وهنا تدخل ضابط تشغيلها لسحبها من العملية مهدداً إياها باستخدام الأوراق التي في يديه ومستعيناً بضابط تجنيدها والزاني العائلي الذي كان قد أصبح مندوباً للمؤسسة، فصارحت الزوجة الشابة الأستاذين الجامعيين بكل التفاصيل ليتفقوا ثلاثتهم على فضح تلك العملية القذرة أمام الرأي العام ورد ضابط التشغيل من جانبه بتلفيق عدة اتهامات جنائية ضدهم، وبينما تم اعتقال الأستاذين فإن المندوبة التائبة جيدة التدريب القتالي قد نجحت في الإفلات واتجهت صوب أماكن وجود ضابط التشغيل وضابط التجنيد والزاني العائلي تباعاً، لتقتلهم الواحد تلو الآخر بضربات احترافية في أعناقهم بمبرد أظافرها الحاد والطويل قبل انتحارها بذات المبرد، الذي سبق أن سلمتها إياه المؤسسة ودربتها على كيفية استخدامه كأداة قتل، ورغم استمرار اعتقال الأستاذين فقد تحالف الفريقان الليبراليان مما أسفر لاحقاً عن ظهور حزب سياسي معارض كبير، واعترفت المؤسسة بخسارة تلك العملية مكتفية بتوجيه اللوم الوظيفي إلى من أوصى بتنفيذها وفق السيناريو الفاشل وهو الطبيب النفسي استشاري علم السلوك البشري، الذي أدرك بعد فوات الأوان إحدى أهم الحقائق الميدانية للسلوك البشري، ومفادها أن مشاعر الحب الحقيقي لدى الإنسان السوي تتغلب على مشاعر الكراهية العابرة لديه حتى لو كانت حقيقية!!. (9) انضم في صباه إلى الإخوان المسلمين لكنه لم يستمر معهم بسبب اشتغالهم بالسياسة التي يتحاشاها لأنه يراها نوعاً من الخداع، ثم التحق بجمعية سلفية وجد فيها ضالته المتمثلة في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأخذت مسئولياته تتصاعد تدريجياً داخل الجمعية حتى أصبح شيخها إلا أنه عجز كغيره من مشايخ السلفيين عن مقاومة التيار الجهادي، الذي نشأ في أروقة الدعوة السلفية قبل انتشاره واستقواء أتباعه لينشقوا رافعين رايات العنف المسلح ضد استشراء المظالم في الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، هؤلاء الذين تسببوا في اضطرار الشيخ إلى مواجهة محنة السياسة عندما استدعته مؤسسة الذكاء السياسي لتفاوضه وتساومه على ما ليس له طاقة به من مساهمات في عملياتها القذرة ضد الجهاديين، ونظراً ليقينه ببطلان نوايا الفريقين المتصارعين مع ظنه بأن الجهاديين أقرب إلى الله من ثعالب مؤسسة الذكاء، فقد قرر الرد على مساومات المؤسسة باعتزال الجمعية للاعتكاف داخل شقته التمليك التي اشتراها آنذاك في أحد الأبراج الحديثة، عقب انهيار المنزل القديم الذي كان يضم سكنه العائلي ومحله التجاري بفعل زلزال عام 1992 المدمر، ورغم إعلان الشيخ عن نيته الاكتفاء بالصلاة في المسجد المجاور إلا أن المصلين الذين يعرفونه أرغموه على الإمامة والخطابة وتوجيه الصدقات لمستحقيها، ورغم استمرار حرصه على تحاشي السياسة إلا أن مؤسسة الذكاء استمرت تترصده عقب توصيفها له كجهادي نائم محتمل بسبب رفضه التعاون معها ضد الجهاديين، وباستشارة وحدة الدعم النفسي تم وضع خطة إيقاعه تحت السيطرة تمهيداً لاستخدامه في عمليات السيطرة على الجهاديين، حيث حصل بواب البرج الذي يسكنه الشيخ على فرصة عمل في الخليج العربي وفرتها له المؤسسة بشرط تسليم موقعه قبل مغادرته إلى أحد مندوبيها، الذي انتحل صفة البواب الجديد مقابل حصوله على ترخيص مطحن ومخبز في بلدته الريفية، بعد أن كانت وحدة الدعم النفسي قد التقطته من داخل مستشفى الأمراض العقلية التي سبق إيداعه فيها لعلاجه من الهلاوس السمعية والبصرية، ونفذ المندوب بدقة متناهية كل الأدوار المطلوبة منه لاستدراج الشيخ إلى قسم الشرطة دون جدوى سواء ليقظة هذا الأخير أو لتسامحه، فتدخل ضابط تشغيله الذي انتحل صفة مستأجر خليجي لشقة مفروشة في البرج وأبلغ شرطة السياحة هاتفياً باكتشافه أن المقبض النحاسي الذي باعه إليه البواب مسروق من الواجهة الخارجية لباب شقة الشيخ، فاستدعى قسم الشرطة الطرفين لأخذ أقوالهما وهناك اضطر الشيخ لتوجيه اتهام بالسرقة إلى البواب الذي أنكر التهمة مبرراً إياها في محضر التحقيق الرسمي بأن الشيخ يكيد له لرفضه ممارسة الشذوذ الجنسي معه، بعد أن أعاد ضابط التشغيل المقبض النحاسي لمكانه ثم غادر البرج دون ترك أي أثر يشير إلى وجوده الظاهري في العملية، كانت خطة السيطرة المقترحة من وحدة الدعم النفسي تتوقع احتجاز الشيخ داخل بدروم قسم الشرطة طوال الليل انتظاراً لعرضه على النيابة في صباح اليوم التالي مع البواب، بما يسببه له اتهامه بالشذوذ الجنسي خلال مبيته وسط المجرمين الجنائيين من إهانات ومضايقات وتحرشات الأمر الكفيل بتحطيمه معنوياً، على أن يتم ترحيله صباحاً إلى مقر المؤسسة وليس النيابة لمعاودة مفاوضته ومساومته مجدداً وهو أكثر استعداداً للخضوع بعد الدرس التأديبي الذي تلقاه، ولكن تصادف أن بدروم الاحتجاز بقسم الشرطة كان يأوي أيضاً في تلك الليلة بعض شباب الجهاديين المستترين من ذوي الميول العنيفة والعضلات المفتولة والذين يعرفون جيداً قيمة الشيخ الدعوية، حيث استاء الشباب للغاية من قذارة الفخ الذي نصبته مؤسسة الذكاء وأوقعت فيه شيخهم، فأمسكوا مندوبها البواب وقاموا بتكبيل يديه ورجليه من الخلف ليجبروه على إعلان كل تفاصيل العملية القذرة أمام جميع النزلاء بما في ذلك البيانات الحقيقية لضابط تشغيله، ثم قاموا بقطع عضوه الذكري لوضعه داخل فمه تاركين إياه ينزف حتى وفاته التي تم قيدها كانتحار استناداً للشهادات الطبية العديدة بجنونه، وتلقى ضابط التشغيل إخطاراً بما حدث في نفس الوقت الذي كانت وحدة تصفية الشهود قد تلقت فيه تكليفاتها بالتدخل، لتنشر الصحف بعد أيام قليلة خبر انقلاب سيارة يقودها ضابط في مؤسسة سيادية مما أدى إلى وفاته، وغادر الشيخ مصر لتأدية فريضة الحج حيث اصطحبه إلى مطار القاهرة عشرات الألوف من محبيه وبقي في الأراضي الحجازية حتى انهارت جمهورية الخوف الأولى عام 2011، واعترفت المؤسسة بخسارة تلك العملية مكتفية بتوجيه اللوم الوظيفي إلى المسئول عن وضع خطتها الفاشلة وهو الطبيب النفسي استشاري علم السلوك البشري، الذي أدرك بعد فوات الأوان إحدى أهم الحقائق الميدانية للسلوك البشري، ومفادها أن التمادي في قذارة عمليات السيطرة يشكل عنفاً مفرطاً يمكن أن يثير لدى الشخص المستهدف أو المحيطين به ردود أفعال عنيفة تجاهه، مع اعتبار البادئ هو الأظلم أمام الله والتاريخ والرأي العام!!. (10) كان اختيار الأشخاص المناسبين لقيادة المواقع التنفيذية المختلفة على نحو يرضي أنظمة الحكم في جمهورية الخوف الأولى هو الأكثر تعقيداً بين عمليات وحدة الدعم النفسي التابعة لمؤسسة الذكاء السياسي، حيث كانت عمليات الاختيار تتم من خلال أسلوب الحواجز الإقصائية عبر عدة مراحل مبرمجة ومتتالية، تبدأ بالفرز الأمني للمعلومات الموجودة في ملفاتهم، ثم بإخضاعهم لمرحلة المتابعة الميدانية والتي يتم فيها تعريضهم لصدمات وضغوط مفتعلة بهدف رصد ردود أفعالهم النفسية والسلوكية، ثم بوضعهم على رأس بعض المواقع التنظيمية الوسطى لقياس كيفية وتوقيتات اتخاذهم للقرارات اللازمة سواء كانت إيجابية أو سلبية، وتنتهي العملية بصدور التوصيات الختامية لوحدة الدعم النفسي بفتح أبواب المرور نحو قيادة المواقع التنفيذية المختلفة أمام الأشخاص الذين نجحوا في عبور تلك الحواجز الإقصائية، مع إبقائهم تحت متابعة المؤسسة سواء بواسطة ضباط الاتصال والتشغيل المكشوفين لهم أو بواسطة ضباط المراقبة والتنفيذ المستترين عنهم، وتستمر تلك المتابعة حتى لو تركوا مواقعهم القيادية خوفاً من آفة الاعترافات التي تصيب العجائز خلال الفترة الزمنية الواقعة بين التقاعد والوفاة والمعروفة باسم مرحلة كتابة المذكرات، والتي غالباً ما تشهد تدخل وحدة تصفية الشهود للتعامل الميداني سواء مع الاعترافات أو مع الذين قاموا بكتابتها وحيازتها حسب درجة خطورة الأوراق وأهمية الأشخاص، وكانت وحدة الدعم النفسي قد أوصت بترشيح أحد المناضلين الماركسيين السابقين بعد اجتيازه كافة الحواجز الإقصائية، استناداً إلى سهولة إخضاعه للسيطرة بحيث تستطيع المؤسسة من خلاله السيطرة على القطاعات الشعبية التي تثق فيه، نظراً لضعف شخصيته أمام غواية السلطة واستجابته للضغوط التي مورست عليه عقب توريطه في بعض المخالفات المالية والانحرافات الجنسية المحفوظة داخل ملفات المؤسسة لزوم السيطرة، ونظراً لنجاح الوحدة في تضليله وإقناعه بأهمية موقعه القيادي لتحسين أحوال المجتمع ولإصلاح الدولة من داخلها، تم تعيين المناضل الماركسي السابق رئيساً لهيئة خدمية ثم محافظاً فوزيراً واستمرت أموره تمضي على هوى المؤسسة حتى اكتشف ذات يوم أن الابن الأكبر لرفيقه الأقرب في نضاله السابق يعمل موظفاً داخل وزارته، وعندما استدعاه الوزير لسؤاله عن كيفية إفلاته من أكمنة المؤسسة شرح له الشاب أنه اضطر من أجل الحصول على غايته المشروعة في وظيفة حكومية إلى استخدام وسيلة ادعاء البلاهة كإحدى فنون "اللوع" الشعبي، وسرعان ما قام الشاب الشبيه بأبيه في الشكل والمضمون والأسلوب إلى حد التطابق بتسليم الوزير الخطابات السابق إرسالها من أبيه لأمه أثناء فترات الهروب والاعتقال، والتي احتوت على فقرات كاملة تشيد بالدور النضالي للوزير في العديد من الوقائع التاريخية المضيئة، مما أعاده بقوة لذكريات تلك الأيام التي شهدت مصرع رفيقه وهو يحميه بجسده ليتلقى بدلاً منه رصاص قوات مكافحة الشغب خلال احتجاج سلمي للمطالبة بإصلاح أداء الدولة وتحسين الأحوال المعيشية للمجتمع، ولما زاره رفيقه في أحلامه ليعاتبه على انضمامه إلى أولئك الذين أوشكوا ذات يوم أن يقتلونه انقشع عنه غبار التضليل ليدرك أنه فقد توازنه الأخلاقي، وعندما حاول الوزير الانسحاب بهدوء من موقعه متعللاً بأسباب واهية أبلغته مؤسسة الذكاء رفضها لانسحابه باعتباره هروباً من المعركة يستوجب العقاب، مع توجيه رسالة ميدانية فورية لترويعه باقتحام منزله ومكتبه في الوقت ذاته وبعثرة المحتويات هنا وهناك، فقام الوزير باصطحاب الشاب ابن رفيقه إلى الشارع بعد أن كان قد كلفه بوظيفة مستشاره الفني، ليطلعه على نيته استخدام وسيلة ادعاء البلاهة كإحدى فنون "اللوع" الشعبي حتى تضيق به المؤسسة فتطرده من موقعه ليستريح ضميره ويستعيد توازنه الأخلاقي وقدرته على النوم، ولتحاشي معدات المراقبة السرية المزروعة في مكتبه اتفق معه على استخدام قاموس لغة العيون والرموش الذي تشمل مفرداته فيما تشمله "الغمز" كإشارة تؤكد أنه مازال بخير، وأجاد الوزير تمثيل دور المصاب بالزهايمر خلال اجتماعاته مع كبار قادة الدولة بمن فيهم رئيس الجمهورية آنذاك ونائبه الذي كان يرأس مؤسسة الذكاء السياسي في ذلك الوقت إلى جانب رئيس الوزراء الذي كان بدوره نائباً لرئيس مؤسسة الذكاء في حينه، فطلبت المؤسسة رأي وحدة الدعم النفسي التي اقترحت غرز حقنة محشوة بالتركيبة الكيميائية المسببة لمرض الزهايمر في عنق الوزير باعتبارها لن تغير شيئاً لو كان مرضه حقيقياً، أما في حالة تمارضه للهروب من المعركة رغم سابق تنبيه المؤسسة عليه فإن الحقنة المقترحة سوف تلبي له رغبته وتبدد في الوقت ذاته كل ما يحوزه عقله من أسرار الأمر الذي يجلب الطمأنينة للمؤسسة، وعند حلول ساعة الصفر اقترب ضابط التنفيذ المستتر بوظيفة المساعد الطبي للوزير منه ثم غرز الحقنة في عنقه باحترافية شديدة وهو يدعي أنها تحوي مهدئاً لألم الأسنان، فلما نظر ابن رفيقه إلى عينيه ورموشه دون أن يرى "الغمز" المتفق عليه بينهما أدرك ما حدث وشعر كأن الثعلب البشري قد اقتلع قلبه من داخل جسده فانهال على رأسه بتمثال رخامي كبير ليقتله فوراً، حكم القضاء الجنائي بالسجن المؤبد على المستشار الفني الذي مازال ضميره يجلده لحديثه عن وسيلة ادعاء البلاهة كإحدى فنون "اللوع" الشعبي، وهي الوسيلة التي حاول الوزير استخدامها فأنهى حياته فاقداً للوعي والذاكرة وناسياً للأشخاص الذين مروا على تاريخه وللأسرار التي كانت في حوزته، اعترفت المؤسسة بخسارة تلك العملية مكتفية بتوجيه اللوم الوظيفي إلى الفاشل الذي قام بترشيح المناضل الماركسي السابق لموقع قيادي ثم اقترح غرز الحقنة المسببة للزهايمر في عنقه حفاظاً على أسرار الدولة، وهو الطبيب النفسي استشاري علم السلوك البشري الذي أدرك بعد فوات الأوان إحدى أهم الحقائق الميدانية للسلوك البشري، ومفادها أن إخضاع الأشخاص لمؤسسة الذكاء السياسي تحت الضغط أو التضليل يجعل الخاضعين كالألغام القابلة للانفجار عند أي احتكاك إنساني حقيقي!!. ******* المناورات الإخوانية... ط
(1) مع اتساع نطاق الثورة الصناعية في منتصف القرن السادس عشر دخل الجزء الشمالي الغربي من العالم القديم عصر الرأسمالية الذي تميز بالتوسع الإنتاجي الرامي إلى جني الأرباح، عبر مجموعة متداخلة من الحريات الاقتصادية شملت فيما شملته المنافسة التجارية وتداول السلع والخدمات والتمويل الربوي والاستثمارات وقوة العمل البشري المأجور والمواد الخام سواء في الأسواق الداخلية أو الخارجية، وباتساع الرأسمالية أفقياً وعمودياً في ذلك الجزء دخل العالم كله مع بدايات القرن التاسع عشر مرحلة الاستعمار، حيث قام الرأسماليون بتقسيم مناطق العالم ذات الاقتصاديات الأقل تطوراً فيما بينهم كأسواق لما ينتجونه من سلع وخدمات استهلاكية مكتملة الصنع، ولما يستغلونه من قوة عمل بشري ومواد خام رخيصة وما يستثمرونه من أموال سريعة الدوران وكثيفة الأرباح، ولما يرغبون في إبعاده جغرافياً عن ديارهم من أنشطة اقتصادية ضارة بسلامة البيئة المحيطة، وقد صاحب ذلك التقسيم تنافس محموم من أجل السيطرة على الشعوب والمجتمعات الأقل تطوراً بلغ حد الصدام العسكري الدامي عدة مرات بين أولئك الرأسماليين الذين كانوا يحكمون مختلف الدول الاستعمارية، إلا أن "بريطانيا" هي التي نجحت في احتلال قمة السلم الاستعماري العالمي واحتفظت وحدها بالصدارة لأكثر من قرن ونصف زمني، اعتماداً على مناوراتها السياسية السامة المعروفة باسم "فَرَّقْ تَسُدْ" كأسلوب لإدارة مستعمراتها وإضعاف خصومها من الاستعماريين الآخرين الذين كانت من بينهم الإمبراطورية العثمانية، حيث نجح البريطانيون في التفريق بين مكوناتها القومية ومنها العرب الذين تم لاحقاً التفريق بين شعوبهم ومنهم الشعب المصري، الذي وقع عام 1882 في براثن الاستعمار البريطاني المباشر ليتعرض بعد ذلك إلى التفريق بين طوائفه ومنها الطائفة السنية، التي جرى تفريقها عبر عدة مناورات سامة كان من بينها قيام وزارة الأسطول البحري البريطانية بإنشاء جماعة "الإخوان المسلمين" في مدينة "الإسماعيلية" ذات الكثافة العددية الأعلى لقوات الاستعمار البريطاني بالخارج آنذاك، لاسيما وقد تم إنشاء الجماعة عام 1928 عقب أربعة أعوام فقط من نجاح المناورات البريطانية السامة في القضاء نهائياً على الإمبراطورية العثمانية، بدفع مركزها التركي إلى الاستغناء عن أطرافها العربية والفارسية والكردية والحبشية وغيرها تاركاً تلك الأطراف للوقوع كفرائس سهلة في براثن "بريطانيا" وحلفائها، مقابل وعود لم تتحقق حتى الآن بانضمام "تركيا" إلى الأسرة الأوربية وبالتالي للجزء الشمالي الغربي من العالم، ولم تكن الرعاية البريطانية لنشأة جماعة "الإخوان المسلمين" خافية على أحد الأمر الذي يؤكده "مارك كورتيس" زميل المعهد الملكي البريطاني للعلاقات الدولية على صفحات كتابه الشهير "شئون سرية في التواطؤ البريطاني مع الإسلام الأصولي"، حتى أن "حسن البنا" مؤسس الجماعة نفسه أشار بزهو في كتابه الشهير "مذكرات الدعوة والداعية" إلى مبلغ الخمسمائة جنيه الذي تلقاه بمناسبة إنشاء الجماعة كتبرع علني من شركة "قناة السويس" التابعة لوزارة الأسطول البحري الاستعمارية البريطانية، دون أن يمنعه ذلك من قبول تبرع مالي آخر قيمته ألفي جنيه سلمه إياه بعد عدة أعوام مدير فرع القاهرة بوكالة الأنباء الألمانية التابعة لجهاز استخبارات ألمانيا النازية، كما ذكر الصحفي الكندي "إين جونسون" على صفحات كتابه الشهير "مسجد في ميونيخ"، وعلى مدى العقد الزمني التالي بكامله تخفى الإخوان المسلمون خلف ستار النشاط الدعوي الديني، كمناورة أولى وفرت لهم فرصة التمدد تحت جلد المجتمع والدولة لتحقيق الاتساع الأفقي والعمودي بعيداً عن أنظار القوى السياسية المتصارعة فيما بينها، ثم حل عام 1937 الذي أتى بحاكم شاب جديد لمصر هو الملك "فاروق" فسعى الإخوان لمناورتهم الثانية عليه بإعلان تأييدهم لحكمه، مما اضطرهم للكشف عن وجههم السياسي الصريح في العام التالي 1938، وذلك بإصدار مجلة "النذير" كمنبر يعبر عنهم وبعقد مؤتمرهم التنظيمي العام الخامس حيث أعلن "حسن البنا" الخط السياسي لجماعته، والمتمثل في "السعي لاستخلاص الحكم من أيدي القائمين به إذا رفضوا السير على تعاليم الإسلام مع رفض العمل الثوري والبرلماني والحزبي كأساليب معروفة لاستخلاص الحكم"، وهكذا أبقى "البنا" أسلوباً وحيداً يستخلص به الإخوان الحكم من أيدي القائمين عليه وهو المناورات السياسية المحسوبة بدقة لتؤدي إلى سحب البساط تدريجياً من تحت أقدام المجتمع ثم الدولة انتظاراً لفرصة تسمح بتنفيذ انقلاب ناجح، وقد التزم الإخوان بأسلوب المناورات السياسية طوال عمرهم الزمني البالغ ثمانية وثمانين عاماً، حيث فشلت بعض مناوراتهم فشلاً ذريعاً أوقعهم في أزمات كبرى متتالية على أيدي حكام "مصر" المتعاقبين، مثلما حدث مع الملك "فاروق" عام 1948 ثم مع الرؤساء "جمال عبدالناصر" عامي 1954 و1965 و"أنور السادات" عام 1981 و"حسني مبارك" عام 1995 وأخيراً "عبدالفتاح السيسي" عام 2013، بينما نجحت بعض مناوراتهم الأخرى بتفوق حقق لهم مكاسب كبرى متتالية إلا أن ذلك النجاح كان على حساب غيرهم من المصريين، الذين راحوا ضحايا للمناورات الإخوانية السياسية سواء كانت ناجحة أو فاشلة ليعاني المصريون الأَمَرَّين من هذه وتلك معاً!!. (2) أفرزت منظومة المناورات السياسية السامة للاستعمار البريطاني وحلفائه داخل المعسكر الرأسمالي الغربي والمعروفة باسم "فَرَّقْ تَسُدْ" عدة خطط لتقسيم العالمين العربي والإسلامي، ابتداءً بمعاهدة "سايكس بيكو" عام 1916 مروراً بإعلانات "جابوتسكي" عام 1937 و"بنجوري" عام 1957، وانتهاءً بمشروع رجل المخابرات البريطانية "برنارد لويس" الذي نشرته مجلة وزارة الدفاع الأمريكية عام 1980، ليحصل بسببه "لويس" عام 1982 على جنسية الولايات المتحدة الأمريكية حيث عرض مشروعه أمام الكونجرس الذي أقره في جلسة سرية عام 1983 كإحدى الاستراتيجيات المستقبلية الأمريكية القابلة للتنفيذ بالشرق الأوسط، ويقوم مشروع "برنارد لويس" على أساس فكرة شيطانية هي أن حماية مصالح المعسكر الرأسمالي الغربي الذي أصبح تحت القيادة الأمريكية من أية أخطار عربية أو إسلامية في المستقبل، تحتم تفكيك الوحدة البنائية الداخلية لكل الدول العربية والإسلامية إلى مجموعة من الدويلات والكانتونات العرقية أو العشائرية أو الدينية أو الطائفية أو المذهبية، مع دفع تلك الكيانات المجتزأة لعدة حروب بينية وصولاً إلى التدمير الشامل والمتبادل لبعضها البعض، وبموجب مشروع "برنارد لويس" فإن "مصر" يجب أن يتم تقسيمها إلى أربع دويلات، إحداها "بدوية" عاصمتها "العريش" وتستحوذ على كل شبه جزيرة سيناء حتى الضفة الشرقية لقناة السويس وتكون تابعة لإسرائيل، والدولة الثانية "قبطية" عاصمتها "الإسكندرية" وتستحوذ على الجزء الشمالي الغربي لمصر المتاخم للبحر المتوسط والحدود الليبية والذي يمتد جنوباً حتى خط عرض 26 وشرقاً حتى خط طول 30، أما الدولة الثالثة فهي "نوبية" عاصمتها "أسوان" وتستحوذ على الجزء الجنوبي لمصر المتاخم للحدود السودانية من أقصى شرقه إلى أقصى غربه لينتهي شمالاً عند خط عرض 26 ويمتد جنوباً ليضم إقليم النوبة السوداني، ويتبقى إقليم جغرافي ضيق للدولة الرابعة والأخيرة وهي "مصر العربية الإسلامية" وعاصمتها "القاهرة" وتستحوذ على الجزء الذي يحده البحر المتوسط شمالاً والبحر الأحمر شرقاً وخط عرض 26 جنوباً وخط طول 30 غرباً، وكان إقرار الكونجرس الأمريكي في عام 1983 لمشروع "برنارد لويس" التفكيكي الشيطاني هو بمثابة إعلان وراثة "واشنطون" رسمياً لأسلوب المناورات السياسية البريطانية السامة المعروفة باسم "فَرَّقْ تَسُدْ" باعتباره الأكثر تحقيقاً للمصالح الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي بما فيها تلك المتعلقة بضمان التفوق الإقليمي لوكيلها الإسرائيلي اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، إلى الدرجة التي تكفل له استمرار التوسع والهيمنة على حساب أراضي جيرانه وسيادتهم، ورغم أن الوراثة الأمريكية للأسلوب البريطاني المناور قد استبدلت في بدايتها بعض أدواته التنفيذية بأخرى من ابتكارها، إلا أنها اضطرت لاحقاً للعودة إلى استخدام أدوات المناورات الأصلية تحت ضغط استشعارها بخطورة التحدي الاقتصادي العالمي الذي أصبحت "الصين" تشكله عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1992، هذه الأدوات التي شملت فيما شملته قيادات وحكومات وجيوش وأحزاب وجماعات كان من بينها جماعة "الإخوان المسلمين" إلى جانب بعض القيادات العليا لعدة مؤسسات رسمية في مصر!!. (3) شهد منتصف سبعينيات القرن العشرين إحدى المناورات الناجحة للإخوان المسلمين باستخدامهم لوزير الاستخبارات السعودي "كمال أدهم" كوسيط ضاغط على الرئيس "أنور السادات" الذي استجاب للوساطة وعقد صفقة مصالح سياسية متبادلة بين الأطراف الثلاثة، تقضي بنودها بالإفراج عن معتقلي الإخوان وإعادتهم لوظائفهم ورفع أسمائهم من قوائم منع السفر وترقب الوصول وقوائم حظر التصرف في الأموال والأملاك، إلى جانب غض الأجهزة الأمنية طرفها عن توسيعهم لأنشطتهم الميدانية في أروقة المجتمع المصري دون منحهم ترخيص قانوني بذلك، مع استمرار رفض اقترابهم العلني من المؤسسات الرسمية ذات الطابع السيادي في الدولة، مقابل دعمهم الجماهيري والإعلامي والدعوي لكافة الجهود السياسية التي يبذلها "السادات" من أجل تقليص النفوذ الديناصوري لأنصار سلفه "جمال عبدالناصر" داخل مؤسسات الدولة وأروقة المجتمع، ضمن مساعيه الرامية إلى الانفراد بالسلطة لاسيما وأن أنصار "عبدالناصر" كانوا قد حاولوا الانقلاب عليه في مايو عام 1971 عقب ستة أشهر فقط من توليه رئاسة الجمهورية، أما الإدارة السعودية التي توسطت لإنجاح تلك الصفقة فقد حصلت بموجبها على بعض المكاسب الاستثمارية، إلى جانب المكسب المعنوي المتمثل في المحو العقابي لمفردات التاريخ الناصري المعادية لعائلة "آل سعود" الحاكمة من قواميس الذاكرتين المصرية والعربية، وفي ذات الفترة كان التحاقي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة "القاهرة" حيث كلفني أستاذ مادتي "الأبحاث السياسية النظرية" و"التدريب السياسي الميداني" بإعداد بحث عن جماعة "الإخوان المسلمين"، وهو البحث الذي حصل لاحقاً على درجة "امتياز" مع عرضه للمناقشة في ندوة مفتوحة داخل القاعة الجامعية الكبرى بالإضافة إلى نشره على نفقة الجامعة تحت عنوان "مناورات الإخوان المسلمين"، كأحد الكتيبات محدودة التوزيع التي يتم توفيرها داخل مكتبات الجامعة كمراجع أكاديمية أمام الطلاب والباحثين والمهتمين بالتثقيف السياسي، الذين كان من بينهم ناشر لبناني أعاد نشره عام 1986 في "بيروت" ككتاب واسع الانتشار عنوانه "الإخوان المسلمون على مذبح المناورة"، وفي خضم سعادتي بالنجومية الأكاديمية المفاجئة داخل أوساط أساتذة وطلاب جامعة "القاهرة" استوقفني أحد زملائي وكان أكثرهم خجلاً لدرجة أنهم يصفونه بالسير الملاصق للجدران هرباً من المشاكل، ومنحني زميلي الخجول صورة ضوئية خاصة بإعلان وظيفة خالية في شركة إنتاج إعلامي مملوكة لخاله معرباً عن استعداده لتزكيتي عند مالك الشركة حتى أحصل على تلك الوظيفة، ولما كانت أحوالي الاقتصادية حينذاك دون الصفر كثيراً باعتباري أنا وحدي المسئول عن جمع والتقاط الدخل المالي اللازم للإنفاق على سكني وطعامي ومواصلاتي واحتياجاتي المعيشية الأخرى إلى جانب متطلباتي الدراسية باهظة التكاليف، نظراً لاستمرار أبي قيد الاعتقال وأمي رهن المنفى على خلفية نشاطهما الشيوعي واستمرار اختفاء خالي الوحيد على خلفية اجتهاداته الفكرية والسياسية في مجال الدعوة الدينية، مع استمرار تنصل أعمامي الأثرياء النافذين وهروبهم من واجباتهم العائلية نحوي خوفاً على مكاسبهم المالية ومراكزهم الوظيفية المستمدة من رضا الأجهزة الأمنية عنهم، لذلك فقد دفعتني أحوالي الاقتصادية السيئة نحو شركة الإنتاج الإعلامي التي يمتلكها خال زميلي الخجول بحثاً عن فرصة العمل المعروضة، لاسيما وأن ظاهرها يتفق مع الالتزامات الأخلاقية الصارمة لشيوعي شاب مثلي بعدم الحصول على المال إلا عبر الطرق المشروعة!!. (4) سرعان ما اتضح لي أن التاريخ الحديث لجماعة "الإخوان المسلمين" الذي شغلتني وقائعه لتوها على الصعيد البحثي الأكاديمي يكاد يتطابق مع التاريخ المعاصر للجماعة ذاتها والذي بدأت وقائعه تشغلني من توها على الصعيد الإنساني المباشر، ذلك أن خال زميلي ومالك شركة الإنتاج الإعلامي لم يكن سوى الشيخ الثري رئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة الإخوان المحظورة قانوناً، والخارج لتوه من الاعتقال ضمن صفقة المصالح السياسية المتبادلة بين "السادات" والجماعة برعاية الإدارة السعودية، والذي سبق أن تردد اسمه على مسامعي خلال إعدادي لبحثي الأكاديمي عن الإخوان عدة مرات مصحوباً بغموض متعمد حول حقيقة أدواره الخفية في قيادتهم والتي كان أقربها إلى قلبه دور "الدَهَّابة" وهو اسم يطلقه المصريون على "قصاص الأثر" المتخصص في استكشاف مواقع الذهب الخام الكامنة تحت باطن الأرض أو داخل عروق الجبال، نظراً