|
قرابين للنسيان- قصة
عبد العالي زغيلط
الحوار المتمدن-العدد: 5015 - 2015 / 12 / 16 - 19:27
المحور:
الادب والفن
قرابين للنسيان في مستودع الخردوات الفكرية امتدت يده إلى كتاب لاح عنوانه باهتا،كان قد انطمس ولم تبق منه سوى أحرف أوشكت هي الأخرى أن تستسلم وتختفي..تتلاشى..تموت... كان الدرج مليئا بأوراق مغبرة،وصور باللونين الأبيض والأسود،صور تمتد في تاريخه الذي يود لو يقدم الكثير منه قربانا للنسيان،وكانت يده نشطة في نفض الغبار،وترتيب الدرج،لكن فكرة خطرت له وهو يعيد ترتيب الصور حسب تاريخ التقاطها،كانت الفكرة برقا خاطفا لم يدرِ كيف شلت يده عن الحركة. هم بجمع الأوراق والصور والذكريات وبقايا القصاصات الصحفية؛من جرائد قديمة على الأقل بالنسبة إليه،وماذا يفعل بكل هذه الأوراق،فكر أن ينشرها في مذكرات تحمل عنوان، وكان العنوان يتراءى له بعيدا،لأن..لأن..،لا! ما بين يديه لا يُعَلل،الأيام التي قضاها هناك لم يكن لها من تعليل،أي لم تكن معقولة،وشعر أن يد العقل امتدت إلى اللامعقول لتعطيه إشارة المرور إلى...فكيف يجمع كل هذه المتناقضات التي لا تجتمع إلا في الدرج،ولا تلتقي إلا في المكان ،ولا يؤطرها إلا الورق،كيف يكون لها عنوان موحد،وجامع مشترك،وسلك ناظم. مد يده مرة أخرى ،وقد استغرق في النظر إلى صورته وهو يلبس قبعة شبيهة بتلك التي كانت على رأس تشيفارا،انحدرت دمعة من عينه اليمنى،حاول أن يتقي الدمع بالتجلد ولكن العيــن اليسرى تضامنت مع أختها،استسلم لإرادة العينين،وترك الصورة تتلاشى في بلور الدمع... صارت البقعة مساحة سوداء شبيهة ببركة يسقط فيها مطر غزير،وتشتت الصورة،صارت باهتة،باهتة،باهتة .. أخرج الصورة الثانية ،وهنا كانت المفاجأة،إنها بتاريخ واضح،لم يمح الحبر الذي كتب به،إنه تاريخ يمكن أن يقرأه بوضوح،والوضوح يخيفه،فطالما أوغل في العتمة،وأحب الدياجير،وسار في الأنفاق،وأدلج في الليل،ولم تكن كلمات الظلامية،والعصور المظلمة،والظلاميين تبرح لسانه،كان لسانه حصانا أصيلا يجوب عيون المها،ويحاصر الظالمين والظالمات،والكاشحين والعاشقات..أيام كان.. كان في تلك الأيام مفوها،وخطيبا.. فمه يتطاير باللعاب..ناشف فمه،ولعابه صار صوفا أبيض.. يقرقع بآخر نظريات بناء المجتمع الحديث..وصوته يبتلعه التهليل القادم من القاعة،والتكبير المتناغم معه من خارجها،كانت أوداجه تنتفخ بالعدالة،وعيناه بالرؤية الإستراتيجية جاحظتان..وأذناه قد صُمتا بالإصغاء للرأي الآخر،والاستماع لرأي الشارع..كان صوتا. تأمل الصورة،الصورة الأولى الشعر الغجري المجنون ينسدل على الكتفين والشفتان فاجأتهما آلة التصوير وهما تكوران الحاء المضمومة،والخدان تضامنا مع الشفتين واندفعا في تحد سافر للحظة هاربة،وللزوال الذي ما انفك يتلف الألبومات ويرديها. شعر مهبول..مجذوب..ومجنون،و"عينان قال الله فيهما كونا فكانتا".. شفتان كرزيتان،ولو باللونين الأبيض والأسود،وتحسس شفتيه ونقل عينيه إلى الصدر،لكنه كان مغطى بالورقة،الورقة التي كانت تتلو منها قصيدتها. إلى جانبي جلستِ،على المنصة صدحت،وبكلمات الحب ترنمت وغنيت وشعرك يا فاتنتي كان مشانق للرغبات في سفوح العمر الممتدة من جبال الحقد إلى سواحل التربص. ذرف كلماته دمعا،وسقطت الصورة من غير اختيار،شبك يديه على رأسه راح يذرع الغرفة المغبرة بكل الآلام ويتلو أبياتا كان قد حفظها من قلب الشر المورقة أزهاره: المجد للشيطان ..معبود الرياح من قال «لا» في وجه من قالوا «نَعَمْ» من علَّم الإنسان تمزيق العدمْ من قال «لا»..