|
روعة اللمسة الأخيرة / قصة طويلة
محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 5022 - 2015 / 12 / 23 - 00:08
المحور:
الادب والفن
روعة اللمسة الأخيرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة طويلة
عُشت ُ مريضا ً . مرضي عضال ٌ لا يخفى على أحد ٍ ، وقد ابتليت به منذ الصغر ، إنه الفضول .. الفضول الذي لا دواء له غير الموت ، وما برحت أدس أنفي عنوة ً في كل الأمور ، مستطلعا ً ، دون تردد ٍ ودون روية !.. ساقني مرضي هذا لملاقاته وكان أبعد ُ ما يكون عن حياتي . في أخس وأتعس مكان ٍعلى سطح الأرض تعارفنا .. في أحرج اللحظات وأخطرها !.. لم أكد أصدق مطلقا أن كبش كتيبة المخدّرين سيغدو صديقي ، وأن نتبادل كلمات الثناء والابتسامات الودودة بين دوي القنابل ولعلعة الرصاص ، بينما كان الدخان يلفــّنا وكأننا نعوم في السحاب .
منذ الصباح الباكر جاءه أحد أصدقائه القدامى .. جاء متنكرا ً بزي رجال الإطفاء !.. يعتمر قبعة تشبه الخوذة ، حاجبا ًعينيه بنظـّارة كبيرة معتمة ، ويحمل قنينة أوكسجين كبيرة الحجم وأدوات اللـّحام الأخرى .. جاء بهيئة الشيطان الجذل ، منتشيا ً وطروبا . أخبره أن الجماهير سوف تثور منتفضة ً هذا اليوم بعد الظهر . قال إنهم سيحاولون الاستيلاء على المدينة بقوة السلاح ، وأنهم سيقتلون من يقف في طريقهم . ثم أردف وهو يبتسم ابتسامة المدمنين المـُعوَجة والمبتورة قائلا ً : - إن الحكومة ستهرب من المدينة بكل تأكيد.. وتكون الفرصة مذلـّلة لنهب الأموال .. وأفضى بما يخبئه في قراراته من رغبة ٍ جموحة ٍ في سرقة مصرف المدينة ، وقال بحزم : - يجب أن لا نضيع هذه الفرصة يا ( أبو الروض ) .. ستكون عضيدي وشريكي .. إنهم لا يثورون كل يوم .. هل تسمعني ؟.. إنهم يثورون كل ألف سنة ٍ مرّة ً واحدة .. يجب أن تكون مستعدا ً ويقظا ً، وإلا سوف أضطر أن أنتظر ألف سنة ٍ أخرى مثل هذه الفرصة .. أودع لديه تلك الأشياء الغريبة ومضى في سبيله ..
اسمه ( رياض ) ، و طالما راوده إحساس بالحرج من هذا الاسم ، لم يكن يلائم هيأنه الواقعية ، قامته العالية ، وكوفيته الملفوفة حول رقبته ، وسترته المنتفخة الجيوب ، ولا لحيته الغريبة .. اللحية الفيتنامية بشعراتها الملساء المعدودات . غير أن ما يخفـّف من عناء هذا الاسم أن زبائنه كانوا ينادونه ( أبو الروض ) . ومع ذلك فقد كان يداهمه الإحساس بأن الاسم يضفي على شخصه مسحة أنثوية لا تـُحتمل !.. لم يكن ( رياض ) لصا ً بالمعنى الحرفي الساطع لكي يغري ذلك المدمن المخدّر الإحساس ، فيقتحم صباحه بتهور، ويوقظه من عز نومه ، ويرمي أمامه معدّات اللصوصية ، ويلقي على أسماعه وصاياه الخبيثة .. كلا ، لا أعتقد ذلك .. فبغض النظر عن بعض السرقات التافهة ، التي دفعه إليها العوز ، فيما مضى . والتي ، لا تتعدى اسطوانات الغاز ودرّاجات الأطفال الهوائية ، وكل ما يمكن أن يتركه الناس في فناءات بيوتهم حينما يخلدون إلى النوم !.. أشياء يمكن أن يسرقها أي صبي من البيوت المجاورة ، فيما عدا ذلك ، في الحقيقة ، لم يمض ِ في جرأته إلى أبعد من تلك الفناءات الآمنة . إنها أشياء حدثت في أيام مجدبة جرداء بكل تأكيد ، أما الآن فإنه ما من أحد ٍ يتذكر ذلك ، أو يتحدث عنه ، وكل ما يتذكرونه عن تلك الأيام هذه السرقة الغريبة التي ابتكرها ذات يوم ٍ ولم تعد تـُنسى ، عندما كان( رياض ) يحتسي شايه في المقهى مع بعض الأصدقاء ، وهم يتجاذبون الكثير من الحديث ، إذ قال أحد هواة الحدائق المنزلية إن أجمل نبتة في المدينة هي الشجيرة العطرية ، ذات الأزاهير الصفراء ، المغروسة في حديقة الدكتور ( حسين ) ، وذهب إلى أنها تساوي أكثر من ألف دينار في قيمتها !.. وكان لهذا المبلغ قيمة جيدة آنذاك .. ظل ( رياض ) يستمع بلا مبالاة ، ولكن ما أن طرق سمعه مبلغ الألف دينار ، حتى فتح عينيه ومنخريه ، وطرح قدح الشاي جانبا ً ، وسأل ذلك الهاوي مباشرة ً .. سأله بعينيه ومنخريه الذاهلـَين : - هل أنت مستعد ٌ حقا ً لدفع هذا المبلغ ، إذا جئتك بهذه الشجيرة ؟.. - بل سأدفع أكثر من ألف .. أجاب وهو غير مصدق جدّية العرض .. وفي سواد الليل ، تحت جنح الظلام ، تمـّت الصفقة الظريفة .. الصفقة التي لا تغرب عن بال أحد ، وكأن ( رياض ) اقتلع تلك النبتة من حديقة الدكتور وغرزها في قلوبهم دواءً شافيا ً إلى الأبد .. إن ( رياض ) اليوم غير ذلك بالمرة ، جيوبه تمتلئ بالنقود ، ويعامله زبائنه الكثيرون بتجلة ٍ وإكرام .. ها هو اليوم ( بندر )* من بنادر المدينة القلائل ، يعمل في أكثر الحرف راحة ً وأغزرها ربحا ً !.. يذهب إلى عمله خدرا ً ويؤوب خدرا ً ، فلا خوف ٌ يراوده ، ولا يثنيه ريب ٌ ..
