|
فلسفة الفعل التواصلي عند هابرماس
محمد يوب
الحوار المتمدن-العدد: 5021 - 2015 / 12 / 22 - 08:27
المحور:
الادب والفن
يعتبر الفعل التواصلي من أهم المواضيع التي شغلت ومازالت تشغل الفكر الإنساني؛ لأن التواصل البشري ظاهرة قديمة قدم الإنسان بدأت معه ومازالت لصيقة به؛ والسبب في ذلك حاجة الإنسان إلى ربط علاقات تفاهم وتواصل بينه وبين غيره من طينته الذين يعيشون معه في وسط اجتماعي معين. ودراسة التواصل البشري تعود إلى أرسطو الذي يعتبر أن الأصوات رموز لمشاعر الروح؛ ومن أبرز وأشهر التعاريف للغة في النقد الأدبي عند العرب نجد تعريف ابن جني الذي اعتبر اللغة بأنها ( أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم) ويتفق معه في ذلك ابن خلدون الذي عرفها بأنها ( عبارة المتكلم عن مقصوده؛ وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد لإفادة الكلام؛ فلابد أن تصير متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان؛ وهو في كل أمة بحسب اصطلاحهم) والتعريفان يؤكدان بأن للُّغة وظيفة اجتماعية قائمة على التواصل بين أفراد المجتمع؛ تختلف دلالاتها باختلاف السياقات الواردة فيها؛ كما أشار النقاد والبلاغيون القدماء إلى مكونات الفعل التواصلي الذي لابد له من مرسل ومرسل إليه؛ بحيث إن الكلام لا يطلق هكذا على عواهنه وإنما ينبغي أن يتأكد المرسل من وجود مرسَل إليه ومن مضمون تحتويه الرسالة الكلامية. كما اهتم علماء الاجتماع بالفعل التواصلي وأكدوا على أهمية دراسة الكلام في إطاره الاجتماعي ومعرفة أصناف المتكلمين وأنواعهم وأجناسهم؛ وفي نفس الاتجاه سار النفسانيون حيث اهتموا بالفعل التواصلي وركزوا على الجوانب الحسية والشعورية في كل خطاب بشري؛ لأن الإدراك الحسي هو الخطوة الأولى في اتصال الفرد ببيئته وتكيفه معها؛ بل هو الأساس الذي تقوم عليه سائر العمليات الذهنية الأخرى. وكل هذه الدرسات تؤكد أن هناك عوامل متعددة تتضافر جميعا في الفعل التواصلي وتعمل على بيان أن اللغة تساهم فيها سياقات مختلفة لتبليغ رسالة خطابية إلى المتلقي متضمنة لأغراض تواصلية متعددة.
وقد اشتهر بهذه النظرية يورغن هابرماس في كتابه (نظرية الفعل التواصلي) الصادر سنة 1981م، والذي أعاد طبعه سنة 1984م؛ وهو من أبرز الوجوه الفلسفية البارزة في القرن العشرين. وهدف هابرماس من هذه الفلسفة الانتقال بالعقلانية من كونها ممارسة الذات إلى ممارسة المجتمع، أي انتقالها من عقلانية الفرد إلى عقلانية المجتمع، وعقلانية المجتمع تتجلى في الحياة اليومية للناس عبر نشاط الفعل التواصلي. والتواصل هو العلاقات التي تحصل بين الناس والرابط بينهم هو اللغة باعتبارها أداة أساسية وفعالة في تحقيقها؛ وهي تختلف باختلاف السياقات التداولية و المعرفية والتريكيبية و الصوتية. ويهتم هابرماس بالفعل التواصلي في أشكاله النظرية والممارساتية والمعرفية والمصالح المشتركة والمختلفة بين الناطقين باللغة؛ في مجالات التواصل الإنساني عندما تعترضهم مشاكل ووضعيات إدارية وقانونية؛ حيث اللغة تغدو عاملا من عوامل الاندماج الاجتماعي؛ حيث اللغة تصبح وسيلة تركيبية لربط العلاقات القانونية والإدارية بين مكونات المجتمع؛ بمعنى أن اللغة تقوم بدور الموحد بين أفراد المجتمع بطريقتين؛ الأولى تزامنية بأفعال تواصلية تميز الترابطات الاجتماعية؛ وأخرى تعاقبية من خلال أفعال تواصلية بها تتم العملية التربوية؛ وهذا يؤكد العلاقة الجدلية بين اللغة والعقل التي يؤكدها هابرماس وقد وصل إلى درجة التأكيد على أن اللغة والعقل شيء واحد . إن هذه الرؤية تؤكد أن اللغة تقوم بدور المنظم بل هي القانون الذي ينظم العملية التواصلية؛ كما أن العلاقات الاجتماعية والتواصلية بين أفراد المجتمع هي علاقات قائمة على مبدأ أخلاقي يتبلور أثناء الكلام حين يتلاءم القول مع الفعل. وإن لم يتبلور هذا الجانب الأخلاقي في اللغة التواصلية فإن الفعل التواصلي يكون مصابا بخلل يعرضه إلى الشك في مدى مصداقيته. من هنا يخضع الفعل التواصلي بين المرسل والمتلقي إلى عملية استفهام وتوقف وتأني في