لمهاراته في فرز العناصر البشرية واستقطاب المتميز منهم داخل جماعته، وقد كشف الشيخ الثري القيادي في جماعة الإخوان المسلمين خلال لقائه الأول معي عن إلمامه بمفردات ملفي الموجود لدى أجهزة الأمن السياسي، التي كانت تلاحقني آنذاك على خلفية اتهامي بعضوية لجنتي الإعلام والعلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي المحظور قانوناً، لذلك فقد تبادلنا وجهات النظر حول أوجه الشبه الإيجابية والسلبية بين مفهوم الكفاح المسلح في الفكر الشيوعي ومفهوم الجهاد الاستشهادي في الفكر الإسلامي، وسألني بإلحاح عن تقديري الشخصي لمدى إمكانية ظهور مجاهد استشهادي إسلامي يكون ملهماً لعموم المسلمين مثلما ألهم "أرنستو تشي جيفارا" بكفاحه المسلح عموم الشيوعيين، وعن تقديري الشخصي لمدى أهمية أن يكون ذلك المجاهد الإسلامي المنتظر شاباً حجازياً من أبناء إحدى العائلات الكبرى في شبه الجزيرة العربية حيث كان مهبط الوحي الإسلامي، أو يكون شاباً ذكياً ساعياً لتحسين أوضاع المحيطين به من المصريين الذين يشكلون حوالي نصف المسلمين العرب مثلي أنا حسبما وصفني أو يكونا الاثنان معاً، مشيراً إلى المواصفات الأخرى المطلوبة فيمن يبحث عنهما والتي ينطبق بعضها على شخصي أنا، بينما يتوافر البعض الآخر في أشخاص ظلوا افتراضيين بالنسبة لي حتى معرفتي اللاحقة بظهور الشابين السعودي "أسامة بن لادن" والمصري "أيمن الظواهري" على أرض الواقع، وقبل نهاية اللقاء قرر الشيخ الثري تعييني كمستشار لشركة الإنتاج الإعلامي التي يملكها ومنحني مبلغ خمسمائة جنيه باعتباره راتب الشهر الأول لوظيفتي الجديدة، وفي الليلة ذاتها زارني بدون موعد سابق رفاقي من قادة الحزب الشيوعي لإثارة مخاوفي تجاه الشركة، حيث وصف أحدهم أموالها بأنها تمويل خارجي وارد من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بهدف تجنيد الكوادر المميزة في الاتجاهات السياسية الأخرى سواء كانت إسلامية أو مدنية، للدفع بهم لاحقاً نحو تنفيذ الأنشطة ذات الخطورة الميدانية بالوكالة عن الإخوان ولصالحهم، دون أن يفوته اتهام الذي يحصل على أي نصيب من تلك الأموال بالخيانة الوطنية والطبقية، في حين أشار رفيق آخر بنبرة تهديدية إلى العواقب الوخيمة التي يقع تحت طائلتها الكادر الشيوعي عندما ينشق عن الصف، إما برفضه الانضباط التنظيمي الصارم أو بامتناعه عن تنفيذ القرارات الصادرة إليه من المستويات الحزبية الأعلى، ورغم نجاح الرفاق في ترويعي إزاء شركة الإنتاج الإعلامي مع إرهابي من تبعات إغضابهم، إلا أنهم ظلوا بصحبتي كي يصطحبوني عند حلول صباح اليوم التالي داخل السيارة الحزبية الرسمية إلى مقر الشركة حتى يضمنوا قيامي بإعادة راتبي الشهري الأول لمالكها القيادي الإخواني، الذي التقاني مبدياً تفهمه لحيرتي وارتباكي حيث تبادلنا وجهات النظر حول أوجه الشبه الإيجابية والسلبية بين مفهوم الانضباط التنظيمي الصارم في الفكر الشيوعي ومفهوم السمع والطاعة المطلقة في الفكر الإسلامي، وسألني بإلحاح عن تقديري الشخصي لمدى إمكانية ظهور أجيال جديدة تؤمن بحرية الاختلاف وتعدد الآراء والانفتاح على الآخرين، وعن تقديري الشخصي لمدى إمكانية تولي تلك الأجيال المنتظرة قيادة الفريقين الشيوعي والإسلامي في المستقبل المنظور!!. (5) في إطار سعيه لتقليص نفوذ أنصار سلفه "جمال عبدالناصر" قام "أنور السادات" مع انتصاف سبعينيات القرن العشرين بتفكيك الحزب الحاكم والمهيمن الذي احتكر وحده الوجود التنظيمي القانوني منذ عام 1952، كامتداد لتنظيم "الضباط الأحرار" الذي أنشأه "عبدالناصر" و"السادات" مع بعض زملائهما العسكريين في الأربعينيات، كامتداد لجمعية "الحرس الحديدي" التي سبق أن أنشأها "عزيز المصري" و"يوسف رشاد" في الثلاثينيات كفرع خارجي للحزب النازي الألماني تحت إشراف ضابط الاستخبارات الألمانية "هيربيرت هايم"، ومع استمرار لعبة تغيير أسماء المسمى الحزبي ذاته بعد قيام جمهورية الخوف الأولى عام 1952 فقد حمل الحزب الحاكم اسم "هيئة التحرير" ثم "الاتحاد القومي" ثم "الاتحاد الاشتراكي"، وهو ذلك الذي نجح "السادات" في تقسيمه إلى ثلاثة منابر لتوزيعها فيما بين العسكريين القدامى، حيث منح منبر اليسار لزميله "خالد محيي الدين" ومنبر اليمين لزميله "مصطفى كامل مراد" مبقياً منبر الوسط لنفسه وتحت رئاسته، دون أن يتوقف عن لعبة تغيير أسماء المسمى الحزبي ذاته من "منبر الوسط" إلى "حزب مصر" ثم "الحزب الوطني الديمقراطي"، الذي أعلنه "السادات" عام 1978 وظل يرأسه حتى اغتاله الإسلاميون عام 1981 ليرثه نائبه "حسني مبارك" في رئاسة الحزب، إلى أن سقطت جمهورية الخوف الأولى عام 2011 فحل القضاء المصري "الحزب الوطني الديمقراطي" عقاباً له على استمرار احتكاره لقيادة الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، مع استبداده بالأحزاب السياسية الأخرى ذات الوجود التنظيمي القانوني والتي حاصرها الحزب الحاكم واستخدمها كمستوعبات مغلقة على المعارضين بما فيها منبري اليسار واليمين اللذين أصبحا لاحقاً حزبي "التجمع" و"الأحرار"، وبمجرد وراثة حزب "السادات" للهيمنة الشاملة عقب تفكيك "الاتحاد الاشتراكي" في منتصف سبعينيات القرن العشرين، أصبح الالتصاق بذلك الحزب هو أقصر طرق كسب المنافع غير المستحقة لصالح الانتهازيين داخل كل الدوائر بما فيها جامعة "القاهرة"، حيث كانت أسر الأنشطة الطلابية التابعة والموالية لحزب "السادات" تحقق مكاسب مالية خيالية سواء بسبب الإعفاء من الرسوم والضرائب أو بسبب التمويل والدعم المالي والعيني لأنشطتها التي تشمل فيما تشمله الرحلات والحفلات ومعارض البيع، مثل ذلك المعرض الذي احتل بخيمته موقع كافيتيريا كلية الاقتصاد والعلوم السياسية محل جلوسي المختار مع زملائي، ليبيع أعمالاً فنية واردة كتبرع مجاني من مصلحة السجون التي ضاقت مخازنها بأعمال المساجين الفنية الرديئة لعدم وجود مشترين، وكانت المعروضات جميعها تصور أرباب الحرف المصرية التقليدية وهم يمارسونها في لوحات ورقية وقماشية وجلدية أو في تماثيل زجاجية وخشبية وطينية، الأمر الذي منح طلاب "الإخوان المسلمين" في الجامعة فرصة لإثارة حفيظة بقية الطلاب الإسلاميين تجاه المعرض الفني بدعوى أنه يبيع للغافلين أصناماً مرسومة ومنحوتة، وبتحريض واضح منهم اصطف الطلاب الجهاديون على أحد أضلاع خيمة المعرض لتأدية صلاة جهاد سرعان ما شاركهم فيها الطلاب السلفيون باحتلالهم ضلع الخيمة الثاني لينضم إليهم طلاب الإخوان أخيراً مشكلين ضلع الحصار الثالث، أما الضلع الرابع لخيمة المعرض فقد تركه المصلون مفتوحاً لهرولة أعضاء الأسرة الطلابية الساداتية ومعهم موظفي الأمن وأفراد الحرس الجامعي هاربين من المواجهة، لأجدُني وحدي أحاول تنبيه المصلين الغاضبين إلى حقيقة أنه لا أحد في الربع الأخير للقرن العشرين يعبد أعمالاً فنية مما ينفي عنها شبهة الأصنام التي كان الجاهليون يعبدونها قبل عدة مئات من الأعوام، فأطلق كبيرهم صيحات التهليل والتكبير إيذاناً ببدء "غزوة الأصنام" حيث انقضوا في هجوم كاسح على الأعمال الفنية يفتكون بها تمزيقاً وتحطيماً، ثم استداروا لي فأوسعوني ضرباً مع سيل من السباب الذي كشف دوافعهم الانتقامية المبيتة ضدي باعتباري كاتب البحث المنشور على النطاق الأكاديمي الضيق تحت عنوان "مناورات الإخوان المسلمين"، دون أن يفوتهم إشعال النيران في خيمة المعرض قبل الرحيل، ونقلتني سيارة الإسعاف إلى عنبر الطوارئ بمستشفى الجامعة ليتسلل بين الأطباء بعض ضباط الأمن السياسي الساعين لاستكتابي بلاغاً رسمياً بالواقعة وهو ما لم يحصلوا عليه مني، الأمر الذي تسرب فوراً إلى الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي والقيادي في جماعة "الإخوان المسلمين"، فقام بزيارتي في المستشفى معرباً عن استنكاره لإيذائي بالضرب والسب أثناء "غزوة الأصنام" على أيدي الطلاب الإسلاميين ذوي الحماس الزائد كما وصفهم، وترك لي قبيل مغادرته مجموعة منتقاة من المؤلفات المحظورة لكُتاب الإسلام السياسي "حسن البنا" و"سيد قطب" و"أبوالأعلى المودودي"، مع دعوة بتكرار زيارته في مقر شركته لتبادل وجهات النظر حولها ولحصولي على اعتذارات منفذي "غزوة الأصنام"!!. (6) رغم أن صفقة المصالح المتبادلة بين الإخوان المسلمين و"السادات" في منتصف السبعينيات قد وفرت لهم فرصة جديدة لإعادة التمدد تحت جلد الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، مما سمح بتوسيع نطاق الاختراق والتسكين الخفي لخلاياهم النائمة والمتحفزة سواء داخل أعماق مؤسسات الدولة لاسيما ذات الطابع السيادي كالقضاء والجيش والأجهزة الأمنية والرقابية، أو داخل أعماق مؤسسات العلاقات الخارجية المتمثلة في السلكين الدبلوماسي والإعلامي، كما سمح أيضاً باستمرار سحبهم التدريجي للبساط من تحت أقدام المجتمع والسوق بكل الاتجاهات السياسية الموجودة فيهما، سواء كانت دينية كالصوفية والسلفية والجهادية أو كانت مدنية كالماركسية والليبرالية والقومية، إلا أن التحالف الدولي لمكافحة الوجود السوفيتي في "أفغانستان" هو الذي منح الإخوان الفرصة التاريخية الأكبر للتمدد داخلياً وخارجياً وللمناورة على كل الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية لتحقيق هدفهم المتمثل في التمكين، فقد تولى الشيوعيون الأفغان حكم بلادهم عام 1978 وأقاموا فيها نظاماً موالياً للاتحاد السوفيتي، قائد حلف "وارسو" وزعيم المنظومة الاشتراكية العالمية الذي أرسل قوات جيشه الأحمر إلى أراضيهم لدعمهم عام 1979، ليصبح الاتحاد السوفيتي أكثر اقتراباً من مصادر النفط بالخليج العربي وأكثر تهديداً لشبكة مصالح المنظومة الرأسمالية العالمية الممثلة في حلف شمال الأطلسي المنافس بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي سارعت بإعادة إحياء التحالف الدولي القديم المعادي للشيوعية مع إعادة توزيع المهام داخله على نحو محدد يكفل مكافحة الوجود السوفيتي في "أفغانستان"، بحيث تتولى دول حلف الأطلسي القيادة والتوجيه وإنتاج الأسلحة اللازمة وتتولى دول مجلس تعاون الخليج العربي التمويل المالي، بينما تفتح "باكستان" حدودها البرية المتاخمة كقاعدة لتجميع المقاتلين وتدريبهم عسكرياً ثم إطلاقهم نحو الأراضي الأفغانية لمحاربة العدو، أما "مصر" فتوفر لتلك الحرب احتياجين متداخلين هما التبرير والتغطية الدعائية في أوساط غير الإسلاميين إلى جانب الحشد والتعبئة التحريضية في أوساط الإسلاميين، ورغم أن تلبية الاحتياج الأول قد تمت بصعوبة عبر المؤسسات الإعلامية الرسمية لاسيما قطاع الإعلام الخارجي بالهيئة العامة للاستعلامات وقطاع الإذاعات المصرية الموجهة إلى الخارج باتحاد الإذاعة والتليفزيون، نظراً لتجاوب "صفوت الشريف" الذي تَرَأَسَ المؤسستين تباعاً قبل أن يترأسهما معاً بتوليه وزارة الإعلام، إلا أن تلبية الاحتياج الثاني عبر المؤسسات الدينية الرسمية قد اصطدمت بالطابع التقليدي لمشيخة الأزهر المراوغ حيال النزاعات المسلحة المتبادلة بين المسلمين وبعضهم، الأمر الذي اضطر معه التحالف الدولي إلى الاستعانة بمكتب إرشاد جماعة "الإخوان المسلمين" لتنفيذ الاحتياج الثاني والدفع بالإسلاميين نحو الجهاد في "أفغانستان"، نزولاً عند نصائح الإدارتين البريطانية والسعودية اللتان كانتا حتى ذلك الوقت ما تزالان تحتفظان برعايتهما للجماعة وبنفوذهما داخل المنظومة الرأسمالية العالمية وحلف الأطلسي ولدى حكام "مصر" و"باكستان" ودول الخليج العربي، وهكذا تشكل الفريق المصري المشارك في الإدارة اليومية لعمليات التحالف الميدانية من أجل مكافحة الوجود السوفيتي بأفغانستان تحت رئاسة "حسني مبارك" نائب رئيس الجمهورية والمشرف على مجلس الدفاع الوطني وقائد القوات الجوية المصرية السابق، وعضوية بعض زملائه العسكريين من قادة المؤسسات الرسمية السيادية مثل "كمال حسن علي" و"عبدالحليم أبوغزالة" و"حسين سالم"، بالإضافة إلى بعض قادة جماعة "الإخوان المسلمين" مثل المرشد العام "عمر التلمساني" ونائبه "صلاح شادي" والشيخ الثري رئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية، وبمضي الزمن مع استمرار الأنشطة العسكرية الميدانية لمكافحة الشيوعية في "أفغانستان" بمستلزماتها السياسية والتنظيمية والمالية والدعائية والتحريضية بالإضافة إلى الإمداد البشري المتواصل، حصل الإخوان على المزيد من الرعاية البريطانية والسعودية كما نجحوا في كسب ود بعض دول حلف الأطلسي مثل "تركيا" وبعض دول مجلس تعاون الخليج العربي مثل "قطر"، لاسيما وأن هؤلاء وأولئك كانوا ومازالوا يحتاجون إلى استخدام الإخوان في المكافحة الخشنة لمحاولات التمدد الشيعي ليس فقط على تخومهم اليمنية والعراقية والسورية واللبنانية ولكن أيضاً داخل حدودهم، مع استمرار احتياجهم لاستخدام الإخوان في السيطرة الناعمة على انفلاتات المعارضة الجهادية المتنامية هنا وهناك، والداعية إلى الجهاد الداخلي أولاً ضد ممارسات حكام تلك الدول والتي تصفها المعارضة بالانحراف عن قواعد الإسلام الصحيح، ولما كان "السادات" قد وافق على النصائح البريطانية والسعودية بإشراك إخوان "مصر" في التحالف الدولي كمناورة منه، بهدف استخدامهم لتدعيم سلطاته الداخلية ضد فلول الناصرية ولتحسين صورته الخارجية باختراق قرار المقاطعة العربية لنظامه عقاباً له على تصالحه المنفرد مع "إسرائيل"، فإن استشعاره بالمسعى الإخواني من أجل استخدام مشاركتهم في التحالف الدولي لتمكين أنفسهم داخلياً وخارجياً قد أقلقه فحاول عرقلته قبل أن يصل بهم إلى الصداقة مع الإدارة الأمريكية، ولقلب المائدة عليهم اعتقل "السادات" في سبتمبر 1981 أبرز قادة الإخوان وكوادرهم بمن فيهم مندوبيهم داخل الفريق المصري المشارك بالتحالف الدولي، دون إدراك منه لحجم التمكين الحقيقي الذي كانوا قد نجحوا بالفعل في تحقيقه كأمر واقع على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، لدرجة أن رعاتهم القدامى والجدد أصبحوا مستعدين للدفاع عنهم طالما استمرت أدوارهم ضد الشيوعيين والشيعة والجهاديين حتى لو اقتضى الأمر التضحية بالسادات شخصياً، وهو ما حدث بالفعل قبل مرور شهر واحد على اعتقاله للإخوان المسلمين عندما تم اغتياله في أكتوبر 1981 خلال احتفاله بعيد النصر العسكري وسط كبار قادة المؤسسات الرسمية السيادية، وذلك على أيدي خلية إسلامية نائمة بين صفوف الجيش المصري في ظل تواطؤ محلي وإقليمي وعالمي لم تكن المناورات الإخوانية بمنأى عنه!!. (7) بمجرد اغتيال "السادات" على أيدي الإسلاميين الجهاديين عام 1981 خلفه في رئاسة الدولة المصرية نائبه ورئيس الفريق المصري داخل التحالف الدولي المعادي للشيوعية "حسني مبارك"، الذي قام بمنح مندوبي المؤسسات الرسمية السيادية من أعضاء فريقه كل الفرص للإمساك بأهم مفاصل الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، مقابل منح مندوبي الإخوان المسلمين في الفريق ذاته كل الحذر خوفاً من مناوراتهم وتحالفاتهم واتصالاتهم الداخلية والخارجية، لذلك فقد سارع "مبارك" بإقالة وزير الدفاع وعضو الفريق المصري في التحالف "عبدالحليم أبوغزالة" عقب موافقته على إجراء اتصالات جانبية مع بعض قادة الإخوان الأعضاء بالتحالف دون علم "مبارك" عام 1989، وهو نفس العام الذي كان التحالف الدولي المعادي للشيوعية قد أكمل فيه مهمته الأولى بإخراج القوات السوفيتية من الأراضي الأفغانية، وفي الأيام الأولى لحكم "حسني مبارك" تم اعتقالي بمعرفة مباحث أمن الدولة وتقديمي إلى نيابة ومحكمة أمن الدولة بتهمتين سياسيتين، كانت الأولى هي عضوية لجنتي الإعلام والعلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي السري المحظور قانوناً والساعي لقلب نظام الحكم، أما الثانية فكانت إنشاء وقيادة منظمة سرية محظورة قانوناً تسعى للإضرار بعلاقة نظام الحكم مع إحدى الدول الصديقة له وهي لجنة مقاومة التطبيع مع إسرائيل، وتم احتجازي عدة أشهر لحين صدور الأحكام ضدي داخل زنزانة انفرادية بسجن "الاستئناف" الواقع في حي "باب الخلق" بالعاصمة المصرية "القاهرة" وهو السجن المخصص حصرياً لتنفيذ أحكام الإعدام شنقاً في المدنيين الذكور، وكانت محكمة أمن الدولة قد أصدرت لتوها أحكامها بإعدام خمسة إسلاميين جهاديين على خلفية مشاركتهم في اغتيال "السادات"، وجرى فعلاً إعدام ثلاثة منهم داخل السجن الحربي رمياً بالرصاص لأنهم عسكريون ليتبقى الاثنان الآخران اللذان وصلا إلى سجن "الاستئناف" لتنفيذ حكم إعدامهما شنقاً باعتبارهما مدنيان، ولما كانت لوائح مصلحة السجون المصرية تستوجب ألا يشغل الزنزانة الواحدة سوى الشخص الواحد المكدر بالحبس الانفرادي أو ثلاثة أشخاص فأكثر للمساجين غير المكدرين بما يمنع نهائياً إغلاق أية زنزانة على شخصين اثنين فقط، ولما كانت بقية زنازين سجن "الاستئناف" مكدسة بالمساجين ولا يوجد سجين مكدر تكديراً انفرادياً غيري، فقد دفعت إدارة السجن بالرجلين إلى زنزانتي لحين استكمال إجراءات تنفيذ حكم الإعدام فيهما مما استدعى إنهاء عقوبتي التكديرية بالحبس الانفرادي، وعقب التحية سألني الرجلان عن أية وسيلة للكتابة فمنحتُهما أقراص فحم الكربون المضادة لانتفاخ المعدة ليكتبا بها ما يريدانه على جدران الزنزانة، فكتب الرجلان جزءاً من الآية رقم 19 في سورة "الجاثية" بالقرآن الكريم نصه: "وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين"، وهما يشرحان لي سبب اختيار ذلك الجزء تحديداً لتدوينه قبل ملاقاة ربهما بقولهما إن شياطين أمريكا وحلف الأطلسي لا يهمهم إلا هزيمة أعدائهم التقليديين شياطين روسيا وحلف وارسو، وهم في ذلك يحظون بموالاة أتباعهم الحكام الظالمين لمصر وباكستان ودول الخليج العربي كما يواليهم أيضاً قادة مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، الذين استخدمهم الفريق الأول من الشياطين لينجحوا بمناوراتهم السياسية الماكرة في تعبئة الإسلاميين الجهاديين والدفع بهم نحو الموت على الأراضي الأفغانية، ضمن صراعات بين شياطين الغرب والشرق ليس للمسلمين فيها ناقة ولا بعير، دون أن يفوتهما اتهام الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي ورئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة الإخوان، بالتقاط أمهر المصريين المؤهلين للقتال وإعادتهم سراً من معسكرات الجهاد الأفغاني إلى الأراضي المصرية عبر دولة "السودان" لتنفيذ بعض العمليات الجهادية الاستشهادية الداخلية، والتي تتنصل جماعته منها لاحقاً غير عابئة بمصائر منفذيها التابعين أصلاً لمجموعات إسلامية أخرى، بل وتواصل الجماعة تنسيقها السياسي مع قادة المؤسسات الرسمية السيادية التي كانت قد قامت لتوها بتحريض الاستشهاديين على اغتيالهم، وبينما كان "عشماوي" يسحب الرجلين معاً إلى غرفة تنفيذ الإعدام بعد تكبيلهما قالا لي إن المناورات الإخوانية هي "تُقية" ماكرة غير مبررة تضعهم في خانة المنافقين الموصوفين بما هو أسوأ من أوصاف الشياطين والظالمين في القرآن الكريم، الذي يدعو بوضوح إلى تحاشيهم وعدم اتخاذهم أولياء أو أنصار كما يدعو أيضاً إلى لعنتهم بل ومقاتلتهم لو اقتضى الأمر باعتبارهم العدو الأقرب وبالتالي الأول للإسلام والمسلمين!!. (8) تسابق "الضباط الأحرار" منذ النشأة الأولى لجمهورية الخوف عام 1952 في إنشاء كوابيسهم الخاصة المسماة بأجهزة الأمن السياسي، ليتولى "جمال عبدالناصر" شخصياً رئاسة جميع تلك الكوابيس بشكل سري يكفل له التنسيق الفوري بينها، حتى صدر بيان 30 مارس 1968 وأعقبه دستور 1971 بما تضمناه من الإعلان عن وجود مجلس الدفاع الوطني برئاسة رئيس الجمهورية أو نائبه وعضوية قادة أجهزة الأمن السياسي بتمثيل عددي لكل جهاز حسب أهميته النسبية، حيث تصدرته الاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة تليهما مباحث أمن الدولة والحرس الجمهوري ثم الرقابة الإدارية والتحريات العسكرية بالإضافة إلى الاستعلامات والمحاسبات والأموال العامة والأمن العام، وجاءت في مؤخرته وزارات الحكم المحلي والخارجية والصحة وجهاز المدعي العام الاشتراكي الذي تم حله وتوزيع اختصاصاته على بقية أعضاء مجلس الدفاع الوطني في تسعينيات القرن العشرين، عندما اعترض على موقعه أسفل سلم الأهمية النسبية بالمجلس محاولاً الصعود لأعلى من جانب واحد، ونظراً لاستمرار التنسيق الفوري بين مختلف كوابيس جمهورية الخوف تحت الإشراف المباشر لنائب رئيس الجمهورية "حسني مبارك" منذ إخماد انتفاضة يناير 1977 الشعبية، فقد كانت تلك الكوابيس جميعها تتابع أولاً بأول كافة التفصيلات المتعلقة بنشاطي السياسي في صفوف الحركة الشيوعية وحركة مقاومة "إسرائيل"، ابتداءً بمشاركتي مع أقراني في انتفاضة يناير 1977 التي سحقتها دبابات الجيش بعد أن خذلها الليبراليون وهاجمها الإخوان المسلمون وبقية الإسلاميين، مروراً بإفلاتي عدة مرات من محاولات اعتقال مباحث أمن الدولة لي خلال الأيام الأخيرة لحكم "السادات" وهو ما عاقبتني عليه لاحقاً بإيداعي داخل زنزانة انفرادية في السجن المخصص لتنفيذ أحكام الإعدام، وانتهاءً بامتناع نيابة ومحكمة أمن الدولة عن إصدار أي قرار تجاه الاتهامات التي وجهتها لي مباحث أمن الدولة، وهو في حد ذاته إجراء أمني ماكر بتعليق الاتهامات لإبقاء السيف على رقبتي حتى اليوم، مما أوقعني تحت طائلة خريطة عقابية موسعة تضمنت تنويعات متعددة من العقوبات، كان أبرزها هو قرار إنهاء خدمتي العسكرية الإلزامية بمجرد بدايتها بعد تكرار ترحيلها لعدة دفعات متتالية رغم حرصي على تأديتها كواجب وطني في مواجهة العدو الإسرائيلي، مع تدوين قرار "إنهاء الخدمة لدواعي الأمن السياسي" بالبنط العريض على صدر أوراق معاملتي العسكرية، ليظل الاستفهام حائراً حول الأبعاد الحقيقية لحرمان أي مواطن مصري من تأدية واجبه الوطني في مقاومة إسرائيل بحجة أنه قد سبق له ممارسة حقه الوطني في مقاومة إسرائيل، وبمضي الزمن اتضح أن قرار إنهاء الخدمة العسكرية بدون تأديتها أو الإعفاء القانوني منها هو العقاب الانتقامي الأشد قسوة لمجلس الدفاع الوطني ضد بعض المواطنين الموصوفين بأنهم "أعداء شديدي الخطورة على الأمن السياسي لنظام الحكم"، لكونه عقاب متعدد الشفرات وطويل المفعول فهو ليس فقط بمثابة عقاب مباشر يحرم الخاضعين له من المهارات القتالية فيبقيهم الأضعف نسبياً عند أي مواجهة عنيفة محتملة، ويمنع الخاضعين له من الاتصال بالعسكريين المحترفين كيلا يؤثروا على أفكارهم السياسية فيجتذبوهم لصفهم، ولكنه أيضاً بمثابة عقاب مستديم بالعزل السياسي يحاصر الخاضعين له على أرض الواقع فيحول دون تأديتهم لأدوارهم الطبيعية حتى نهاية أعمارهم في مختلف دوائر الحياة العامة والخاصة، ذلك أن كل تحركات المواطنين المصريين على كافة أصعدة الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية منذ عام 1952 تتطلب تقديم أوراق المعاملة العسكرية، وبالتالي فإن تدوين قرار إنهاء الخدمة العسكرية لدواعي الأمن السياسي على صدر تلك الأوراق كفيل بتجميع العديد من الحواجز المانعة للترشيح في المجالس النيابية والمحلية والمعرقلة لممارسة الأنشطة النقابية والاجتماعية، والمعطلة لحق العمل بما يستلزمه من إجراءات تشمل فيما تشمله استخراج مسوغات العمل في أية وظيفة رسمية أو استخراج البطاقة الضريبية الخاصة بالعمل الحر أو استخراج جواز السفر اللازم للعمل خارج البلاد، وفي حين كان الشباب من توابع الأجهزة الأمنية يحصلون على شهادات قانونية سليمة صادرة من القوات المسلحة بتأديتهم للخدمة العسكرية عن طريق وحدة التوصيل إلى منازلهم دون أن يغادروها أصلاً، الأمر الذي كشفه رئيس أركان الجيش المصري الفريق "سعدالدين الشاذلي" لاحقاً في كتابه الشهير "مذكرات حرب أكتوبر" ضارباً المثل بوزير الخارجية السابق "نبيل فهمي" ابن وزير الخارجية الأسبق "إسماعيل فهمي"، بينما كان شباب "الإخوان المسلمين" والسلفيين يتم تجنيدهم بشكل طبيعي داخل صفوف القوات المسلحة المصرية ليستكملوا بعد ذلك أدوارهم الطبيعية في الحياة العامة والخاصة دون عزل، فإن العقوبة المبتكرة بالعزل السياسي عبر إنهاء الخدمة العسكرية على النحو العقابي المذكور قد أصابت معظم الجهاديين وبعض الشيوعيين مثلي أنا، لذلك فإن القرار "الشجاع" بتجاهل عقوبة عزلي قد منح صاحبه "صفوت الشريف" أفضلية تفاوضية مطلقة في مواجهتي حيث لم يعد بمقدوري مجادلته فيما اختاره لي من مواقع وتخصصات مهنية داخل وزارة الإعلام التي كان يرأسها في حينه، إلى جانب عمله كأمين عام مساعد للحزب الحاكم وعضويته بمجلس الدفاع الوطني بعد أن كان رئيساً لقطاع "السيطرة السياسية" في المخابرات العامة، وقبل ذلك كان قد انخرط خلال صباه بشعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة "الإخوان المسلمين"، وهكذا ألحقني "صفوت الشريف" بقطاع الإعلام الخارجي في الهيئة العامة للاستعلامات وقطاع الإذاعات المصرية الموجهة إلى الخارج باتحاد الإذاعة والتليفزيون، على اعتبار أنهما أكثر القطاعات اقتراباً من تخصصاتي السابقة في ملفات الإعلام والعلاقات الخارجية وحركات الإسلام السياسي، لاسيما بعد نجاحي بتفوق ملحوظ في اختبارات التعيين هنا وهناك!!. (9) رغم حداثة عهدي بالعمل الإعلامي كوظيفة احترافية رسمية فقد كان ملف الوجود السوفيتي في "أفغانستان" أحد أهم واجباتي المهنية بالمشاركة مع بعض الإعلاميين المخضرمين، ذوي الولاء السياسي الموزع بين أربعة من شركاء التحالف الدولي المعادي للشيوعية، وهم الإدارة الأمريكية ودول مجلس تعاون الخليج العربي والأجهزة الرسمية السيادية المصرية ومكتب إرشاد جماعة "الإخوان المسلمين"، بما