عند الخامسة عصرا ً يكون في السوق . جيوبه منتفخة بأنواع مختلفة من حبوب الهلوسة والمخدّرات . يقصد مكانا ً خاصا ً به وحده .. مكانا ً في قلب السوق القديم ، عبارة عن ممر صغير يوصل بين طريقين ضيقين متوازيين ، من طرق السوق العتيقة .. ممر قصير لا يتجاوز طوله الستة أمتار ٍ ، يحاذي تماما ً مطعم ( سلمان الأحمر ) . في هذا الممر يشعر بالأمان .. أمان من يعمل في محله الخاص . إنه يتيح له القدرة على مراوغة رجال الأمن والتسلل بعيدا ً عن عيونهم إلى أي مكان آخرَ في السوق !.. في هذا المكان الأليف ، وعبر ساعة من الزمن ، لا أكثر ، ينهي ( رياض ) عمله ، ويؤمن متاع زبائنه .. الزبائن الذين يأتون خفيفين ، محترسين ، يقتضبون عباراتهم وهم يطلبون سريعا ً : - خمسة أشرطة ( الدموي )* .. - ثلاثة ( اللبناني ) .. - عشرة أشرطة ( أبو الحاجب ) - خمسة أشرطة ( الوردي ) .. ـ ( الوردي ) ؟.. أراك تخليت عن الدموي هذه المرّة ؟.. - لقد جرّبت ( الوردي ) ليلة أمس فوجدته لذيذا ً كاللوز .. - كم بقي في ذمـّتك من الحساب ؟.. - خمسة عشر ألف دينار فقط .. - تدفعها غدا ً .. - ما هذا الاستعجال يا ( أبو الروض ) ؟.. أصبر علي أسبوعا ً على الأقل .. - لا أستطيع ، أخشى أن يقضي عليك ( الوردي ) وأفقد نقودي .. - لا تخشَ من شيء ، فأنا مستعد ٌ لابتلاع حتى أزرار سترتك اليابسة هذه .. - على أي حال ، سأمنحك يومين فقط لتفي بدينك .. - إنه وقت قليل .. - وروح والدي لا أستطيع أن أصبر عليك أكثر .. ويلوذ الزبون بالصمت مرتبكا ، لأنه يعرف جيدا ً أن رياض إذا قسم بروح أبيه يكون صادقا ً جدا ً ، وواضعا ً حدّا ً لكل شيء .. ثم يلتفت صوب زبون آخر و يده تضغط على كتفه ، فيسارع ذلك إلى القول : - حسبك يا ( أبو الروض ) ، لا تضغط كتفي هكذا ، إنه مرضوض جراء حبوبك الحقيرة هذه . وتنزلق من فم ( رياض ) ضحكة سريعة ، ثم يغور قليلا ً في السوق قبل أن يعود مجدّدا ً . وبعد أن يـُفرغ بضاعته يتسلـّل إلى مقهى مجاور ، يستريح ويشرع بمناقشة بعض زبائنه عن تلك الحبوب بأصوات خفيضة منضبطة . كان يتكلم بلهجة شديدة ، لا يترك فرصة كافية لمحدثه .. يتكلم وكأنه على علم ٍ وفير ٍ بكل ما يخص صناعة المخدرات .. بل يتكلم وكأنه الوكيل الرئيس في العراق لتلك الشركات الأجنبية المورّدة للحبوب المحرمة !.. هكذا كانت تسيل أيامه هادئة في مجراها بين أخدانه المدمنين ، سهلة وممتعة في أغلب الأحيان ، مفعمة بكثير من المواقف اللطيفة والنكات المضحكة !.. ونادرا ً .. نادرا ً جدا ًما كان يضطر إلى رفع ثوبه ، وخلع نطاقه العسكري السميك ، الذي يلفه مباشرة ً فوق فقراته القطنية المنزلقة ، يخلعه دون ضجّة ٍ كبيرة ، ويباشر يتعارك به من أجل تسوية الديون مع زبون مشاكس !.. وعلى الرغم من كل شيء ، كان هؤلاء المدمنون منغلقين على بعضهم ، أشبه بمحافل الماسونيين ، أسرارهم وإشاراتهم لا يفهمها أحد ٌغيرهم !.. فإذا سأل بعضهم بعضا ً عن ( رياض ) ، قيل له أنه في المضيق ، أي أنه يعمل في داخل الممر الضيق الذي يربط بين السوقين . وإذا قيل أن فلانا ً راكسا ً فمعناه أنه ابتلع عددا ً كبيرا ً من حبوبه دفعة ً واحدة ً. وكانت أخطر إشاراتهم حينما يرسمون شارة الصليب الخاطفة على صدورهم ، كما يفعل المسيحيون في صلواتهم ، فذلك ناقوس خطر يعني بأن رجلا ً من رجال الأمن ً يحوم في الجوار !.. كان ذلك هو اليوم الثاني من آذار ، شهر التفتح والإزهار ، كانت السماء بديعة ، سامية في مكانها الشاهق البعيد ، وهناك كانت تتخطى بعض السحب الرقيقة البيضاء بطيئة ً . كان الهواء يرتقي فوق الوجوه منعشا ً ولذيذا ً ، وثمة من استبدل ثيابه الشتوية الثقيلة بأخرى صيفية خفيفة ..
عند الظهر لم تكن لدى ( رياض ) أية أفكار محدّدة لما قد يحدث هذا اليوم . في الحقيقة لم يكن متحمسا ً لأيما شيء ، كان يروم أن يكون قريبا ً من زبائنه . وقد بدت فكرة التسلل إلى مصرف المدينة ، التي جاء بها ذلك الشيطان صباحا ً ، فكرة خرقاء .. جريئة وخطرة ، وكلما وقع بصره على أدوا ته اللصوصية التي أودعها في باحة الدار ، كان يبتسم ويقول في نفسه ساخرا ً ( هل عزم هذا الصفيق أن يقتحم بي النيران ) ؟.. وأظهر لا مبالاة حقيقية حيالها .. تمطـّى صدر ( رياض ) وأفلت زفرة عميقة ، ثم عبّ جرعة كبيرة من الهواء الرقيق ، وهو يشعر بوخزة ألم في أعلى صدره ، جعلته يدق فوق ضلوعه براحة كفه بضع دقـّات .. قال لزوجته : - أريد أن أستبدل ثوبي الثقيل هذا ، أشعر بأنه لزج ٌ فوق جسدي .. - وماذا ستلبس ؟.. - ( البوبلين ) الأبيض . - يا .. مالك تفكر هكذا .. هل انتهى الشتاء ؟.. بعد ساعة لا أكثر ستعوي السماء وتصب بردها وأمطارها .. هل تريد أن تمرض ؟.. وفي سرعة خاطفة انتزع ( رياض ) ثوبه النيلي الداكن وسط الغرفة وبدا عاريا ً . كانت ندوب السكاكين قد رسمت على ظهره خريطة وحشية مقززة .. خريطة مرعبة ، لا يملك كل من وقع بصره عليها سوى أن يميل برقبته ووجهه جانبا .. إنها خريطة المعارك والمشاجرات التي خاض غمارها من قبل !.. إن كل من مشى بصره على خطوطها تساءل بحيرة وذهول قائلا ً له : ( كيف يمكن لزوجتك أن تطاوعك وتلامس جسدك هذا ؟.. كان الله في عونها ) .. ارتدى ( البوبلين ) الأبيض . ومثلما يحدث أحيانا ً حينما يذهب في عمل رسمي مهم ، سحب إليه حذاءه الجلدي الأحمر المرمي أسفل السلـّم الحجري ، ورشقه سيلا ً من البصاق ، ثم تناول خرقة وراح يدعكه بلطف .. وكانت آخر اللمسات ، هي تلك اللمسة الراعشة ، التي يطلقها من قارورة العطر على جسده ، في دفقات متتالية .. العطر القوي ، برائحته الغريبة ، الذي يمجه زبائنه و يسخرون منه ، ولا يسمونه إلا باسم ( قاتل النساء ) ، ولطالما سأله أحدهم : - من أين لك هذا العطر ؟.. - من الزبير .. - وهل يصنعون العطور هناك في الزبير ؟.. - كلا .. إنهم يهربونه من الكويت . لم يكن مظهره الفاهي إبليسيا ً ، لكنما كان هنالك من يشبهه بإبليس . وجهه الوردي المُخـَدَر قليل التعبير ، تدب فيه أحيانا ًابتسامات صامتة .. ابتسامات صغيرة ، لا تتيح لها طبيعة حرفته أن تشرق في حيز أكبر من هذا المدى !..
