|
الشاعرلقمان محمود يعيش الحياة باحثا عن جمالها في الحب
وجدان عبدالعزيز
الحوار المتمدن-العدد: 5029 - 2015 / 12 / 30 - 20:40
المحور:
الادب والفن
حينما وجدت نفسي امام قصائد ديوان (وسيلة لفهم المنافي) للشاعر لقمان محمود ، صار من المفيد ان اشير الى تعدد وتشعب مناهج النقد ، ابتداءا من القرن العشرين الذي امتاز بالتحليلِ في حقول الفكر والمعرفة وعصر اجتراح المنهجيات ومن معطفه ظهرت المناهج النقدية الحديثة التي دشنها الشكلانيون الروس (1915-1930) ودي سوسير مروراً بكشوفات النظرية البنيوية التي تقوم على تطبيق المنهج اللغوي في التحليل، ورفض المؤثرات الخارجية، وصولاً إلى السيميائيات التي حررت الأدب والنص الأدبي من سطوة البنيوية، وانتهاءً بالتفكيك الذي طور السيميائية إلى آفاق جديدة في البحث عما هو مغيب في الخطاب الأدبي. هذا ما يجعلني اتبنى الدعوة، وأعني بذلك الدعوة إلى خلق قارئ جديد يمتلك وعيا عميقا بالمنهج لقراءة النص الإبداعي الحديث وبخاصة النص الشعري الذي يعد من أكثر الخطابات الإبداعية تعقيداً. فالنص «فعالية لغوية –كما يقول الغذامي- انحرفت عن مواضعات العادة والتقليد وتلبست بروح متمردة رفعتها عن سياقها الاصطلاحي إلى سياق جديد يخصها ويميزها». يقول ادونيس : (دور الشاعر اذن هو ان يشارك بطاقته كلها في تكامل الانسان خلال الزمن ، بين شهوة الحياة وغبار العالم ، فللشاعر ميزة مزدوجة : عالق بالتاريخ ملتصق به حتى الانصهار، منفصل عنه ، بعيد حتى الغربة ، انه لايؤخذ بالحياة الا فيما هو يبحث عن حياة اخرى ثانية وراءها) ، من هنا وعبر سياقات القراءة ، قد اسوغ لنفسي الدخول لديوان لقمان محمود ، الذي تحرك برؤية محددة وموقف ثانت من الجانب الذاتي المنصهر بالجانب الموضوعي .. فهو يعيش بامتلاء الحياة مازجا اياها بالحلم ، والشعور بالمحيط .. وكان من الحسن ان انقل جزء من رسالة جبران لماري هاسكل سنة 1913م حول الفن والحرية ، حيث يقول : (اني سعيد جدا لاعجابك بالعرض الدولي للفن الحديث، انه ثورة واحتجاج واعلان استقلال، ان الصور بحد ذاتها ليست عظيمة، بل ان الجميل منها قليل جدا، غير ان روح المعرض بوجه عام جميلة وعظيمة معا ، التكعيبية، التأثرية، ما بعد التأثرية، المستقبلية ... هذه كلها ستقضي وتزول، وسينساها العالم ، لان العالم ينسى على الدوام التفاصيل الثانوية، الا ان روح الحركة لن تقضي ولن تزول، لانها حقيقية ، كما هو جوع الانسان الى الحرية حقيقي ، بمقدور الانسان ان يكون حرا دون ان يكون عظيما، لكن ليس بمقدور اي انسان ان يكون عظيما اذا لم يكن حرا)، هكذا اراد الشاعر لقمان محمود ان يكون حرا اولا والبقية تأتي .. ففي قصيدة (التراب) يقول :
(مثخناً بالذكريات، كغبارٍ مفجوعٍ بالتراب هكذا أراني متشبثاً باللامكان، وبالقبر الذي يتناثر في المنافي. أمضي إلى بيتي الأول، أمضي إلى طفولتي أتنفسُ البيت الطيني، كأنني رئة التراب. يقيناً أيتها الأرض الأخيرة أنكِ ساترٌ ترابي لمكانٍ يسقط، لمكانٍ يصمد غير أني قناصٌ فاشل، أنظر من زاوية معتمة إلى الهزائم.
سأروي كيف كان أبي يرسل إلى المعركة قوت عائلته، وعندما اشتدت الحرب أغلق دكانه، و إلتحق بثورة لم تصمد طويلاً. عاد أبي مهزوماً وجريحاً، ومات قبل أن يعرف أنّ شقيقه قد استشهد. في تلك الليلة أغمضتُ عيني على الدموع: ضجيجٌ في الغرف، ضجيجٌ في باحة المنزل، ضجيجٌ في الشارع، و هدوءٌ على جثة أبي. بعدها بأعوامٍ تدحرجت حروبٌ أخرى، إلى جهة أخرى في قلب الشمال: حروبٌ معجلة، حروبٌ مؤجلة، حروبٌ وقحة،
حروبٌ خاملة، حروبٌ حاقدة، حروبٌ غادرة، و حرب الأخوة. غير أنّي لا أحتاج إلى براهين جديدة في انهيار الأعمار والحقائق، و أنتِ على ما أنتِ عليه: فاتحةً للأبد قبر الحياة. لكل ذلك سأكتمُ أنيني، فالمشهد على حاله من "كوباني" إلى "شنكال".)