يخالف موقفي الشخصي المتعاطف مع حق الشعب الأفغاني كغيره من شعوب العالم في اختيار نظامه الداخلي وأصدقائه الخارجيين، واستمرت التطورات الميدانية تسير في اتجاه واحد يكاد يكون مكشوفاً بوضوح أمامنا نحن الإعلاميين المتابعين للملف الأفغاني، فمكتب إرشاد الجماعة يقوم بتعبئة وتحريض الإسلاميين من مواطني دول التحالف للدفع بهم نحو محاربة الوجود السوفيتي هناك، بعد إمدادهم بالأسلحة الواردة من المخازن الأمريكية والأطلسية والمشتراة بالأموال الخليجية، عبر سماسرة الأجهزة السيادية المصرية الذين يقتطعون لأنفسهم بعض العمولات، بهدف مباشر معلن هو تحرير مسلمي "أفغانستان" من حكم الكفار وهدف تكتيكي معلن هو إخراج القوات السوفيتية من الأراضي الأفغانية، مع إخفاء الهدف الاستراتيجي الحقيقي للتحالف والمتمثل في القضاء على الاتحاد السوفيتي وحلف "وارسو" والمنظومة الاشتراكية العالمية برمتها، حتى يعاود منافسوهم الرأسماليون سيطرتهم الانفرادية على المناطق والشعوب ذات الاقتصاديات الأقل تطوراً تحت شعار مخادع جديد كانت الإدارة الأمريكية تستعد لإطلاقه آنذاك واسمه "العولمة"، وفي عام 1989 نجح التحالف الدولي المعادي للشيوعية في إخراج القوات السوفيتية من الأراضي الأفغانية، فقاد الأصدقاء القدامى والجدد للإخوان المسلمين داخل التحالف حملة عالمية لمكافأتهم على دورهم في ذلك النجاح، بترحيب حذر من الإدارة الأمريكية التي كان الإخوان قد كسبوا ودها نسبياً بطمأنتها إلى أن مشروعهم السياسي يعادي أعداءها الشيوعيين والجهاديين ويغض الطرف عن أصدقائها الإسرائيليين، كما أن مشروعهم الاقتصادي يتعاون مع استثمارات الشركات العالمية الاحتكارية لدرجة أنهم يمكنهم تأدية دور الشرطي الجديد لحماية تلك الاستثمارات ولضمان استمرار هيمنتها على الاقتصاديات المصرية والعربية والإسلامية، فكانت المكافأة هي السماح بانقلاب عسكري نفذه أحد أجنحة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في "السودان" عام 1989، وهي مكافأة لم تكن مرضية لمكتب إرشاد الجماعة الذي يشرف على التنظيم العالمي والساعي بجدية لتمكينه من حكم "مصر"، إدراكاً لحقيقة أنه لولا فتاواه الدينية وحملاته التعبوية والتحريضية لما كان عشرات ألوف الاستشهاديين الإسلاميين من شتى دول العالم قد نجحوا في طرد القوات السوفيتية خارج الأراضي الأفغانية، كما أن تلك المكافأة ذاتها لم تكن مرضية في الوقت نفسه للأجهزة الرسمية السيادية المصرية الساعية بجدية للتخلص من شراكتها الاضطرارية مع الإخوان بمجرد إغلاق ملف التحالف الدولي، فإذا بهم يستبقون الأحداث ويقفزون قفزة كبرى للأمام بسيطرتهم على الدولة السودانية التي تعتبرها الأجهزة المصرية حديقتها الخلفية، وحاول الإخوان المسلمون محاصرة الرئيس "حسني مبارك" والالتفاف عليه عبر اتصال سري بوزير الدفاع "عبدالحليم أبوغزالة" فسارع "مبارك" بإقالة "أبوغزالة" عام 1989 من كافة مواقعه السياسية بما فيها عضوية الفريق المصري داخل التحالف الدولي، هذا الفريق الذي تم لاحقاً توسيع نطاق عضويته بضم بعض القادة الجدد للمؤسسات الرسمية السيادية مثل "صفوت الشريف" و"زكريا عزمي" و"عمر سليمان" إلى جانب بعض قادة الإخوان الجدد مثل "حامد أبوالنصر" و"مصطفى مشهور" و"مأمون الهضيبي"، واستمر نظام الحكم المصري يكظم غيظه تجاه شريكه الإخواني الاضطراري حتى حقق التحالف الدولي هدفه النهائي الاستراتيجي عام 1992 بانهيار الاتحاد السوفيتي وحلف "وارسو" والمنظومة الاشتراكية العالمية برمتها، فانطلقت أجهزة الأمن السياسي تطارد الإخوان وغيرهم من الإسلاميين حيث استصدرت عشرات الأحكام العسكرية القاسية ضد أعضاء وكوادر وقيادات حركات الإسلام السياسي، بمن فيهم الشيخ الثري رئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة الإخوان الذي فر بمساعدة إحدى خلاياهم النائمة داخل تلك الأجهزة، لينزل ضيفاً على الحكومة الإسلامية السودانية التي منحته قصراً منيفاً مجاوراً لقصر "أسامة بن لادن" بالحي الدبلوماسي في "الخرطوم"، وعلى الجانب المقابل فقد انطلق الجهاديون المصريون بتغطية سلفية وإخوانية وبدعم حكومي سوداني يشنون العديد من عمليات العنف المسلح الانتقامية، التي شملت فيما شملته تفجير أماكن التجمعات العسكرية والشرطية والمدنية والسياحية واغتيال المفكرين والسياسيين والمسئولين المصريين بمن فيهم الرئيس "حسني مبارك" نفسه، الذي تعرض خلال زيارته للعاصمة الأثيوبية "أديس أبابا" عام 1995 لمحاولة اغتيال على أيدي بعض الإسلاميين المصريين العائدين من "أفغانستان" للإقامة الاضطرارية في "السودان" هرباً من الأحكام الصادرة ضدهم، ونجا "مبارك" بفضل المعلومات المسبقة المرفوعة إليه من وحدة الإعلام الخارجي المصري المقيمة في "السودان"، باعتبارها من الناحية المهنية هي المسئولة عن فحص وتدقيق المعلومات السياسية المتداولة هناك ذات الصلة بمصر والمصريين، وهي الوحدة التي كان "صفوت الشريف" قد اختارني لرئاستها عقب اكتمال مهام التحالف الدولي المعادي للشيوعية بانهيار الاتحاد السوفيتي وحلف "وارسو" والمنظومة الاشتراكية العالمية برمتها عام 1992!!.
(10) شهد عام 1989 انسحابي النهائي من الصفوف التنظيمية للحركة الشيوعية المصرية بعد أن منحني موقعي المهني فرصة رؤية الوجوه الحقيقية للرفاق الذين كانوا يقودون تلك الحركة آنذاك، وفي العام نفسه كان الإسلاميون السودانيون قد استولوا على حكم "الخرطوم" بانقلابهم العسكري الناجح فأُضيف الملف السوداني إلى واجباتي المهنية في مجال الإعلام الخارجي، حيث استضافت محطة إذاعة "وادي النيل" المصرية برنامجاً سياسياً يومياً من إعدادي وتقديمي إلى جانب برنامجي السياسي اليومي في محطة الإذاعة المصرية الموجهة إلى "أفغانستان"، وفي عام 1992 تحول التحالف الدولي المعادي للشيوعية بعد إكماله لمهامه إلى تحالف دولي معادي للعنف الإسلامي، تحت ذات الرئاسة الأمريكية وذات العضوية لدول حلف الأطلسي ومجلس تعاون الخليج العربي وباكستان، إلى جانب مصر التي أصبحت ممثلة في التحالف الجديد بفريقين متصارعين فيما بينهما وهما المؤسسات الرسمية السيادية ومكتب إرشاد جماعة "الإخوان المسلمين" حتى أن الرئاسة الأمريكية للتحالف كانت تجتمع بكل فريق منهما على حدا تحاشياً للصدام بينهما الأمر الذي وفر لقادة الإخوان فرصة كسب المزيد من الود الأمريكي، وأثناء تلك التطورات تم اختياري من قبل التحالف الدولي الجديد منسقاً عاماً لأحد مؤتمراتهم البحثية العلنية، وكان مخصصاً لتبادل وجهات النظر حول كيفية الحد من ظاهرة العنف السياسي الإسلامي على مدى عدة جلسات انعقدت بالتبادل بين "القاهرة" و"روما" طوال عام 1992، بمشاركة مندوبين عن مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية بمن فيهم "الإخوان المسلمين"، وفي العام نفسه أصدر "صفوت الشريف" بموافقة "حسني مبارك" قراره بتعييني كمستشار إعلامي مقيم في "السودان" وهي إحدى المهام الشاقة، حيث تطلبت التحامي الميداني المباشر مع كل المصادر البشرية المعبرة عن كافة مفردات خرائط الدولة والمجتمع هناك بما فيها الجاليات والتجمعات الأجنبية، ومن بينهم المصريين الموجودين بكثافة في "السودان" والذين يكرهون بطبيعتهم الموظفين الرسميين الممثلين للدولة المصرية مثلي، وكان التحامي بالجميع ضرورة مهنية حتى يتسنى حصولي على المعلومات السياسية ذات الصلة بمصر والمصريين هناك مع فحصها وتدقيقها لرفعها إلى جهات الاختصاص في الوقت المناسب، لاسيما وقد تزامنت تلك المهمة مع وقوع اشتباكات حدودية مباشرة بين الجيشين المصري والسوداني عام 1992 بسبب النقص المتبادل في معلومات الطرفين حول التطورات الميدانية داخل مثلث "حلايب" الحدودي، الذي كان آنذاك خاضعاً للإدارة السودانية تحت السيادة المصرية مما أسفر عن مصرع وإصابة العشرات من الأشقاء على الجانبين لأول مرة في التاريخ المعاصر، وكالعادة فقد ضمت البعثة الدبلوماسية المصرية بالسودان بعض خريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة من زملاء دراستي السابقين، والذين كان من بينهم زميلي الخجول بعد تعيينه كوزير مفوض تجاري مقيم في "الخرطوم" وبسؤاله عن خاله الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي ورئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية في جماعة "الإخوان المسلمين"، أجابني بأنه يخشى زيارته أو استقباله رغم سكنه على مسافة أمتار منه حتى لا يتضرر مستقبله المهني، فدفعتني اعتبارات وجوب "صلة الأرحام" إلى ترتيب لقائهما بمعرفتي على هامش ندوة رسمية مخصصة لمناقشة التبادل التجاري بين مصر والسودان في مجال الإنتاج الإعلامي، شكرني زميلي الدبلوماسي الخجول بحرارة على ما وصفه بشهامتي الإنسانية وبكى القيادي الإخواني من فرط فرحه وهو يحمد الله على ملامسته لابن أخته الذي رباه كأبيه لكونه يتيماً والخال عقيماً، وعاقبتني أجهزة الأمن السياسي المصرية على عدم رفضي لمشاركة القيادي الإخواني في الندوة الرسمية وذلك عبر توصيتها النافذة بحرماني من كل أنواع الإجازات طوال مدة خدمتي في "السودان" والتي بلغت خمسة أعوام، نظراً لجهل قادة تلك الأجهزة بحقيقة أن تنوع الاتصالات الميدانية بلا حدود هو وحده الكفيل بتوفير المعلومات السياسية ذات الأهمية مع منح الفرصة اللازمة لفحصها وتدقيقها قبل رفعها إلى جهات الاختصاص في الوقت المناسب، حتى أن لقاء "صلة الأرحام" المرفوض من جانب الأجهزة هو الذي قادني للتأكد من وجود قائد تنظيم القاعدة الجهادي الإسلامي "أسامة بن لادن" على الأراضي السودانية، لتوجيه أنشطة أتباعه المعادية للتحالف الدولي الجديد والتي تستهدف بالضرورة فيما تستهدفه المصالح الداخلية والخارجية لنظام الحكم المصري بما قد يمس بعض المواطنين المصريين الأبرياء، ولتكذيب معلوماتي في هذا الشأن أنكرت أجهزة الأمن السودانية وجود "بن لادن" أصلاً هناك الأمر الذي دفعني إلى افتعال جلسة مطولة معه فوق أحد الصنادل النيلية البطيئة، مع قيام كاميرا الفيديو التابعة لوحدة الإعلام الخارجي بتصويرنا معاً عن بعد مما تسبب في عدم وضوح الصوت، فاختفى حديثنا الودي الذي دار لمدة نصف ساعة حول الشيخ الثري القيادي في جماعة "الإخوان المسلمين" باعتباره الصديق المشترك لكلينا، لاسيما وأنه كان قد حكيَ لأسامة وهو يوصيه بي خيراً عن محاولاته السابقة لتجنيدي ومن ثم تصعيدي نحو شغل أحد المواقع على رأس تنظيم القاعدة، فسألني "بن لادن" مداعباً عما إذا كان بمقدوري تحقيق ما أسماه بالإنجازات التاريخية لتنظيم القاعدة لو كان قد تم تبديل موقعي معه أو مع نائبه وخليفته "أيمن الظواهري"!!. (11) كانت عقوبة احتجازي في "السودان" بدون إجازات لمدة خمسة أعوام هي الأخف بالمقارنة مع عقوبات خشنة أخرى عديدة طالتني بمجرد عودتي النهائية إلى "القاهرة" بعد اكتمال مهمتي الدبلوماسية عام 1997، وذلك على أيدي مجلس الدفاع الوطني الذي انتظر عودتي لتصفية حساباته القديمة معي، في مرحلة تاريخية كان عنوانها العريض هو التصفيات المتبادلة للحسابات على امتداد العالم بين أعضاء التحالف الدولي الذي أصبح معادياً للعنف الإسلامي بعد أن كان معادياً للشيوعية، لاسيما وقد أدرك المقاتلون الحقيقيون من الاستشهاديين الإسلاميين أخيراً حقيقة أن حلفاءهم السابقين خدعوهم بإساءة استغلالهم في الحروب الأفغانية، وكانت الإدارة الأمريكية هي البادئة بتصفية حساباتها المعلقة عبر تحريضها لصديقها الرئيس العراقي "صدام حسين" على غزو "الكويت" عام 1990، لترويع الجار السعودي ومن خلفه مجلس تعاون الخليج العربي والجار التركي ومن خلفه حلف الأطلسي مع ترويع "مصر" باعتبارها الأخ العربي الأكبر و"بريطانيا" باعتبارها دولة الاستعمار السابقة للعراق والكويت معاً، تمهيداً لانتزاع موافقة هؤلاء وأولئك على النهب الأمريكي المنظم والشره لثروات الخليج العربي تحت سواتر متتالية بدأت بحصار العراق عام 1991 وانتهت بالاحتلال المباشر لأراضيه الذي استمر طوال الفترة الممتدة بين عامي 2003 و2011، بينما كان الجهاديون في "الصومال" قد انقلبوا ضد شركائهم السياسيين السابقين ليسيطروا بمفردهم على حكم "مقديشيو" عام 1991، فاجتاحت القوات الأمريكية أراضيهم عام 1992 لينجحوا في طردها عام 1994 ويظل الكر والفر مستمراً بينهما هناك حتى عام 2011، أما الجهاديين الأفغان والذين كانوا قد سيطروا بمفردهم على حكم وأراضي دولتهم عام 1999، فقد شرعوا يذبحون كل شركائهم السياسيين السابقين بمن فيهم مندوبي الإدارات الأطلسية والخليجية والباكستانية والمصرية والإخوان المسلمين، ودفعتهم شهوة تصفية الحسابات إلى حد تفجيرهم لأبراج التجارة العالمية وغيرها من المباني الاستراتيجية الواقعة في الأراضي الأمريكية عام 2001، فردت الإدارة الأمريكية الصاع صاعين ضدهم بالتدمير الشامل لكل مقومات الدولة والمجتمع في "أفغانستان" تمهيداً لاحتلالها المباشر الذي استمر طوال الفترة الممتدة بين عامي 2001 و2011، وتعرض "السودان" لعشرات الضربات العسكرية والعمليات الأمنية الدموية الموجهة إلى حكامه الإسلاميين من قبل شركائهم السياسيين السابقين في التحالف الدولي، بهدف احتوائهم وإحكام الحصار عليهم منذ عام 1992 وصولاً إلى تقسيم "السودان" لدولتين متنازعتين في عام 2011، وكان لابد أن تحصل "مصر" على نصيبها من التصفيات الدموية المتبادلة للحسابات القديمة، لاسيما مع إنشاء برنامج الاستجواب السري المشترك للمخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات العامة المصرية عام 1995 في إطار التحالف الدولي الجديد المعادي للعنف الإسلامي، ففي عام 1997 ارتكب الجهاديون المصريون مذبحة راح ضحيتها عشرات السواح الأمريكيين والأطلسيين ذوي الطابع "الخاص" خلال رحلتهم "السرية" لمدينة "الأقصر" المصرية، وفي عام 1999 قاموا بمحو طائرة "رسمية" مصرية تقل عشرات الضباط المصريين ذوي الطابع "الخاص" خلال عودتهم من رحلتهم "السرية" إلى إحدى القواعد العسكرية الأمريكية، ليعزل الرئيس "حسني مبارك" كل قادة أجهزة الأمن السياسي المصرية الأعضاء في مجلس الدفاع الوطني باستثناء "عمر سليمان" أمين عام المجلس ورئيس المخابرات العامة الذي أعلن "مبارك" فيما بعد قرار تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية، ربما لأن عضويته بالفريق المصري المشارك في التحالف الدولي قد أقنعت "مبارك" بالإبقاء عليه إلى جانب أعضاء الفريق الآخرين من العسكريين مثل "صفوت الشريف" و"زكريا عزمي" و"حسين سالم"، والذين ظلوا مرتبطين بشخص "مبارك" حتى زوال جمهورية الخوف الأولى عام 2011 على عكس "عمر سليمان" الذي باعه لخصومه الانقلابيين، وربما لأن المعلومات المسبقة التي أفشلت محاولة اغتيال "مبارك" في "أديس أبابا" عام 1995 كانت مرفوعة إليه مني بواسطة "سليمان" و"الشريف" معاً حسب قواعد عملي المهني في السودان آنذاك، وذلك رغم وضوح المسئولية السياسية الكاملة لعمر سليمان عن حادثتي الأقصر والطائرة وتقصيره الأمني في منعهما، لاسيما وأنه كان قد تسلم مني قبل وقت كافي المعلومات الخاصة بهاتين الحادثتين واللتان تم تدبيرهما بمعرفة المكتب الفني السري لدعم حركات الإسلام السياسي المنبثق عن هيئة الصداقة الشعبية العالمية في رئاسة الجمهورية السودانية، أما أنا فكان نصيبي من تصفية الحسابات هو تهميشي المهني ومنعي من السفر خارج البلاد بقرار الحاكم العسكري العام رغم استصداري أحكاماً قضائية بحريتي في السفر، ورفض علاج عمودي الفقري المصاب بكسور مضاعفة إثر هجوم كان قد وقع ضدي لاغتيالي بهدف الحيلولة دون وصولي إلى بعض المعلومات الهامة خلال عملي في "السودان"، إلى جانب الاستخدام المكثف والمتوازي لكافة شرور السيطرة والتقييد تجاهي بالإضافة إلى عدة محاولات لإزالتي بالأساليب النظيفة والمستترة مع ثلاث محاولات فاشلة للتصفية الجسدية الصريحة والمكشوفة!!. (12) كان احتلال القوات العسكرية الأمريكية للأراضي العراقية في مارس 2003 عقب حوالي عام واحد من احتلالها للأراضي الأفغانية في ديسمبر 2001 وعشرة أعوام من احتلالها الفاشل للأراضي الصومالية، قد أثار اعتراض الشعب الأمريكي ضد السياسة الخارجية لإدارة الرئيس "جورج بوش الابن"، الذي حاول الدفاع عن نفسه بادعاء أنه أرسل قواته المسلحة لإسقاط أنظمة حكم شمولية دموية تقمع شعوبها بدرجة لا تستحق معها تعاطف الشعب الأمريكي، الرافض من جانبه أكاذيب "بوش" استناداً إلى استمرار صداقته الحميمة مع أنظمة حكم أخرى في العالم أكثر شمولية من نظامي "الملا عمر" الأفغاني و"صدام حسين" العراقي، بل وأكثر دموية من عصابات أمراء الحرب وميليشيات المحاكم الشرعية المتصارعة فيما بينها على حكم الصومال دون أن يحاول التدخل لوقفها عن قمع شعوبها، لاسيما أنظمة حكم "مصر" و"باكستان" ومنطقة الخليج العربي أبرز أعضاء التحالف الدولي المعادي للعنف الإسلامي والذي تقوده "واشنطون" منذ كان معادياً للشيوعية في خمسينيات القرن العشرين، مما كان لابد معه أن تسعى الإدارة الأمريكية لتحسين الصورة الذهنية حول الحكام الشموليين لتلك الأنظمة بإظهارهم وكأنهم أكثر ديمقراطية حتى يتقبل الشعب الأمريكي صداقتهم مع "بوش" وذلك من خلال قيام خبراء علم النفس الاجتماعي وشركات العلاقات العامة العالمية بتأليف وإخراج بعض السيناريوهات جيدة الحبكة لوضعها موضع التنفيذ هنا وهناك، والتي كان من بينها اختيار رئيس الجمهورية للدورة الرئاسية المصرية التالية بطريقة الانتخاب المباشر بين عدة مرشحين بدلاً مما كان معمولاً به منذ قيام جمهورية الخوف عام 1952 بالاستفتاء على المرشح الوحيد للحزب الحاكم، الأمر الذي نجحت الوساطة الأمريكية الضاغطة في إقناع الرئيس "حسني مبارك" بقبوله، ليجد نفسه مضطراً تحت ضغط الوساطة الأمريكية ذاتها إلى الاتفاق مع الإخوان المسلمين على صفقة مصالح سياسية متبادلة تلزمهم بتأييده المكثف في انتخابات رئاسة الجمهورية التالية لدورة 2005 ــ 2011 ضد منافسه الشاب القوي "أيمن نور"، مقابل سماحه بتمثيلهم المكثف داخل مجلس الشعب المصري في دورته التالية 2006 ـــ 2010، وكالعادة فقد شملت الصفقة بعض البنود الجانبية الأخرى لصالح الطرفين مثل التزام الإخوان بالصمت تجاه خطط "مبارك" من أجل توريث موقعه لنجله "جمال" عند حلول الدورة الرئاسية التي تليها (2011 ــ 2017)، مقابل إسقاط الأحكام العسكرية السابق صدورها ضد قادة وكوادر وأعضاء الجماعة، ليعود الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي ورئيس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية بالجماعة من العاصمة السودانية "الخرطوم" عبر صالة كبار الزوار في مطار "القاهرة"، ورغم حصول "مبارك" على مبتغاه بتجديد رئاسته للجمهورية للدورة الخامسة على التوالي عقب فوزه في انتخابات عام 2005 بنسبة تقارب التسعين في المائة من أصوات الناخبين، فقد أخل جزئياً بالتزاماته تجاه الإخوان فلم يسمح لهم سوى بنسبة عشرين في المائة فقط من عضوية برلمان 2006 بدلاً مما كان قد وعدهم به وهو نسبة الثلث التي تسمح لحائزيها بتعطيل ما يرفضونه من تشريعات وقوانين وقرارات تنفيذية، مع التزامه بإفساح المجال أمام القيادي الإخواني العائد من الأراضي الأمريكية "محمَّد مرسي" للترشح والنجاح في إحدى دوائر محافظة "الشرقية" تمهيداً لاعتلائه رئاسة كتلة نواب الإخوان وبالتالي رئاسة المعارضة البرلمانية، وقد أثار تراجع "مبارك" عن وعوده بتلبية كل المطالب الإخوانية غضب الإدارة الأمريكية بنفس قدر إثارته للغضب الشديد ضد شخصه من قبل الإخوان أنفسهم، بينما كان لم يزل يحتاج إلى دعمهم ولو بالصمت تجاه خططه الرامية لتوريث نجله "جمال"، بما اقتضته تلك الخطط من إجراءات استثنائية اتخذها "حسني مبارك" لإقصاء منافسي "جمال" الحقيقيين عن الترشح لرئاسة الجمهورية، بدأت باعتقال منافسه السابق "أيمن نور" على خلفيات جنائية ملفقة تمنعه من معاودة ترشيح نفسه ضد "جمال"، إلا أن أخطرها على الإطلاق هو ما أجراه "مبارك" من تعديلات دستورية عام 2007 بهدف إقصاء قيادات المؤسسات السيادية العميقة للدولة المصرية في الجيش والمخابرات العامة والرقابة الإدارية والسلك الدبلوماسي عن الترشح للرئاسة، ولما كان بعض قادة تلك المؤسسات من ذوي العلاقات المميزة مع الإدارة الأمريكية يتطلعون إلى شغل موقع رئاسة الجمهورية في المستقبل بتشجيع أمريكي، فإن تعديل "حسني مبارك" للدستور عام 2007 قد أثار غضب الإدارة الأمريكية بنفس قدر إثارته للغضب الشديد ضد شخصه من قبل هؤلاء القادة أنفسهم الذين انضموا إلى سابقيهم في الغضب وهم الإخوان المسلمين، وهكذا وجد الغاضبون القدامى والجدد أنفسهم مضطرين إلى أن يشكلوا فيما بينهم وتحت رعاية الإدارة الأمريكية جبهة سرية معادية ساعية لإسقاط مبارك الأب والابن معاً!!. (13) من الناحية التقنية كانت تلك الجبهة الاضطرارية التي تضم مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين وبعض قادة أهم المؤسسات السيادية العميقة والإدارة الأمريكية قادرة على خلع "مبارك" منذ بدايات عام 2008 بانقلاب عسكري صريح ومباشر، الأمر الذي كان سيصطدم حتماً مع كل اعتبارات القرن الواحد والعشرين الرافضة للسيناريو الانقلابي بصرف النظر عن عيوب المخلوعين، لاسيما لو كان في دولة إقليمية هامة كمصر وكان تحت رعاية الإدارة الأمريكية التي تتشدق "ليل نهار" بتصريحات مخادعة عن احترام الإرادة الشعبية، مما أجبر الجبهة الاضطرارية على اللجوء إلى مناورة التفافية ماكرة لتمرير انقلابها المستهدف، حيث قامت الجبهة بتمهيد الأرض وتهيئة مسرح العمليات مع الاستمرار في التعبئة العامة السرية المعادية ليس فقط لمبارك الأب والابن وأنصارهما، ولكن أيضاً لبعض السياسيين المصريين المعارضين بطبيعتهم لأنظمة الحكم الدينية أو العسكرية أو التابعة للإدارة الأمريكية مثلي أنا، وذلك انتظاراً لنقطة الصفر التي تتوفر عندها السواتر الشعبية المناسبة لقيام الجبهة بتنفيذ انقلاب غير مباشر، وفي العاشر من أغسطس 2010 أصدر الرئيس الأمريكي الجديد "باراك أوباما" أمراً رسمياً تنفيذياً سرياً لكافة الوحدات السياسية والاستخباراتية والعسكرية العاملة في الخارج والتابعة للإدارة الأمريكية، باليقظة والاستعداد لتطورات ميدانية هامة على وشك الحدوث في العالم العربي كما جاء في جريدة "الأهرام" المصرية يوم 3/4/2013، وهي التطورات التي حدثت بالفعل خلال الأسابيع الأخيرة لعام 2010 في "تونس" ثم انتقلت إلى "مصر" يوم 25 يناير 2011، باندلاع انتفاضة "ميدان التحرير" الشعبية البطولية المعبرة عن تنامي الغضب الجماهيري الحقيقي والمشروع ضد استشراء الاستبداد والفساد والتبعية للخارج في مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع، سواء كانت خاضعة لآل "مبارك" أو لخصومهم الانقلابيين، الذين استغلوا أحداث "ميدان التحرير" لتطوير مناورتهم الالتفافية الماكرة عبر خطوات محسوبة بدقة نقلاً عن لعبة "الشطرنج"، تلك اللعبة الذهنية التي سبق لأحد رموز المؤسسات السيادية العميقة وهو "محمَّد حسنين هيكل" أن كتب عنها مقاله المعنون "بصراحة" والمنشور في جريدة الأهرام يوم 14/7/1972، واصفاً إياها بأنها "السلف الصالح لكل علوم الحرب الحديثة والأب الشرعي لكافة الاستراتيجيات السياسية المعاصرة"، ورغم أن خطط آل "مبارك" ومساعي خصومهم كانت قد تقاطعت مبكراً وبوضوح لا لبس فيه مع أنشطتي المهنية وتحركاتي الإعلامية والسياسية إلا أنه قد أُسْقِطَ في يدي حيث رأيتُ الطرفين على باطل بالنظر إلى محاور الاستبداد والفساد والتبعية للخارج، فكان قراري العقلاني بالتزام الحياد الإيجابي بينهما تحاشياً للتورط في صراع الأشرار الذي قد يدفع بالوطن نحو مستقبل لا يقل ظلامه عن ظلمات الواقع المتواصل منذ عام 1952، ومع ذلك سَرَبَ قلمي المتمرد بعض التحذيرات التي أخذت طريقها إلى النشر ابتداءً بكتابي المعنون "انهيار الدولة المعاصرة في مصر" الصادر عن دار "العالم الثالث" المصرية عام 2006 بنصه على: "إن مصر تتجه نحو مسار الانقلاب المنظم المباغت الذي يمكن تنفيذه بواسطة بعض الأجنحة العسكرية الموالية لأحد الاتجاهين الديني أو القومي، وهو مسار سيقود مصر نحو سلسلة متتالية من الانقلابات المضادة التي تدفع بالبلاد إلى أتون الحرب الأهلية، كما تتجه مصر نحو مسار السحب التدريجي للبساط والذي لا يقدر عليه سوى الاتجاه الديني باعتباره الأكثر نفوذاً داخل أوساط النخب الموزعة على مؤسسات الدولة المختلفة بما فيها المؤسسات العسكرية والقمعية، وهو مسار يعني خروج مصر من تهلكة قائمة لتقع في تهلكة جديدة، كفانا الله وحده شر النوعين من التهلكة"، مروراً بمقالي المعنون "واحد اثنين الجيش المصري فين" والمنشور بجريدة "الحياة" البريطانية في مارس 2008 وانتهاءً بمقالي المعنون "المجد للجمعية السرية" والمنشور بجريدة "العربي" المصرية في أكتوبر 2010، ورغم أن تسريباتي المتعمدة كانت تنصح الفريقين المتصارعين بضرورة مراعاة قواعد اللعب النظيف لصالح الوطن أثناء صراعهما، فقد عرضتني للضرب غير النظيف من الفريقين معاً بشكل متداخل زمانياً ومكانياً ربما بسبب اقترابي أكثر من اللازم إلى درجة رؤية الوجوه الحقيقية لهؤلاء وأولئك، حتى إنني لم أستطع التمييز بين المصادر النيرانية المختلفة لما لحق بي من إصابات عديدة تحت الحزام، سواء قبل انتفاضة 25 يناير2011 أو بعد انقلاب 11 فبراير 2011 أو خلال الأيام الثمانية عشرة البينية التي شهدت اعتصامي في "ميدان التحرير" وسط مئات ألوف المصريين، الهاتفين ضد فريق "مبارك" رغم أن غضبهم الحقيقي كان ناتجاً عن ممارسات الفريقين معاً!!.
