|
قراءة في قصيدة -الحمام الأزرق- ل عبد الواحد البشير بعنوان: روح بهجة وتمرد (من لوركا إلى نيرودا فعبد الواحد البشير)
عبد الرحيم لعرب
الحوار المتمدن-العدد: 5020 - 2015 / 12 / 21 - 21:13
المحور:
الادب والفن
هذه الأيام ، كنتُ أَطّلعُ على مقتطفات من حياة الشاعر الخالد بابلو نيرودا. صدفة وصلتني رسالة تتضمن قصيدة رائعة للشاعر عبد الواحد البشير، بخط يده الجميل- بدون عنوان- حينها, فوجدتني مستمرا في نفس روح الأسطورة الرائعة. وإذا صحت فكرة التناسخ، فقد نسخت في هذا الشاعر روح لوركا المبتهجة، وروح نيرودا المتمردة العاشقة. أدهشني في البداية هذا الخط اليدوي الجميل، الذي يدل على أن القصيدة وصلتني من روح الشاعر مباشرة. والمداد دم أزرق ساخن. ذكرني بقول نيرودا في حواره مع "ريتا غيوبرت"، حين وصف عودته إلى الكتابة بخط اليد، بعد تعذر الكتابة على الآلة الكاتبة بسبب إصابته في أحد أصابعه، قائلا:" حينما أكتب قصائدي بيدي فإنها تغدو أكثر حساسية، وقابلة للتشكيل أكثر، يقول روبرت غريفز في مقابلة أنه لكي نفكر فيجب علينا أن نحيط أنفسنا بأشياء أقل مما لم يصنع باليد. كان بوسعه أن يضيف بأن الشعر يجب أن يكون مكتوبا باليد." إن الخلاصة الأساسية لهذه القصيدة، تعكس عمق عواطف هذا الشاعر، وتقاطعه مع هذين الشاعرين العملاقين – قولا وفعلا- رغم اختلاف العصور والظروف والأمكنة. إنهم يتقاطعون هنا وهناك، في الفعل أحيانا، و في النظم أحيانا أخرى. " هكذا يهلك الشعراء ويحيا شعرهم" لأن ماهيتهم – بالمعنى الفلسفي- هي الكتابة. كما قال نيرودا: أكتب لأنني يجب أن أكتب" وهذا ما عبر عنه الشاعر عبد الواحد: "ألو: لشعرك الف رسالة فارم عنك الشعر قلت: كيف يرمي الوالد الإبنا؟!" وسوسة الشعر هذه، تنغص أعداء الحرية عبر التاريخ. لأن الشعر هذا هدفه الحقيقي الحرب ضد الظلم و القسوة، من أجل تحرير الإنسان. إن الحواجز تتمترس أمامه، تحاصره من كل حدب وصوب. والإبداع كفعل من أفعال الحرية، له شهداؤه، وفرسانه،لأنه يصارع بقلب شفاف. وهو القادر على ذلك، لأنه يتمرد حتى على أصحابه. ومن شهدائه لوركا- نيرودا، الإسمان الحاضران الشاهدان في هذه القصيدة. " ألو : أنا قوي .. وعندي سطوة فإما... وإما..." "ألو"، ذلك العدو الذي يتمترس وراء العديد من الأقنعة المختلفة. "ألو"، غير قادر على المجابهة الفروسية الواضحة..يتحدث من وراء ستار..يتصف بالمخاتلة والغدر... لكن القصيدة حية كباقي الموجودات، فهي عنصر أساس في الحياة، وجودها أبدي، تزداد ألقا كنجمة نيرودا، ويزداد المعنى وضوحا وجمالا. فإرادة القصيدة هي التي تقود الشاعر إلى حتفه أو إلى ميلاده الدائم عبر المعنى الممتد بين كلماته. لذا قال الشاعر عبد الواحد: " أعرف أنا بسيط ولكن كيف تأسر القصيد بعدي؟ وكيف تفزع المعنى؟" إلى أن يوضع بين خيارين خطيرين: " فإما تائب عن غيك !؟ وإما من الصرعى" قال أصيحابي الفرار أو الردى** قلت كلا الأمرين أحلاهما مر. الشاعر يحيا بالكلمات و القصائد. لا معنى لوجوده خارج ذلك. وكأن مقصد القول "أنا أكتب إذن أنا موجود". والتوقف عن كتابة الشعر يعني الموت المزدوج للشاعر، موت فعلي ورمزي. لهذا يختار الكتابة ولو على حساب حياته الجسدية. لان الجسد يفنى والشاعر يذوي، أما الإبداع فخالد. وكأن هذا العدو يتربص بالشعر من خلال متناقضات: الفناء/البقاء، الموت/الحياة ، الاستسلام/المقاومة، الجسد/الإبداع. من خلال الإبداع يستطيع المقاومة، بمعنى إرادة الحياة التي تحقق الخلود. إذ يضفي موت الشاعر جسديا، هالة سحرية، وضوءا عجائبيا على أداة جريمته، القصيدة. هذا العدو يتخذ أشكالا مختلفة ويستخدم أساليب متنوعة: "دسني إن شئت بعجلة أو أرسل في حتفي أهل اللحى أو جهز حيطانك عل سورها.. أو سمم مشربي، أو دس الموت في مأكلي،..." تارة يتربص به غيلة، وتارة أخرى يحاكمه باسم الشريعة والقانون.. ويتمادى في تعصبه إلى درجة تسميم المشرب، ودس الموت في كل مكان، محاولا قتل الحياة الطبيعية التي تشكل مصدر إلهام الشاعر. وهو الوصف الذي يذكر بقول محمود درويش: هناك امرأة تعيد الماء للنبع وهناك امرأة توقد النار في الغابات لكنه بشكل تراجيدي ينهزم دائما أمام القصيدة، التي تتقمص دور بروميثيوس، وتنبعث من الرماد كطائر الفنيق الأسطوري. " كيف ستغتال الشعر من بعدي؟ وكيف تسمم المعنى" هذا المشهد المأساوي جسده إعدام الشاعر الإسباني العظيم غارسيا لوركا. وتلك الصدمة التي خلقها هذا الإعدام عند جل الذين عاشروه – ومنهم صديقه نيرودا- كانت كبيرة. لكون لوركا كان محبا للفرح والبهجة شغوفا بالحياة " لقد استمتع بكل دقيقة من حياته...هو مسرف في السعادة، ولذلك السبب، كانت جريمة إعدامه واحدة من أشنع جرائم الفاشية التي لا تغتفر" هكذا وصفه نيرودا. هذا الإعدام له معنى واحد، هو محاولة يائسة لإعدام الحياة نفسها. مات لوركا، بقي شعره، وبقيت الحياة. "فريديريكو..يا لوركا.. تعال..اسمع عتاة فرانكو..الذين حييت أكثر منهم هل الشعر إلا لوركا؟" بنفس هذه الروح نعى شاعر المقاومة الفرنسية المشهور بول إيلوار الشعراء الشهداء(لوركا- سان بول رو) في قصيدته "نقد الشعر" قتلو غارسيا لوركا بيت من كلام واحد وشفاه متحدة للعيش طفل صغير يبكي في بؤبؤيه الماء المهدور يضيء المستقبل نقطة نقطة تغمر الإنسان خط الأجفان المتلألئة. ثم ينتقل الشاعر عبد الواحد إلى القول: "بابلو.. يا نيرودا" الشاعر التشيلي الكبير. الذي اختار هذا اللقب، عوض اسمه الأصلي "نفتالي رييس". كي يدخل مغامرة الكتابة التي كان يعتبرها والده خطرا على الإبن والعائلة. إيمانا منه بالإبداع، والتزاما به كواجب. لم يصبه الغرور أبدا. آمن بأن الإنسان كائن لم يكتمل" ثمة نقص في البداية والنهاية، هاتين الهويتين في حياة الإنسان يجب أن تكونا الأساس الذي ينبني عليه عمل الشاعر" " سلام على القصيدة.. حين ملكتها" لقد ملك القصيدة فعلا، لأنه تناول جميع الظواهر المرتبطة بالإنسان باعتباره شاعر الحب والطبيعة والإنسانية و السياسية. "فتشوا جيبك.. وجدوا القصيدة" بابلونيرودا، الذي عاش آلام الحرب الأهلية الاسبانية، وفقد أعز أصدقائه منهم لوركا، ميغيل هيرنانديز. ونفي إلى الهند، وعاش معاناة وآلام التشيلي، ولم يحمل معه إلا القصيدة. كان لا يفارقها، يكتبها غالبا في الصباح عل صوت أمواج البحر، أو بين ضيوفه حين تنساب الكلمات بين أنامله. قال: " أكتب أينما أستطيع ومتى أستطيع، أنا أكتب بشكل دائم". لا يحمل في جيبه إلا القصيدة حين هتف" لسنا للبيع" و " أن قوانين الروح لا تسمع برواج العملات والمصارف". فهي أيضا مصدر قوته، إذ عاش من مداخيل كتبه. شيد بيته الشاعري من جيب قصائده. " فتشوا بيتك.. وجدوا القصيدة" ب"إيسلانيغرا" شيده. جاعلا منه قبلة لأصدقائه الشعراء. كان عشا على صخرة مقابلة للبحر، ليمتد البصر في آفاق زرقته. " فتشوا عينك .. وجدوا القصيدة" ذلك المكان الذي اوصى الشاعر بان يدفن فيه رفقة حبيبته " ماتيلدي أوروتيا". فقال نيرودا: أمام البحر أعرف أمام القمم الحجرية المدببة وهذه الأمواج العاتية التي لن تعود عيناي المتعبتان الضائعتان لرؤيتهما قط. يؤمن نيرودا من خلال شعره وحواراته، بضرورة احتضان الشاعر الجيد لنفسه داخليا بما يكفي من المتانة والاقتناع العاطفي والفكري. حتى في الشعر السياسي يجب أن يكون منبعثا من العاطفة العميقة، وليس مبتذلا، لأنه حسب تعبيره " أعمق عاطفيا من أي شعر آخر ما عدا شعر الحب". إنه شاعر مملوء بالحب لدرجة أنه عنون أحد أهم دواوينه ب:" عشرون قصيدة للحب و أغنية واحدة يائسة". "فتشوا قلبك.. وجدوا القصيدة" القصيدة في كل مكان تحاصر الخراب، لكن لماذا يصر الأعداء على حقن هذا النهر المندفع بالسم؟ ! هكذا أخذ نيرودا على عاتقه أن يسلك طريقا شاقا. يريد لشعره "أن يعبر عن أسرار روحه، وأن يعبر عن بساطة الأشياء الأقرب إلى الكائن الإنساني. وإلى الحد الذي تقوم فيه بدور في إراحة الجنود، بل وفي الحرب ذاتها. الحرب ضد القسوة، والظلم، ومن أجل التحرير". لذلك كان رحيله بلا شك لغزا محيرا، أسال مدادا كثيرا، على قدر غزارة قصائده وتجاربه. "هناك.. حقنوا السم.. أماتوا الجسم/ حلقت القصيدة لازالت عظامك تستنفر الألغاز.. وتحكي زوالهم" هنا يلتقي الجميع، تتضافر الحكايات من مشعل بروميثيوس مرورا بطواسين الحلاج إلى لوركا الفرح المغتال، إلى الشاعر ميغيل هيرنانديز الذي سجن حتى الموت – لتكذيبه الرواية الرسمية لاغتيال لوركا- وهو صديق لوركا وتلميذ نيرودا المقرب. وكأن عبد الواحد الشاعر يحلق بجانبهم على نار الفكر التحرري، وهو ما عبر عنه بقوله: "لك في اليسار مرجع تبدى واليسار تهمة – كما تعلم –" وقد صدق بول ايلوار في قصيدته، " قصيدة واحدة بين الموت والحياة" حين قال: مثلك يا شبيهي الذي لم يصنع سوى كراهيته للموت. وأنهي هذه القراءة العاشقة بهذا المطلع الطبيعي الذي يتغنى بالشمس، الحمام، الفدادين، النخل،الندى... بشكل عميق يعكس انطباع هذه الطبيعة في ذاكرة الشاعر. في نفسيته وفكره. هذا الارتباط المتشاكل الذي يصعب أن نميز فيه بين حدود الطبيعة وحدود الثقافة. بين حدود المكان وانزياحه في الصورة الشعرية، ليسبر أغوار الذات الإنسانية. ويذكرنا بقول نيرودا العاشق بحب لا متناه:" لا أستطيع العيش بعيدا عن الطبيعة، ربما احب الفنادق ليومين، وأحب الطائرات لساعة، ولكني أسعد حينما أتواجد بين الأشجار في الغابات أو على الرمال، أو أثناء الإبحار، وحينما أتواصل مباشرة مع النار، الأرض، الماء، الهواء". يقول عبد الواحد البشير: " طعم الشمس في عيني بألف لذة هذه العشية وسرب الحمام الأزرق يأخذ نصيبه من قمح الفدادين خضرة النخل في عيني.. بألف خضرة... هذه العشية.. ورائحة الندى." دجنبر 2015
#عبد_الرحيم_لعرب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النصف الآخر لبلدتنا
-
طيور بلا أجنحة
-
رثاء إلى طائر الرعد سميح القاسم.. إلى فلسطين.
-
قصة قصيرة: لعبة الكاشكاش
-
من الشاعر عبد الرحيم لعرب إلى الصحافي المناضل أنوزلا:كتبت هذ
...
-
تراتيل النصر: إلى روح القائد التاريخي للحروب الشعبية ضد الاس
...
-
الحلقة الرابعة و الأخيرة: كوني بردا وسلاما على إبراهيم
-
الحلقة الثالثة: كوني بردا وسلاما
-
الحلقة الأولى: كوني بردا وسلاما على إبراهيم
-
صرخة ضد كل الفاشيين بشتى تلاوينهم، من النازية إلى الصهيونية
...
-
شجاعة لحد الخوف
-
من أم الدنيا إلى كل الدنيا.
-
الخيال في زمن الاغتيال
-
مقال عن مستبد قديم إلى كل المستبدين الجدد و القادمين على ظهر
...
-
ثورة مصر مستمرة: -بشرى للحرية بشعب مصر-
-
عمال إيمني:قصيدة إلى كل عمال المناجم بالمغرب: إيمني، بوازار.
...
-
إلى ذكرى الشهيد الثائر الأممي تشي غيفارا: خطاب كاميليو وسط ا
...
-
رسالة الشهيد البوعزيزي: إلى ثعالب الديار: إلى مفتي الديار:
-
من شاعر يحبكم: بشرى للحرية بشعب مصر. مع باقة من القصائد
-
بطاقة تهنئة من المغرب: مبارك على الشعوب سقوط مبارك
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|