عند الظهيرة كانت الريح متعبة ، دافئة وتخبط خبط عشواء ، وفي طيها كانت تحمل النذر . سرعان ما سمعت الأحياء البعيدة دويا ً عميقا ً متفجرا ً من قلب المدينة .. هتافات مبهمة جعلت تلك الأحياء تتجمد في أماكنها متوجسة ً ، ويطبق عليها صمت ٌ طاغ ٍ !.. ما لبثت الهتافات أن أمست قريبة. ، واضحة ، ومن اليسر التقاطها ، ثم عادت لتغور مرّة ً أخرى .. وهكذا كانت الأصوات الهادرة تتموج في البعيد .. هزّت تلك الهتافات البيوت وجعلت أبوابها تصطفق . سارع ( رياض ) خارجا ً ، بعد أن دسّ في سترته مديته ذات السن المدبـّب المرعب . وعبر الطرقات كانت حشود من الناس تزحف نحو قلب المدينة . وهناك رأى الشوارع طامية ً بشكل لا يوصف . كانت الدنيا مقلوبة ً . شيبا ً وشبابا ً ، نساءً وأطفالا ً ، ينهمرون انهمارا ً على الطريق الرئيسة ، التي تفضي إلى مقر الحزب الحاكم .. حشود هائلة تقف على جانبي الطريق ، وحشود أخرى من المتظاهرين في عرض الشارع يكرّون عبره ذهابا ً ومجيئا ً ، وأقدامهم تؤج الأرض أجّا ً ، وكانت عيونهم ترمي بشررها ، وأوداجهم منتفخة ، وأصواتهم خشنة ً قاسية ، وهم يندفعون بحزم يجعل المرء على يقين بأن ما من شيء يمكن أن يصدّهم او يقف في طريقهم . كانوا أمشاجا ً جمعتهم الثورة وجعلتهم متشابهين ، كانوا مثل فهود ٍ جريحةٍ ، برزت من خلف الصخور ومن بين الأحراش .. برزت تقاتل من أجل وجودها . كانوا عرقا ً غزيرا ً يتفصد من جبين الزمان . بدوا مخيفين ومرعبين حقا ً ، سيوفهم الطويلة وسكاكينهم تتماوج في وهج الشمس وتغشي الأبصار . هتافاتهم ترتفع إلى عنان السماء .. حادة تخرق الأسماع ، كأنها قادمة من بطون الحيتان .. من أقاصي الظلمات .. من غياهب السجون !.. وعلى طول الشارع كانت جوقاتهم تتدافع بانثيال الموج الهادر ، تتقدم نحو مقر الحزب الحاكم ثم لا تلبث أن تعود أدراجها ، بعد أن تواجه بإطلاق الرصاص من داخل المبنى .. راح ( رياض ) يشق طريقه بين حشود الناس ، بجسد مرتعش وإحساس متوثب ، كانت الهتافات ، التي يسمعها لأول مرة في حياته ، تتدفق إلى داخل جسده كالهواء البارد ، فيتنمل جلده بأكمله ، ويقشعر بدنه ، وتتصبـّب فوق رأسه زغاريد النسوة التي تنطلق تحية ً للثوّار.. تتصبّب كالحلوى ، وتجعل تلك الابتسامة الضيقة تتسع عبر الوجه الوردي رغما ً عنه .. كانت تلك الزغاريد تفز في أعشاشها وتطير عبر صوبي الشارع ، لتوقظ في روحه حماسا ً لم يعرفه من قبل . ظل يسير متمهلا ً ، منبسطا ً .. يسير مستنشقا ً النشوة ملء صدره ، يتطلع كالطفل في وجوه الناس .. الوجوه التي يراها لأول مرّة بعينيه الحقيقيتين لا بعينيه المخدرتين .. وجوه مستبشرة تشع بالأمل الغاضب .. لم يرها جميلة ً هكذا في أي وقت ٍ مضى . ظل يمشي منساقا ً في تيار الحب .. حب ٌ مباغت لهؤلاء الناس .. أناس من كل الأنواع ، رسموا صورة ً منسجمة ً تأسر بسحرها الأبصار ، وأكثر ما سحره تلك البهجة المطبوعة على وجوههم التي تطفو فوق أسىً قديم وعميق !.. وحين تلوح منه التفاتة خاطفة نحو الأطفال الذين يلوحون إلى المتظاهرين و يرددون معهم شعاراتهم ، كان يحس برغبة جارفة في أن يرمي بنفسه إلى عرض الشارع .. وسط المتظاهرين ، ويذوب في جموعهم !.. كانت عروقه تنبض ، يمشي مذهولا ، وهو يتجشم الدرب المزدحم الصاخب ، حينما أمسكه من يده ذلك الشاب الذي كان يخطط لسرقة المصرف ، و صاح به مؤنبا : - ها .. أين كنت ؟.. تأخرت كثيرا .. غير أن ( رياض ) ، الذي كان لم يزل سادرا ً في عالم ٍ آسر ٍ ، حرّر يده ووضعها فوق كتف الشاب وقال له : - تعال وتفرج على هذه المشاهد العجيبة التي لا تنسى .. فعمد الشاب إلى سحب ( رياض ) إلى ركن من الشارع ، وهناك قال له بشيء من التحفيز : - أي مشاهد تقصد ؟.. إن الوقت يداهمنا ، هيا ننطلق قبل أن يصل غيرنا إلى أبواب المصرف .
كانت الريح تمر على طول الشارع فتغمر وجوه الثائرين وصدورهم وتحمل هتافاتهم وتنثرها فوق المدينة ، وكانت زغاريد النسوة تلاحق الريح محلقة ً عاليا ً خلفها حتى تلتف في طيات مناديلها الخفاقة !.. كانت مشاهد الطريق قد أيقظت في قلب ( رياض ) شعلة الثورة . وها هو يلتفت إلى صديقه ويقول له : - أبق َ قريبا ً مني لا تبارحني ، وتمتع بهذه المشاهد العظيمة . كفاك تفكيرا ً بالسرقة .. الناس في أي حال الآن وأنت بأي حال ؟.. كان يشق دربه بفكر مضطرب وجسد نابض مهتز ، ثمة سحر ٌ لذيذ ٌ غامض ٌ يدفع به قدما ً ، كان مثل السائر في نومه ، وقد راحت الأحلام تختلج بين عينيه .. تنبه ليجد نفسه أمام المبنى ، وهنالك التزّت الحشود من بعضها وصارت واحدا ً .. رعدا ً وبرقا ً واحدا .. سرعان ما تنفرط من بينهم مجموعة ، يلهبها الحماس ..يتعالى هتافها .. تدور حول نفسها .. تضرب الأرض بعزم لا يريم .. تدور حول محور وهمي كما الأرض تدور ، وهناك كان هذا الدوران الكوكبي يتمخض عن الفصول الأربعة .. ربيع ٌ وصيف ٌ .. خريفٌ وشتاءٌ ، وكانت الدنيا تدور ..