(14) حسب قواعد لعبة "الشطرنج" فقد قام الانقلابيون بتحريك أحجارهم على الرقعة لإزالة مصادر التهديد المحتملة عبر عدة نقلات مبرمجة سلفاً ومحسوبة بدقة، مما أسفر عن تكسير بعض الأحجار المنافسة وشل حركة البعض الآخر مع محاصرة الملك الخصم "حسني مبارك" لإجباره على التبييت في خانة وزيره "عمر سليمان" بحثاً عن الحماية، فإذا بوزيره الماكر الذي انفرد به قد تواطأ مع الانقلابيين لخلعه، وهكذا فإن "سليمان" القائم بأعمال رئيس الجمهورية والذي كان يدرك جيداً أن ما يحدث هو انقلاب لم يعترض على اعتلاء الجناح العسكري للانقلابيين رأس السلطة يوم 11 فبراير 2011، عبر إعلانهم عن انعقاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة في اليوم ذاته برئاسة وزير الدفاع بدلاً من رئاسته الشرعية الممثلة في شخص رئيس الجمهورية أو القائم بأعماله، بل زاد على ذلك بإعلانه في نفس اليوم قراراً مزدوجاً منسوباً لحسني مبارك بتخليه عن رئاسة الجمهورية وتكليفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أصبح تحت رئاسة وزير الدفاع بإدارة شئون البلاد، ليبدو الأمر كأن خلع "مبارك" قد تم نزولاً عند الإرادة الشعبية فقط، وفي النقلة الشطرنجية التالية قام الانقلابيون العسكريون يوم 30 يونيو 2012 بتسليم القيادي الإخواني "محمَّد مرسي" رئاسة الجمهورية ذاتها على مضض، عقب قيامهم بانتزاع أهم سلطاتها وصلاحياتها لأنفسهم دون مقاومة جدية من جانبه رغم فوزه المستحق في انتخاباتها، ليبدو الأمر كأن تمكين الإخوان الشكلي قد تم بدوره نزولاً عند الإرادة الشعبية فقط، في ظل دعم وتغطية الإدارة الأمريكية المؤيدة لسيناريو الانقلاب المستتر غير المباشر باعتباره قد رفع عنها الحرج أمام شعبها والرأي العام العالمي بعد فشل محاولاتها السابقة لتحسين صورة "حسني مبارك"، الذي كان في إطار سعيه لتوريث رئاسة الجمهورية المصرية إلى نجله "جمال"، قد حرم الأنصار القدامى لتلك الإدارة داخل المؤسسات السيادية العميقة عام 2007 من "جزرة" التطلع إلى شغل موقع رئاسة الجمهورية، بعد أن حرم أنصارها الجدد داخل مكتب إرشاد جماعة "الإخوان المسلمين" عام 2006 من "جزرة" الحصول على نسبة الثلث البرلماني المعطل، لاسيما وأن "واشنطون" كانت لم تزل تحتاج إلى مشاركة الإخوان والعسكريين معاً في أنشطة التحالف الدولي لمكافحة العنف الجهادي الإسلامي وبقايا الشيوعية، فكان جزاء "مبارك" هو حصوله عام 2011 على "عصا" الانقلاب الثلاثي الذي نجحت مناورة "ميدان التحرير" في تمريره وكأنه ثورة شعبية خالصة، رغم مروره فوق أجساد عشرات الألوف من جماهير المصريين الشهداء والمصابين والمفقودين والمضارين، الذين راحوا ضحية النقلات الخطرة المتبادلة بين مختلف أطراف تلك المناورة الشطرنجية التي لم يكن للشعب المصري فيها ناقة ولا بعير، ابتداءً من قمع نظام "مبارك" للموجة الاحتجاجية الأولى الممتدة خلال الفترة منذ 25 يناير 2011 إلى 11 فبراير 2011، مروراً بقمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة للموجة الاحتجاجية الثانية الممتدة خلال فترة حكمه فيما بين 11 فبراير 2011 و30 يونيو 2012، وانتهاءً بقمع الحكم الإخواني للموجة الاحتجاجية الثالثة البادئة في 30 يونيو 2012 والممتدة حتى 3 يوليو 2013، ويتصاعد العنف المتبادل بين عدة أطراف بمضي الزمن ليسقط المزيد من الضحايا سواء بسبب استمرار غضب جماهير المحتجين المصريين، وهم "الشرفاء" بحق الذين يصعب عليهم تصديق حقيقة أنهم كانوا مجرد بيادق شطرنجية تم التضحية بها لإعادة توزيع مربعات رقعة الشطرنج على أحجار آل مبارك والإخوان والعسكريين والأمريكيين، أو بسبب استمرار وجود فريق من البلطجية يضم حوالي نصف مليون مجرم ومسجل خطر، هم الأعضاء السابقين فيما كان يسمى كذباً بلجان "المواطنين الشرفاء" السرية التابعة للمخابرات العامة أثناء حكم "مبارك"، والذين لا يعلم أحد على وجه الدقة لمن أصبحت تبعيتهم اليوم رغم استمرار تحريكهم المنظم لشن عمليات عنف مخططة سلفاً بحيث تؤدي إلى تمزيق الوطن لعدة أجزاء سهلة الابتلاع حسب مشروع "برنارد لويس" التفكيكي الشيطاني السابق الإشارة إليه، ورغم تحديد بياناتهم الصحيحة على لسان "أبو العلا ماضي" رئيس حزب "الوسط" الإسلامي نقلاً عن حديث شخصي أفضى به إليه رئيس الجمهورية "محمَّد مرسي" عام 2013، بعد تكرار الإشارات المبهمة إليهم على مدى عامين كاملين باعتبارهم "الطرف الثالث" أو "اللهو الخفي" أو "النخانيخ" نسبة إلى أكثر نجومهم شهرة "المعلم صبري نخنوخ"، هؤلاء الذين لم تزل كوابيسهم جاثمة على أنفاسي أنا وغيري من المصريين المسالمين حتى اليوم!!. (15) لم تخدعني مناورة الشطرنج الانقلابية رغم مشاركتي على مدى ثمانية عشر يوماً متواصلاً في اعتصام "ميدان التحرير" ضد الاستبداد والفساد والتبعية للخارج، الأمر الذي دفعني لكشف تلك المناورة وهي في أوج ازدهارها بنفس قدر معارضتي لنظام "مبارك" وهو في أوج جبروته، ونظراً لبداية مكاشفتي المبكرة بمقالي المعنون "ربع ثورة" المنشور في فبراير 2011 بجريدتي "الأهالي" و"الوفد" المصريتين فقد عاقبني المسئولون الجدد مبكراً، بسحب رتبتي المهنية كمستشار إعلامي مع نقلي إلى ديوان رئاسة الجمهورية لشغل وظيفة تكرارية هي كبير إعلاميين، إلى جانب استمرارهم كسابقيهم في الامتناع عن علاج عمودي الفقري المكسور نتيجة لإصابة واجب وطني بل واستدراجي إلى عملية جراحية فاشلة زادت الطين بلة، مما اضطرني للإقامة داخل دار رعاية معاقي الإصابات الجسمانية والعجزة والمسنين الكائنة بضاحية "التجمع الخامس" في محافظة "القاهرة"، حيث زارني للترحيب بقدومي أكبر نزلاء الدار سناً والذي لم يكن سوى الشيخ الثري مالك شركة الإنتاج الإعلامي والقيادي الإخواني، بعد أن أقعدته الشيخوخة عن مواصلة مهامه التنظيمية على رأس شعبتي الإعلام والعلاقات الخارجية بالجماعة، فالتقاني باكياً بحرقة لأنه على وشك لقاء ربه وفي عنقه ذنوب المناورات الإخوانية القديمة والحديثة، قائلاً إن أطياف عشرات الألوف من الضحايا المصريين الذين احترقوا كوقود لنجاح مناورتي "الجهاد الأفغاني" و"ميدان التحرير" يزورونه أثناء نومه ليبصقوا في وجهه حتى جعلوه لا ينام، ورافضاً مغادرة غرفتي قبل حصوله على وعدي بمساعدته في كشف المستور لتصل هذه البصقات المشروعة إلى بقية مستحقيها من المناورين الآخرين، سواء كانوا قادة معسكر الانقلابيين القدامى الذي أدار جمهورية الخوف منذ عام 1952 حتى عام 2011 بمؤسساته العسكرية والمخابراتية وأجنحته السياسية ثلاثية المراحل الناصرية ثم الساداتية ثم المباركية، أو كانوا قادة المعسكر الإسلامي التقليدي بفروعه الصوفية والسلفية والجهادية أو كانوا قادة معسكر النخبة المدنية بفروعه الليبرالية والماركسية والقومية، وسواء كانوا قادة معسكر الانقلابيين المعاصرين بأجنحته الثلاثة المتحالفة اضطرارياً وهم الأمريكيون والعسكريون والإخوان المسلمون، الذين نجحت مناوراتهم الالتفافية أخيراً في تمكينهم لمدة عام واحد فقط من الاستحواذ على السلطة المصرية بعد تسعة عقود من مغازلتها، إلا أنه لم يتعد كونه استحواذاً ظاهرياً فقط حيث استمر التمكين الحقيقي لمفاصل الدولة والمجتمع في أيدي الوجوه الجديدة لنفس المؤسسات العسكرية والمخابراتية القديمة تحت غطاء جديد لنفس الإدارة الأمريكية التي كانت تغطي الدولة القديمة، رغم أن "أحمد أبو الغيط" آخر وزراء خارجية جمهورية الخوف قد وصف الإدارة الأمريكية في كتابه الشهير "شهادتي" نقلاً عن الرئيس السابق "حسني مبارك" الصديق الحميم لتلك الإدارة على مدى تجاوز الخمسة وثلاثين عاماً بأنها "من يتغطى بها عريان"، ولا عزاء لعشرات الألوف من الضحايا المصريين الذين كان القادة المذكورون قد نجحوا في المناورة بهم وعليهم، ليس فقط أثناء كفاحهم الديمقراطي ضد استبداد "جمال عبدالناصر" وكفاحهم الوطني ضد تبعية "أنور السادات" للخارج وكفاحهم الاجتماعي ضد استشراء الفساد في عهد "حسني مبارك"، ولكن أيضاً أثناء جهادهم الديني لإخراج القوات السوفيتية من "أفغانستان" وقبل ذلك كله أثناء مقاومتهم القومية ضد الاحتلال الإسرائيلي لأراضي "فلسطين"، بما سمح لإسرائيل أن تتوسع وتفرض احتلالها كأمر واقع على المزيد من الأراضي المصرية والعربية، ناهيك عن المناورات السياسية السامة التي أنجزها عملاء "الطابور الخامس" المحليين تنفيذاً لأوامر أسيادهم المقيمين في الخارج بإشعال الفتن بين المصريين، الذين وجدوا أنفسهم اليوم بعد كل تضحياتهم لإزاحة جمهورية الخوف الأولى يقفون على أعتاب جمهورية خوف جديدة، فأخطاء الماضي قابلة للتكرار في الحاضر والمستقبل طالما استمرت آفة تزوير التاريخ لدى مؤرخي السلطة المغرضين وآفة التناقض بين الأفكار النظرية وتطبيقاتها العملية لدى المؤرخين الانتهازيين!!. ******* حظائر السيطرة... (1) سارت جمهورية الخوف المصرية الأولى طوال عمرها الستيني الممتد بين عامي 1952 و2011 على قاعدة احتكار الأجهزة السيادية لمجال السلك الدبلوماسي الخارجي بما يشمله من وظائف ذات طابع فني متخصص، حيث كانت جميع المواقع الدبلوماسية التقليدية والفنية موزعة وفقاً لأهميتها بين قادة وكوادر وأعضاء تلك الأجهزة، مع استثناءات نادرة جداً لحالات خاصة من رموز الدولة والمجتمع المرغوب في مكافأتهم بسخاء أو إبعادهم بذكاء أو تصفيتهم بأيدي الغرباء، الأمر الذي كان يتم تحت الإشراف الشخصي المباشر لرئيس الجمهورية باعتباره القائد الأعلى للأجهزة السيادية كما حدث معي خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، أما بالنسبة للفنان التشكيلي الذي كان موظفاً في إحدى الوزارات الخدمية فإن تعيينه وكيلاً ثم مديراً لمنشأة دبلوماسية مصرية عريقة ذات طابع فني متخصص وموقع جغرافي متميز بعاصمة أوروبية هامة، لم يكن ضمن الاستثناءات المذكورة بل تم في إطار السياق العام لجدول الحصص النسبية المتفق عليه بين الأجهزة، وهكذا استمرت صفته الدبلوماسية بما يواكبها من حصانات على مدى عقد زمني كامل موزع بين سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، دون أن يتوقف عن التنفيذ الفوري الدقيق لكل ما تطلبه تلك الأجهزة من احتياجات حتى لو كانت لا تمت بأية صلة للشئون الفنية أو كانت غير مألوفة لدرجة الشذوذ، مثل ذلك الاحتياج المعلوماتي الذي دفعه نحو المشاركة ذات مرة في مسيرة مطلبية لأشباه الرجال من الأوروبيين ذوي الميول الجنسية المثلية، وقد تأكدت مهاراته في تنفيذ احتياجات الأجهزة السيادية بتهريبه الناجح لأحد قادة الفصائل الفلسطينية عقب اختطاف طائرته وإجبارها على الهبوط في قاعدة جوية عسكرية تابعة لحلف الأطلسي بجنوب "إيطاليا"، تمهيداً لتسليمه إلى سلطات الولايات المتحدة الأمريكية الراغبة في استجوابه بشأن مسئوليته عن عملية اختطاف الباخرة السياحية الأمريكية "أكيلي لاورو" أثناء رحلتها الترفيهية في المياه الإقليمية المصرية بين مينائي "الإسكندرية" و"بورسعيد" رغم إنهاء القيادي الفلسطيني لعملية اختطاف الباخرة مقابل تعهد الأجهزة المصرية التي كانت تفاوضه بعدم ملاحقته سواء من قبلها هي أو غيرها، وعاد الفنان التشكيلي إلى "القاهرة" بمجرد نجاحه في حفظ ماء وجه تلك الأجهزة أمام نظيراتها الإقليمية والعالمية بتمكينه لتعهداتها السابقة حول عدم ملاحقة القيادي الفلسطيني من التنفيذ والسريان على أرض الواقع العملي، ليصبح بعد عودته وزيراً ربما كمكافأة على نجاح مهمته وربما لحمايته من الانتقام الأمريكي المحتمل، وربما لأن تنفيذه العلني لتلك المهمة غير الفنية قد كشف حقيقة علاقته العضوية بالأجهزة السيادية مما أصبح يعيقه عن الاستمرار في تلبية احتياجاتها المستقبلية أو ربما للأسباب الثلاثة معاً، واستمر الفنان التشكيلي وزيراً حوالي ربع قرن من الزمان دون أن تتوقف علاقاته مع الأجهزة رغم قيامها بشن حملات تشهير شخصي ضده على خلفية عزوفه المشروع عن الزواج من إحدى سيدات السيطرة التابعات لتلك الأجهزة، في إطار ما هو معروف عن استخدامها لكافة الوسائل القذرة بهدف إحكام سيطرتها على توابعها من الرجال، وقد خلقت حملات التشهير المكثفة ضد الفنان التشكيلي الذي أصبح وزيراً حالة من الاستخفاف بتصريحاته رغم قيمتها المعلوماتية شديدة الأهمية، ليس فقط لكونه رجل دولة بارز ولكن أيضاً بالنظر إلى علاقاته المتواصلة والمتسعة رأسياً وأفقياً مع الأجهزة السيادية، والتي أسهمت في إنقاذه مما تعرض له زملاؤه الوزراء من ملاحقات عقب انهيار جمهورية الخوف الأولى عام 2011، إلا أن أهم تصريحاته التي تم الاستخفاف بها في حينها كانت دعوته الصريحة الموجهة إلى مشاهير الأوساط الثقافية والإعلامية والرياضية المصرية للبقاء داخل حظائر الدولة، كاشفاً بذلك عن وجود شبكة سرية أخطبوطية ظلت الأجهزة وما زالت حتى اليوم حريصة على إخفائها، لاسيما وأنه هو شخصياً كان قد تولى الإشراف على تلك الشبكة السرية لفترة طويلة من التاريخ المصري المعاصر!!. (2) تضم الأوطان ثلاثة مكونات هي الأرض والمجتمع والدولة ويضم كل واحد من تلك المكونات الثلاثة بدوره بعض العناصر الداخلية، حيث تحتوي المجتمعات على عدة وحدات اجتماعية يتسم بعضها بالثبات والديمومة سواء كانت تقليدية كالطوائف والقبائل والعشائر أو كانت حديثة كالنقابات والأندية والجمعيات الخيرية، في حين يتسم بعضها الآخر بالمرونة والمرحلية كالرأي العام الذي يتكون مع موضوع بعينه لدعمه أو ضد موضوع بعينه لتغييره، بينما تحتوي الدول على عدة سلطات سياسية يتسم بعضها بالثبات والديمومة سواء كانت تشريعية أو قضائية أو تنفيذية في حين يتسم بعضها الآخر بالمرونة والمرحلية كالأحزاب الحاكمة والمعارضة وجماعات الضغط السياسي مع أو ضد موضوع بعينه، وعلى عكس الطابع المتحرك لكافة عناصر المجتمع والدولة المشار إليها فإن الأرض تحتوي على عدة عناصر ثابتة كالموقع الجغرافي ومصادر المياه والتضاريس والسواحل والمناخ إلى جانب الثروات المعدنية والطبيعية بما فيها من حيوانات برية ومعالم أثرية، ومع تعاقب العصور والأزمنة التي حملت تحديات تاريخية عديدة واجهت الأوطان على شكل أو آخر، فقد كان من المحتم أن تفرز الوحدات الاجتماعية أفضل الموهوبين بين أعضائها للقيام بتوجيه وحداتهم نحو كيفية مواجهة التحديات فظهرت بذلك النخبة القائدة للمجتمع، كما كان من المحتم أيضاً أن احتياج السلطات السياسية لتنسيق الأدوار فيما بينها من أجل مواجهة تلك التحديات يؤدي إلى ظهور الأجهزة السيادية القائدة للدولة، ورغم الحالة الاستثنائية لتضامن الدولة والمجتمع عند مواجهة الأطماع الخارجية في ابتلاع الوطن أو تهديد الأرض أو الاستيلاء على بعض عناصرها، فإن العلاقة بين الدولة والمجتمع ظلت محكومة بالتنافس الذي يصل أحياناً في عدد من الأوطان إلى حد الصراع العدائي، لاسيما مع حرص الوحدات الاجتماعية على مراقبة أداء السلطات السياسية لوظائفها باعتبار أن الدولة كانت قد نشأت في الأصل تعبيراً عن التوازن النسبي للنفوذ والمصالح بين مختلف وحدات المجتمع الاجتماعية، في مقابل انزعاج السلطات السياسية من أي مراقبة تتعلق بأدائها لوظائفها على اعتبار أن المجتمع كان قد سبق له التخلي بشكل طوعي ونهائي عن تلك الوظائف للدولة كثمن لما تمنحه إياه من حماية، ولاسيما مع حرص الوحدات الاجتماعية على استمرار صلاتها المجتمعية المباشرة وأنشطتها الخدمية التفاعلية باعتبارها ذات وجود تنظيمي مستمر ومستقل، في مقابل حرص السلطات السياسية على احتكار الصلات المجتمعية والنشاط الخدمي والوجود التنظيمي باعتبارها تندرج ضمن الوظائف التي سبق أن تخلى عنها المجتمع للدولة، وتنوب نخبة الموهوبين عن المجتمع بينما تنوب الأجهزة السيادية عن الدولة في ممارسة ذلك الصراع بينهما وإدارة تفاصيله اليومية على أرض الوطن الواحد وفقاً لما اكتسبه الطرفان من مهارات وفنون قتالية بتعاقب العصور والأزمنة، ونظراً لعراقة الدولة المصرية صاحبة الريادة التاريخية في تجربة الاستبداد الفرعوني فقد اكتسبت أجهزتها السيادية مبكراً العديد من المهارات والفنون القتالية المتنوعة، سواء لاحتواء الموهوبين من أعضاء النخبة المجتمعية حتى يتحولوا من المنافسة إلى التبعية والخضوع أو لتهميشهم باستخدام وسائل احترافية مستترة، أو للقضاء النهائي على وجودهم عبر إنشاء شبكة حظائر السيطرة وإحلالها محل النخبة المجتمعية، بتمكين مشاهير شبكة الحظائر السابق فبركتهم في مصانع الأجهزة السيادية والدفع بهم ليكونوا بدلاء الموهوبين الحقيقيين أعضاء النخبة المجتمعية السابق احتوائهم أو تهميشهم، عملاً بنظرية احتلال الفراغ بمجرد تفريغ الموقع من شاغليه ذوي الاستحقاق الأصلي حتى لا يعودوا لشغله مجدداً، ومع استمرار التضييق على موهوبي النخبة المجتمعية المصرية لم يعد أمامهم سوى تدوين كوابيسهم كوسيلة وحيدة لتأكيد استمرارهم على قيد الحياة رغم قهر الأجهزة السيادية، تاركين بذلك للمستقبل الإنساني إرثاً نادراً من ثقافة الأنين التي يسميها عوام المصريين "العديد"!!. (3) من الناحية اللغوية فإن لكلمة "حظيرة" مدلول سيادي واضح يتمثل في حظر خروج أفرادها منها وحظر دخول غيرهم إليها سوى بموافقة ولي الأمر، مما يمنحه السيادة التامة على هؤلاء القابعين داخل الحظيرة وأولئك الراغبين في دخولها إلى جانب سيادته على الفريق الثالث الممارس للأنشطة دون دخول حظائرها بموجب ما يمنحه ولي الأمر للحظائر من احتكارات غير مستحقة، وقد خصصت جمهورية الخوف الأولى حظائرها لمشاهير مصر في مختلف المجالات ذات الانتشار الجماهيري لاسيما الرياضية والثقافية والإعلامية، ليس فقط امتداداً لتجارب الاستبداد الفرعوني القديم ولكن أيضاً نقلاً عن تجارب بعض أنظمة الحكم الفاشية مثل الستالينية السوفيتية والنازية الألمانية والمكارثية الأمريكية، مع الاستعانة بالقواعد "العلمية" لتفكيك الجماعات البشرية وإعادة تشكيلها على نحو مغاير والمستمدة من علم النفس الاجتماعي، لاسيما تلك القاعدة التي تدور حول كيفية السيطرة الشمولية على مشاهير الأوطان تمهيداً للسيطرة من خلالهم على جماهير الشعوب المتعلقة بهم، رغم صعوبة ذلك في ظل النزوع الاستقلالي لهؤلاء المشاهير والذي ينمو طردياً مع نمو شهرتهم بدوافع غريزية إنسانية، حيث توفد الأجهزة السيادية بعض كوادرها الأساسية السرية جيدة التدريب لانتحال صفات المشاهير بهدف تأدية ما يشبه أدوارهم داخل مجالات الانتشار الجماهيري المختلفة، تحت عمليات تلميع مكثفة تكسبهم النجومية الزائفة التي يحتاجونها للاقتراب من المشاهير الذين تهدف تلك الأجهزة إلى اجتذابهم ثم احتوائهم تمهيداً للسيطرة عليهم وبالتالي على جماهيرهم من خلالهم، وبمهارة احترافية فائقة تقوم كوادر الأجهزة جيدة التدريب بقيادة علاقاتها مع المشاهير المستهدفين، لتدفع بهم نحو تشكيل ما يبدو كأنه مجرد جماعات فئوية مختصة بتبادل المصالح في كل مجال على حدا أو بالضغط الناعم لتمرير تلك المصالح في الدولة والمجتمع، وتتطور جماعات المصالح الضاغطة لتصبح حظائر بتوفير الشروط التنظيمية اللازمة لذلك مثل استمرار اتصالها السري بالأجهزة إلى جانب قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي داخل مجال تخصصها بحيث تستطيع إغلاق أبوابها والاستغناء عن الآخرين عند المواجهات طويلة الأمد، بالإضافة إلى ضرورة التنوع المحسوب للعضوية التي يجب أن تضم أبناء مجال التخصص وآخرين غيرهم منتقين، على رأسهم الأثرياء الراغبين في غسل أموالهم والمهووسين الراغبين في الالتصاق بالمشاهير وسيدات الترفيه الراغبات في تغطية أنشطتهن الجنسية، وعلى هذا الأساس فقد ضمت حظائر الرياضة بعض اللاعبين والمدربين وأطباء العلاج الطبيعي وأصحاب ورؤساء النوادي وقادة روابط المشجعين وسماسرة الملاعب مع النقاد والصحفيين والإعلاميين المتخصصين في الرياضة، إلى جانب كبار موظفي الهيئات والمؤسسات الحكومية والأهلية والخاصة المهتمة بالرياضة وبعض الأثرياء ومحبي الشهرة وسيدات الترفيه، بينما ضمت حظائر الأدب بعض كاتبي الرواية والقصة والشعر والناشرين وأصحاب المطابع ومنافذ بيع الكتب مع النقاد والصحفيين والإعلاميين المتخصصين في الأدب، إلى جانب كبار موظفي الهيئات والمؤسسات الحكومية والأهلية والخاصة المهتمة بالأدب وبعض الأثرياء ومحبي الشهرة وسيدات الترفيه، وبنفس النهج التنظيمي تنوعت عضوية حظائر السيطرة الأخرى في مختلف مجالات الشهرة التي شملت أيضاً السينما والموسيقى والغناء والإعلام والدعاية والإعلانات والعلاقات العامة والفن التشكيلي والتنمية البشرية وحقوق المجتمع المدني وما شابه، لتنشئ تلك الحظائر فيما بينها شبكة سرية أخطبوطية على شكل تنظيم هرمي يمارس أنشطته اليومية تحت الإشراف الحصري المباشر لأحد كبار المسئولين السياسيين في الدولة، رغم اختلاف المستوى التنظيمي للمشرف على حظائر السيطرة بتعاقب مراحل جمهورية الخوف الأولى مع التغييرات التي طرأت على أوضاعها صعوداً وهبوطاً، من رؤساء الاتحاد العام للجمعيات الأهلية حتى نواب رئيس الجمهورية مروراً بوزراء المجالات التي تحتضن المشاهير كالثقافة والإعلام والشباب والرياضة!!. (4) حصل مشاهير الحظائر من كافة مؤسسات الدولة والمجتمع بواسطة الأجهزة السيادية الراعية لهم على كل مالا يستحقونه من معطيات ضرورية لنجاحهم في مهام السيطرة، سواء كان ذلك قد استدعى توفير مستلزمات الإنتاج التي يحتاجونها أو ترويج منتجاتهم الكسيحة وإعادة تدويرها وتوزيعها لفرضها على جماهير المتلقين بالأوامر المباشرة، أو منحهم بدون وجه حق الجوائز الرسمية وغير الرسمية المخصصة لمجالاتهم والشهادات الأكاديمية المفبركة التي يتم استيرادها من الخارج بدرجات الدكتوراه في تخصصاتهم، أو تكرار استضافتهم في المؤتمرات والمهرجانات والندوات المحلية والإقليمية والعالمية وفي وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة والمرئية والإلكترونية باعتبارهم نجوم يجب الاحتفاء بهم، أو تعيينهم على رأس المؤسسات الحكومية والأهلية والخاصة ذات الصلة، أو إمدادهم بالتراخيص والامتيازات الاستثنائية اللازمة لتأسيس مشاريعهم التجارية الربحية أو دعمهم وتغطيتهم فيما يواجهونه من مشكلات قضائية وإدارية وضريبية، مع حصولهم على الاحتكار الحصري للشهرة الزائفة في مجالاتهم عبر الإجراءات التعسفية التي تتخذها تلك الأجهزة لصالحهم بهدف مساعدتهم على مطاردة المواهب الحقيقية المنافسة لهم، وصولاً إلى إقصاء الموهوبين خارج المجال قبل نجاحهم في إقناع جماهير المتلقين بالالتفاف حولهم نزولاً عند قاعدة البقاء للأفضل، في حين حصلت الأجهزة من مشاهير الحظائر على مقابل سخي جداً لخدماتها طوال عمر جمهورية الخوف الأولى الممتد ستين عاماً، ليس فقط بتغطية خطاياها وتمرير احتياجاتها داخل المحتويات الكسيحة لمنتجات أولئك المشاهير ذات الرواج الزائف في مختلف أوساط المجتمع المصري، ولكن أيضاً باستغلالها لهرم الحظائر المقلوب والسابق تشكيله من أعلى إلى أسفل بهدف احتلال الفراغات القاعدية في أوساط النخبة الموهوبة فعلاً، وصولاً لمنع ظهور تشكيلات نخبوية طبيعية تبدأ من أسفل إلى أعلى فتعبر عن الأفكار والآراء والاحتياجات الحقيقية لقواعد المجتمع الجماهيرية تجاه الدولة، مع استمرار الأجهزة السيادية في تحريك حظائر السيطرة بشكل مبرمج وموجه نحو دعم خطط تلك الأجهزة لتضليل المجموعات النخبوية وتشتيتها ونحو دعم مجهودات الأجهزة الرامية لغسيل أمخاخ العوام وتغييب وعيهم، إلى جانب استخدام الأجهزة السيادية للحظائر في محاصرة خصوم تلك الأجهزة من الموهوبين ذوي البأس والمهارة عبر التحرش بهم والتشهير بمنتجاتهم رفيعة المستوى لتشويهها وتحقيرها، بهدف وقف خطواتهم التصاعدية المرجحة أو على الأقل عرقلتها لإبطاء صعودهم وصولاً إلى تثبيتهم عند المستويات الأدنى من الشهرة والالتفاف الجماهيري لضمان بقائهم تحت مرمى النيران العادية للأجهزة، بالإضافة إلى استغلال الشهرة الزائفة لعضوات الحظائر من أجل تسهيل قيامهن بالعمليات القذرة المتمثلة في اختراق الحياة الجنسية الخاصة بالأشخاص المستهدفين، تمهيداً لتنفيذ الخطة المقررة ضد كل واحد من هؤلاء الأشخاص وفقاً لموقعه داخل قوائم الاستهداف!!.