تلقي الخبر؛ لأن الكلام يكون صادما في بدايته؛ مبنيا إما على الإخبار أو الإيهام أو الإغراء؛ وبالتالي كان من اللازم تحليل الخطاب التواصلي وإخضاعه لميزان العقل؛ لكي يتعرف الباحث على مدى توافقه مع أخلاقيات المجتمع أم لا (التواصل هو الوظيفة الأولى والأصلية والأساسية للغة؛ في حين إن بقية الوظائف الأخرى مجرد ملامح لها غير ضرورية). بمعنى أن التواصل الاجتماعي بين الناس هو الوظيفة الأساسية ووسيلته اللغة؛ أي أن الملكة اللغوية لا وجود لها بين الناس فكل شيء اجتماعي كما قال رومان جاكبسون. كما أن هابرماس اعتبر الفعل التواصلي بأنه اتفاق بين الناس من أجل تحقيق متطلباتهم الحياتية بشكل عقلاني منظم؛ تربط بينهم علاقات اجتماعية خاضعة لمقياس الصدق والكذب؛ ولهذا نراه يتحدث على فلسفة الفعل الكلامي باعتبارها ذات قيمة اجتماعية تنبني وتتبلور في إطار اجتماعي توافقي وتداولي بين أفراد المجتمع؛ يشكل لديهم قانونا تواصليا؛ ومن هذا المنطلق أسس هابرماس نظرية اجتماعية وثقافية تخص الفعل التواصلي تسمح بقيام تفكير عقلي ونقدي مستقل يلائم عصرنا. والفعل التواصلي لا يكتفي بتبادل المعطيات المعرفية في سياقاته الاجتماعية فقط؛ وإنما يقوم بعملية التأويل؛ وتختلف درجات التأويل باختلاف القارئين المؤولين؛ و هذا التأويل لا يكون بطريقة عشوائية وإنما هو تأويل مبني على قواعد خاضعة للعقل؛ وقابلة للتعايش مع المجتمع وتتداول مع أفراده. كما أن الفعل التواصلي يقوم وينهض على مجموعة من القواعد المنظمة التي يتفق عليها أفراد المجتمع؛ بل يتفق عليها الكائن البشري في شتى أنحاء العالم ولهذا دعا هابرماس إلى كونية الفعل التواصلي وشموليته؛ وليس القصد من هذا التركيز على الجوانب التركيبية والدلالية للغة وإنما ينبغي التركيز على اللغة باعتبارها مكونا أساسيا لتمرير خطابات تواصلية اجتماعية مفهومة ومتداولة بين المرسل والمرسل إليه في أي مكان وبشكلها الكوني والشمولي. ولا ينبغي أن يكون الفعل التواصلي باردا وإنما ينبغي أن يكون حاملا لقضايا إنسانية فيها قيم أخلاقية؛ لأن العلاقات الانسانية في أي مجتمع هي علاقات تتصف أحيانا بقيم جميلة وأحايين أخرى بالخداع و الكذب...ولهذا اقترح هابرماس نظرية سماها (أخلاق المحادثة) وهذه النظرية ليست جديدة وإنما هي إحياء للمشروع الكانطي في الأخلاق والسياسة؛ وهي فلسفة تعتقد بأن الفعل التواصلي ينبغي أن يخضع للمعيار الأخلاقي الذي يتفق عليه أفراد المجتمع. غير أن الجديد في فلسفة هابرماس في التواصل هي اعتماده قاعدتين أساسيتين في الكلام هي قاعدة حرف (U) وهي التي تسمى بالقاعدة الكونية باعتبار أن هابرماس يريد دوما خلق لغة تواصل شمولية؛ والقاعدة الثانية هي قاعدة (D) أو الديموقراطية؛ وهي تفهم من لغتها أي أنها قاعدة تؤكد على أن أفراد المجتمع شركاء متفقون على لغة تواصلية معينة؛ تؤكد على كلية وشمولية اللغة وديموقراطيتها؛ وتشاور الناطقين بها. محمد يوب ناقد أدبي
#محمد_يوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرية التلقي والتأويل في النقد الأدبي عند العرب
-
حالة ما بعد الحداثة
-
تُخمة
-
دينامية النص القصصي وسلطة الأشياء قراءة في -موال على البال-
...
-
بناء الشخصية الروائية قراءة في رواية الرهائن للأديب محمد صوف
-
صدى سيرة ذاتية 1
-
جغرافية اللغة وأسلوبية المكان
-
يارا وأخواتها -------------
-
سوق النخاسة
-
رسالة إلى الرفيق الأسفل
-
بائعة الهوى على أبواب الليل
-
السردية العربية بين الأصالة والمعاصرة
-
المفارقة في القصة القصيرة جدا
-
جمالية تداخل الأجناس والبحث عن فائض المعنى
-
المتخيل السردي: قراءة في رواية المطرودون للأديب معمر بختاوي
-
الخطاب الفضائي في -لحظة شرود- للقاص محمد محضار
-
الشخصية الثائرة والبعد التراجيدي في رواية - الثائر- للأديب م
...
-
القصة القصيرة جدا في ضوء نظرية الجذمور
-
جمالية السرد النسائي
-
قراءة في كتاب -نحو نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا- للدكتور ح
...
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|