لا تلبث مجموعة المتظاهرين ، بعد أن يهيج هائجها ، أن تقتحم مقر الحزب عبر الممشى الطويل الذي يفضي إلى داخله ، لتفاجأ تلك المجموعة بزخـّات الرصاص التي تتطاير من الداخل وتردهم على أعقابهم . غير أن مجموعة أخرى كانت تنتظر لتكر مقتحمة ً هي أيضا . كانت أعداد المصابين جراء الرصاص تزداد كلما مر الوقت ، وكان غضب الثائرين يستعر فتعلوا هتافاتهم الرجولية ، ويقرعون الأرض قرعا ً جنونيا ً .. باتوا مصرّين إصرارا ً لا تراجع عنه على احتلال المبنى .. وقف ( رياض ) في قلب العنفوان ، الذي يفوق حد التصور، بقلب خافق ، ووجهه يتقد متأثرا ً ، كان التأثر قد هزّ كل ذرّة ٍ من ذرّات كيانه ، وتشظـّت المشاعر فوق قسمات وجهه وتساقطت عنها تلك الملامح الأبليسية الفاهية . باتت ألوان وجهه بلون الثورة !.. بدا له أن أمر اقتحام البناية على هذا النحو سيطول ، وعبرت بين عينيه أفكار ٌ مسرعة ٌ ، ليجد نفسه يقفز في وسط الجموع ، ويطلق العنان لنفسه هاتفا ً بجسد ٍ راعشٍ ولهات ٍ مرتجفة وشفاه ٍ متيبسة ٍ حردة ، وكان كل حرف ٍ ينقذف عبر لسانه كاللهب المشبوب ، وكان فمه مثل جرح ٍ منثلم . ثم ما لبث أن غاص بين الأجساد المتلاصقة العنيفة ، وغاب عن الأبصار تماما ً !.. ما هي إلا نصف ساعة لا أكثر ، حتى بزغ ( رياض ) من جديد ، يحمل على كتفه قاذفة صواريخ ، ملفوف حول عنقها شريط قماش أخضر ، ويضع فوق صدره حمـّاّلة ً اشرأب منها ثلاثة صواريخ ، إن الله وحده من يعلم كيف ومن أين جاء بهذا كله !.. اندفع كالسهم في خضم الجموع ، يصرخ بالناس أن يفسحوا له طريقا ً ، ويشير بيده اليسرى بعصبية طالبا ً منهم الابتعاد عنه . في الحال تطوع نفر ٌ لتفريق المتظاهرين قليلا ً ، وليست سوى لحظات ٍ معدودات حتى انفرجت الجماهير وتنحى الناس عنه ، ليكشفوا عن ممر ٍ طويل ٍ ممتد ٍ من باب المبنى ولمسافة ثمانين مترا ً تقريبا .. ممر يسوره جداران بشريان عظيمان .. بأعناق شامخة ، عيون مترقبة ، متربصة ، وأنفاس مبهورة ٍ ، وعم صمت ٌ مهيب ٌ ، وتسمـّرت الأبصار على ( رياض ) وهو باركٌ ومرتكزٌ بركبته اليمنى على الأرض ، في منتصف المسافة من ذلك الممر ، يعبئ القاذفة بصاروخ !.. وارتفعت أصوات ٌ من بين الجمهور عاليا ً تحييه وتحثه على الإسراع . بيد أنه لم يطلق مباشرة ً ، فبعد أن سدّد وصوّب ، رفع يده اليسرى عاليا ً وصاح صيحة ً حادّة ً صكـّت الأسماع : - سأرمي .. وكما يحدث في فصل ٍ مسرحي عادة ً ، تراجع الجداران البشريان إلى الوراء معا ً في حركة موقوتة وصاح الحضور صيحة ً واحدة ً (أرم ِ ) !.. ودوّى صاروخ القاذفة محدثا ً زوبعة من النار والدخان .. وكان صوته مجلجلا ً مرعبا . وما أن تلاشى الدخان حتى أطلق صاروخا ً ثانيا ً ، أسكت كل شيء وأضرم النار في المبنى ، وجعل الجماهير تنفجر وتندلق إلى داخل البناية بفوضى عارمة . كانوا عاصفين ، اقتحموا مقر الحزب دون تردد .. وصار بالإمكان سماع أصوات عيارات نارية عميقة يصاحبها صراخ مخنوق من الداخل !.. إن الفضول القاتل لم يدعني مركونا ً في زاوية ما من ذلك المكان ، كلا .. فسرعان ما راح يزعزعني عن مكاني ، ثم دفعني في أثرهم إلى داخل الوكر المشؤوم ، لأجد نفسي في وسط قاعة الاستقبال الفسيحة ، التي تحولت في رمشة عين إلى خراب ودمار، والتي أخذت للتو بالاحتراق ، وقع بصري مباشرة ً على أحد رجال الحزب وقد تكأكأ في زاوية من القاعة محروقا ً ومتمزقا ، ويداه ممدودتان على طولهما ومحصورتان بين ساقيه ، ورحت أمعن النظر إليه مندهشا ً لأنه كان ميتا ً في وضعية الرعب الطفولي !.. عندما رفعت بصري عنه ، ارتطمت عيناي فجأة ً بعيني ( رياض ) ، الذي وجدته يقف جنبي محاولا ً تعبئة قاذفته بصاروخ آخر . تفحصني بدقة ، وبشيء من التعجب ، كان قوي العين ، لم يطرف ولم يشعر بأيما حرج ٍ وهو يرمقني عميقا ًهكذا !.. ثم بادرني متسائلا ً : - هل أنت أخو سيد كامل ؟.. - نعم . - ما الذي أتى بك ؟.. المكان خطير جدا ً، هيا أخرج بسرعة ، أخرج ْ ، لا تبق َ هنا ..
أسقطوا رمز الظلم ، وشرعوا ويهدمونه ويحرقونه . كانوا بركانا ً انبثق من الأعماق السحيقة ، كاسحا ً كل طبقات الأرض التي تسد طريقه ، حتى رفع سطح الأرض دفعة ً واحدة وقذفه بعيدا ً نحو السماء !.. في تلك اللحظات الرهيبة ، لم يكن هنالك شيء قد خـُلِقَ بعد يمكن أن يصدهم ويثني عزمهم الجبـّار .. اندفعوا إلى الشوارع من جديد ، بروح ٍ متوثبة وحماس لا ينضب . وكنت سعيدا ً وأنا أرى ( رياض ) يقود جمعا ً غفيرا ً منهم ، كانوا يصدحون بهتافاتهم الثورية ، راح ( رياض ) يطير بهم إلى الجسر ويعود مرّة ً أخرى وثوبه ( البوبلين ) يرعد بين ساقيه الطويلتين ، وجمة من شعره الأسود تطير عاليا ً . كان مثل طائر أبيض كبير .. طائر بعطر ( قاتل النساء ) . وعلى امتداد الطريق وقف العديد من زبائنه يرمقونه بنشوة لا توصف وهم يرونه يتراقص في الريح مثل زهرة الخشخاش !.. من المفترض أن لا يفوت الوقت جزافا ، إن الدقائق والثواني في الثورات توزن بالمثقال والقيراط ، إن هدر الوقت هدر ٌ لدمائها ، ويلزمهم الآن أن يعبروا الجسر صوب الشطر الثاني من المدينة ، حيث العديد من الأبنية الحكومية التي يتحصن داخلها أعوان النظام