(5) كانت القاعدة النظرية الأهم المتفق عليها بين الأجهزة السيادية وتوابعها من مشاهير حظائر السيطرة خلال جمهورية الخوف الأولى هي أنه عندما ترتفع حدة الصراع الداخلي أو الخارجي إلى درجة الذروة القصوى، تقوم تلك الأجهزة بتوجيه كل الحظائر لتتحرك جميعها معاً كقطيع واحد نحو الاتجاه الداعم لخطط الأجهزة الهجومية أو الدفاعية، مستفيدة في تحركات الحظائر بالشهرة الزائفة السابق حصول مشاهيرها عليها والتي تكفل لهم تعبئة قطاعات واسعة من جماهير الشعب المصري للسير خلفهم بشكل يوفر الأغطية المجتمعية المطلوبة لخطط الأجهزة السيادية، إلا أن القاعدة النظرية المذكورة قد تعذر تنفيذها مع ارتفاع حدة الصراع على السلطة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية "حسني مبارك" في بداية عام 2011 بسبب اختلاف مواقف تلك الأجهزة، حيث انحاز جهاز مباحث أمن الدولة لمبارك بينما اختار جهاز الاستخبارات العسكرية دعم المجلس أما جهاز المخابرات العامة فقد حاول التلاعب بذكائه المعهود على الطرفين لصالح رئيسه الذي كان طامعاً في السلطة لنفسه آنذاك، في حين كان الحياد هو موقف الأجهزة السيادية الأخرى كالاستعلامات والرقابة الإدارية وغيرهما، مما أتلف بوصلة التوجيه الشمولي للحظائر فراحت كل حظيرة تتحرك بعشوائية نحو اتجاه مخالف لأخواتها الأمر الذي أطال فترة إسقاط "حسني مبارك" لثمانية عشر يوماً كاملة، وقد استوعب المجلس الأعلى للقوات المسلحة هذا الدرس جيداً فقام بتوحيد كل الأجهزة مع كافة حظائر السيطرة التابعة لها خلفه قبل أن يخوض مجدداً صراع سلطة ضد رئيس الجمهورية "محمَّد مرسي" في منتصف عام 2013، ليضمن بذلك توجيه الحظائر لجميع التحركات الجماهيرية نحو الاتجاه المحدد سلفاً والذي يريده المجلس، وهكذا تواصلت الأنشطة العدائية المبرمجة بشكل مكثف على المحاور المختلفة للدولة والمجتمع ضد "مرسي" طوال فترة رئاسته التي لم تتجاوز عاماً واحداً، ليس فقط تعبيراً عن احتجاجات جماهير الشعب المصري حيال الصعوبات المعيشية الطبيعية أو المفتعلة ولكن أيضاً تنفيذاً لاحتياجات الأجهزة السيادية تجاه "محمَّد مرسي" في إطار الخطة الاستراتيجية للمجلس العسكري، والتي أسقطته خلال ثلاثة أيام فقط بفارق أسبوعين كاملين عن سابقه، ومع استمرار التجانس بين تلك الأجهزة استمر الانضباط هو السمة الغالبة لسلوك الحظائر عقب عزل "مرسي" عام 2013 حيث اصطفت بكاملها كالقطيع خلف المجلس العسكري ضد الرئيس المعزول "مرسي" وأنصاره، كما قامت بتنفيذ احتياجات الأجهزة الموجهة من المجلس فأخذت تدعو لدعم المجلس العسكري وللتعاون مع شركائه السياسيين المدنيين بوصفهم ثواراً وليسوا انقلابيين كما يعتبرهم خصومهم، في حين كانت مواقف الحظائر ذاتها قد تشتت عقب عزل "مبارك" عام 2011 بين دعم المجلس العسكري وحده أو التعاون مع شركائه السياسيين الإسلاميين وحدهم أو الاستمرار في تأييد الرئيس المعزول "مبارك" وأنصاره، ورغم أوجه الشبه العديدة بين عمليتي الإطاحة بالرئيسين "حسني مبارك" و"محمَّد مرسي" لاسيما فيما يخص ارتفاع درجة الاحتقان الشعبي المشروع ضدهما إلى حدها الأقصى بعد انكشاف الوجه القبيح لكليهما، أو فيما يخص اعتلاء المجلس العسكري رأس السلطة بدلاً منهما تباعاً بالاستخدام المباشر لقواته المسلحة، وهو الاستخدام الذي تمت تغطيته تحت مناورة مزدوجة قائمة على التمويه بالسواتر الاحتجاجية الجماهيرية والخداع بالواجهات السياسية الكرتونية، أو فيما يخص المباركة الأمريكية النفعية لعزل اثنين من رؤساء الجمهورية كانا يتفاخران أمام الشعب المصري بالصداقة الحميمة التي تربطهما مع الإدارة الأمريكية، فقد اختلفت الأجواء السياسية المحيطة بالرئيسين جذرياً حيث كان رموز الأجهزة السيادية وتوابعها المؤيدين لمبارك سواء داخل حظائر السيطرة أو بين صفوف الحزب الوطني، يحصلون على التمكين المطلق في كل مفاصل الدولة والمجتمع دون أن يفوزوا بأية أغلبية حقيقية طوال مدة حكمه البالغة ثلاثين عاماً، مقابل عدم حصول رموز الإخوان المسلمين وحلفائهم الإسلاميين المؤيدين لمرسي على أي تمكين من أي نوع في أي واحد من مفاصل الدولة والمجتمع، مع فوزهم بأغلبية الصناديق في كافة الانتخابات والاستفتاءات والاستحقاقات التصويتية التي شهدتها مصر طوال مدة حكمه البالغة عاماً واحداً مضافاً إليها عاماً ونصف العام هي مدة حكم المجلس العسكري السابق عليه، حيث استمرت تلك المفاصل بأيدي نفس رموز الأجهزة وتوابعها سواء داخل حظائر السيطرة أو بين فلول الحزب الوطني المستترين، ليخرجوا ألسنتهم في وجه الجميع وهم يواصلون الاستمساك بمثلث الفساد والاستبداد والتبعية للخارج، نظراً لأن هذا المثلث تحديداً هو الذي كانت احتجاجات يناير 2011 الشعبية قد اندلعت أصلاً للخلاص منه!!. (6) تظهر الفاشية التقليدية المباشرة عند قيام إحدى الجماعات السياسية بتمجيد ذاتها استناداً إلى بعض قواسم المجد المشتركة المزعومة لأعضاء الجماعة، وهي القواسم التي يتم اختيارها عمداً من عمق أحد العناصر الصالحة لذلك سواء كان عقائدياً أو عرقياً أو طبقياً، مع تحقيرها للجماعات البشرية الأخرى الخالية من قواسم المجد المشتركة المزعومة حتى أن خلوها من القواسم المذكورة يبرر حرمان أعضاء تلك الجماعات من المصالح والحقوق بل وأحياناً من الحياة، وفقاً لرؤية الجماعة الفاشية التي تسعى لفرض سيطرتها المركزية الصارمة على أعضائها أولاً، تمهيداً للسيطرة من خلالهم تباعاً على الآخرين المؤيدين ثم المحايدين ثم المختلفين بمن فيهم المحرومين المشار إليهم وصولاً إلى إشباع رغبتها الجامحة في الانفراد بحكم الدولة والمجتمع، ولتحقيق أغراضها فإن الجماعات الفاشية الحاكمة بالفعل أو الساعية للحكم لا يمكنها مطلقاً الاستغناء عن أدواتها الرئيسية المتمثلة في حظائر السيطرة، والتي تزداد أهميتها مع تطور الفاشية إلى المستويات المركبة أو المزدوجة لدى بعض الجماعات، وهو ما يحدث علمياً عند اندماج عنصرين أو أكثر من عناصر تمجيد الجماعة لذاتها واحتقارها للآخرين، كأن تضم قواسم المجد المشتركة المزعومة لأعضائها العنصرين العقائدي والطبقي مثل بعض الجماعات الشيوعية وأبرزها الجماعة البيروقراطية التي أقامت الجمهورية السوفيتية الستالينية في روسيا، أو تضم العنصرين العقائدي والعرقي مثل بعض الجماعات الدينية القومية وأبرزها الجماعة الشيعية الصفوية التي أقامت جمهورية الملالي في إيران، أو تضم العنصرين العرقي والطبقي مثل جماعات الانقلابات العسكرية وأبرزها جماعة "الحرس الحديدي" المعروفة باسم "الضباط الأحرار"، والتي أقامت جمهورية الخوف الأولى في مصر على مدى ستين عاماً ممتدة بين 1952 و2011، مع حالة استثنائية واحدة ضمت تركيبة معقدة من العناصر الثلاثة العقائدي والعرقي والطبقي معاً لتستند عليها الجماعات الفاشية الصهيونية في إقامة جمهورية إسرائيل، ونظراً لأن كافة الجماعات الفاشية المثلثة أو المزدوجة أو التقليدية هي بطبيعتها متعالية وإقصائية كما أنها تسعى كلها إلى الانفراد بالحكم فإن الصدام يكون حتمياً ودموياً فيما بينها وبالتالي بين حظائر السيطرة التابعة لها، ليس فقط على صعيد العلاقات الدولية الذي شهد خلال القرن العشرين عدة حروب عالمية وإقليمية عظمى بين أنظمة الحكم الفاشية المختلفة مما تسبب في سقوط ملايين الضحايا البشرية، ولكن أيضاً على الصعيد المحلي طوال عمر جمهورية الخوف المصرية الأولى، حيث اتسع نطاق الصدامات العنيفة المتبادلة بين الجماعة الفاشية الحاكمة من جهة والجماعات الفاشية الأخرى المحكومة كالشيوعيين البيروقراطيين الستالينيين والإخوان المسلمين من الجهة المقابلة، الأمر الذي تسبب في سقوط مئات الألوف من الضحايا المصريين أنصار هذا الفريق أو ذاك أو حتى الذين كانوا يحاولون اتخاذ الموقف الوسطي بين الفرقاء المتصادمين، ورغم أن أبرز مشاهير حظائر السيطرة التابعة للجماعات الفاشية الحاكمة والمحكومة استمروا يحصلون على درجات متفاوتة من الالتفاف الجماهيري الذي منحهم بعض الحصانة في مواجهة العنف الدموي لخصومهم أثناء تلك الصدامات، مثل "مرتضى منصور" رئيس نادي الزمالك ومحامي بعض رموز الطغمة العسكرية الحاكمة و"فهمي هويدي" الذي اشتهر بميوله الإخوانية مع شهرته في مجال الكتابة الصحفية و"تحية كاريوكا" الفنانة الشيوعية وغيرهم، فإن أعضاء حظائر السيطرة من الجماهير العادية قد أغرقهم العنف الدموي المتبادل بين الجماعات الفاشية المصرية المختلفة بعد أن طالهم النصيب الأكبر من تحقير خصومهم باعتبارهم مجرد "خرفان" الحظائر، ليس فقط لأنهم يتلقون تعليمات قيادتهم المركزية فيتحركون لتنفيذها كالقطيع الواحد ولكن أيضاً استناداً إلى تكتلهم داخل حظائرهم للاحتماء عند الدفاع أو الهجوم، وهكذا تفاقم العنف خلال المرحلة الزمنية الممتدة بين عامي 2011 و2015 والتي شهدت أربعة رؤساء جمهورية متتالين، هم "حسين طنطاوي" رئيس المجلس العسكري المكلف بموجب بيان اعتزال "مبارك" ثم "محمَّد مرسي" الإخواني الذي حاصره المجلس العسكري وقيد تحركاته ونزع عنه سلطاته ثم"عدلي منصور" الحاكم الصوري كواجهة للمجلس العسكري، وأخيراً "عبدالفتاح السيسي" الرئيس الجديد للمجلس العسكري والذي كان هو الحاكم الفعلي لمصر منذ الإطاحة بالرئيس "حسني مبارك" ونائبه "عمر سليمان" ورئيس وزرائه "أحمد شفيق" تباعاً في شهر فبراير عام 2011، وقد وقفت مصر أثناء تلك المرحلة الزمنية الانتقالية عدة مرات على أعتاب الحرب الأهلية الشاملة مع اتساع نطاق المذابح المتبادلة بين "خرفان" حظائر السيطرة التابعة للجماعات الفاشية الحاكمة والمحكومة!!. (7) عقب انتهاء العدوان الثلاثي بانسحاب القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية من الأراضي المصرية المحتلة عام 1956 إثر تلقيهم إنذاراً سوفيتياً بالتدخل العسكري لقوات المعسكر الاشتراكي ضدهم، أدرك رئيس الجمهورية "جمال عبدالناصر" أن استمرار حكمه لمصر أصبح يعتمد على دعم الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي فحاول كسب ودهم عبر الترويج لنظامه الاقتصادي والسياسي باعتباره اشتراكياً، إلا أن هذه المحاولة اصطدمت بموقف بعض الشيوعيين المصريين الموزعين على عدة منظمات وحلقات، والذين رغم خلافاتهم حول التفاصيل المتعلقة بطبيعة المرحلة الناتجة عن الانقلاب العسكري الذي قاده "عبدالناصر" عام 1952، كانوا يتفقون على حقيقة أن نظام الحكم الانقلابي ليس اشتراكياً حتى أن أكثر تلك المنظمات اقتراباً من العسكريين وهي "حدتو" وصفتهم بأنهم يمثلون رأسمالية الدولة الوطنية الشمولية، وقد اعتقدت الأجهزة السيادية أن الصعوبات التي اعترضت خطط "جمال عبدالناصر" لكسب ود الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي آنذاك كانت ترجع إلى الموقف السلبي الذي اتخذه هؤلاء الشيوعيون المصريون تجاهه، فأخذت تلاحقهم وتحاصرهم في شتى المجالات بهدف الضغط عليهم لدفعهم نحو إعادة مراجعة ذلك الموقف السلبي إلا أن ممارسات الأجهزة قد أسفرت عن نتيجة عكسية، حيث شعر الشيوعيون الموزعون على عدة منظمات وحلقات بوحدة الخطر الذي يهددهم فاتجهوا نحو المزيد من التقارب فيما بينهم حتى اتحدوا يوم 8 يناير 1958 تحت اسم "الحزب الشيوعي المصري"، كإجراء تنظيمي ضروري للدفاع عن أنفسهم في مواجهة الخطر المشترك لتلك الأجهزة مع التزامهم بقرار عدم منح نظام حكم "عبدالناصر" وصف "اشتراكي" الذي يسعى إليه طالما هو ليس كذلك، وعلى أساس الالتزام بالقرار المذكور تم اختيار قيادة ثلاثية للحزب كان آخر تشكيلاتها يتكون من "إسماعيل المهدوي" و"أبوسيف يوسف" و"شوقي مجاهد"، كما ذكر المؤرخ الرسمي للشيوعيين المصريين "رفعت السعيد" في صفحتي 208 و209 من كتابه الشهير "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية بين عامي 1957 و1965"، وانزعجت الأجهزة السيادية بشدة من إعلان الحزب الشيوعي المصري عن عودته التنظيمية لممارسة العمل السياسي بعد أن كانت الأجيال السابقة لتلك الأجهزة قد حلته عام 1924، كما انزعجت الأجهزة بنفس الشدة من استمرار رفض الحزب لوصف نظام حكم "جمال عبدالناصر" بالاشتراكي، حيث اعتبرت الأجهزة السيادية أن ذلك الموقف المزدوج للحزب يشكل تحدياً مباشراً ليس فقط لعقيدتها الأمنية الكارهة للشيوعيين، ولكن أيضاً لقرار "عبدالناصر" القائد الأعلى لتلك الأجهزة بإلغاء الحياة الحزبية نهائياً من الخريطة السياسية المصرية، عبر حله السابق لجميع الأحزاب القائمة وحظره التام لإعادة إحيائها أو إنشاء غيرها بما فيها الأحزاب التي سبق حلها قبل انقلاب 1952، فسارعت الأجهزة في يناير 1959 باعتقال حوالي عشرة آلاف مواطن مصري تحت اسم "قضية الشيوعية الكبرى" وكان من بينهم "إسماعيل المهدوي" وزوجته "زينات الصباغ"، بالإضافة إلى ابنهما كاتب هذه السطور الذي شاء قدره أن يرافقهما في محنة الاعتقال محمولاً داخل أحشاء الأم ثم معلقاً على صدرها خلف الأسوار الرهيبة لمعتقلات عقد الستينيات المرعبة!!. (8) تم إيداع "إسماعيل المهدوي" بسجن "الواحات" الواقع جنوب الصحراء الغربية أما زوجته الحامل في أسابيعها الأخيرة "زينات الصباغ" فقد تم إيداعها بسجن "القناطر" الواقع في وسط الدلتا، وكانت وجبة التغذية اليومية المخصصة للمعتقلين السياسيين والتي يسمونها تهكماً "جراية الجوع" تقتصر على رغيف خبز عفن وقطعة جبن متحجرة وثلاث ورقات من نبات الجرجير مع عدة حشرات وديدان حية لكل شخص، وقد تحملها المعتقلون الشيوعيون على مضض حتى وضعتني أمي وأسمتني "طارق" تيمناً بالنجم الثاقب الوارد في القرآن الكريم حسب وصية أبي، وبمجرد ولادتي أصيبت أمي بالشلل نتيجة لسوء التغذية فعجزت عن إرضاعي مما أصابني بالجفاف الذي هددني بالموت قبل أن يراني أبي، وسرعان ما تسرب الخبر عبر زوار المسجونات بأحكام جنائية لينتشر داخل البلاد وخارجها، ورغم عزل المعتقلين الشيوعيين عن بعضهم بتشتيتهم بين عشرات السجون العمومية والمؤقتة والكهوف والمعسكرات والقشلاقات وأقبية الأجهزة السيادية المسماة بالبيوت والمقرات ودور الضيافة الآمنة والموزعة على امتداد الأراضي المصرية، فقد تخاطبوا معاً عبر رسائل ورقية متبادلة ابتلعها المسجونون بأحكام جنائية ليحملونها داخل أمعائهم وهم يجوبون معتقلات المحروسة طولاً وعرضاً، وقرر الشيوعيون الإضراب الجماعي عن الطعام حتى الموت طلباً لمعاملة أفضل لاسيما فيما يتعلق بالتغذية حفاظاً على حياتي وحياة أمي التي كان الشلل قد أعجزها عن إرضاعي، ولكيلا يتسع نطاق الإضراب فيشمل عشرات ألوف المواطنين الآخرين من معتقلي الفصائل السياسية الليبرالية والإسلامية المعارضين لحكم العسكر، استجابت الأجهزة إلى مطالب الشيوعيين التي كان من بينها زيادة حصصهم الغذائية وتحسين نوعياتها مع نقلي بصحبة أمي لمستشفى السجن حيث يمكننا الحصول على الحد الأدنى من الرعاية الطبية اللازمة لكلينا، ثم سمحت لضابط السجون الشاب "علاء بسيوني" الذي أصبح لاحقاً وكيل أول وزارة الإعلام باصطحابي معه داخل سيارة ترحيلات الشرطة، خلال رحلتها الشاقة بين سجني "القناطر" و"الواحات" لمسافة ألف وخمسمائة كيلومتراً ذهاباً وإياباً حتى يراني أبي للمرة الأولى في حياته، ورغم كوني طفلاً رضيعاً فقد وضعتني تلك الأجهزة منذ ذلك الحين حسبما تفيد أوراقها الرسمية على رأس قائمة "الأشواك المحتملة" التي تضم الأبناء المتضررين مما سبق أن ارتكبته الأجهزة السيادية ضد آبائهم فيما مضى، والذين تعتبرهم الأجهزة أشواكاً محتملة يجب كسرها مبكراً كإجراء أمني استباقي يهدف إلى اتقاء شرور الأعمال الانتقامية المستقبلية التي قد يشنها هؤلاء الأبناء ثأراً لآبائهم، بدافع من غريزة القصاص المتجذرة في الأعماق الإنسانية والمقدسة لدى عوام المصريين، ثم تكفلت التطورات الطبيعية لأفكاري وآرائي وأنشطتي السياسية طوال الخمسة وخمسين عاماً اللاحقة بتصعيدي المتتالي على سلم قوائم تلك الأجهزة للأشخاص المستهدفين، من قائمة الأشواك المحتملة إلى قائمة المشاغبين الهواة ومنها لقائمة المعارضين المحترفين ثم إلى قائمة الخصوم المزعجين وأخيراً قائمة الأعداء الخطرين الواجب إزالتهم كما ورد في الأوراق الرسمية للأجهزة السيادية، وهي نفسها الأوراق التي كشفت عدة تفاصيل تتعلق بما طرأ من تطورات على خطط الأجهزة لتنفيذ قرار إزالتي، لاسيما في أعقاب اعتراض بعض قادة تلك الأجهزة على استخدام أسلوب الإزالة الجسدية المكشوفة والصريحة ضدي، ثم نجاحي في تحاشي الأفخاخ المتتالية للإزالة الجسدية المستترة والنظيفة بفضل العناية الإلهية إلى جانب احتياطاتي الدفاعية المبكرة، مما كان لابد معه من الاستعانة بحظائر السيطرة لتمارس ضدي شرورها المؤدية إلى الإزالة الأدبية والمعنوية!!. (9) مع حلول عام 2012 أرسل لي أحد الإعلاميين من نجوم البرامج الحوارية في قنوات التليفزيون الفضائية مظروفاً ضخماً يحوي بعض أوراق الملف الأمني الخاص بي، والتي كانت قد وصلته عقب نجاح جماهير المحتجين المصريين الغاضبين في انتزاعها خلال قيامهم باقتحام مقرات جهاز مباحث أمن الدولة على مدى العام المنصرم، لإنقاذ الملفات الأمنية الهامة من أيدي فلول جمهورية الخوف الأولى الساعين لإتلافها بهدف إخفاء أدلة إثبات جرائمهم وخطاياهم، وأوضح النجم التليفزيوني اللامع في خطابه المرفق مع الأوراق أنه بذلك يحاول رد جميل سابق لي في عنقه أثناء إشرافي قبل ثلاثين عاماً على المكتب الإعلامي باللجنة الأهلية لرعاية المعتقلين والسجناء السياسيين، حيث أسفرت حملتي الإعلامية آنذاك عن سماح الأجهزة السيادية له باستكمال دراسته الجامعية من داخل زنزانته التي كان محتجزاً فيها تحت التحقيق على ذمة إحدى قضايا الرأي السياسي، أما الذي وصلني منه داخل المظروف الضخم فكان عبارة عن صورة ضوئية لعشرات الأوراق الرسمية التي تشكل الجزء "السري" من ملفي الأمني، بما تحتويه من إشارات عديدة لوجود أوراق رسمية أخرى تشكل الجزأين "السري جداً" و"السري للغاية" من الملف ذاته، وهما الجزءان اللذان اتضح لاحقاً أنهما قد انتقلا من مقرات جهاز مباحث أمن الدولة فور اقتحامها إلى مقرات الأجهزة السيادية الأخرى بمهارة شديدة حالت دون أن يتمكن المقتحمون الغاضبون حتى من الاطلاع عليهما، ليلحق بهما أيضاً أصل الجزء "السري" بعد تصويره ضوئياً من قبل المقتحمين، وتراوحت الأوراق الرسمية التي وصلتني بين تقارير المعلومات والتقديرات والعمليات مع بعض التقارير الجامعة لذلك كله كالمتابعات والمقابلات وحصاد الاتصالات المتبادلة بشأني بين مختلف الأجهزة، سواء باسمي الحقيقي "طارق المهدوي" أو باسمي المختصر "تو" أو باسمي الحركي "الرفيق سيف" مسبوقاً في الحالات الثلاث بأوصاف استخفافية واستنكارية مثل المشاغب والمتمرد والشقي والمخرب والعنيد وأحياناً العدو، إلى جانب التفريغ الورقي لبعض الأفلام التسجيلية المصورة والشرائط الصوتية التي تحوي مساهماتي في المؤتمرات والندوات الفكرية والسياسية العامة، ومشاركاتي في الجلسات الاجتماعية المختلفة بل وأيضاً حواراتي الشخصية وأحاديثي الغرامية سواء المباشرة أو الهاتفية أو البريدية، مع إرفاق لكتبي وأبحاثي ومقالاتي الصحفية المنشورة داخل مصر وخارجها، بالإضافة إلى أنشطتي السرية المتعددة في صفوف الحركة الشيوعية المصرية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، لاسيما محاضراتي النظرية في مدارس تثقيف الكادر الحزبي وكتاباتي المرسلة للنشر بالمطبوعات الشيوعية مثل "اتحاد الشعب" و"الوعي" و"الانتصار"، أو في سلسلة كراسات التوجيه السياسي مثل كراسة "حرب التحرير الشعبية هي طريق الشعب المصري للتحرر الوطني"، وهي الكراسة التي صدرت عام 1981 عن حزب 8 يناير الشيوعي المصري وتسببت في نقلي من قائمة الخصوم المزعجين إلى قائمة الأعداء الخطرين الواجب إزالتهم بمعرفة الأجهزة السيادية كما ورد في أوراقها الرسمية، تلك الأوراق التي كشفت عن وجود أنشطة معادية استهدفتني خلال فترة طفولتي الثانية بالتعليم الابتدائي ليس فقط في مجالات المعلومات والتقديرات ولكن أيضاً في مجال العمليات القذرة، كما كشفت مدى اتساع نطاق الاستخدامات القذرة لمشاهير حظائر السيطرة الرياضية والثقافية والإعلامية في استهداف أفكاري وآرائي وأنشطتي العامة والخاصة، كغيري ممن رفضوا دخول الحظائر لتظل الأجهزة تستهدفهم تحت مبررات معلنة واهية طوال عمر جمهورية الخوف الأولى!!. (10) خضع أبي "إسماعيل المهدوي" لقرار الأغلبية داخل قيادة الحزب الشيوعي المصري بحل حزبهم عام 1965 تحت ضغط استمرار اعتقالهم لستة أعوام متتالية مع خداعهم بمبررات تضليلية انطلت عليهم، مفادها ضرورة إسهامهم في تهدئة الجبهة الداخلية بما يكفل تأمينها إلى الدرجة التي تدعم الجهود العسكرية المبذولة لدحر الغزاة الصهاينة وتحرير التراب الوطني والقومي من احتلالهم، حسب تعهدات رئيس الجمهورية "جمال عبدالناصر" ومساعديه من كبار قادة الدولة والجيش والحزب الحاكم، حتى أن أبي أخذ يدعو مختلف الفئات النخبوية والجماهيرية في كتاباته الصحفية واسعة الانتشار آنذاك إلى الالتفاف حول ما كان "عبدالناصر" ومساعدوه يطلقونه من تهويشات التحرر الوطني وجعجعات التوحد القومي وأكاذيب التطور الاشتراكي، فلما تعرضت مصر بعد عامين اثنين فقط لهزيمة 5 يونيو 1967 الكارثية المخزية التي أضاعت شبه جزيرة سيناء وقناة السويس مع هضبة الجولان السورية إلى جانب المتبقي من أراضي فلسطين، انكسرت أحلام أبي الوطنية والقومية التي كان قد سبق أن ضحى من أجلها بأحلامه الديمقراطية والاجتماعية عبر مشاركته في حل الحزب الشيوعي، كما تفاقم شعوره بالذنب الأدبي وتأنيب الضمير المهني نظراً لمساهماته الصحفية في تضليل الرأي العام رغم أنه هو نفسه كان من أوائل الذين تم تضليلهم، بواسطة الأجهزة السيادية المتخصصة ليس فقط في القهر ولكن أيضاً في التضليل والتمويه والخداع والمناورة، فأصابته صدمة عصبية عنيفة ما لبثت أن تفاقمت على وقع المسيرات المفبركة التي نفذتها حظائر السيطرة بتوجيهات تلك الأجهزة يومي 9 و10 يونيو 1967 لتكريس استمرار حكم "جمال عبدالناصر" ومساعديه الذين يتحملون المسئولية الكاملة عن الهزيمة، وفي محاولة منه لتصحيح موقفه أمام سجلات التاريخ وجه أبي اتهامات علنية إلى "عبدالناصر" وكل مساعديه من كبار قادة الدولة والجيش والحزب الحاكم بتعمد إضاعة الوطن، كما وجه إدانات صريحة إلى كافة الأطراف السياسية المشاركة في الحكم أو المتواطئة معه أو التي تم استخدامها كأدوات مثله هو شخصياً أو التي اكتفت بالمراقبة السلبية، لعجزهم جميعا عن اكتشاف التضليل والخداع بما كان يقتضيه من تحاشي الوقوع في أفخاخهما مع كشف تلك الأفخاخ على الملأ تمهيداً لمقاومتها، وبدأ يطالب بتنحي الرئيس "جمال عبدالناصر" ومساعديه وعودة الجيش إلى ثكناته العسكرية، دون اللجوء إلى مناورات تخرجها الأجهزة لينفذها مشاهير