هذا الشعور بالمحيط واستلهام التاريخ ومزجه بالحاضر ، جعل الشاعر يعيش حريته الطقوسية الخاصة به .. جعله يكرر فعل الاستيقاظ رابطا اياه بحالة الانتظار .. وهنا نلاحظ التصاقه بالتاريخ وانفصاله منه ، ليبحث عن حياة اخرى ، كما اشار الى ذلك ادونيس .. وقال ادونيس ايضا عن الشاعر ابوشبكة : (يعيش في مسافة يحدها طرفان : الاول البراءة وتتمثل في الطفولة والحلم والطهر، والثاني العالم اي الواقع او الدنيا ، وفي هذا الطرف الثاني يكمن الشر، انه فردوس لكنه مليء بالافاعي ) ، وهكذا كلما اوغل في قراءة خلجات لقمان محمود الشعرية ، اتذكر ما قرأت عن الشعر والشعراء ، لاجد لقمان يعيش الحياة باحثا عن جمالها في الحب ، لهذا اجده يلجأ لامرأة يبدو انها كانت عنوان الحب الحقيقي في حياته ، انها دلشا يوسف ومن مزاياها الحسنة انها شاعرة تحلق معه في عوالم الحلم .. يقول لقمان : (أنتظر إمرأة/ـ تحب القصيدة/أكثر من المرآة ـ/لتجمع من حديقة ناري/باقة ضوء.)، ولن يفارق روح تلك المرأة ، رغم انها زوجته .. ولكن يبدو ان الشاعر قد جسد الحياة وجمالها ذهنيا من خلال دلشا .. فهي الوطن والجمال والطبيعة والمحيط والتاريخ .. وهي الام ايضا .. (أنتظر عاصفة قوية/تقتلع الظلم من الجذور/ولا تترك سوى هيكلها العظمي/تمثالاً للحرية.)، وبقي الشاعر يعانق المحيط بمحبة ويفارقه، حينما يقسي على مساحات الحب والسلام يقول في (حمامة الأيزيدي):
(للحمامةِ نشيدها الأبديُّ المفتوحِ على سلامٍ لا يتّبع إلا ذاته. سلامٌ يتجاهلُ الحربَ الواقفة في تاريخنا المعذّبِ بدماء القامات. حمامةٌ، ستبقى حمامةْ في وطنٍ كلما استيقظ من جهاته تَقَطَّرَ الشمالُ دماً. و أنا أنا، حجرٌ ليسَ في ذاكرته سوى الجبل.)
تغنى هنا بمحيطه الطبيعي ، لكن باغنية حزينة نتيجة لذلك الدم المباح في نفوس كريهة لاتدرك معنى الحياة ، فالحقيقة كامنة في جوهر الانسان واعماقه التي تحمل الحب والسلام ، وفي قصيدة (سيرة البرابرة الجدد:) مهداة إلى الطفلة الشهيدة روناهي ، كان الشاعر هنا قد فجر ثورة احتجاج كبيرة بقوله :
(البرابرة آتون من ليلٍ كافر ليقتلوا ضوء البراءة في طفلةٍ أعلنت كرديتها في ضفيرة. البرابرة آتون من موتٍ عنيد ليمسحوا مقبرة عُلّقت اسمها بأغاني الشهداء.
البرابرة آتون من قرآنٍ محبوسٍ في معركةٍ كاذبة. البرابرة آتون من أشواكٍ أدمت خاصرة الدين الحنيف.)
(فالاديب كما يقول عماد الدين خليل : "هو واحد من المدعوين للمارسة الخطيرة بفنه القادر على التأثير والتحصين، بل انه مدعو اكثر من هذا الى دعوة المجتمعات الاسلامية لاستعادة ممارساتها الاصيلة وقيمها المفقودة وتكاملها الضائع وتقاليدها الطيبة واحساسها المتوحد وصيغتها الايمانية التي ابهتتها رياح التشريق والتغريب")، فهل يبقى الدين الاسلامي الحنيف اسير للبرابرة الجدد ، فالشاعر لقمان محمود باشارة شعرية باثة قاد ثورة من اجل اظهار وجه الدين الجميل .. وكل رسالات السماء جاءت من اجل الحب واحلال السلام بين الناس .. فليس غريبا على الشاعر ان يرفض كل قبح وكل عنف وتوجيه رسالة تحمل بين طياتها اشارات تنويرية لتصحيح مسار التوجه للتشويه وقلب معالم القيم الانسانية والروحية للانسان ..(فنامي أيتها الوردة/نامي/فقد مال "الربيع العربي" عن مساره ؟!.)، وهنا ربط انحراف مسار الدين مع انحراف الثورات الشعبية التي قامت بها شعوب العرب للتخلص من الدكتاتوريات القبيحة ، ولكن بالمقابل نجد الشاعر يستمر بالثورة ويدعو جماليا للتغيير ... وربط ايضا بين الثورات والخبز بقوله :
(قام القمح بثورته الأولى فكان التنور ثم تناسلت الثورات فكانت الأفران ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن يعتبر الرغيف من أهم المنجزات.)