الحاكم . لكن الثوار كانوا يكرون لحد الجسر ثم يعودون أدراجهم .. تيقنت بعد وقت قصير ، كما دار في خلدي ، أنهم كانوا بانتظار إشارة ما لعبور الجسر . فعقب دقائق أخرى انسابوا فوقه بانثيالات بشرية عجيبة .. فوق الجسر كان الضوء باهرا ً، يلمع بفظاعة على أنصال سيوفهم وسكاكينهم وعصيهم الغليظة .. فوق الجسر مرّ قطار الزهو ماًشيا ًعلى سكة الأمل والخلاص ، وفي مسارهم المتوهج هذا كانوا يصبون جام غضبهم ومرارتهم عبر هتافات تخشع لها القلوب .. كانوا مستيقظين بعنف من حلم ٍ عجيب . وحالما عبروا أخذت مراكز السلطة تتهاوى تباعا بين أياديهم .. نزلت الشمس في الأفق بألوان ٍ ذاهلة ٍ ، وتعبت الريح تعبا ً شديدا ً ، وهي تركض مع المنتفضين عبر الشوارع .. خارت قواها فراحت تستريح في الحقول والبريـّة بعيدا ً عن المدينة .. بعيدا ً عن الصخب والهياج ، لتترك أعمدة الدخان مفتولة ً فوق أنقاض البنايات ، واقفة ً بتثاقل كأنها شهادة وفاة منشورة ً فوق بقايا السلطة .. عند الغسق كانت المدينة في قبضة الثوار، في غمرة فرحة تفوق الوصف . كانت المدينة تعبة تعبا ً جميلا ً ، أوت إلى منازلها باكرا. وثمة سحب ٌ تتدافع مثل جيوش سرّية زاحفة .. وما لبث أن خيم صمت عظيم .. صمت ملطخ بالدم والدخان . في الظلام الدامس ، كانت البيوت غارقة ً في بحار العواطف والخيالات ، مسكونة بالنشوة وبالتعب ، بالصداع ، بالترقب ، بالقلق ، بانتظار المجهول ، وبالخوف أيضا !.. في اليومين الثاني والثالث من أيام الانتفاضة ، كان ( رياض ) لا يرتدي سوى ثوبه الأبيض ، و قد عقد كوفيته حول حقويه ، كما يفعل العمال المنهمكين ، وترك شعره الأسود الأثيث يسطع في ضوء الشمس كأنه مطلي بزيت لمـّاع .. كان يعمل بلا كلال ، بين رجالات الانتفاضة ومع قادتها الذين لم يتحسسوا كثيرا ً من وجوده بينهم ولم يشمئزوا منه لماضيه الذي تدور حوله الشبهات . تحاشوه أول الأمر .. اعتقدوا أنه سيفسد عليهم الأمور ، لكنهم ألفوه سريعا ً مثلما ألفوا عطر ( قاتل النساء ) ، وأسبغ وجوده بينهم حيوية دافقة عليهم ، فها هو جندي زاخر بالهمة والحماس ، يكد من الصباح إلى المساء مسارعا ً إلى تنفيذ الكثير من المهام ، قام بتوزيع العتاد ، وتعيين مفارز للمراقبة والحراسة ، وتأمين حراسة مصرف المدينة ومستشفاها .. كان سعيدا ً بينهم إذ عثر على مأوى لأحاسيسه ومشاعره التي تدفقت تغلي ، وتفور ، كما يفور الماء المتدفق في النبع . لكنما الروح الجديدة التي تفتحت في ربيع آذار وفاح نشرها عبقا ً مسكيـّـا ً ، أحيت في مكان ٍ ما من وجدانه ذلك الإنسان الثاوي .. كان مثل برعم ٍ حُجـِبَ النور عنه و نام تحت التراب طويلا ً .. في الليل ، وعلى سريره ، جلس (رياض ) مذهولا ً من نفسه ، غير مصدق أن كل هذا جرى معه هو بالذات .. جرى بذلك الإشراق الحماسي الفيـّاض ، وكأنه رضع الثورة من ثدي ثائرة ٍ ، وتغذى من نمير لبنها . كان يشعر وكأن شيئا ً خفيا أطلق يديه ، وألهمه هذا الذوق الثوري !.. وإنه ليذكر جيدا ً كيف صارع ذاته لكبح جماح مشاعره ، خلال تفرجه على الثوّار ، وكيف حاول أن يبقيها بعيدة ً عن حومة الجيشان ، ولكن لا مناص من ذلك .. لم يستطع أبدا ، لأن النور الأبهى الساطع يومها قد حشي عينيه بصرا ً رائقا ً لم يألف مثله يوما ً من الأيام !.. في ذلك الليل ، تفتحت شهيته بشكل لا يوصف ، وهو يلتهم الشواء في باحة دارهم . بالتأكيد أن الأيام الثلاثة ، التي مرّت على زبائنه كانت وقتا ً عصيبا ً ، ثقيلا ً وطويلا ً ، أجهزوا على كل ما يملكونه من الحبوب قبل أن يستلفوا من بعضهم البعض ، وفي نهاية المطاف وجدوا أنفسهم يطاردون ( رياض ) ويتعقبونه من مكان لآخر . كانوا يتابعونه ويحومون حوله بعيونهم الساخطة وأعصابهم التالفة ، ومنظره البشوش يكاد يجننهم ، فكلما خطفت السيارة الحكومية التي تقل ( رياض ) مع زمرة من رفاقه ، التي يظهر راكبا ً فيها منتصبا ً كأنه شخصية رسمية ، كانوا يشتمونه علنا ً !.. في اليوم الثالث نفد صبرهم ، لم يعد بوسعهم الانتظار أكثر ، قلـّبوا الأمر برمته بإحساس المخذولين ، وقالوا أن ( رياض ) جن ّ جنونه ، وإن السياسيين ضحكوا عليه وسرقوه من عمله ولو كانت لديه ذرّة من الوفاء لما ضرب بهم عرض الحائط .. في نهاية الأمر تركوا مجالسهم في المقهى ونهضوا يتقصون أثره ، يقودهم الصبـّاغ المتصابي . كانوا كلما مشوا مسافة ً قصيرة ، يوقفهم أحدهم مشككا ً بقوله لهم : - هل تصدقون أنه سيحرر نفسه من المغناطيس الذي التقطه ، ويذهب معنا ليبيعنا حبوبا ً ؟ .. كلا أقسم إنه لا يفعل ذلك .. غير أن الصبـّاغ المتصابي كان يفزع منتفضا ً من هذه النظرة التشاؤمية المبكرة ، فيسارع بالرد عليه قائلا ً : - بل سيذهب معنا وهو أنعم من الدُخن .. عثروا عليه أخيرا ً في مقام ٍ بين رفاقه الجدد ، أخذوه جانبا ً وعاتبوه عتابا ً مريرا ً ، وقفوا بين يديه كالأيتام .. وقفوا حباله بهيأتهم المبتهلة ، وراحوا يلتمسونه العطف ، تضرعوا وابتهلوا إليه وكأنه إله النشوة الأعلى .. تحدث معه الصبـّاغ بحديث كيـّس نابع من العقل فقال له : - ثبْ إلى رشدك يا رياض ، وضع قدميك على الأرض ، كف َّ عن الاستهتار فأنت رجل عاقل وصاحب عائلة أطفالها أكثر من الدواجن ، لا تحشر نفسك في السياسة ولا تندس بين السياسيين ، إنهم ليسوا بحاجة إلى حبوبك لأن الله خلقهم سكارى أصلا ً ، إن السياسيين لا يشترون ( الدموي ) ولا ( أبو الحاجب ) إلا في السجون فقط .. والله لم أكن أعرف أنك طفل إلى هذا الحد لتنجرف ملهوفا ً ومستهاما ً وراء نزواتك المتهورة ، ألا تنبهت إلى نفسك وأنت تركض منذ ثلاثة أيام ٍ كالسلوقي ؟.... كانت علاقاتهم حميمة وقديمة أيضا ، فحين يكلمونه بفظاظة ٍ وحين يشتمونه ، كان يكتفي بالابتسام ويشيح بوجهه بعيدا ً عنهم .. وقفوا بين يديه كالحالمين ، نظراتهم الشاردة ، ووجوههم المضبـّبة ، والقذى الذي يملأ مآقيهم ، كل ذلك يظهرهم وكأنهم شعراء تائهون !.. بل إن أصغرهم سنـّا ً وألطفهم ، ذلك الذي يسمونه ( النـِمنـِم ) كان يترنح ويكاد يسقط أرضا ً ، وكان يهمهم بكلام ٍ غير مفهوم ، حتى هوى وركع على ركبتيه ، وكأنه في نوبة ٍ صغيرة من نوبات صرعه ، وراح يتوسل بكلمات متعثرة ، واشية ، محرجة ، قائلا ً : - يا إلهي .. يا جبار .. يا عظيم ، أهد ِ إبليس الثورة هذا إلى صراطك المستقيم ، وأعده لنا نادما .. وغص الجميع بضحكاتهم المستترة عن أنظار الآخرين .. كانت نظراته سارحة ً ، حين أخبرهم أنه يحبهم ويعتز بهم جميعا ً ، وأن الظرف حرج يستدعي تواجده بين الثوّار وقال ( يجب أن نقر بأن هنالك شيئا ً أهم من كل الأشياء ).. لكن المتصابي قفز في وجهه معترضا ً : - والله يا رياض لم أسمعك تتكلم هكذا طوال الخمس والسبعين سنة الماضية من عمرك .. لم يترك ( رياض ) زمام القول يفلت من يده ، وردّ عليه : - عَثــّرَك الله إن عمري كله و بأجمعه لا يتعدى خمسا ً وثلاثين سنة ، ولكنك أنت بمثل سن والدي ، وإذا أردت الصدق فإنك جدّي في الرضاعة .. وأطلقوا ضحكا ً مخنوقا ً مرّة أخرى . من المؤكد أن هؤلاء المدمنين لا أحد يشاكس ويمازح بقدرهم ، وهم لا يحسنون غبر هذا في حياتهم ، وعلى أي حال ٍ فقد كانوا مبهجين !.. طلبوا منه أخيرا ً أن يخطف أقدامه معهم ، برهة من الزمن ، ليؤمن حاجاتهم من الحبوب ، وقالوا له ( دقائق فقط لا غير نريدها منك ، ثم بإمكانك أن تعود إلى ثورتك ، إن الثورة لا تهرب أبدا ).. كان ( رياض ) يمانع ويمانع ، وكانوا يتوسلون ويتوسلون ، حتى شطب الأمر تماما ً حين قال لهم بضيق صدر : - وروح والدي لا أبيع حبة ً واحدة ً بعد اليوم !.. تسمروا بضع دقائق دون أن يفوه أحد ٌ بكلمة ٍ ، كانت تلك هي دقائق الاختبار الأخير . ركنوا إلى خيبة أملهم وغادروه متجهمين بعيونهم الفاترة ، وأعصابهم التالفة ، عادوا من عنده وهم يصفونه بأنه رجل أخرق ، ترك الرزق الحلال وراح يتصيد العثرات كالقطط السائبة . كانوا يتساءلون في سرّهم هل هو دعي يتظاهر بالبراءة أم أن البراءة اجتاحته كاللعنة فعلا ً في تلك الساعات الحرجة ؟.. وفوق أي تصور أغاظهم قسمه الجازم بوالده ، وراحوا يلعنون ذلك الوالد على طول الطريق .. رحلوا عنه بمرارة الخذلان ، يتحدثون بعصبية ٍ عن تلك الثورة .. تلك الثورة التي ما اندلعت إلا لتطيح بهم وحدهم وليس غيرهم ، كما اعتقدوا .. رحلوا وتركوه أسير أحساسين ما فتئا يتجاذبانه يمينا ً ويسارا .. أحساس بالبؤس الفظيع الذي انغمست به وجوه زبائنه وألسنتهم في لحظاتهم الأخيرة أمامه ، و ثمة أحساس آخر اجترحه للتو .. أحساس بنشوة نصر غامرة ..
* * *
سرعان ما تواترت الأنباء ، في اليوم الثالث ، عن تقدم الجيش لاستعادة المدن والبلدات من أيدي الثوار و إعادة الهيمنة عليها . إن سلسلة الهزائم التي تلحق بالجيش ، أي جيش ، ستجعله في المعارك اللاحقة قادرا ً على رد الحيف ، أو ما يسميه البعض " رد الاعتبار " ، لا سيما إذا كان الخصم هشـّا ً أعزل ً ، ولذلك كان تقدم الجيش حثيثا ً ، حالما فزّت الدولة من كبوتها أمرت بدك المدن تواليا !.. إن ما أثبط همم الناس كثيرا ً هو فشل الانتفاضة في دك العاصمة والانقضاض عليها ، لقد بقي رأس الأفعى سالما ً !.. شوّش الحديث عن الجيش أذهان الناس والثائرين ، أقض مضاجعهم ، وأوقعهم قي حيرة ٍ وبؤس ٍ عظيمين ، ذلك لأن الجميع يعرف ماذا يعني اقتحام الجيش للمدن ، إنه يعني مساواة مدينتهم بالأرض ، وتركهم فريسة ً لأسلحته كأنهم لحمٌ على وضم ٍ ..
في مساء اليوم الثالث ران الأسى على وجه المدينة ، وأخذت تقفر شوارعها من الشبان ، بدأ عدد ٌ غير قليل منهم يختفي عن الأنظار ، بعد أن أشاع أعوان النظام خبر تقدم قطعات من الجيش في طريقها إلى المدينة . ركن الكثير من الناس إلى الأمر الواقع ، فلازموا بيوتهم بانتظار المجهول ، وتحت جنح الظلام تسلـّل بعضهم مع أسلحته إلى أماكن بعيدة آمنة !.. على حين غرة ٍ اختفى الكثيرون ، ولا يُعرف إلى أين صار مفرهم ومفزعهم .. في مساء ذلك اليوم بدت السماء منخفضة ، تراكمت فيها السحب الدكناء ، وما فتأت تنث رذاذا ً ناعما ً بين ساعة ٍ وأخرى َ .. تقدم في الصباح الباكر من اليوم التالي رتل عسكري ، اتخذ مواقعه على طول الطريق الغربي المحاذي للمدينة ، متريضا ومترددا ًقليلا ً قبل اجتياحها ، في حين ظهرت للعيان مصاريع أبواب المدينة مشرّعة دونما حماية ، بدت وكأنها استسلمت لقدرها النكد ، فمدّت عنقها الجميل لسكين الجزّار !..