حظائر السيطرة الرياضية والثقافية والإعلامية على أسفلت الشوارع المصرية بدلاً من الملاعب والمسارح والاستديوهات كما حدث يومي 9 و10 يونيو 1967، إلا أن مفردات الحكمة الكامنة داخل أعماق دعوته قد توارت خلف الغيوم العصبية الكثيفة التي أحاطت بتلك الدعوة فتحالف الكثيرون ضده، لاسيما الأجهزة السيادية التي ضاقت بارتفاع صوته ولم تتحمل مطالبه لتجاوزها النص الرسمي التضليلي المخادع بأنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة وإزالة آثار العدوان" وهو النص السابق توزيعه وتعميمه من قبل تلك الأجهزة على مشاهير الحظائر ليقوموا بتنفيذ تنويعاته المختلفة حسب مجالاتهم ومهاراتهم دون أية إشارة إلى أن المسئولين عن الهزيمة يستحقون المحاسبة، وهكذا فإن الطائرة التي كان يفترض أن تقل أبي من إحدى المدن الأوروبية لمدينة أوروبية أخرى في عام 1969 أعادته إلى "القاهرة" مخطوفاً ومكبلاً بالأغلال الحديدية تحت الإشراف المباشر لقادة الأفرع الخارجية في الأجهزة، التي انفردت به لتحاول السيطرة عليه بفصله من عمله الصحفي وإغلاق منابر التعبير المحلية أمامه مع منعه من النشر الصحفي في منابر التعبير العربية والأجنبية تحت تهديده بفبركة تهمة تخابر مع دولة معادية، دون أن تتوقف إغراءاتها المعروضة عليه مقابل عودته إلى سابق عهده كعضو لامع في حظائر السيطرة الرسمية أو على الأقل التزامه الصمت، إلا أن فشل كل محاولات الأجهزة السيادية للسيطرة عليه دفعها لتنفيذ خطتها البديلة والأخيرة في يوم الخامس من إبريل عام 1970 والذي شهد أحداثاً كانت ومازالت وستظل محفورة داخل وجداني كجداريات الفراعين الأوائل!!. (11) في صباح 5 إبريل 1970 كنت كأي طفل يبلغ العاشرة من عمره أتقافز خلف باب الشقة انتظاراً لسماع نفير الحافلة التي تقلني يومياً إلى مدرستي الأجنبية المميزة، وكانت أمي تجلس على مائدة الطعام المجاورة للباب تقطع الجبن والبيض والحلاوة الطحينية إلى شرائح تضعها في الخبز الأفرنجي لترصه داخل الأكياس الورقية الثلاثة الموزعة على حقائب أيدينا أنا وهي وأبي، دون أن تنسى صنع فنجان القهوة التركي السادة فوق الموقد الكحولي الصغير جداً المسمى "سبرتاية"، لأبي الذي كان يحلق ذقنه أمام مرآة الحمام القريبة من باب الشقة تمهيداً لذهابه إلى محكمة القضاء الإداري سعياً منه لاسترداد بعض حقوقه الوظيفية المسلوبة، وبمجرد سماعي لنفير الحافلة سارعتُ بفتح الباب حتى أنطلق إلى مدرستي وأقراني حيث اللهو والأنشطة مع الاستذكار، لكن الباب انفتح على حائط سد يتكون من عشرة عماليق بكامل ملابسهم العسكرية والشرطية وهم يحملون مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وخلال أقل من ثانية كان أحدهم قد رفعني لأعلى مكبِلاً حركات جسدي بيمناه وكاتِماً صوتي بيسراه، ورغم الرعب الذي داهمني فقد سمح لي موقعي المرتفع بمشاهدة تفاصيل الأحداث لتسجيلها في ذاكرتي كأنني آلة تصوير وثائقية، حيث اتجه عملاق آخر صوب أمي وضربها على رأسها بمؤخرة مسدسه الحديدي لتسقط أرضاً وهي غارقة في دمائها بين الحياة والموت، وقام ثالث بقطع سلك الهاتف مستخدماً "سونكي" البندقية ثم ألقى بآلة الهاتف السوداء الضخمة على الأرض، وأخذ يركلها ويدهسها حتى نجح في تفتيتها تحت حذائه الميري "البيادة" المثقوبة اثنا عشر ثقباً مزدوجاً من أعلاها والمدقوقة بحدوتي حمار حديديتين في أسفلها، بينما هجم السبعة الباقون على أبي ليعطونه حقنة شل حركة مؤقت أفقدته الحواس والإدراك وجعلته يسير كالنائم بين أياديهم الغليظة القابضة على جسده في شكل دائري وهم يسحبونه معهم خارج الشقة، التي أغلقوها بالأقفال بعد أن كان العملاق الأول قد ألقاني أرضاً بعنف شديد حطم عمودي الفقري تاركاً إياي مع أمي الممددة وسط دمائها بلا حراك، في عهدة جيران مسالمين أفاقوا من النوم لتوهم على تلك التجريدة المملوكية فاضطروا وهم يرتعدون إلى كسر الباب واستدعاء الإسعاف الطبي لعلاجنا بدعوى تعرضنا لحادث سطو مسلح من قبل لصوص مجهولين، واكتشف الجميع لاحقاً أن أبي تمت معاقبته بموجب سيناريو شيطاني هو الأول من نوعه على امتداد التاريخ والجغرافيا، نظراً لارتفاع صوته خارج النص الرسمي السابق للأجهزة السيادية تعميمه على حظائر السيطرة بشأن هزيمة 5 يونيو 1967، حيث تم إيداعه في غرفة انفرادية داخل العنبر الخاص بالمذنبين في مستشفى المجانين دون أن يحظى بمحاكمة كالتي يحصل عليها المذنبون ودون أن يحظى بعلاج كالذي يحصل عليه المرضى، فكان وضعه أشبه بالاعتقال داخل إحدى زنازين الحبس الانفرادي في محيط غرائبي موحش تسوده الهيستيريا التي تدفع بالمحيطين حيناً إلى الانتحار وأحياناً نحو الاقتتال، ليستمر ذلك السيناريو الشيطاني ثمانية عشر عاماً متتالية تعاقب خلالها على رئاسة الجمهورية ثلاثة عسكريين هم "جمال عبدالناصر" ثم "أنور السادات" ثم "حسني مبارك"، أما أنا فقد أصابتني أحداث 5 إبريل 1970 بالعديد من الأوجاع لعل أشدها هو الكابوس الاسترجاعي الذي ما انفك يداهمني بتفاصيل يومذاك وكأنه الأمس القريب، ولعل أخفها كان ضيق ذات اليد المفاجئ لاسيما مع تنصل أفراد العائلة وزملاء العمل الصحفي ورفاق الحركة الشيوعية من مسئولياتهم التضامنية تجاه أسرتنا، الأمر الذي تسبب في إدخال عدة تعديلات جوهرية على مساراتي الحياتية المختلفة مثل نقلي عند بداية العام الدراسي التالي من مدرستي الأجنبية المميزة، لألتحق بالصف الخامس الابتدائي في مدرسة "صلاح الدين الأيوبي" الحكومية المجانية الواقعة بين اثنين من النوادي الرياضية المغمورة هما نادي "النصر" ونادي "الغابة" على أطراف ضاحية "مصر الجديدة" آنذاك!!. (12) بدافع من مسئولياته التربوية التي تسبق دوره التعليمي حاول الأستاذ "عزت" ناظر مدرسة "صلاح الدين الابتدائية" مداواة أوجاعي المترتبة على أحداث الخامس من إبريل 1970، بالترويح عني عبر إشراكي في فرقة الأشبال المدرسية التي يشرف عليها الكابتن "مصطفى" مدرس الألعاب الرياضية بالمدرسة، حيث كان الأشبال يُخَيِّمون يومياً لمدة ساعتين عقب انتهاء الحصة الأخيرة في أحد الناديين المجاورين بالتناوب، لاكتساب المهارات البدنية وبعض قواعد التنمية البشرية والمعلومات العامة المؤهلة لخوض مسابقة وزارة التربية والتعليم السنوية لأشبال مصر، إلا أن "عزت" و"مصطفى" قد فوجئا كغيرهما بفوزي في مسابقة عام 1971 وحصولي على لقب شبل مصر الأول مما جعلني نجماً تسعى النوادي الرياضية الكبرى إلى اجتذابي لعضويتها، الأمر الذي أزعج الأجهزة السيادية فحاولت إجهاضه حسبما تفيد أوراقها باستدعائها لناظر المدرسة ومدرس الألعاب الرياضية من أجل التنبيه عليهما مشدداً بعدم تقديم طلب الاشتراك في مسابقة عام 1972، لضمان تفويت الفرصة على مشاركتي التالية بهدف وقف نجوميتي وتجميدها عند الحد الأدنى الذي يبقيني في مرمى النيران العادية لتلك الأجهزة، إلا أن الرجلين بعد تشاورهما مع أعضاء هيئة التدريس ومجلس الآباء ذهبا سوياً لتقديم طلب الاشتراك في اليوم الأول للمهلة المحددة من قبل وزارة التربية والتعليم، مما ترتب عليه صدور عدة قرارات إدارية بحقهما استناداً لتحقيقات وهمية في شكاوى مفبركة ضدهما، وقد شملت القرارات المذكورة فيما شملته الخصم من الراتب وتخفيض الدرجة الوظيفية والنقل إلى أقصى أطراف الخريطة المصرية، ليس فقط لمعاقبتهما على مخالفة تعليمات الأجهزة بشأني ولكن أيضاً حتى يستطيع مشاهير حظائر السيطرة التابعون للأجهزة السيادية أن ينفردوا بي لتنفيذ الخطة البديلة أثناء مجريات المسابقة التي استضافها ستاد القاهرة، ورغم تجمع الأشبال المتسابقين حسب الموعد المحدد سلفاً عند الساعة العاشرة صباح أحد أيام صيف 1972 فقد أبلغنا المسئولون بتأجيل موعد افتتاح المسابقة إلى الثانية عشرة ظهراً، ليحصل مشاهير الحظائر على فرصة زمنية كافية لتنفيذ الخطة الشيطانية التي وضعتها تلك الأجهزة ضدي، حيث ناداني لاعب كرة قدم شهير أصبح لاحقاً مدرباً شهيراً لينصحني باستمرار النفخ في كومة رماد مجاورة لحين خروج النار منها، وهو يؤكد لي أنه شخصياً يؤدي هذا التدريب بانتظام للحفاظ على قوة أنفاسه، وما أن خرجت النار من الرماد بعد نفخي المتواصل لمدة ساعة كاملة عملاً بنصيحة اللاعب الشهير حتى ناداني زميله الذي لا يقل عنه شهرة والذي أصبح لاحقاً رئيس أحد الأندية الكبرى، ليسألني عما إذا كانت التفاحتان اللتان أرسلهما لي مع فتاة الإعلانات الصغيرة قد وصلتاني، مؤكداً أنه شخصياً يتناول التفاح بانتظام للحفاظ على قوة عضلاته وحضوره الذهني رغم صعوبة استيراده من الخارج آنذاك، وهو يشير إلى الفتاة ذات النضوج الجسماني المبكر والتي تزوجت ابنه لاحقاً بعد أن أصبحت نجمة إغراء سينمائية شهيرة قائلاً ها هي تحتفظ لك بالتفاحتين داخل ملابسها العلوية، فما كان مني سوى التوجه نحوها لتستقبلني بدلال مثير قبل أن تفتح قميصها لأجدني أمسك لأول مرة في حياتي ثدياً أنثوياً عفياً، ما كان من صاحبته إلا أن مدت يدها لتعبث بعورتي وهي تطلق فحيحاً رقيعاً يقول "واحدة بواحدة يا كابتن والبادي ما يشتكيش"، وهكذا أسفر النفخ المتواصل في الرماد عن قطع أنفاسي بينما أسفرت الملامسات اليدوية المتبادلة الأولى مع الجنس الآخر عن قطع تركيزي فلم يكن أمامي غير الانسحاب من المسابقة عند بدايتها، الأمر الذي أسعد الأجهزة حسبما تفيد أوراقها باعتباره نجاحاً لخطة السيطرة على شوكة الشبل "تو" الذي يبلغ الثانية عشرة من عمره!!. (13) رغم أن الدعارة هي المهنة الأولى في التاريخ البشرى فإن هناك مهنة سبقت التاريخ البشري أصلاً وهي الإعلام الذي كان قرود الغابة ومازالوا يمارسونه بشكل غريزي، عند اعتلائهم قمم الأشجار للاستعلام والاستخبار عن مجريات كل ما يحدث في الأسفل ثم فرز حصيلة المعلومات التي لديهم، تمهيداً لإعلام بعض أطراف الغابة حصرياً دون الآخرين بما يخصهم من تلك المعلومات حسب ولاء وميول القرود الذين يقومون بإعلام زبائنهم المستهدفين عبر إشارات حركية وصوتية متعارف عليها بين الطرفين، فالقرد السلطوي يميل إلى إعلام الأسد ملك الغابة بما يخصه من أخبار مثل قدوم غريم له أو خيانة إحدى زوجاته أو استعداد أحد أشباله للتمرد، بينما يميل القرد الشعبي إلى إعلام الفرائس من حيوانات الغابة الضعيفة باقتراب أخطار الكواسر والجوارح والزواحف، أما عموم القرود المسالمين فيميلون إلى إعلام كل أطراف الغابة بالأحداث المحايدة مثل حالة الطقس والكوارث الطبيعية والحرائق المشتعلة وأسراب الجراد الغازية، وقد حرص قادة المجتمعات البشرية منذ بداياتها الأولى على اتخاذ مساعدين لهم يستخدمون النيران والأدخنة والطبول والأبواق والحمام الزاجل والحمير المدربة وغيرها من الوسائل البدائية لإعلام شعوبهم بما يريدونه منهم، أما الشعوب فكانت قد اختارت من جانبها بعض أبنائها ذوي خفة الدم واليد وفهلوة الحديث ليمارسوا الإعلام الشعبي البيني المتبادل ومنحتهم اسم "الهجاصين"، حيث كان يتم استئجار "الهجاص" من قبل أصحاب السلع والمحلات التجارية ومقدمي الخدمات والأنشطة المختلفة وأهل المناسبات السعيدة والحزينة لإعلام الجماهير بما لدى هؤلاء وأولئك، عبر الحركات الجسدية الراقصة والنداءات المحببة للعوام والتي كان أشهرها نداء "بص بص بص ... من ده بكرة بنص"، ولم يتم إطلاق اسم "إعلامي" بدلاً من "هجاص" لوصف نفس المسمى الوظيفي رسمياً إلا مع إنشاء مصلحة الاستعلامات المصرية عام 1954، رغم أنه قد سبق ذلك ظهور أسماء وظيفية قريبة مثل اسم "الجورنالجي" الذي ظهر عقب دخول الطباعة إلى مصر في أواخر القرن الثامن عشر بعد ما يزيد على ثلاثة قرون من اختراعها في "ألمانيا"، واسم "المذيع" الذي ظهر عقب تأميم شركة "ماركوني" الصوتية الإيطالية وتحويلها إلى الإذاعة المصرية عام 1934 حتى أن إعلانات شركة "ماركوني" لتوظيف المذيعين الجدد ظلت إلى حين تأميمها تنص على طلب تعيين هجاصين، علماً بأن القضاء الشرعي المصري استمر حتى إلغائه وإخضاعه إلى القضاء المدني عام 1954 يرفض الاستماع لشهادات الهجاصين باعتبارهم من فئات المجتمع النجسة التي ينقصها العقل والدين، ومع ذلك لم يتوقف تدافع الكثيرين وتزاحمهم على ممارسة مهنة الهجص مدفوعين بحب المال أو هوس الشهرة، والتقطت الأجهزة السيادية لجمهورية الخوف الأولى منذ وقت مبكر كل المعلومات الخاصة بفئة الهجاصين وفحصتها باهتمام شديد، فأدركت أن تلك الفئة التي تعاني من الاحتقار النخبوي والاحتضان الجماهيري في الوقت ذاته هي الأصلح لإنشاء حظائر السيطرة، بتلميع وتنجيم الهجاصين من توابع الأجهزة ليصلوا إلى أعلى درجات الثراء والشهرة مع استمرار إمساك تلك الأجهزة بالخيوط التي تقبض على أعناقهم لضمان استمرار التبعية، وكان تفوقي الدراسي قد سمح لي بالتخصص الجامعي في مجال العلوم السياسية الذي يوفر لخريجيه فرص عمل حصرية بالوظائف الدبلوماسية أو الاستراتيجية أو الإعلامية، وقد انغلق التخصص الدبلوماسي أمامي لانخراطي المبكر داخل صفوف الحركة الشيوعية السرية مع إغلاقي أنا من جانبي للتخصص الاستراتيجي الذي يتطلب أنشطة شبه تجسسية لا تليق بي، فلم يكن متبقياً سوى التحاقي بالمجال الإعلامي كطالب جامعي متدرب منذ سبعينيات القرن العشرين واستمراري فيه حتى اليوم لمدة قاربت الأربعين عاماً، موزعة بين وزارة الإعلام والهيئة العامة للاستعلامات واتحاد الإذاعة والتليفزيون والصحافة الرسمية والحزبية والخاصة والعربية والأجنبية والقطاعات الإعلامية لوزارة الخارجية والمخابرات العامة ومجلس الشورى ورئاسة الجمهورية، وبتقادمي الزمني في المجال الإعلامي تأكد لي أن الكثيرين من زملائي مازالوا في أعماقهم الحقيقية هجاصين فعلاً رغم أنهم أصبحوا إعلاميين اسماً، لاسيما وقد تكفلت الأعوام الخمسة الأخيرة بكشف مدى فجور المتحولين من مشاهير الإعلاميين شاغلي قمم حظائر السيطرة التابعة للأجهزة السيادية، وهم يأكلون بشراهة فاجرة فوق موائد كافة أنظمة الحكم المتعاقبة بدءاً من "حسني مبارك" حتى "عبدالفتاح السيسي" مروراً على "حسين طنطاوي" و"محمَّد مرسي" و"عدلي منصور"، ثم سرعان ما أخذوا يرقصون بوقاحة فاجرة فوق جثث كل تلك الأنظمة بمجرد سقوطها تباعاً دون أن يرمش لهم جفن!!. (14) منذ البدايات الأولى لتولي جماعة "الحرس الحديدي" المعروفة باسم "الضباط الأحرار" حكم مصر عام 1952 كلف قائد الجماعة "جمال عبدالناصر" زميليه البارزين "زكريا محيي الدين" و"صلاح سالم" بمهمة إحكام السيطرة على مختلف فئات الشعب المصري، من خلال هيئتين سياديتين ظهرتا إلى الوجود العلني معاً عام 1954 وهما المخابرات العامة ومصلحة الاستعلامات، وبينما استقرت المخابرات في الأحضان التنظيمية لرئاسة الجمهورية فإن الاستعلامات قد انتقلت من رئاسة الجمهورية إلى وزارة الإعلام ثم عادت مرة أخرى لرئاسة الجمهورية، دون أن تؤثر تلك الانتقالات الإدارية على استمرارية عضويتها المهنية في المنظومة السيادية التي يقودها رئيس الجمهورية كشقيقتها المخابرات، حيث كان شغل مواقع رئيس مجلس إدارة الاستعلامات ورؤساء قطاعاتها حكراً على قادة الأجهزة السيادية طوال العشرين عاماً الأولى من عمرها ثم انخفض المستوى إلى كوادر الأجهزة خلال العشرين عاماً التالية، لينخفض مجدداً إلى أعضاء تلك الأجهزة وأحياناً توابعها الذين تعاقبوا على المواقع الرئاسية بالاستعلامات منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين حتى اليوم، ولما كان هؤلاء القادة والكوادر والأعضاء والتوابع وافدين جميعاً من نفس المنبع السيادي الأصلي فقد تشابهت أساليبهم في السيطرة على أبناء الاستعلامات من المهنيين الإعلاميين، حيث يحلم الإعلامي الحقيقي بوطن تسوده أجواء سياسية ديمقراطية توفر للإعلام فرصة تحصيل المعلومات الصحيحة بحرية تامة ونقلها بين مختلف الجهات المعنية في الدولة والمجتمع بسرعة فائقة، ليؤدي بذلك وظيفته التنويرية التي تصب في جهود التنمية الشاملة للوطن بعيداً عن وظيفة الهجص التضليلية التي تصب في جهود تمكين نظام الحكم من السيطرة على مختلف فئات الشعب، لذلك دأبت رئاسة الاستعلامات الوافدة دوماً من المنبع السيادي على إعطاء السلطة والشهرة والمال بسخاء للإعلاميين الذين تخلوا عن أحلامهم وعادوا ليقبعوا خاضعين داخل خانة الهجص، مقابل الكثير من الويلات لأولئك الذين رفضوا عطاياها وكل الويل لهؤلاء الذين قبلوا العطايا وظلوا في الوقت ذاته متمسكين بأحلامهم، مثلي أنا وفقاً لما أوردته الأوراق التي وصلتني من واقع ملفي لدى الأجهزة السيادية، بما كشفته لي من وجود خطة سيطرة مزدوجة وضعتها تلك الأجهزة لمنع تمكيني المهني بين زملائي الإعلاميين سواء بالاستعلامات أو في هيئات الدولة الأخرى، وحسبما تفيد الأوراق فقد نجحت الخطة في تحقيق أهدافها استناداً إلى أساليب السيطرة غير التقليدية لحظائر الإعلام، لاسيما وأن القرار الجمهوري رقم 1820 لعام 1967 بتعديل المرسوم الجمهوري السابق صدوره في 3 سبتمبر 1954 تنفيذاً للقانون رقم 270 لعام 1952 بإنشاء الاستعلامات، قد منحها في مادته الرابعة حق اتخاذ ما تراه من قرارات لتحقيق أغراضها "دون التقيد بالقواعد الحكومية" باعتبارها جهاز سيادي، وهكذا تم إبعادي عدة مرات عن التمكين الإداري التنظيمي عبر إرسالي إلى أوروبا في مهام دبلوماسية مفتوحة ذات طابع وهمي بمجرد حلول موعد استحقاقي لشغل موقع رئيس قسم بالأقدمية، الأمر الذي تكرر لاحقاً عبر ندبي لشغل وظيفة المستشار الإعلامي بالسودان على مدى خمسة أعوام تحت الرئاسة المباشرة لقادة الأفرع الخارجية في الأجهزة السيادية بمجرد حلول موعد استحقاقي لشغل موقع مدير إدارة بالأقدمية، كما تم ضمي إلى مجموعة مستشاري رئيس الاستعلامات بدون أية صلاحيات وظيفية محددة بمجرد حلول موعد استحقاقي لشغل موقع مدير عام بالأقدمية، ولم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لتمكيني الفني الإعلامي حيث كان ذهني قد تفتق عن تشكيل وحدة التوجيه السياسي على هامش هيكل العمل التقليدي للاستعلامات، حتى تقوم الوحدة بتحصيل المعلومات الداخلية والخارجية الهامة فوراً من مصادرها المباشرة لنقلها في حينه إلى الهيئات الرسمية المعنية بما فيها الأجهزة السيادية، فقامت تلك الأجهزة بحل الوحدة وتفكيكها وتشتيت أفرادها بتوزيعهم على مراكز الإعلام الداخلي المنتشرة في مختلف أنحاء الوطن، دون أن تعبأ الأجهزة بخسارتها هي ذاتها للمعلومات الثمينة التي كانت تصلها من الوحدة في زمن قياسي، بل أن أوراقي لدى الأجهزة السيادية تفيد بأن تلك الأجهزة قد احتفلت بنجاحها في حل وحدة التوجيه السياسي نظراً لما حققه لها هذا الحل من مكاسب على صعيد السيطرة المزدوجة، فمنع وصول معلومات الوحدة إلى الهيئات المعنية بها يكفل استمرار الأجهزة في احتكار السيطرة على التداول المعلوماتي داخل أروقة الدولة، كما أن منع تحصيل هذه المعلومات لإيصالها إلى تلك الهيئات عن طريقي أنا يحد من تواصلي الفني مع زملائي الإعلاميين داخل الاستعلامات وخارجها وبالتالي يحد من تمكيني، الأمر الذي تكرر لاحقاً عندما تفتق ذهني عن تشكيل لجنة تطوير أداء الاستعلامات لوظائفها الفنية الإعلامية وهي اللجنة التي لحقت بسابقتها على أيدي الأجهزة السيادية، التي حلتها بدعوى تدخلها في العمل اليومي التقليدي لقطاعات الاستعلامات رغم أن تدخل لجنة التطوير في أداء القطاعات التقليدية لعملها اليومي هو من بديهيات التطوير، وحسب الأوراق فقد احتفلت تلك الأجهزة مجدداً بنجاحها في حل لجنة التطوير نظراً لما حققه لها هذا الحل من وقف اتساع نطاق العدوى المحتملة بالأحلام الوطنية الديمقراطية ذات العمق الاجتماعي والتي استمرت تحلق في سمائي، رغم أن أجواء جمهورية الخوف الأولى ظلت حتى آخر أيامها ملبدة بغيوم سوداء متراصة من كل أنواع الكوابيس!!. (15) كان بين زملاء دراستي ثلاثة ريفيين يسكنون معاً إحدى غرف مدينة الطلبة أثناء التحاقنا بجامعة "القاهرة" خلال سبعينيات القرن العشرين، وقد اشتركوا ثلاثتهم في نزوعهم الإجرامي الذي بدأ بسرقتهم للكتب الدراسية المقررة عليهم من حقائب زملائهم لكيلا يشترونها، ثم تطور الأمر إلى سرقة كتب أخرى من أرفف المكتبات لبيعها بربع قيمتها أو لاستبدالها بسلع تموينية وأدخنة ومكيفات، وسرعان ما تصاعد نشاطهم الإجرامي فأصبحوا يهاجمون كالذئاب المسعورة معرض الكتاب السنوي فيسرقون كل الذي تطوله أياديهم وتخفيه ملابسهم من مطبوعات يبيعونها لاحقاً على سور الكتب القديمة الواقع في حديقة "الأزبكية"، وبمجرد تخرجهم الجامعي تحولوا من هواة إلى محترفين للسرقة بأشكال مختلفة ولكن في ذات المجال المتعلق بالكتب، حيث التحق أحدهم بالصفحة الثقافية لجريدة رسمية يومية متخصصاً في العرض الحصري لأخبار الكتب التي يدفع له مؤلفوها المصريون والعرب مبالغ مالية مقابل ذلك، أما الثاني فقد تسلل إلى جمعية أهلية ليشرف على ندواتها الأسبوعية المخصصة لمناقشة أحدث إصدارات الكتب، فكان يتحصل لنفسه على مبالغ مالية وهدايا ثمينة وعزائم عامرة من المؤلفين المصريين والعرب مقابل إدراج كتبهم ضمن جدول ندوات الجمعية لزيادة المبيعات، في حين استغل الثالث معاناة شباب المؤلفين من الأثرياء مع قوائم انتظار النشر الحكومي المدعوم، فراح ينشر لهم كتبهم بمعرفته مقابل حصوله منهم مقدماً على تكاليف النشر المضاف إليها أرباحه الشخصية الطائلة بدلاً من قيامه بمنحهم حقوق التأليف المالية، وفي ثمانينيات القرن العشرين التقطت الأجهزة السيادية هؤلاء اللصوص الثلاثة الذين كانوا محل متابعاتها الدقيقة منذ سرقاتهم الطلابية المبكرة، وأخذت تقفز بهم للأمام في خطوات متسارعة نحو الشهرة غير المستحقة المشروطة بعضوية حظائر السيطرة، وبحلول التسعينيات كان أولهم قد تولى رئاسة تحرير مجلة ثقافية مصرية هامة مع منحه التراخيص اللازمة لمراسلة عدة مجلات ثقافية عربية في الوقت ذاته، بينما أصبح ثانيهم رئيساً لمجلس إدارة جمعية أهلية ومن ثم لاتحاد جمعيات العاصمة، أما الثالث فقد تنازلت له الدولة عن ملكية دار نشر وطباعة كبرى تحقق أرباحاً طائلة لحصولها على كل احتياجاتها من حصص الورق المدعوم ومنافذ التوزيع مع التسهيلات الائتمانية والإعفاءات الضريبية بمعرفة تلك الأجهزة، التي كانت قد سبق لها مصادرة دار النشر من مالكها الأصلي اليوناني الجنسية بعد طرده خارج مصر في ستينيات القرن العشرين، وبموجب أوضاعهم الجديدة فقد تم منح ثلاثتهم العديد من الجوائز الرسمية والأهلية ذات العوائد المادية والمعنوية، إلى جانب عضوية الغالبية العظمى من اللجان المشرفة على مختلف الشئون الثقافية بما فيها اللجنة الاستشارية العليا لرعاية معرض الكتاب السنوي والذي كانوا يدخلونه قبل عقدين لصوصاً، وقد تصادف أن نشرت دار "العالم الثالث" اليسارية كتابي المعنون "انهيار الدولة المعاصرة في مصر" عام 2006 ليحظى باهتمام سياسي واسع جعله ضمن قائمة الكتب المقرر