مناهضة العولمة و " روح العصر "
تعني مناهضة العولمة اليوم ، باعتبارها الحركة الاجتماعية العالمية الناهضة والواعدة ، موقفا حازماَ وواضحاَ من اجل الديمقراطية وتوسيعها بالمزيد من المشاركة المواطنية المباشرة في إدارة الناس لشؤون حياتهم . لأن أحد الضحايا الأولى للعولمة الليبرالية المتوحشة –بالرغم من ضجيج الخطاب الأيديولوجي الليبرالي- هي تحديداَ الممارسة الديمقراطية نفسها.
هذه الأزمة التي تتعرض لها المؤسسات والممارسات الديمقراطية منذ سنوات وحتى داخل البلدان الديمقراطية الأكثر عراقة ، هي مثار سجال فكري وأعلامي وسياسي عميق , وتشكل أحد المحاور الأساسية لنضالات الحركات الاجتماعية في هذه البلدان. بل بدأ أعضاء البرلمانات "ممثلي الشعب" يعلو صراخهم اكثر فاكثر بالشكوى من تقلص مساحة السلطة التشريعية الفعلية الباقية لهم ، والتي سحبتها من أيديهم مؤسسات فوق-قومية غير منتخبة وغير ديمقراطية تفرض على الدول والمجتمعات (والديمقراطية منها) سياساتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية. لكن هذا لا يعني –بأي حال- انتهاء دور الدولة ومسؤولياتها.
في بداية الثمانينات , شهدت العديد من البلدان في أمريكا اللاتينية واسيا وأفريقيا تجارب انتقال ديمقراطي تفاوتت أهميتها وعمقها وفق الشروط الخاصة في كل منها. و شهد العالم في نفس الفترة ، وثوب القطاعات الأكثر شراسة ومحافظة للرأسمالية لاستلام مقاليد الحكم في كل من بريطانيا والولايات المتحدة.
ولاستكمال الصورة ، علينا أن لا ننسى أن الإدارة الأمريكية وحلفائها ، في معمعة الحرب الباردة، قد استخدمت الفكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان كجزء من أدوات الحرب الأيديولوجية ضد أنظمة شمولية هي الاتحاد السوفياتي ومنظومته(هذا في الوقت الذي كانت تتأمرهي فيه على أنظمة ديمقراطية وتساند أنظمة دكتاتورية)، في المقابل كان الاتحاد السوفياتي وحلفائه مستمرين في طرح أيديولوجية تدعو للمساواة والعدالة !!( بعد أن تخلت بيروقراطيتها الحاكمة عن طوبى المساواة والعدل فعلياَ، وحققت لجماهيرها مساواة العوز والرعب).
واخيرا ، في عام 1985 ،على الرغم من محاولات البرويسترويكا إدامة بقاء البيروقراطية الحاكمة ، عبر خطاب عصري يدعو" لدمقرطة" النظام الحاكم. لم تمنع انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشمولية الملحقة به ، دون حرب ودون دور يذكر للقوى "الديمقراطية" آو "المجتمع المدني"، طبعاَ باستثناء بولونيا حيث لعبت فيها حركة التضامن والكنيسة دوراَ هاماَ. تم ذلك بقرار من قسم من الشريحة الحاكمة الأكثر حرصاَ على المحافظة على مصالحها تاريخياَ فتحولت من حيازة وسائل الإنتاج إلى ملكيتها. لكن ، لا بد من الإقرار بان خطاب" البرويسترويكا" ساهم بشكل غير مباشر، مع كل ما سبق، في إضفاء سمة تحولات ديمقراطية "للعصر".
ما نريد قوله انه مع سيرورات الانتقال الديمقراطي هذه في الثمانينات ولغاية بداية التسعينات ، ساد العالم حقاَ شعور بنهاية الأنظمة السياسية الاستبدادية الفظة. وربما صح القول بان "روح العصر" كانت حينئذ تتوافق مع هذا الميل العام. ولكن ، تغير الحال منذ عام 1991 وحرب الخليج الثانية، وسيادة سياسة العنف والحرب والحصار والتجويع التي يفرضها النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة ، ولا سيما مع استراتيجيتها بمكافحة " الإرهاب" التي يمكّنها من أن تجعل أي كان : شخص أو مجموعة أو حزب أو جمعية أو بلد أو شعب... " إرهابيا" وتحشد له كل أساطيلها وقواتها لسحقه والبطش به. وبالطبع فان هذا البطش له مقابل "إنساني"! وهو وعدها بإقامة نظام "ديمقراطي جداً"! مكانه، كما حصل في أفغانستان. فان العولمة المعسكرة هذه تضع العالم بأسره اليوم في حالة طوارئ مستمرة، و"الديمقراطية" التي تعد بها ليست إلا صورة مسخ عنها على شاكلة " ديمقراطية قرضاي". والحال، فان طوفان وجبروت وسائل الإعلام التجاري الكبرى التي ترافق هذه العولمة وتشكل أحد جوانبها الهامة في غسل دماغ البشر على صعيد عالمي، محاولة أن تفرض علي البشرية فكر أحادي وشمولي، يزرع الوهم بان هكذا مسخ للديمقراطية هو الديمقراطية بعينها ، إنما يؤكد حقيقة هذه العولمة الشمولية والعسكرية النزعة.
بهذا المعنى، يمكننا القول بأن "روح" الثمانينات والتسعينات قد افلت. مما يعني أن بناء ممارسات سياسية على أساسها الآن إنما يعبر عن حالة انفصام و "تأخر" عن "روح العصر" الفعلية ، أي عن فهمنا للعولمة وتأثيراتها، اكثر من عقد من الزمن.
"روح العصر" اليوم هي إرادة المقاومة ضد عولمة استبداد الإفقار والتهميش والإقصاء والحرب والهيمنة والحرية المطلقة لرؤوس الأموال في تقرير مصير وحياة الغالبية الساحقة للبشرية . "روح العصر" اليوم تعني الكفاح من اجل ديمقراطية المشاركة المواطنية، فلم يعد يكفي التغني بالديمقراطية التمثيلية التي تتفرغ كل يوم من محتواها . لأنه في الوقت نفسه الذي تنخرط فيه ملايين البشر في نضالات مقاومة العولمة الرأسمالية المتوحشة ، فإنها تبني بدائل ديمقراطية تعددية وإنسانية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ، وتبني أسس جديدة ومبدعة للممارسة الديمقراطية تقوم على تقرير المواطنين الأحرار أنفسهم لشؤون حياتهم، ومشاركتهم المباشرة في الشأن العام و أدارته.
هذه البدائل تبنى بالإرادة الحرة والواعية لغالبية مواطنو العالم. لان " رياح التاريخ وحدها لا تكنس سوى الغبار" .
د.غياث نعيسة
كاتب سوري-ناشط في مجال حقوق الانسان ومناهضة العولمة
ك2 - 2003