أطلق الجيش ثلاث قنابل صوتية مرعبة في سماء المدينة ، إيذانا ً بدخولها ، ولم يصطدم بأية مقاومة كبيرة ، كما كان يخطر في البال . انطلقت رميتان من مدفع يتيم غنمه الثوّار ونصبوه فوق الجسر .. رميتان كئيبتان تائهتان ، رماهما المدفع وهو يحتضر .. رماهما في مثل حشرجة النزع الأخير .. ثمة رشـّاش مقاوم للطائرات يمسك به أحد الفتيان في شمال المدينة ، أطلق نصف شريط باتجاه الجيش ، لكن طائرة سمتية عالجته سريعا ً بقذيفة جعلت الفتى يرفس كالطير الذبيح ، ونضح دمه حتى آخر قطرة منه !.. كانت المدينة هيكلا ً شبحيا ً كتلك الهياكل التي يرسمها السرياليون ويدلقون فوقها كل ما يملكون من دهان ٍ أصفر .. هيكلا ً مرسوما ً فوق تراب الأرض وحسب ، لا نأمة ٌ ، لا حشرجة ٌ ، لا صيحة طفل ، لا زعقة طائر ، لا صريف ريح !.. حتى الريح أين ولـّت واختفت ؟.. هل تخاف الريح من العساكر أيضا ً ؟.. ما هذا الهجران الفظيع ؟.. سيطر الجيش على الثوّار الذين قاوموا من فوق سطوح الأبنية ، والذين سرعان ما انفرط جمعهم !.. ليتمركز في قلب المدينة وشوارعها الرئيسة . وكانت البيوت موصدة على ساكنيها ، لم يجرؤ أحد ٌ أن يبرح مكانه . فقط كان هنالك ( رياض ) ، يتنقل عبر الأزقة والدروب الفرعية الضيقة ، التي كانت بعيدة عن رصد العسكر . كان هائما ً ، يلوب مذهولا ً ، قانطا ً ، مفكك الأعصاب . كان يفكر بعقل ٍ لا يقر ولا يهجع ، لا يريد أن يصدق أن الثورة انتكست وأن الجميع لاذوا بالفرار . كان يدور باحثا ً عن رفاقه ، يريد منهم عشرة أشخاص لا أكثر .. عشرة لا غير يتعهد بهم إبعاد هذا الجيش عن المدينة ، ولأجل ذلك كان يلوب باحثا ً من زقاق ٍ لآخر.. كان بعض من يرمقونه من وراء شبابيك بيوتهم لا يملكون سوى أن يقولوا أنه ابتلع شريطا ً كاملا ً من حبوبه المخدّرة وخرج يطوح بجسده على غير هدى .. بعد الساعة الثانية ظهرا ً شوهد مع صبي صغير في عربة يجرها حصان هزيل ، تزحف عبر دروب ملتوية في أطراف المدينة ، قاصدين بيت ذلك الفتى الذي قتله قصف الطائرة السمتية ، ومن هناك حملوا جثمانه إلى مقبرة أطفال المدينة .. المقبرة الصغيرة الوديعة ، التي يهجع فيها الملائكة قريبا ً من أهاليهم .
في بداية المقبرة غرفة صغيرة ، طولية ضيقة ، دهن بابها الحديدي باللون السماوي ، وكتب عليه بخط رديء كلمة ( المغتسل ) . إلى هذه الغرفة المتوحدة ، التي تجثم فوقها الأخيلة الحزينة ، و يحيط بأركانها الدغل والنجيل ، حمل ( رياض ) وأخو القتيل الجثمان وأضجعوه فوق دكـّة المغتسل ، ولفوره هرع أخو القتيل خارجا ً مولولا ً ، وجلس معتمدا ً بظهره على الجدار يبكي بمرارة جعلت المغتسل يشرع بالنحيب أيضا !.. وكانت السماء حزينة ، ولربما كانت تبكي هي الأخرى ، فهذه قطرات ماء ٍ صغيرة أخذت تتبعثر هنا وهناك .. خلف الباب الموارب ، فتح ( رياض ) المخلاة التي دس فيها الكفن والسدر والكافور، و شرع بطقوس الاغتسال . راح يغسل الجسد بعناية ٍ من الدماء التي صبغته بأكمله ، وقد استغرق ذلك منه وقتا ً طويلا ً ، ثم أخذ ينقعه بماء السدر الفوّاح ، ومال بعدها إلى رشقه بماء الكافور بضعة رشقات ، وهو يتمتم بأدعية ٍ ويردد اسم الله ، وأخرج من المخلاة الكفن وبدأ التكفين !.. كان الأصيل ساكنا ً ، تشقه أصوات هبـّات هواء ٍ يحمل رذاذ المطر ، ويرطم الأشياء بوشوشة خفيفة . في هذه الأثناء برز وبشكل مباغت لا يصدق ، من بين القبور ، ثلة ٌ من العسكر ، يقودهم شاب ملثم بلثام أسود ، سارع ليشير إلى أخ القتيل قائلا ً ( هذا أخوه ) ، فهبّ جنديان لإمساكه وتقييده . ثم تقدم جندي آخر إلى الباب الموارب وركله بقوة شاهرا ً سلاحه ، ليبدو ( رياض ) منكفئا ً فوق الجثمان مشغولا ً بتكفينه . رفع ( رياض ) بصره نحوهم مذهولا ً ، وترك طرف الكفن يسقط من يده ، وتراجع إلى الوراء قليلا ً في الحيز الضيق بين الدكة والجدار ، وأمال بجسده في محاولة ٍ سريعة ٍ للوصول إلى بندقيته التي كانت تستقر بين قدميه ، لكنما الجندي كان متنبها ً له ، وصبّ عليه سيلا ً من الرصاص ليترنح ويسقط على ظهره فورا ً ، ثم ردوا الباب دونه ورحلوا !.. عاد المغتسل متوحدا ً مرّة ً أخرى ، وعبر فرجة ٍ ضيقة ٍ من بابه كانت تتصاعد سحابة عطرية تضمخ المساء برائحة الموت ، فيما اهتز ملائكة المدفن قلقا ً في مهودهم ولبثوا صامتين !..
في المساء .. ما إن سقط الظلام وسقطت الهموم في أفق المدينة ، حتى نفذت الأسرار عبر حيطان البيوت المتلاصقة وعبر سعال الليل ، ومن بين جميع الأسرار هجَّ اسم ( رياض ) كالنار المشبوبة . أخبر بعضهم بعضا أن جثتين ترقدان في المغتسل ، أحداهما جثة ( رياض ) ، وما من أحد ٍ يجرؤ على الاقتراب منهما والملثمون يتربصون في كل زاوية ٍ ومخبأ !.. هزّني هذا الخبر هزّا ً عنيفا ً ، وألم ّ بي حزن ٌ لا مُسَكِن له .. إن كنت قد صَدّقت سقوط المدينة بين براثن الجيش ، فذلك لأنني رأيته من خلال عيني المفتوحتين طوال ساعات النهار ، لكنما في قلب الظلام لا يمكن أن أصدق موت ( رياض ) . ظننت أن أعوان النظام أشاعوا هذا الخبر الكاذب مثلما أشاعوا غيره من الأخبار . وسرعان ما راودتني فكرة أن أتأكد من ذلك بمساعدة رجل من جيراننا ، وكان هذا الجار واحدا ً من أعوان النظام . حالما طرقت بابه أطل علي مستبشرا ً وأخذنا نتجاذب شيئا ً من الحديث ، ثم سألته بلا تأخير عن ( رياض ) فأجابني بشماتة ٍ ساخرا ً: - إن ( رياض ) فشل في تحقيق أمجاده حتى قصد القبور والمدافن باحثا ً فيها عن تلك الأمجاد .. وقال : - ليأخذه الشيطان ، كان يبيع سم الفئران على أبنائنا ، واليوم يثوى نافقا ً كالفأر ، مكبوبا متعفنا ً بين القبور .. لقد رحلَ لا ردّه الله إلينا .. ثرثر الرجل كثيرا .. ثرثر على طريقة الجلاّدين ، ً وقد وقرت أذناي عن سماعه..
جفاني النوم في تلك الليلة ، و تعبت من السهر الطويل ، حتى دارت بي الأرض الفضاء . كابدت آلاما ً وإحباطا ً لم أقاس ِ مثلهما من قبل ُ . سهرت بقلبي الحائر.. بأعصابي التالفة ..بريقي الناشف .. بصداعي الممض .. بفقدان شهيتي .. سهرت وكأنني أنا الذي سقطت من السماء إلى الأرض وحدي . وكنت محترقا ً حتى الهشيم !..