مناقشتها في أنشطة عام 2007 لمعرض الكتاب، الأمر الذي أزعج الأجهزة فشرعت لإجهاضه حسبما تفيد أوراقها عبر أولئك اللصوص الثلاثة رغم أنه كان قد تم الإعلان رسمياً عن موعد ومكان الندوة المخصصة لكتابي وأسماء مدير الندوة وضيوفها، ولم يكن صعباً على ثلاثة لصوص كهؤلاء إلغاء الندوة صبيحة نفس اليوم المقرر لانعقادها باتباع الأساليب الالتفافية الملتوية لحظائر السيطرة التي كانوا قد أصبحوا من أبرز مشاهيرها، لاسيما وقد ساعدهم في ذلك أحد كبار رجال الأعمال الفاسدين من ممولي الأنشطة التجارية المصاحبة للمعرض والذي هدد مسئولي المعرض بوقف تمويله وهداياه لو انعقدت الندوة، كما ساعدهم أيضاً بعض بلطجية الأجهزة السيادية من سائقي عربات النقل الثقيل الذين داهموا بعرباتهم سيارات مؤلف الكتاب ومدير الندوة وضيوفها خلال تحركاتنا نحو المعرض من أماكن مختلفة حتى نلحق بالندوة، لنقضي اليوم كله موزعين على مختلف أقسام شرطة العاصمة المصرية لتحرير محاضر الإثبات واستخراج الخطابات الموجهة إلى شركات التأمين لتتدخل معنا في مواجهة وقائع الدهم، وقد سمح غيابنا القهري بأن يتم دفع رواد المعرض المتجمهرين أمام باب قاعة الندوات المغلق نحو الانصراف، بدعوى سابق ترتيب إلغاء الندوة بيننا وبين إدارة المعرض التي منحها ذلك الإخراج الدرامي فرصة التنصل من مسئوليتها عن المنع الغادر لندوة كتابي "انهيار الدولة المعاصرة في مصر"، الأمر الذي أسعد الأجهزة حسبما تفيد أوراقها باعتباره نجاحاً لحظائر السيطرة في منع انتشار كتاب سرعان ما أصبح بعد أربعة أعوام فقط ضمن أيقونات الاحتجاج الشعبي العارم الذي أطاح في يناير 2011 بجمهورية الخوف المصرية الأولى!!. ******* النظام القضائي الخاضع للاستبداد... (1) تندرج العدالة ضمن الأحلام المستحقة التي تسعى الإنسانية للوصول إليها أو على الأقل الاقتراب منها، ليس فقط باعتبارها تشكل أحد الأضلاع الثلاثة المكونة لمثلث الحياة النموذجية المستهدفة إلى جانب ضلعي السلامة والسعادة، ولكن أيضاً باعتبارها تجسد أحد المبادئ المثالية المطلقة لضمان تقدم الفرد والجماعة والمجتمع البشري والتي أدركتها العقول بالتفكير الموضوعي واستلهمتها الضمائر بالتخيل الوجداني، في ظل استمرار الصراعات البينية للأفراد والجماعات داخل المجتمعات المختلفة من أجل النفوذ والامتيازات والمصالح والرغبات بالإضافة إلى استمرار الصراع الإنساني المشترك ضد شرور الطبيعة، الأمر الذي استدعى مبكراً توافق الأفراد والجماعات الأقوى على وضع خرائط تتضمن تحديداً واضحاً لكافة الحقوق والواجبات المتبادلة في المجتمعات البشرية، عبر تثبيت المستحقات المادية والمعنوية والمختلطة لأصحابها مع منحهم السلطات اللازمة للقوامة على مستحقاتهم وحمايتها في مواجهة الغير عند الضرورة، لتظهر بذلك مجموعة القواعد العامة التي تنظم المراكز النسبية لكل الأفراد والجماعات على نحو يلزمهم بحدود سلوكية متبادلة في الواقع الميداني الحاضر وصولاً إلى استقرار المعاملات المستقبلية داخل المجتمعات، وسواء كانت قواعد السلوك البشري المذكورة مستمدة من مصادر تاريخية أو جغرافية أو ثقافية أو تعاقدية فقد كان من الضروري اقترانها بجداول عقوبات لمن يخالفها، حتى يتحقق الإلزام الإجباري بها على نطاق واسع بخلاف القواعد الأخلاقية ذات الالتزام الاختياري المحدود، ونظراً لما تدعو إليه تلك القواعد الإجبارية بجداول عقوباتها من تعميم يكفل توقيع نفس العقوبة تلقائياً كلما تكررت المخالفات نفسها بصرف النظر عن هويات الفاعلين والمفعول بهم، فقد أطلقت عليها اللغة العربية اسم "القانون" وهي كلمة إغريقية معناها الخط المستقيم، ومع تطور الإنسانية تعددت القوانين المنظمة لقواعد السلوك البشري الإلزامية وتنوعت بين الجنائي والمدني والإداري والعسكري، لتحدد كل مجموعة قوانين في مجالاتها المختلفة ماهية المخالفات والأخطاء والأفعال غير المشروعة التي تتجاوز المراكز النسبية المتفق عليها فتخل بالحقوق الخاصة أو الجماعية أو العامة، والموصوفة بالجرائم لكونها تشكل عدواناً يسبب أضراراً في مستحقات الأفراد والجماعات أو يهدد المصالح العامة والعليا للمجتمعات البشرية بالخطر، ويتم تقسيم الجرائم حسب خطورتها إلى المخالفات البسيطة والجٌنَح المتوسطة والجنايات الكبرى، بحيث تتصاعد العقوبات المترتبة على ارتكابها وفقاً لدرجة الخطورة من الغرامة المالية إلى تقييد حرية الحركة بتحديد الإقامة أو الحبس أو السجن وصولاً للإعدام، دون إغفال أشكال عقابية أخرى كان مأخوذاً بها على نطاق واسع في أزمنة سابقة من التاريخ الإنساني كالتشهير والنفي والأعمال الشاقة والتعذيب البدني وبتر بعض أعضاء الجسد وغيرها، لتصبح العقوبة القانونية هي الإجراء الوحيد الكفيل بإزالة الأضرار الناتجة عن الجريمة مع تعويض المتضرر عما أصابه من أذى بسببها، إلى جانب كونها الإجراء الوحيد الكفيل بإيلام المجرم ليس فقط لمنعه من تكرارها ولكن أيضاً لردع غيره قبل أن تسول له نفسه ارتكاب جرائم أخرى تضر بمستحقات الأفراد والجماعات أو تهدد المصالح العامة والعليا للمجتمع، ولمنع التعارض الميداني بين مجموعات القوانين المتنوعة السارية في مختلف مجالات الحياة فقد تم التوافق المجتمعي مجدداً على وضع نظام تنسيقي فوق كافة القوانين، أطلقت عليه اللغة العربية اسم "الدستور" وهي كلمة فارسية معناها أبو القوانين وسرعان ما أفرزت الدساتير نفسها القوانين المنظمة لكيفية سريانها وأعمالها، كما أدى اتساع نطاق المعاملات المتنوعة بين المجتمعات وبعضها إلى التوافق على وضع نظام لتنسيق العلاقات الخارجية فظهرت القوانين الدولية، ولإلزام الجميع بالدستور والقوانين كان لابد من وجود سلطة آمرة مهابة للفصل فيما يعرض عليها من منازعات خاصة أو عامة وصولاً إلى القضاء بين المتنازعين بأحكام صادرة تطبيقاً للقواعد الدستورية والقانونية السارية، فظهرت السلطة القضائية التي سرعان ما وضعت لنفسها أنظمة عملها داخل حدود منشآتها المسماة بالمحاكم اشتقاقاً من واقع احتضانها لمحاكمات يعقبها صدور أحكام، واضطر المتنازعون للبحث عن حقوقهم الضائعة والدفاع عن مستحقاتهم المهددة بين ردهات تلك المحاكم التي انعقدت عليها أحلام العدالة المأمولة من قبل كافة الأفراد والجماعات والمجتمعات البشرية وشعوب العالم كله بما في ذلك الشعب المصري!!. (2) منذ دخول مصر في الدولة الإسلامية عام 641 ميلادياً بدأ خلفاء الإسلام يرسلون إليها القضاة الشرعيين بهدف الإفتاء وفض منازعات المسلمين مع استمرار خضوع المصريين غير المسلمين لقضائهم الملي الموزع على مختلف طوائفهم، وقد ظهرت المحاكم الشرعية كأول مؤسسة قضائية منظمة في مصر عقب خضوعها للحكم العثماني عام 1517 حيث أصبح الخليفة يصدر الفرمان الخاص بتسمية قاضي قضاة ولاية مصر وتحديد اختصاصاته، ليقوم من جانبه باختيار نوابه ووكلائه ومعاونيه وقضاة المديريات الجغرافية المحلية مع اعتماد القضاة المليين السابق ترشيحهم بواسطة طوائفهم غير الإسلامية، ويوزع المهام التفصيلية على هؤلاء وأولئك ليمارسونها بشكل هرمي منظم تحت رئاسته وإشرافه المباشر، ثم ظهرت المؤسسة القضائية المنظمة الثانية عام 1740 بصدور الفرمان العثماني الذي أنشأ محاكم قنصلية في سفارات الدول الأجنبية العاملة داخل مصر، ومنحها الاختصاصات القضائية لفض منازعات رعاياها المقيمين على الأراضي المصرية تطبيقاً لقوانين بلادهم الأصلية، ومع حلول عام 1805 ظهرت المؤسسة القضائية المنظمة الثالثة عندما أضاف والي مصر "محمَّد علي" الاختصاصات القانونية إلى الديوان العالي المسئول عن فحص ومراجعة قرارات الدولة المختلفة قبل الشروع في تنفيذها على أرض الواقع، مع تغيير اسمه ليصبح ديوان القاضي وجعله تحت رئاسة نائب الوالي، وفي عام 1842 ظهرت المؤسسة القضائية المنظمة الرابعة عندما أنشأ "محمَّد علي" جمعية الحقانية التي تغير اسمها لاحقاً إلى مجلس الأحكام للنظر في شكاوى المصريين ضد إساءة موظفي الدولة لممارسة سلطاتهم، وفي عام 1856 ظهرت المؤسسة القضائية المنظمة الخامسة بصدور الفرمان العثماني المعروف بالخط الهمايوني لتنظيم اختصاصات المحاكم الملية في فض المنازعات القضائية للمصريين غير المسلمين، حسب شرائعهم وتحت إشراف القيادات الدينية لطوائفهم بمعزل عن المحاكم الشرعية الإسلامية، وبفضل مجهودات رئيس وزراء مصر الأول "نوبار" وخليفته "محمَّد شريف" تم إنشاء المحاكم المختلطة عام 1876 لتحل محل القضاء القنصلي وإنشاء المحاكم الأهلية عام 1883 لتحل محل ديوان القاضي، وفي عام 1949 تم إلغاء المحاكم المختلطة ونقل اختصاصاتها إلى المحاكم الأهلية ثم صدر القانون رقم 462 لعام 1955 بإلغاء المحاكم الشرعية والملية ونقل اختصاصاتها إلى المحاكم الأهلية، ثم صدرت مجموعة القوانين أرقام 82 و83 و84 لعام 1969 بتنظيم الفرعين الجنائي والمدني في المحاكم الأهلية كمؤسسة قضائية موحدة، وكان القانون رقم 112 لعام 1946 قد أنشأ مجلس الدولة ومنحه كافة الاختصاصات القضائية الإدارية السابق انعقادها لمجلس الأحكام بما فيها مراقبة الجهات الإدارية أثناء ممارستها لسلطاتها وفض ما يقع من منازعات بين بعضها أو مع الأفراد، ثم صدر القانون رقم 165 لعام 1955 بمنح مجلس الدولة حصرياً كل الاختصاصات القضائية المتعلقة بالجهات الإدارية والتي شملت فيما شملته التفسير والرقابة الدستورية لقرارات تلك الجهات، وفي عام 1969 صدر القانون رقم 81 بإنشاء المحكمة العليا ومنحها اختصاصات التفسير والرقابة الدستورية لقرارات وأحكام المحاكم الأهلية، ثم صدر القانون رقم 48 لعام 1979 بإنشاء المحكمة الدستورية العليا ومنحها كافة الاختصاصات المتعلقة بالتفسير والرقابة الدستورية على أعمال المحاكم وفض تنازع الصلاحيات الدستورية بين كل السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية نقلاً من مجلس الدولة والمحكمة العليا، وهكذا اكتملت ملامح السلطة القضائية المصرية المعاصرة بتوزيعها على أربع مؤسسات نوعية هي المحكمة الدستورية التي يتم تشكيلها واختيار رئيسها بقرار جمهوري صادر عن السلطة التنفيذية، ومجلس الدولة الذي يضم المستويين العادي والعالي من المحاكم الإدارية والتأديبية، والقضاء الأهلي بشقيه الجنائي والمدني والذي تتسع خريطة مكوناته لتضم النيابة العامة والنيابات المتخصصة والمحاكم الجزئية والابتدائية والجٌنَح والجنايات وأمن الدولة والاستئناف والنقض ومجلس القضاء الأعلى، مع عدة أدوات معاونة تابعة أصلاً للسلطة التنفيذية كدار الإفتاء الشرعي وإدارات الخبراء والطب الشرعي والصحة النفسية والشهر العقاري ولجان تسوية المنازعات والدعم الأسري ووحدات الاستيفاء والمحضرين وأمناء السر والكتبة والسكرتارية وغيرها، أما المؤسسة القضائية الرابعة والتي تبدو كأنها تعتلي الأخريات فهي القضاء العسكري!!. (3) ظهر القضاء العسكري كمؤسسة منظمة عام 1893 بصدور قانون الأحكام العسكرية الذي استمر سارياً حتى حل محله القانون رقم 25 لعام 1966 بتعديلاته المتتالية العديدة التي كان آخرها تلك الواردة في القانون رقم 21 لعام 2012، وينص القانون 25 على أن السلطات القضائية العسكرية تتمثل حصرياً في هيئة القضاء العسكري التابعة لوزارة الدفاع والتي تضم مدير سلاح القضاء العسكري ورئيس أركان هيئة القضاء العسكري والمدعي العام العسكري، وهؤلاء يترأسون ضباط القضاء العسكري وأعضاء النيابة العسكرية وأصحاب سلطة الضبطية القضائية العسكرية الذين هم ضباط المخابرات الحربية والشرطة العسكرية، ويعمل جميع رؤساء وأعضاء هيئة القضاء العسكري تحت قيادة وزير الدفاع الذي يصدر دون غيره قرارات تعيينهم ليحلفوا يمين الولاء أمام شخصه، ويحدد القانون المستويات الثلاثة للقضاء العسكري والمتمثلة في مستوى المحاكم ذات الدرجات الأربع ومستوى النيابة ذات صلاحيات التحقيق والحبس الاحتياطي والإفراج والإحالة إلى المحاكمة، ومستوى الضبطية القضائية التي لا تقتصر على ضباط المخابرات الحربية والشرطة العسكرية فقط بل تتسع حسب القانون لتشمل أيضاً قادة القوات المسلحة كل منهم في دائرة عمله، إلى جانب المخولين بسلطة الضبطية القضائية من وزير الدفاع أو ممن يفوضه الوزير في ذلك سواء كانوا ضباطاً أو ضباط صف أو جنوداً أو غيرهم، بالإضافة إلى ضباط الصف والجنود والأفراد العاملين لصالح المخابرات الحربية والشرطة العسكرية، كما ينص القانون على أن القضاء العسكري يختص حصرياً بنظر الجرائم الداخلة في اختصاصه وأن السلطات القضائية العسكرية هي وحدها دون غيرها التي تقرر ما إذا كان الجرم داخلاً في اختصاصاتها أم لا، وأن العسكريين والملحقين بهم يظلون خاضعين لأحكام قانون القضاء العسكري حتى لو خرجوا من الخدمة، ولرئيس الجمهورية أن يحيل إلى القضاء العسكري أية جريمة من الجرائم التي يعاقب عليها أي قانون آخر، ويصدق رئيس الجمهورية على أحكام القضاء العسكري الصادرة بالإعدام أو بطرد أحد الضباط من الخدمة، أما الأحكام بالعقوبات الأخرى مثل الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة أو السجن أو الحبس أو الغرامة أو تنزيل الرتبة أو الحرمان من الأقدمية أو التكدير فيصدق عليها من يفوضه رئيس الجمهورية في ذلك، وهو التفويض الذي ذهب في بعض الأحيان لرئيس الوزراء أو لنائب رئيس الجمهورية إلا أنه كان يذهب في معظم الأحيان إلى وزير الدفاع خلال العمر الزمني لجمهورية الخوف الأولى بين عامي 1952 و2011، ثم صدر القانون رقم 136 لعام 2014 بتفويض النائب العام في إحالة ما يراه من جرائم تخص المنشآت المدنية ذات الطابع الحيوي إلى القضاء العسكري، بالنظر إلى نصوص بعض مواد قانون القضاء العسكري على سبيل الأمثلة لا الحصر دون مناقشتها، نجد أن المادتين رقم 16 ورقم 20 تمنحان صاحب سلطة الضبطية القضائية العسكرية حق توقيف وتفتيش أي شخص يشتبه في أنه فاعل جرم أو شريك أو يحوز أشياء تتعلق بجرم أو يخفي شخص له علاقة بجرم مع ضبط ومصادرة الأشياء والأوراق التي تفيد في كشف الجرم، وأي شخص داخل أو خارج من مناطق الأعمال العسكرية والحدود والسواحل وغيرها من المناطق المدنية التي تحددها الأوامر العسكرية، أما المادة رقم 34 فإنها تسمح للنيابة العسكرية بحبس المتهم احتياطياً لمدة خمسة عشر يوماً ولقاضي محكمة الدرجة الأولى العسكرية بأن يمدها إلى خمسة وأربعين يوماً وللمحكمة العسكرية العليا بأن تمدها حتى ينتهي التحقيق مع المتهم بلا حد أقصى زمني، وحسب المواد أرقام 128 و129 و132 و134 و138 و138 مكرر و139 و151 و152 و153 من قانون القضاء العسكري فإنه يجوز الحكم بإعدام أي شخص خاضع لذلك القانون إذا قام بأي فعل يندرج ضمن قائمة طويلة من الأفعال المتعددة والمتنوعة، مثل الخروج عن طاعة رئيس الجمهورية ومناهضة السياسة العامة للدولة على الصعيدين الداخلي أو الخارجي، والامتناع عن طاعة الضابط الأعلى فيما يصدره له من أوامر بالوسائل المكتوبة أو الشفهية أو غيرها من الوسائل حتى لو كانت بالإشارة، والامتناع عن إخماد جريمة الخروج عن طاعة السلطة العسكرية بمجرد وقوعها، والتأخر في إبلاغ قيادته عن أي جريمة من الجرائم المنصوص عليها داخل قانون القضاء العسكري وفي مقدمتها جريمة الخروج عن طاعة السلطة العسكرية، والوقوع في أسر العدو لعدم اتخاذه ما يلزم من احتياطات أو التقاعس في العودة من الأسر، وأخيراً وليس آخراً يجوز الحكم بإعدامه عند تقصيره أثناء خدمته الميدانية والمتمثل في عدة حالات منها النوم أو السكر، أما المادة رقم 117 فتنص على عدم جواز الطعن بأي وجه في أحكام القضاء العسكري أمام أية هيئة قضائية أو إدارية، بينما يحصل العسكريون المحكوم عليهم بأحكام نهائية في الجرائم المنصوص عليها بقانون العقوبات العام وما يرتبط بها من جرائم أخرى على فرصة الطعن أمام المحكمة العسكرية العليا، بموجب المادة الثانية من التعديلات التي أدخلها القانون 21 الصادر عام 2012 خلال إدارة المجلس العسكري لشئون البلاد بتكليف من الرئيس المعزول "حسني مبارك"!!. (4) مع تطور النشاط الاقتصادي الإنساني بما أفرزه من أنماط وعلاقات إنتاجية واستهلاكية مختلفة من حيث درجات التوافق والتناقض، ظهرت المصالح المشتركة في نفس وقت ظهور المصالح المتباينة بين الأفراد والجماعات، كما تبلورت موازين القوة والنفوذ والتحالفات والمخاصمات داخل المجتمعات البشرية، وهنا استخدمت الفئات الاجتماعية الأقوى كافة الوسائل الخشنة للقهر العنيف جنباً إلى جنب مع الوسائل الناعمة للخداع الالتفافي بهدف دعم سيطرة تلك الفئات على الدول والحكومات بالشكل السياسي الذي يكفل حماية وتنمية مصالحها الاقتصادية داخل المجتمعات البشرية، وكان القضاء هو أفضل وسيلة لدعم السيطرة باعتباره يجمع بين الوجهين الخشن والناعم معاً، الأمر الذي اعترفت به منظمة "اليونسكو" التابعة للأمم المتحدة في تقريرها الشهير الصادر عام 1962 بالعاصمة الفرنسية باريس تحت عنوان "تاريخ البشرية"، فقد أكدت في الجزء الثاني من المجلد السادس للتقرير والمعنون "تطور المجتمعات" الحقيقة التاريخية التي مفادها، أن الهيئات القضائية هي قوة محافظة داعمة للأوضاع القائمة ورافضة للتغييرات المحتملة، وبالتالي فهي الأبطأ في الاعتراف بالاتجاهات الجديدة وفي منحها أي شرعية، لذلك فإنه ليس من قبيل المصادفة حسب تقرير "اليونسكو" أن النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الجديدة تقوم كخطوة أولى لها بتغيير الأنظمة القانونية والقضائية الموروثة، وهو ما يعطي سبباً إضافياً لدفاع الهيئات القضائية عن الأوضاع القائمة والموروثة حفاظاً على وجودها ذاته، وإذا كانت عجلة التغيير تبدأ بحرية التفكير تليها حرية التعبير تمهيداً لحرية التمكين التي تشمل حق مراقبة المسئولين ومحاسبتهم والمشاركة معهم في المسئولية العامة وصولاً إلى حق تداول السلطة، فإن التاريخ الإنساني زاخر بوقائع تثبت معاداة الهيئات القضائية لحريات التفكير والتعبير والتمكين وكراهيتها لحقوق المراقبة والمحاسبة والمشاركة وتداول السلطة، تحت مبررات الرطانة الوطنية أو الدينية التي يتم استخدامها في غير محلها بالكذب والتضليل على نطاقات واسعة، ورغم اتساق الأوضاع السياسية والقضائية المصرية في العصرين القديم والوسيط مع ذلك السياق الإنساني السلبي، فإن التذكير بواقعتين اثنتين من التاريخ المصري الحديث الممتد بين عامي 1805 و1952 على سبيل الأمثلة لا الحصر قد يكون أقرب إلى الأذهان، ففي عام 1877 وخلال تبعية مصر للدولة العثمانية التي كانت بدورها خاضعة للنفوذ الأوروبي، أصدر الخديوي "إسماعيل" قراراً بتأجيل فترة استحقاق سداد فوائد الديون الأوروبية على الخزانة العامة المصرية لمدة عام واحد، فلجأ الدائنون الأوروبيون إلى المحاكم المختلطة التي لم تكن مصرية رغم وجودها داخل مصر، لتحكم عام 1878 بأحقيتهم في الحصول على تلك الفوائد بدون تأجيل، وعندما حاول "إسماعيل" كسب الوقت من خلال المماطلة القضائية في تنفيذ الحكم استصدر الدائنون الأوروبيون فرماناً عثمانياً عام 1879 بعزله وتولية الخديوي "توفيق" خلفاً له، استناداً لحكم محكمة كان قد صدر تعبيراً عن موازين القوة والنفوذ في مصر آنذاك، وبعد حوالي نصف قرن زمني أصدر القاضي الشرعي الشيخ "علي عبدالرازق" كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم" والذي أثارت محتوياته الفكرية غضب الملك "فؤاد"، فأوعز إلى حلفائه الإسلاميين سواء في الحركة السلفية أو في جماعة "المنار" التي احتواها "الإخوان المسلمون" لاحقاً ليدفعوا هيئة كبار علماء الأزهر باعتبارها الهيئة العليا للقضاء الشرعي إلى الانعقاد يوم 12/8/1925، حيث قررت "إخراج المحكوم عليه علي عبدالرازق من زمرة علماء الأزهر ومحو اسمه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى وطرده من كل وظيفة عمومية سواء كانت دينية أو غير دينية وإعلان عدم أهليته للقيام بأي وظيفة أخرى وقطع مرتباته في أي جهة كانت ومخاطبة السراي والحكومة بذلك مع مصادرة كتابه الإسلام وأصول الحكم من المكتبات ومنعه عن الجمهور"، وعندما أراد الملك "فاروق" مكايدة السلفيين والإخوان المسلمين في إطار صراعه السياسي معهم أوعز إلى حلفائه المدنيين في أحزاب الأقلية أثناء توليهم الحكم، ليدفعوا هيئة كبار علماء الأزهر باعتبارها الهيئة العليا للقضاء الشرعي إلى الانعقاد عام 1946 لإصدار قرار جديد بإلغاء قرارها السابق صدوره عام 1925 ضد "علي عبدالرازق" مع رد اعتباره قبل أن يعينه "فاروق" كوزير أوقاف لمدة ثلاثة أعوام، أي أن نفس الشخص قد عوقب ثم كوفئ على نفس الفعل استناداً لحكمين أصدرتهما نفس الهيئة القضائية تباعاً، في تناقض كان تعبيراً عن اختلاف موازين التحالفات والمخاصمات خلال العشرين عاماً المنقضية بين صدور الحكم الأول عام 1925 وصدور الحكم الثاني عام 1946، ومع ذلك فإن تاريخ مصر المعاصر الذي بدأ منذ بداية جمهورية الخوف الأولى عام 1952 قدَّمَ النموذج العالمي الأبرز لاستخدام القضاء بواسطة النظام الحاكم، إلى درجة أصبح يصعب معها تمييز ما هو قضائي عما هو سياسي في الكثير من قرارات وأحكام المحاكم المصرية المعاصرة الموزعة على المؤسسات القضائية العسكرية والدستورية والإدارية والأهلية بشقيها الجنائي والمدني!!. (5) عقب عودة الجيش المصري من حرب فلسطين الأولى التي وقعت عام 1948 مهزوماً على أيدي العصابات الصهيونية المسلحة، قامت جمعية "الحرس الحديدي" النازية السرية التي كانت تعمل داخل صفوف الجيش بتغيير اسمها إلى تنظيم "الضباط الأحرار" مع إعادة تشكيل الهيئة العليا للتنظيم الجديد تحت رئاسة العقيد "جمال عبدالناصر" في سبتمبر 1949، وخلال النصف الأول لعام 1952 أصدر الملك "فاروق" قرارين متتاليين ضد اللواء "محمـد نجيب" بعزله من موقعه الوظيفي كمدير لسلاح الحدود ثم عزله من موقعه النقابي كرئيس لمجلس إدارة نادي ضباط الجيش، فأعلن "نجيب" سخطه الشديد على "فاروق" بشكل صريح أعطى انطباعاً لعموم الضباط بأنه أصبح من كارهي الملك، مما دفع "الضباط الأحرار" إلى الاتصال به والاقتراب منه تمهيداً لاختياره رئيساً شرفياً ليس لتنظيمهم الذي استمر تحت رئاسة "عبدالناصر" ولكن لحركتهم الانقلابية الناجحة ضد الملك "فاروق" في 23 يوليو 1952، وهي الحركة التي اختارت منذ لحظتها الأولى السيطرة على الدولة والمجتمع عبر سحق خصومها وضرب معارضيها، وهو ما يعترف به "أنور السادات" عضو الهيئة العليا لجماعتي "الحرس الحديدي" و"الضباط الأحرار" والنائب الأول لجمال عبدالناصر وخليفته في رئاسة مصر، رغم سعيه لتبرير السحق والضرب ككل زملائه أعضاء نادي الحكام الطغاة بقوله في كتابه الشهير "قصة الثورة كاملة" إنه كان حتماً على الجيش الذي يمثل الثورة سحق وضرب كل أعداء الثورة الذين تكتلوا ضدها وأيضاً كل الذين يدعمونهم بلا رحمة منذ اللحظة الأولى، لأنهم بعد أن أبقى