|
نيتشه وحكمة الإغريق الأولى
محمود العكري
الحوار المتمدن-العدد: 5029 - 2015 / 12 / 30 - 23:02
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن العودة إلى الإغريق تمثل مغامرة لابد من سبر أغوارها، انطلاقا من تبجيل تلك الأفكار الغنية التي قدموها لنا الفلاسفة القدامى و التي انبنى عليها العالم المعاصر كله فضرورة العودة المستمرة لهذه الحقبة بالضبط، تشكل بالدرجة الأولى اكتشاف نمط تفكير معين و نمط حياة لابد للباحث أن يتطلع على ما فيها مستمدا منها ما يروي عطشه، مكتشفا فيها ذلك الخيط الرفيع الذي لطالما ظل متماسكا صامدا في وجه كل الهجمات التي تعرض لها على مر العصور. لقد استطاع الشعب الإغريقي تجاوز كل الشعوب الأخرى، في كونه قد قام بتحديد تلك اللحظة المناسبة للتفلسف، مسلحا بالإبتهاج الغامر الذي يسببه النضج الرجولي المتين والمنتصر، أو بعبارة أخرى، منتشيا بلحظة العافية. فانبثق عن هذا الفكر العلمي المرح الصافي والمكتفي أيضا، ذلك المجرى العظيم الذي نطلق عليه اسم الفلسفة الإغريقية. و من هنا فمن الطبيعي أن نجد الفلسفة الإغريقية محط أنظار الكثير من الفلاسفة الذين قدموا بعضها، و على رأسهم نيتشه الذي ينظر إلى الحكماء الإغريق من طاليس إلى سقراط نظرة احترام كبير إذ يصفهم بالعمالقة الذين نسجوا الخطوط العريضة للعبقرية الإغريقية، وذلك بالرغم من اعترافه بتأثر هؤلاء الحكماء بالفلسفات الشرقية السابقة عليهم ولكنهم كانوا جديرين بالإعجاب لكونهم استطاعوا هضم ثقافات الشعوب الأخرى و ذلك لعدم اكتفائهم بمجرد الاستيراد و فقط، فعرفوا بذلك كيف يلتقطون الرمح من حيث تركه شعب آخر لكي يلقوا به إلى أبعد . فالفلسفة إغريقية بقدر ما بلغت في اليونان للمرة الأولى، شكلها الأعلى و أظهرت قوتها الحقيقية و أهدافها التي لا تخلط بتلك الخاصة بالشرق . فكان حكم الفلاسفة الأوائل على الحياة والوجود حكم غني بالمعاني، لأن الحياة التي شاهدوها كانت ذات امتلاء مفرط، و لم يكن وحي المفكر عندهم مضللا و مشتتا بين رغبة الحرية و الجمال و الحياة، و غريزة الحقيقة التي تتمحور حول سؤال قيمة الحياة و هكذا منح الإغريق وجود الفيلسوف شرعيته و الفلسفة شرعيتها فهم الوحيدين الذي لم يكن الفيلسوف في نظرهم مذنبا . تجدر بنا الإشارة في مدخل هذا الباب إلى مفهوم التراجيديا، والأصل اللغوي لهذا المصطلح، و ذلك قبل أن ندخل في تفاصيل الموضوع، أي التراجيديا كفن للحياة عند نيتشه. يتم تعريب كلمة تراجيديا كما هي أو يتم ترجمتها بكلمة مأساة وهي ذات أصل يوناني مركبة من جزأين هما: " تراخوس " التي تعني العنزة و " أوديا " التي تعني الأغنية و بتركيبهما ينتج المعنى التالي: " الأغنية العنزية". و العلاقة بين العنزة و التراجيديا كفن أدبي و مسرحي عند اليونان القدامى، تتمثل في أنه كانت تقام منافسات مسرحية احتفالية و الفرق المسرحية الفائزة تجازى بمعزة. و هناك تفسير آخر يقول أن أفراد الكورس أو الجوقة التي تنشد في المسرحيات، كانوا يلبسون ثياب من جلد الماعز. فالتراجيديا هي إذن جنس أدبي و فني و يمكن ملاحظة هذا من عناوين أشهر المسرحيات التي كان موضوعها مستمدا من الأساطير اليونانية القديمة، و هذا ما عبر عنه أحد شعراء المسرح التراجيدي حين قال: " إننا نعيش على فتات مائدة هوميروس " . و قد شاع استعمال كلمة تراجيديا عند الكثير من الناس، و في الغالب ترد للدلالة على الحوادث المفزعة التي تثير الرعب في نفس الإنسان كأن نعبر عن انهيار مسكن على ساكنيه أو تحطم مركبة براكبيها، إلى غير ذلك من الحوادث بأنها تراجيديا مرعبة أو مأساة حزينة. فالتراجيديا كعمل فني مسرحي ما هي إلا وليدة قوتين، هما القوة الديونيزية المنتشية والأبولونية الحالمة، و من هنا تجدر بنا الإشارة إلى السؤال الأهم في هذا الصدد و هو: على ماذا يعبر بالضبط الفن التراجيدي؟ و هذا اعتمادا على أن فن المأساة حسب نيتشه يعبر عن السؤال الأهم للفلسفة، و هو السؤال المرتبط ب: " معنى الوجود فالإنسان اليوناني حسب نيتشه قد اكتشف أن ظاهرة المأساة تمكننا من إدراك الطبيعة الحقيقية للواقع فالمأساة نشأت عن بصيرة نافذة أدركت عبث الوجود ورهبته، و عن يأس عميق يتيح لعنصر الجمال في المآسي العظيمة توليد المرح الديونيزوسي الكافي لإنقاذ الإنسان. إن أفظع شيء نقوم به إزاء الأساطير اليونانية القديمة هو السخرية منها مثلما فعل الميتافيزيقيون اللاحقون في إشارة واضحة من نيتشه هنا إلى رجال الدين خاصة المسيحيين منهم، الذين شنوا هجمات على الوثنية اليونانية، و من هنا فالأسطورة بالنسبة لنيتشه تمثل الخير المستنير و المشرق في حضارة اليونان وما عدا هذا الخير الخلاق هناك فقط أماكن العتمة و الظلام. و إذا كانت الأسطورة هي المادة المسرحية التراجيدية، فإنها تقدم في صيغ و أشكال متعددة منها الشعر و التمثيل و الموسيقى، و هذا العنصر الأخير يمثل الأهمية القصوى في المسرحية و الحياة بأكملها، لأنه " دون الموسيقى تغدو الحياة خطأ، الإله نفسه يرتل الأناشيد " . و كل هذه الأشكال المختلفة تجعل المسرحية التراجيدية جامعة لضروب فنية متعددة و المبدأ الجامع بين هذه العناصر السابقة الذكر أي الأسطورة، الشعر، التمثيل و الموسيقى هو النازع الإحساسي الانفعالي أي الاندفاعات الشعورية العارمة الغير خاضعة لرقابة العقل و حدود المنطق، فهناك تناسب طردي بين الإحساس و التراجيديا أي كلما نظر الإنسان إلى الواقع من زاوية نزوعية و شعورية، نما وتفتق إحساسه التراجيدي و العكس صحيح . و ما يمكن فهمه من هذا التحديد السابق أن الوسط الملائم لكل ما يتصل بالتراجيديا هو الجانب اللامعقول للإنسان، فلا يجب أن نطلب من التراجيديا أن تقدم لنا ما هو معقول و واقعي أو ما هو صحيح بالمعنى المنطقي، فالشاعر التراجيدي هو الأخ بالرضاعة للكذب، أو كما يقول هوميروس: " إن الشعراء لكذابون كبار" . و لا يسعنا مع نيتشه إلا أن نصف هوميروس بالروعة و السمو لأن ما خلفه من أناشيد و أشعار، تعتبر المادة الأولية و الخام لكل الأعمال التراجيدية الأصيلة هذا و إذا كانت الحياة تتصف بصفات مرعبة فهدف نيتشه كان هو تبرير طبيعة الوجود و لم يجد سوى الفن كوسيلة لهذا التبرير، في حين أن الدين و الفلسفة بمعناهما التأملي النظري، و حتى الأخلاق لا تستطيع تبرير الحياة بصورة ملائمة لأن هذه الفروع الثلاثة من المعرفة تشترك في خاصية واحدة و هي العقلنة . في حين أن التبرير الملائم للحياة يكون بقبولها كما هي و في صورتها المرعبة و الفظيعة، و يتم ذلك عن طريق إيجاد آلهة أرضية تتشبث بالحياة رغم مرارتها و ليس مثلما يفعل الإنسان النظري و الديني و الأخلاقي، و هذا يبدو جليا في الأشعار الهوميرية حيث نجد أبطالا يعبدون الحياة و يتصارعون و تدخل معهم الآلهة في هذا الصراع و تقوم بتذكيته، و ذلك عن طريق التحالف مع البشر ضد الآلهة الأخرى أو العكس. إن الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تحقق الفن المأسوي هي الفن، لأنه تجاوز للواقع كما هو موجود، لذا يكون الفن دواء للمعرفة، و لا تكون الحياة ممكنة إلا بفضل أوهام الفن، بما أن الجنون و الخطأ هما شرطا العالم العقلي و الحسي فنتيجة الصدق تكون هي القرف و الإنتحار، و بالتالي فالفن هو الدواء المناسب الذي يساعد على تجنب مثل هذه العواقب .
#محمود_العكري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|