هذا الربط بين الحتميات الطبيعية ، فكل حركة لابد من نتيجة ، وهذا تداخل في النصوص .. يقول الغذامي : (لذا فان النص المتداخل ، هو نص يتسرب الى داخل نص اخر، ليجسد المدلولات، سواء وعى الكاتب بذلك ام لم يع)، بمعنى الشاعر تناص واجتر الخميرة التي في داخله ، لاجل ترسيخ موقف معين لايتقاطع مع لا وعيه حتى ..وهذه فكرة رولان بارت فيما سماه (النص الجماعي) ، يقول الشاعر لقمان :
(بعد أنْ قتل الطاغية صعد إلى الجبل و أشعل النار كعلامة لإنتصاره فأشعل الشعب المنتظر، أيضاً النيران لأنَّ الخلاص عيد.)
اذن رسخ الشاعر قضية الثورة والخلاص .. ويردفها بقوله :
(قالت دلشا في المطر تتكلّم المظلة أيضاً لكن بلغة السماء. -;-
هذا الحب قاتل ورغم ذلك أحبّه كقتيل. -;-
ما هو غامض في الحب :أنه ماءٌ مكتظٌ بالعطش. -;-
في جنازة الطغاة حتى مسامير النعش تكون فرحة. -;-
تزهرُ النّارُ أيضاً لكن في قلب فراشة عاشقة.)
وهنا اكتملت رؤية الشاعر في الثورة والحرية والحب .. الثورة في احتجاجاته ، والحرية في البحث عن الخلاص ، والحب دلشا التي تمثل له عنوان حياة وامل .. ومن هنا نقل لنا الشاعر لقمان محمود صور احتجاجاته على محمولات شعرية تفاوتت في القوة والضعف والحضور .. يقول ادونيس : (من هنا كان الشعر اعمق انهماكات الانسان واكثرها اصالة ، لانه اكثرها براءة وفطرية والتصاقا بدخائل النفس . ومن هنا كان الشعر وسيلة حوار اولي بين الانا والاخر ، ووسيلة ايصال اولي ، فهو لانغراسه في اعماق الانسان ، فعال وملزم ، انه حميّا تسري في الانسان وتسري ، من ثم عبر سلوكه ومواقفه وافكاره ومشاعره في الحياة والواقع).. لهذا يردد الشاعر بخيلاء :
(في قدميَّ سأكتشفُ الطرقات البعيدة فانتبهي أيتها الحياة عندما أهزُّ غصنكِ بكل أثقال المسافة. انتبهي فقط يا شجرةً ليست لي.)
من هنا سيبقى الشاعر لقمان محمود بطروحاته الشعرية مثار جدل ومثار اسئلة متوالدة الرؤى .. تحتاج دوما لقراءات متعددة محلاة باكثر من تحليل وبأكثر من استرداد للمعاني ..
#وجدان_عبدالعزيز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعر لينا شدود/تقود ثورة احتجاجية
-
الكاتبة ميمي قدري/تخوض تجربة كتابية جديدة
-
الشاعرة عواطف بركات/ بالأنسنة خلقت علاقة مع الاشياء شعريا
-
الشاعر حسن البصام / بين الهدوء الشعري والانفعال العقلي
-
الشاعر رياض الغريب .. نسق مضمر في عيد المرأة
-
الكاتب علي لفتة سعيد /خلق من الادب شخصية موازية لخلق ذاته ال
...
-
الكاتبة امينة عبدالله/تعيش حالة التداخل النصي والتداخل النفس
...
-
الشاعر حبيب النايف/بين الرؤية المتحركة والموقف الثابت
-
الشاعر احمد محمد رمضان / ين التغريب والترميز مضمونا والومضة
...
-
اضواء الروح / في ديوان (موسيقى الصباح) أنموذجا
-
الشاعرة خلود البدري في لوحات شعرية تثير الدهشة
-
الكاتبة كاميﻻ-;- زيتون/وبناء الشخصية من خلال جغرافية
...
-
الكاتبة لونا قصير عالمها عراقي عربي مفتوح النوافذ على العالم
...
-
الشاعرة سيدة بن علي / ترفض القبح والعداوة وتقبل الجمال والحب
-
الحضور لا الغياب/ قصيدة(الشاعر يتقدم) لصادق الطريحي أنموذجا
-
الحوار وحسن الظن بالله وبياض النية/وقصيدة (حكيمة الغيم) للشا
...
-
الشاعر علي الامارة/يرثي الناقد محمد الجزائري بالتذكير
-
الشاعرة مها الصافي /تحرك الذائقة بحضور نثري شعري متميز/ديوان
...
-
رباعيات القاسمي / مواقف باتجاه القبول والرفض
-
(إلى عدنان طعمة ، المفجوع بابنه سجاد) ، قراءة في قصيدة الشاع
...
المزيد.....
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|