عليهم الجيش أحياءً دون أن يبيدهم أو يفنيهم فقد تخيلوا أنهم قادرون على وقف الثورة بمؤامراتهم ضدها لعلمهم بأن موازين القوة والأمر الواقع تجعلهم عاجزين عن الاشتباك المباشر مع الجيش، وإن الجيش كان محقاً عندما ضرب على أيدي رجال الأحزاب بيد الثورة الحديدية لوأد جريمتهم قبل إتمامها، فقد كان لابد من إبعادهم عن طريق الثورة ولا سبيل إلى ذلك سوى بمعركة مسلحة يخوضها الجيش ضدهم بحزم وصمود وإصرار حتى يلقى كل أعداء الشعب والثورة مصرعهم، ورغم وضوح النزوع الاستبدادي المعادي للحياة السياسية والكاره للحريات المدنية لدى حركة الجيش الانقلابية منذ لحظتها الأولى بلسان قادتها أنفسهم، فقد حصلت على دعم قضائي كبير تسابق فيه عدد من أبرز القضاة المصريين مثل "عبدالرزاق السنهوري" و"سليمان حافظ" و"حسن الهضيبي" و"عبدالقادر عودة" بدوافع مختلفة لكل منهم، حيث كان القاضي "عبدالرزاق السنهوري" يخشى عودة الشرعية بما تتضمنه من برلمان يشغل حزب الوفد أغلبية مقاعده، لأن الأغلبية البرلمانية الوفدية كانت على وشك استصدار قانون لا يسمح للوزراء السابقين من القضاة سوى بالعودة إلى المحاكم للجلوس فقط على منصة القضاء دون تولي أية مواقع وظيفية داخل الهياكل الإدارية العليا للسلطة القضائية، مما يعني ضرورة تخلي "السنهوري" عن موقع رئيس مجلس الدولة والذي تولاه عقب تركه لمنصبه السابق كوزير معارف في إحدى حكومات أحزاب الأقلية، أما القاضي "سليمان حافظ" النائب الأول لرئيس مجلس الدولة والمسئول عن هيئة الرأي والفتوى والتشريع بالمجلس فقد كان متطلعاً بشغف إلى رئاسة المجلس وصولاً لأي منصب وزاري بأي ثمن، وأما القاضي "حسن الهضيبي" مرشد عام جماعة الإخوان المسلمين آنذاك ونائبه الأول في الجماعة آنذاك القاضي "عبدالقادر عودة"، فقد كانا يطمحان إلى احتواء حركة الجيش الوليدة داخل جماعتهما لتمكين الجماعة من اعتلاء السلطة ولو على حساب مجمل الحياة السياسية والحركات المدنية في الدولة والمجتمع، وهكذا تسابق هؤلاء القضاة الأربعة لتوفير كل ما طلبه العسكر من أغطية دستورية وقانونية وسياسية وجماهيرية لتمرير الانقلاب العسكري داخلياً وخارجياً طوال العامين التاليين لنجاحه في 23 يوليو 1952، إلا أن مساعداتهم المتعددة والمتنوعة لم تشفع لهم أمام طوفان الاستبداد العسكري، فبحلول عام 1954 رد لهم العسكر جميلهم بإعدام "عبدالقادر عودة" وحبس "حسن الهضيبي" و"سليمان حافظ" أما "عبدالرزاق السنهوري" فقد ضربوه بهدف قتله داخل مكتبه في مجلس الدولة ثم قاموا بتحديد إقامته في منزله مع منعه من السفر، أسوةً باللواء "محمَّد نجيب" الرئيس الشرفي لحركة الجيش الانقلابية والذي كان قد ظن أنه يمكنه تجاوز الوضع الشرفي ليصبح رئيساً حقيقياً لمصر!!. (6) في إحدى مناوراتها السياسية الفاشلة للوصول إلى السلطة، حاولت جماعة الإخوان المسلمين تحت قيادة مرشدها العام القاضي "حسن الهضيبي" ونائبه الأول القاضي "عبدالقادر عودة" احتواء حركة الجيش الانقلابية الوليدة داخل صفوف الجماعة، فاعترف الإخوان منذ اللحظة الأولى بشرعية حكم العسكر رغم قيامه على جثة الشرعية الحقيقية التي كانت منعقدة قبل انقلاب يوليو 1952 لحزب الوفد صاحب الأغلبية الكاسحة في الانتخابات الديمقراطية برئاسة "مصطفى النحاس"، حيث اجتمعت الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان يوم 26/7/1952 تحت رئاسة "الهضيبي" وأعربت عن فرحتها بنجاح حركة الجيش التي وصفتها بالمباركة مع الإشادة بها ودعوة الشعب المصري إلى تأييدها، ثم أصدر مكتب إرشاد الجماعة يوم 31/7/1952 بياناً عن الإصلاح المنشود في العهد الجديد متضمناً تحريض العسكر على البطش بخصومهم، فيما قاله من أن جيش مصر العظيم قد أزال عقبة كانت تصد عن سبيل الله والحق وتساند الفساد وتعيق الإصلاح، وأن عقاب الشعب أحق بأن يأخذ مع الملك السابق كل أعوانه من وزراء ورجال حكم وسياسة يسروا له سبل الشر والبغي والطغيان والفساد والاستغلال والغنم الحرام، ليمنح الإخوان المسلمون بذلك الاعتراف الكثير من الصكوك الجماهيرية والسياسية التي كانت تحتاجها حركة الجيش الانقلابية بشدة في لحظات ميلادها الأولى للوقوف على قدميها، وهو غدر ظل بعض الوفديين يجترونه داخل أعماقهم الحزينة حتى ردوه إلى جماعة الإخوان المسلمين في نفس شهر يوليو ولكن بعد ستة عقود زمنية، من خلال اعترافهم بشرعية حكم العسكر الذي قام يوم 3/7/2013 على جثة الشرعية الحقيقية المنعقدة للجماعة باعتبارها صاحبة الأغلبية الكاسحة في الانتخابات الديمقراطية السابقة تطبيقاً لمعادلة كما تدين تدان والبادئ أظلم، ليستمر الصراع المتبادل بين المجني عليهم من فريقي الوفديين والإخوان تاركين الانقلاب العسكري الذي هو الجاني الفعلي التكراري في حق هؤلاء وأولئك دون عقاب لينعم بغنائم الجريمتين، ومنذ البدايات المبكرة لانقلاب 23 يوليو 1952 انطلق قادة الجماعة وكوادرها يشاركون بشكل إيجابي في عضوية كافة المستويات التنظيمية لجمهورية الخوف الأولى، سواء كأعضاء في القيادة العسكرية العليا مثل "محمَّد رشاد مهنا" و"عبدالمنعم عبدالرؤوف" و"معروف الحضري" و"أبوالمكارم عبدالحي"، أو كأعضاء في مجلس الوزراء مثل "أحمد حسني" وزير العدل و"أحمد حسن الباقوري" وزير الأوقاف، أو كأعضاء في القيادة العليا للتنظيم السياسي الذي أنشأه العسكر تحت اسم هيئة التحرير مثل "البهي الخولي"، أما القاضيان "حسن الهضيبي" و"عبدالقادر عودة" فقد ترأسا كتلة إخوانية ضمت معهما الإخوة "صالح عشماوي" و"حسن العشماوي" و"كمال خليفة" في عضوية لجنة الخمسين التي شكلها العسكر عام 1952 لوضع الدستور الجديد، مع تولي بعض الإخوة لعدة مناصب تنفيذية واستشارية هامة مثل "صلاح دسوقي" و"عبدالرحمن السندي" و"سيد قطب" وغيرهم، وبالعودة إلى صحافة تلك الأيام يتضح جلياً حجم ما ارتكبه "الهضيبي" و"عودة" من خيانة لضميرهما المهني وثقافتهما القانونية، بتواطؤهما الفج مع مساعي العسكر لوأد الحريات وإسكات المعارضين وتصفية الخصوم تمهيداً لإحكام الاستبداد داخل كل الأروقة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على مظنة انتهازية لجماعة الإخوان المسلمين بإمكانية نجاح مناورتهم في احتواء العسكر المبتدئين داخل صفوف جماعتهم العتيقة وصولاً إلى سيطرة الإخوان على الدولة والمجتمع، إلا أن الإخراج الاحترافي المحبك لمسرحية محاولة اغتيال "جمال عبدالناصر" بالإسكندرية يوم 26/10/1954 أثبت تفوق العسكر على الإخوان في الدهاء، حيث منحتهم تلك المسرحية فرصة ذهبية لحل جماعة الإخوان ومصادرة مقراتها وأموالها واعتقال قادتها وكوادرها لتقديمهم إلى المحاكمة العسكرية، في القضية رقم 1 لعام 1954، والتي أسفرت عن أحكام بالأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة على ألف وخمسمائة منهم مع إعدام سبعة آخرين في مقدمتهم القاضي "حسن الهضيبي" مرشد عام الجماعة ونائبه الأول القاضي "عبدالقادر عودة"، الذي تم إعدامه فعلاً يوم 9/12/1954 بينما لم يتم تنفيذ حكم الإعدام بحق "الهضيبي" عقب تخفيفه في اللحظات الأخيرة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، نزولاً عند رغبة بريطانيا التي لم تكن قد أكملت بعد سحب قوات احتلالها العسكرية من الأراضي المصرية، فيما اعتبره المؤرخون عقاباً مستحقاً للغباء السياسي حيث خان القضاة من قادة الإخوان المسلمين ضميرهم المهني وثقافتهم القانونية لصالح العسكر دون حتى أن يتعلموا قواعد الخيانة الواردة في قواميس الاستبداد السياسي، مثل قاعدة أن شريك خيانتك للآخرين هو بطبعه خائن لا يؤتمن، وقاعدة أن الذي يضعك فوق رأسه لتساعده في التهام شركائك سوف يسقطك أرضاً لالتهامك بمجرد انتهائه من الآخرين، وغيرها من قواعد الخيانة التي لم يتعلمها أيضاً القاضي "عبدالرزاق السنهوري" رئيس مجلس الدولة ونائبه الأول القاضي "سليمان حافظ" فحصلا معاً من نفس العسكر على عقاب مستحق شبيه!!. (7) رغم اختلاف تقديرات المؤرخين حول معظم الأحداث التفصيلية المرتبطة بالبدايات الأولى لحكم العسكر في مصر المعاصرة عام 1952 حسب الاتجاهات الفكرية والسياسية لكل منهم، إلا أنهم قد اتفقوا جميعاً على التقدير السلبي لحقيقة ما ارتكبه القاضي "عبدالرزاق السنهوري" رئيس مجلس الدولة ونائبه الأول القاضي "سليمان حافظ" من أخطاء ألحقت بالدولة والمجتمع أضراراً بالغة، مثل عضو مجلس قيادة الثورة اليميني "أنور السادات" في كتابه "قصة الثورة كاملة" وزميله اليساري "خالد محيي الدين" في كتابه الشهير "الآن أتكلم"، وبينهما شهادات زملائهما "عبداللطيف البغدادي" و"كمال الدين حسين" و"حسن إبراهيم" الواردة في كتاب "الصامتون يتكلمون" لمؤلفه "سامي جوهر" إلى جانب الباحث الأكاديمي "عمرو الشلقاني" في كتابه الشهير "ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية"، حيث اتفقوا جميعاً على أن "السنهوري" و"حافظ" قد وضعا كل مهاراتهما القانونية المميزة منذ اللحظة الأولى لانقلاب يوليو 1952 في خدمة النزوع الاستبدادي للعسكر، على حساب حياة المصريين وأنصبتهم المشروعة من الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة بشقيها الاجتماعي والقضائي، لدرجة أن غلاف مجلة "روزاليوسف" الصادرة يوم 22/3/1954 قد نشر لهما معاً رسماً كاريكاتورياً يظهرهما في صورة أراجوزين يطبلان ويزمران ويدقان الدفوف والصاجات نفاقاً لأهواء الحكم العسكري الجديد، لاسيما بعد افتضاح خضوعهما المخزي للعسكر فيما ارتكباه من أفعال تضمنت كتابة الصياغة القانونية المحبكة لتنازل الملك "فاروق" عن العرش وإقناعه بتوقيعها ومغادرة البلاد نهائياً يوم 26/7/1952 تحت التهديد باغتياله، ثم تعديل قانون الولاية على العرش يوم 31/7/1952 بإضافة المادة رقم 11 لمنح مجلس الوزراء التابع للعسكر حق تشكيل هيئة الوصاية المؤقتة على الملك القاصر "أحمد فؤاد"، لتحلف اليمين أمام مجلس الوزراء وبالتالي أمام مجلس قيادة الثورة بهدف تحاشي المادة رقم 52 من دستور 1923 الذي كان سارياً آنذاك، لوضوحها في اقتصار حق تشكيل تلك الهيئة على مجلس النواب مع إلزامها بحلف اليمين أمامه، مما سمح للعسكر باستمرارهم في تعطيل البرلمان ذي الأغلبية الوفدية حتى قاموا بحله وإلغاء الدستور، وبتشجيع حماسي من "السنهوري" و"حافظ" إلى جانب القيادي الإخواني البارز "سيد قطب" بدعوى مفبركة حول ضرورة الردع المبكر لمن تسول له نفسه معارضة الحكم العسكري الجديد، وقعت مذبحة كفر الدوار يوم 14/8/1952 عندما هجم العسكر على مظاهرة سلمية لعمال غزل ونسيج شيوعيين كانوا يطالبون بزيادة أجورهم، فقتلوا منهم خمسمائة عامل واعتقلوا خمسمائة آخرين لتقديمهم إلى القضاء العسكري، الذي أصدر يوم 18/8/1952 أحكامه بعقوبات قاسية متعددة على رأسها إعدام اثنين من قادة العمال الشيوعيين المتظاهرين هما "مصطفى خميس" و"محمَّد البقري"، حيث تم إعدامهما فعلاً يوم 7/9/1952 أي بعد ثلاثة أسابيع فقط من واقعة التظاهر المنسوبة إليهما، وظل بعض الشيوعيين يجترون داخل أعماقهم الحزينة دعم الإخوان المسلمين لمذبحة كفر الدوار ضد أنصارهم حتى ردوه إليهم بعد ستة عقود زمنية، بصمتهم على مذبحتي رابعة العدوية ونهضة مصر اللتان نفذهما العسكر ضد أنصار الإخوان في نفس يوم 14/8 ولكن عام 2013 تطبيقاً لمعادلة كما تدين تدان والبادئ أظلم، ليستمر الصراع المتبادل بين المجني عليهم من فريقي الشيوعيين والإخوان تاركين الانقلاب العسكري الذي هو الجاني الفعلي التكراري في حق هؤلاء وأولئك دون عقاب لينعم بغنائم الجريمتين، أما "السنهوري" و"حافظ" فقد قاما في الأيام الأولى لانقلاب 1952 بإعداد قانون تطهير الحياة السياسية لإلزام الأحزاب بإعادة الإشهار عبر تقديم طلب جديد إلى وزير الداخلية مع منحه سلطة القبول أو الرفض، مما استثمره لاحقاً "سليمان حافظ" الذي أصبح هو نفسه وزير الداخلية عندما رفض طلب إعادة إشهار حزب الوفد اعتراضاً منه على وجود اسم شخص وصفه "حافظ" على الملأ بأنه "دمل يجب فقعه"، والذي لم يكن صاحبه سوى "مصطفى النحاس" رئيس الحزب وصاحب الشرعية الحقيقية لرئاسة الدولة والمجتمع آنذاك، والذي سبق له أن أمضى عشرين عاماً من عمره جالساً عتى منصة القضاء المصري ثم وقف أمامها خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين كشاهد إثبات على الأنشطة الإرهابية لتنظيم "الضباط الأحرار"عندما كان يحمل اسم جمعية "الحرس الحديدي"، وتكررت الشواهد على خيانة "السنهوري" و"حافظ" لضميرهما المهني وثقافتهما القانونية بإعدادهما لقرار حل جميع الأحزاب ومصادرة مقراتها وأموالها يوم 16/1/1953 والذي أعقباه بالقانون رقم 37 يوم 18/1/1953 لحل جميع الأحزاب نهائياً وحظر أي نشاط عام على أعضائها في الحاضر والمستقبل كأول تقنين تشهده مصر المعاصرة للعزل السياسي، ناهيك عما قدماه من فتاوى استبدادية عديدة تلقفها العسكر فأهدروا استناداً إليها العدالة والقانون وأبسط حقوق الإنسان، سواء فيما يتعلق بحل البرلمان وتأجيل الانتخابات وإلغاء الدستور أو بتمديد حالة الطوارئ ومحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري أو بغيرها من غرائب استبداد جمهورية الخوف الأولى، إلا أن القانون رقم 36 الصادر يوم 18/1/1953 بمعرفة "السنهوري" و"حافظ" يظل الشاهد الأوضح على تلك الخيانة بالنظر إلى ما منحه للعسكر من حصانة بنصه على أنه "تُعتبر من أعمال السيادة التي لا يجوز الطعن فيها كل التدابير التي اتخذتها أو تتخذها قيادة حركة الجيش التي قامت في 23 يوليو 1952"، وهي حصانة تسعى قيادة حركة الجيش التي قامت في 3 يوليو 2013 لاستعادتها مرة أخرى بعد أن أسقطها الإخوان المسلمون من النواحي الدستورية والقانونية رغم إبقائهم عليها من الناحية الواقعية خلال حكمهم لمصر بين عامي 2012 و2013!!. (8) اكتفى القاضي "عبدالرزاق السنهوري" رئيس مجلس الدولة ونائبه الأول القاضي "سليمان حافظ" بقراءة المتون الرئيسية لقواعد النفاق في قواميس الاستبداد السياسي بما تؤكده من الأهمية المطلقة لشاغل الموقع رقم واحد على رأس السلطة، دون انتباه منهما إلى وجود هوامش صغيرة خارج المتون ذاتها تشير إلى حالات استثنائية يكون فيها شاغل الموقع رقم واحد على الرأس الظاهر للسلطة هو مجرد واجهة شرفية يتستر خلفها الشخص رقم واحد الحقيقي، مما أوقعهما في شر أعمالهما بوقوفهما معاً إلى جانب رئيس الجمهورية اللواء "محمَّد نجيب" الذي كان قد ضاق بوضعه كرئيس شرفي لمصر وحاول طوال فترة رئاسته الممتدة بين عامي 1952 و1954 أن يصبح رئيساً حقيقياً، فاصطدم برئيس الوزراء العقيد "جمال عبدالناصر" الذي كان الرجل الأقوى في مجلس قيادة الثورة باعتباره رئيس تنظيم الضباط الأحرار والقائد العام للقوات المسلحة، حيث كان "السنهوري" و"حافظ" يعدان المكاتبات الداخلية الموجهة من "نجيب" إلى "عبدالناصر" وزملائهما الضباط الآخرين في مجلسي قيادة الثورة والوزراء حتى أنهما كانا يتفاوضان مع جميع الضباط كوكيلين عن "نجيب"، خلال محاولاته المتكررة والمتتالية لتمرير مطالبه المتعلقة بتمكينه الفعلي من السلطة عبر حصوله على عدة ضمانات، أبرزها عدم جواز اجتماع مجلسي قيادة الثورة أو الوزراء إلا بحضور رئيس الجمهورية ومنحه حق الفيتو على ما ينويان إصداره من قرارات مع تعهد أعضاء المجلسين بترشيحه دون غيره لانتخابات رئاسة الجمهورية التالية، وحقه الحصري بصفته رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة في تعيين ونقل وندب قادة وضباط الجيش مع إلزامهم بحلف يمين الولاء أمامه هو وليس أمام القائد العام للقوات المسلحة "جمال عبدالناصر" الذي كان ينافسه على السلطة، في تنافس انتهى يوم 15/11/1954 لصالح "عبدالناصر" بإقصائه "نجيب" عن رئاسة الجمهورية نهائياً ثم تحديد إقامته داخل أحد المنازل المهجورة في ضاحية المرج التي كانت آنذاك تقع عند أقصى الأطراف النائية للعاصمة المصرية، وعقب ذلك تمت إقالة القاضي "عبدالرزاق السنهوري" من وظيفته القضائية ورئاسته لمجلس الدولة ثم تحديد إقامته داخل منزله مع منعه حتى وفاته من مزاولة مهنة المحاماة الحرة ومن السفر خارج البلاد، كما تمت إقالة القاضي "سليمان حافظ" من وظيفته القضائية ومنصبه الوزاري ثم اعتقاله لفترة طويلة، بعد أن كان "السنهوري" قد تلقى خلال الصراع بين "نجيب" و"عبدالناصر" عدة ضربات متتالية، بدأت مبكراً بسحب ترشيحه كرئيس للوزراء نزولاً عند رغبة مزعومة أبلغها السفير الأمريكي في القاهرة "جيمس كافري" إلى "عبدالناصر" من خلال صديقه العضو البارز بتنظيم الضباط الأحرار "علي صبري"، ثم تعرضه لعملية حربية يوم 29/3/1954 تمثلت في ضربه المبرح بهدف قتله داخل مكتبه في مجلس الدولة على أيدي العشرات من عمال النقل والسكة الحديد بقيادة بعض أفراد الشرطة العسكرية، وهي العملية التي اتضح لاحقاً أنها تمت بتوجيه اثنين من الأعضاء البارزين في مجلس قيادة الثورة هما "زكريا محيي الدين" و"صلاح سالم"، وبتخطيط اثنين من الأعضاء البارزين في تنظيم الضباط الأحرار هما "أحمد حمروش" و"إبراهيم الطحاوي"، وتحت الإشراف التنفيذي المباشر لاثنين من الأعضاء البارزين في اتحاد العمال هما "أحمد طعيمة" و"الصاوي أحمد الصاوي"، وللغرابة فقد اتضح أن محاولة تصفية القاضي "عبدالرزاق السنهوري" تمت بتواطؤ مريب من نائبه الأول القاضي "سليمان حافظ" في إطار سعيه المبكر للحلول محله على رأس مجلس الدولة!!. (9) وفقاً للقاضي "أحمد مكي" الذي تولى وزارة العدل خلال فترة الحكم الإخواني لمصر بين عامي 2012 و2013 في شهادته الواردة ضمن كتاب أعده "نبيل عبدالفتاح" تحت عنوان "القضاة والإصلاح السياسي"، وحسب تقديرات البحث الأكاديمي المعنون "ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية" لمؤلفه أستاذ القانون في الجامعات المصرية والأمريكية "عمرو الشلقاني"، فإن الأجهزة السيادية بفروعها العسكرية والمخابراتية والأمنية والسياسية كانت قد استطاعت خلال حكم "جمال عبدالناصر" اختراق السلطة القضائية المصرية تمهيداً لاحتوائها والسيطرة عليها عبر سيف المعز وذهبه منذ ستينيات القرن العشرين، لاسيما بعد نجاح تلك الأجهزة في استصدار مجموعة القوانين أرقام 81 و82 و83 و84 لعام 1969 بإعادة تنظيم السلطة القضائية على نحو كفيل بإخضاعها، حيث أطلقت القوانين المذكورة أيدي الأجهزة لتعبث في الجسد القضائي بحل مجالس الإدارات المنتخبة لنوادي القضاة وتعيين لجان إدارية تضم توابع الأجهزة محلها، وعزل القضاة المستقلين من مناصبهم بناءً على التقارير الأمنية الواهية كذلك الذي استند إلى وجود صداقة شخصية مع القيادي الشيوعي "أحمد القصير" لعزل القاضي "ممدوح البلتاجي" في أوج التألق الرسمي والمجتمعي لعمته "أم كلثوم" سيدة مصر الأولى وسيدة الغناء العربي آنذاك، رغم أنه بعد مرور ربع قرن زمني على واقعة عزله أصبح "البلتاجي" وزيراً للسياحة ثم الإعلام ثم الشباب، وغير ذلك من أشكال الاختراق والعبث الأمني التي لم تزل مستمرة حتى الآن على كافة المحاور القضائية رغم اصطدامها بمقاومة ملحوظة تحت قيادة تيار الاستقلال القضائي سواء فيما تبقى من عهد الرئيس "عبدالناصر" أو طوال عهد خلفه الرئيس "أنور السادات" الممتد بين عامي 1970 و1981، وكان أول تجليات المقاومة هو صدور الحكم النهائي لمحكمة النقض عام 1972 باعتبار قرارات عزل القضاة في عام 1969 كأنها لم تكن، مع مواصلة الضغط على السلطتين التشريعية والتنفيذية لإصدار القانون رقم 43 لعام 1973 بعودة جميع القضاة السابق عزلهم إلى مواقعهم الوظيفية الأصلية، أما آخر تجليات تلك المقاومة خلال عهد "السادات" فقد حدث عندما رشحت الأجهزة السيادية أحد توابعها من القضاة هو "أحمد سمير سامي" المحامي العام الأول لنيابات الأموال العامة، كي يخوض معركة رئاسة نادي القضاة في مايو 1981 بدعم مادي ودعائي مطلق من تلك الأجهزة، ليسقطه القضاة سقوطاً مدوياً ويختاروا خصمه القاضي "وجدي عبدالصمد" المتعاطف مع تيار الاستقلال القضائي، وحتى لا تؤثر نتيجة الانتخابات على استخدامات الأجهزة لسيف المعز وذهبه مع القضاة صدر قرار جمهوري فوري بتعيين "سامي" وزيراً للعدل، ويفيد رصد اليوميات الخاصة بكيفية مباشرة القضاة لأعمالهم آنذاك في التعرف على بعض نماذج المقاومة، حيث تضمنت شهادة القاضي "مرتضى منصور" الواردة في كتابه الشهير "ضد الفساد" واقعة حدثت معه شخصياً عام 1976 خلال عمله وكيلاً لنيابة الإسماعيلية، عندما قرر حبس عدة مشجعين لفريق كرة القدم بالنادي الإسماعيلي على ذمة التحقيق معهم فيما ارتكبوه من عنف عقب انتهاء إحدى المباريات بهزيمة فريقهم، وكان بين المحبوسين أحد لاعبي الفريق فتدخل رئيس النادي "عثمان أحمد عثمان" وهو في الوقت ذاته مالك ورئيس مجموعة شركات المقاولين العرب الاحتكارية وصهر "السادات" رئيس الجمهورية، مستعيناً بكبار مسئولي السلطة التنفيذية لإقناع وكيل النيابة الشاب أو إجباره على إخلاء سبيل اللاعب واستثنائه من الحبس، إلا أن "منصور" أبقى اللاعب محبوساً مع بقية المتهمين على قدم المساواة حتى اكتمال مدة الأيام الأربعة المقررة بشأنهم في ظل دعم مهني كامل من تيار الاستقلال القضائي، ولم يستطع جبروت "عثمان" إزاء هذا الدعم سوى نقل "منصور" ودياً من مدينة الإسماعيلية الراقية إلى مدينة الإسكندرية الأكثر رقياً، دون أدنى قدرة على التدخل فيما أصدره من قرارات قضائية أو التأثير على سلامة موقفه القانوني رغم أن عمر وكيل النيابة كان في ذلك الوقت لا يتعدى الثلاثة وعشرين عاماً!!.
#طارق_المهدوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألاعيب أزهرية مكشوفة
-
رضينا بالهموم ولكنها ما رضيت بنا
-
صراع الفاشيات الدينية حول الهوية المصرية
-
قائمون على أمن أوطاننا أم نائمون بين أحضان أعدائنا؟
-
الانزلاق الاختياري المصري في مستنقع الصراع الروسي التركي
-
يا فرحة ما تمت...خطفها الغراب وطار
-
معلش...شدة وتزول
-
أتركوا الأطفال يفكرون خارج الصناديق لعلهم يصلحون أحوالكم الب
...
-
للضرورة أحكامها اليوم في مصر...
-
الأولوية لجبهة مكافحة الفاشية كضرورة عملية من أجل التصدي للك
...
-
الفيسبوك وأشباهه...مواقع للتواصل الاجتماعي أم للاستدراج الأم
...
-
عندما تصحو الكوابيس
-
الحرس الحديدي، نازيون يحكمون مصر...
-
بعض ما فعلته مؤسسات الذكاء السياسي بشعوبها...
-
المناورات الخطرة المتبادلة بين الإخوان المسلمين وخصومهم...
-
أينما يولي الشيوعيون المستقلون المصريون وجوههم سيجدون الموت.
...
-
وظائف وأبنية حظائر السيطرة القائمة في مصر...
-
النظام القضائي المصري بين واقع الاستبداد وحلم العدالة...
-
اعتلاء أكتاف الحركة الشيوعية المصرية على جثث الرفاق زكي مراد
...
-
تجربتي الشخصية مع الجرائم الطبية...
المزيد.....
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|