فلم يمت، وظل روحا أبدية الألم! تناءت بنا الأحزان فليأت الطوفان،تناءت الخيبات وتباعدت الأسفار،تناءى الطموح الكسيح، والبارود الفاسد يرتد هزيمة منكرة.. بالإبهام والوسطى اسقط حبات الضعف عند تخوم الهزيمة،رفع الصورة الثانية،بندقية على الكتف الأيمن،ومجلد لا يظهر عنوانه في قبضة اليد اليسرى،نزل على شفتيه طيف ابتسام وهمَّ بإعادتها إلى مكانها،هل يقلب الصورة ليرى التاريخ المكتوب على ظهرها،حبس أنفاسه،دقق في الصورة ولعن التاريخ المكتوب على الظهر،أمعن فيها النظر..هذه الصورة لا تشبهني ،لا،لا،إنها تشبهني،لا،هذه الصورة تاريخي،لا،أبدا هي تنكر لتاريخي،هذه أنا،لا هذه ظلال حبست ليست أنا،هذا السفح والحصى عند الجزمة العسكرية،لا،لا،لست أنا.. وهذه الشعيرات التي تغطي الوجه والبسمة الباهتة،والصدرية الجلدية والتنور إلى ما دون الركبة،والسروال إلى ما فوق الكعبين يا رب لست أنا.. يا أنا..من أنا؟ وتصادى الأنا الأول مع ما قبل الاستفهام وسقط على ركبتيه،ارتطمت الركبتان بالبلاط،تصاعد الغبار،وكان يدخل من قتام في قتام،كان قد تعود أن يغبر في السرايا،يحضن الصورة يحدق فيها مليا، يبدئ ويعيد،هل أقلب الصورة،طاوعني يا قلبي.. لما فتحت الدرج ألم يكن من أجل ذلك العنوان الباهت ،فكيف لي أن أقرأ كل هذه العناوين الغريبة،كيف لي أن أقف كما الجاهلي على أطلال خولة وبيت سعدى،ومنازل مقفرة في صحراء القلب الشاسعِ ضيقُها! من ألقى بي في السفح،من أوصى بي الخونة،من جرَّد الصورة الثانية من ألوانها من أفتى باللونين الأبيض والأسود،يا خريـ يـ يـف! غبار خريفي ينسل إلى أنفه،كيف هي ظهر الصورة،من خط تاريخها،أًََكُتب على ظهرها:التقطت له الصورة بتاريخ...وكان برفقة...في...؟ ليت الصورة تكذبني ليت ظهرها يصدقني ،ويا ظهرها،كم ذُبِحت من القفا،كم سل سيف البغي من الظهير! أرجع الصورة إلى الدرج من غير أن يجرؤ على معرفة ما كتب على ظهرها،دفع الدرج لكن خشخشة غريبة تناهت إلى سمعه ألقى السمع،لا..لا..إنه هو.. مد يده إلى الدرج الثاني ..انفتحت عيناه عن آخرهما فردة قفاز،منديل مطرز وتمثال خشبي صغير،ريشة للكتابة أوراق مسودة بدأت جوانبها تغير لونها،وكانت قد غيرت رائحتها وقطعة نقد إيطاليــة قديمة،وخرطوش فارغ.. بماذا أبدأ والفؤاد شظايا،بماذا أبدأ والندوب حكايا،بماذا أبدأ والصدر عار إلا من أحزانه،والوجه.. كلا.. لا أثر! أبلقفاز؟أم بقطعة النقد الايطالية أم بالتمثال الخشبي؟ من أين أبدأ والبقايا ندوب،ذاتي تهاوت والرجا عرقوب. تلال الصمت تدافعت في صحراء القلب والحصان يقف شامخا رافعا رأسه جموحا،اللجام في يد الفارس،منطلق،لا يلوي على شيء،والقاعدة الخشبية بها ثقوب توشك أن تسقط الفرس والفارس،وتحطم الحصان والمتحصن به،والسرج به ندوب وخدوش كما لو أنها ضربة منشار من يد عابثة،هذا مصيرك أيها الخشب،انطلاقة الحر،كذلك قال لي أستاذ النشاط لما جئته بالتمثال،و"الحر ممتحن بأولاد الزنا"،من فعل بك هذا أيها الفارس،من حطم قاعدتك،وحز في سرجك؟! تناول القفاز حاول أن يلبسه لكن يده بدت أكبر من القفاز أو لعل القفاز بدا أصغر من يده،ولم تكن بالقفاز سوى أربعة أصابع ،أين ذهبت السبابة،حاول أن يلبسه يده اليسرى لكن القفاز أبى،لا يصلح إلا لليمين،وبلا سبابة.. رفع المنديل الأبيض،أبيض.. هه لم يبق من بياضه إلا الأثر،صفرة في القلب،النقوش بخيوط حرير صارت ممزقة،الشفتان المطبوعتان عليه بأحمر الشفاه بدأتا في الارتحال،والدمعة التي اصطفت إلى جانب القلب جفت من أمد بعيد،ولم يبق إلا ملحها،ربما،تمنى على الملح أن لا يغدر بالذكريات.. الرائحة من الدرج تقول أنه صار قبرا مهجورا،هذه بقايا العظام النخرة،شكرا للأنف،لولاه لتغير وجه العالم،هذه حضارة بكاملها توشك على الرحيل،المنديل،الدمعة،وقلب الحرير ووداع عند.. لن أقول عند الأصيل،لم يكن فيه من الرومانسية شيء حتى يختار شمس الأصيل،ليتكِ أخذت المنديل،ليتك ذوبت الدمعة في غير هذا اللون،لا بياض..