أشعلت حرقتي جذوة فضولي ، حفـّزتني على التسلل إلى المقبرة ، لأتأكد من حقيقة الأمر بنفسي ، وتصاعدت ألسنة الفضول في داخلي إلى حد النزق ، فما إن لاح خيط الغبش الواهي حتى نهضت متكدرا ً ، انطلقت خارجا ً كالشبح المخبول ، بعيون يملؤها الأرق ، أدب عبر الأزقة والدروب المغطاة بماء المطر والطين ، أخوض في برك الماء متنقلا ً من ردغة ٍ إلى ردغة !.. بعد سير ٍ شاق دخلت إلى المقبرة ، متوجها ً مباشرة ً إلى غرفة المغتسل . كان الباب مردودا ً وحين تقدمت إليه داهمني الخوف بغزارة ٍ ، وصار قلبي يخفق مثل خرقة في مهب الريح . أبطأت الخطى ، ثم توقفت ، وأدرت وجهي في كل الجهات ، فلم أرَ شيئا ً يخيف . راودني إحساس بأني ورّطت نفسي في أمر ٍ عاطفي لا مسوغ له ، وتساءلت عما يمكن أن أجنيه في مقدمي الأحمق الموتور هذا !.. لكنني في النهاية ، وأنا على باب المغتسل ، في النور الغبشي الأول رأيت أن لا مفر من المضي في تحقيق غايتي وإرواء فضولي . كنت وحيدا ً بين الأموات ، وكنت أعرف أنهم نائمون بهناء ، فقد سمعت ذات مرّة أن الأموات يغطون في نوم ٍ عميق ٍ تحت المطر ، لأنهم يعلمون أن لا أحدَ يأتي لزيارتهم في تلك الأوقات . بدت لي المقبرة في هدوئها العذب ، وفي سلام ملائكتها ، مكانا ً جميلا ً .. هكذا تكشف لي الجمال في هذا المكان الموحش النائي عند الغبش .. جمال تتحسسه عند تباشير الفجر .. تتحسسه وكأنك ملاك ٌ صغيرٌ مثلهم .. جمال ٌ روحي نقي يهدئ الروع ويبث في القلب الشجاعة ، فقلت لنفسي ما أعظم هذا العالم ، فالجمال في كل مكان !.. كان المدى مغطى بالغيوم الدكناء ، ولا شيء يتحرك فوق الأرض سوى زفيف الرياح الباردة . تقدمت مرتجفا ً ، وفتحت الباب بتمهل ٍ وحذر ٍ ، فكان ظلي يملأ الغرفة ظلاما ً ، بينما من فوقي سقط الضوء الشحيح على السقف المعقود بالطابوق الأجرد ، وقد بدا لي سقفا ً رصينا ً .. انحرفت قليلا ً عن الباب لأفسح الطريق إلى النور المحجوب الذي غمر الغرفة سريعا ً ، وفجأة ً وقفت على منظر ٍ مرعب أجفلني وأخافني خوفا ً عظيما !.. رأيت على الدكة ، أمامي مباشرة ً ، جثة شاب نصف عار ٍ ، تدلـّت يده اليمنى منزلقة ً إلى الأرض حيث كان يرقد ( رياض ) مضطجعا ً على ظهره .. كان ( رياض ) غارقا ً بدمه ، هامة رأسه مرتدة إلى الخلف ، تلامس الأرض ، وذقنه مرفوع ٌ إلى الأعلى بشعراته الفيتنامية الملساء ، كان رأسه بتلك اللحية يبدو مثل رأس بصل ٍ أقتلع من جذوره توا ً . كان وجهه الوردي الشاحب الطليح يبدو منبسطا ً في ضوء الغبش .. ساكنا ً وجميلا ً ، وحتى ذلك الشحوب كم كان رقيقا ً ورائعا ً !.. رقيقا ً ورائعا ً مثل شحمة الأذن . وقد برق في خاطري أن الأسماء الشفيفة الحسنة يمكن أن تترك مسحة ً أنثوية ً على وجه صاحبها أيضا ، وفي ذلك الوجه الجميل كانت عيناه ترنوان بصمت إلى السقف الرصين . عمد ت إلى سحب ساقيه المثنيتين في المجال الضيق ، ومددتهما على طولهما ، رددت فضل ثوبه على ركبتيه الكبيرتين ، فلاحت لي ملابسه بلا عطر ( قاتل النساء ) .. أفزعتني فجأة ً وشوشة هواء ٍ أخذ يتدفق من صنبور الماء ، الذي كان إلى جوار رأس ( رياض ) ، تلك الوشوشة التي تسبق جريان الماء عادة ً بعد انقطاعه مدة ً طويلة ، ومن ثم بدأ خيط رفيع من الماء يتصبّب بوهن ، فأخذت طرطشات الماء تصيب وجهه وتنضحه . حين سحبت ساقيه مال رأسه نحوي قليلا ً . كان ينبت على عقد أصابع قدميه شعر أسود لمـّاع ، جميل ٌ ، يجذب النظر إليه . تنبهت أن نظرة عينيه نصف منكسرة وكانت عيناه مرتخيتين وصافيتين صفاء القارورة ، ، تحدقان بي في حب أخوي ، وحالما تمعنت فيهما وجدتهما ممتلئتين بتلك الأسئلة الحميمة والأليفة وبتحذيرهما المخيف : ( هل أنت أخو سيد كامل ؟.. ما الذي أتى بك ؟.. المكان خطيرٌ جدا ً.. هيا أخرج بسرعة لا تبقَ هنا ) .. رددّت عليه بابتهاج : - إنني سعيد ٌ بمعرفتك .. ورحت أطوقه بالامتنان والإعجاب حتى غمرت قلبينا معا ً أنوار السكينة والوقار !.. تراجعت نحو الباب ، لاح وجهه منقوعا ً برذاذ الماء ، فيما كان عطر التغسيل متأرجا ً في هواء الغرفة ، كان نائما ً مثل طائر ٍ أبيض كبير .. طائرٍ مهيض الجناحين ، تراجعت عنه لأدعه مضطجعا ً في المسك الأذفر ، ينعم غافيا ً في مزاج السدر ومزاج الكافور !..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ • البَنـْدَر ( لغة ) : مربط السفن على الساحل ، المدينة البحرية ، المرسى ، مقر التجار من المدن ، ومنه " الشاه بندر " : رئيس التجار ( فارسية ) . ولكن البندر تعني في اللهجة الشعبية الدارجة تاجر حبوب المخدرات ، أو بائعها . • ( الدموي ) ، ( أبو الحاجب ) ، ( اللبناني ) ، ( الوردي ) ، وغيرها من الأسماء الكثيرة هي الأسماء الشعبية المتداولة لحبوب المخدرات .
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحت جسر الهولندي قصة طويلة
-
التاريخ السري للعقرب / قصة طويلة
-
يوميات معتقل سياسي
-
فورة الشكوك
-
الشجرة الرابعة
-
أكاليل حب إلى نقاهة الشاعر خلدون جاويد
-
عصفور الشطرة الكحلي
-
حامل شمعة الحب .. ( سمنون المحب )
-
بائع الصُوَر المقدسة : قصة
-
النوم مُبتَلاّ ً : قصة قصيرة
-
أسرار النجم الغجري
-
نزلاء الفنادق : قصة قصيرة
-
المنفاخ : قصة قصيرة
-
نساء الأنقاض
-
( اللطف العجيب ) ترنيمة جون نيوتن الخالدة .
-
متمسك ٌ بك ِ يا عزيزتي
-
قصة كفاحي : قصة قصيرة
-
القافز بعصا الزانة(قصة قصيرة)
-
حفلة ذبابات آيار القصيرة
-
أسطورة الجندي شيبوب : قصة
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|