ليتكِ ما قلت أحبكَ،وهمَّ بنقل المنديل المسجى بالذكريات، فتلاشت بين يديه.. تلاشى القلب،تفتتت خيوطه الحريرية،تلاشت بصمة الشفتين،ولم يدر ما مصير الملح،كلما استمسك بأجزاء المنديل راحت تعاند في تلاشيها أمام ناظريه... لم يدر كم من الوقت مر،لم يشعر بتعب،لم يشعر بجوع،كما لو أنه مسحور،المكان يستبقيه،وما يحتويه المكان يستعجله بالخروج..الريشة بين أصابعه ليست خفيفة كالريشة،زرقاء اللون مسح غلالة الغبار التي تحوطها،مكتوب على جانبها بالحرف اللاتيني،بخط أبيض رقيق صنعت بالهند،نزع غطاءها جربها هل يمكن أن تكتب بعد كل هذا الصمت ،مرر رأسها على ورقة ملقاة على الأرض لم يسمع لها صريرا،دقق في البياض،لم تخلف أثرا،حاول مرة أخرى،ضغطها على الورقة،أبت أن تسفح حبرها المكنون،الحبر في جوفها حزن أسود،تضامنت مع المنديل،مع الفارس،بقايا وفاء،وأثر من إباء،في الهند صنعت،وهنا في هذا القبو دفنت،ماذا كنت ستكتبين لو لم يجاورك الخرطوش؟ كانت الأوراق المحاصرة بصفرتها تخيفه،كان يؤجل النظر فيها،أتكون الأوراق صورة ثانية بظهر عنيد ووجه لا..لا أثر! في الشارع الممتد في قلب المدينة،عند المنحدر ،قريبا من المنظر الموصوف بالجميل،دخلنا،دخلنا قبل أن ندخل النفق المظلم،دخلنا قبل أن تُجَرْجَرِي بعد ذلك من شعرك الأسيوي،قبل أن تُبَهْدَلي،كانت الدهشة تصفع قلبينا،العيون تتناهب حضورنا،خطواتك كانت تبحث عن خطاها،عيناك كانتا تمسحان المكان، كنت جميلة يومها، جميلة هي كلمة حيادية لا تستوعب شعوري لما بصرت بك،ولا تتحمل ذلك الزلزال الذي ضرب شرايين القلب قبل أن يصل إلى سويدائه ،ذلك البركان العنيف الذي ألقى كلماته ترحيبا وأنت تفتحين الباب:انطلق! هي كلمة تلقتها أذني كزخَّة عطر راحت تدغدغ الخلجان الغائرة والمنسية في نفس لم تعد رومانسية بما فيه الكفاية،ولم تعد تتحمل الواقع بما يطمئنها، كنت تقفين عند مفترق العواصف،نعم كانت الفتن تلوح في أفق يتلبد كل ساعة. المساء يومها..غيم متناثر في السماء وكآبة تلف الشاطئ وشارع شُطف منه المارة الذين كانوا يحثون الخطى إلى بيوتهم أو إلى أقرب مقهى لمتابعة مباراة كرة القدم وهم يتشحون بألـوان الهزائم. ـ هي فرصتنا،لن يملأ أحد بنا رأسه. ـ لن يملأ أحد بكِ عينيه،ستكونين لي،لي وحدي. شفتاك على شفة الفنجان وأنا أغار منه ،أحسده فأود لو ينكسر،وعيناي على ضفاف عينيك وأتمنى لو كنت ضوءا في المقل... ـ إنها مُرَّة! قلت ذلك ووضعت الفنجان ومعه وضعت المفتاح في يدي لأدخل إلى موطن الكنوز المسروقة من أرض النبضات،وأرحل في مدائن الشوق المنثورة على البريق الهارب من مقلتيك... ـ مُرَّة! ـ دعيني أتذوق،انتقي أنتِ المكان. ـ ماذا تقصد؟ ـ مكان المرارة. ـ المرارة في كل مكان! تناولت الفنجان،أدرته،تأملته،موجة من قهوة لا زالت عالقة بجهة من شفته، زوبعة في القلب، زوبعة في الفنجان، زوبعة في البحر، وزوبعة في المقهى لجمهور ضيع لاعبوه الذين يُرَاهَنُ عليهم فرصة تسجيل الهدف. والتقت شفة الفنجان بشفتي ،قلت لك إنها دافئة،ومالحة كضفائر النساء في فم الشعراء! ـ صرت تقول الشعر! ـ صرت أناوش الشعر،أما من يبصر جفونك،فلا بد أن يفكر في حماقة ما،على كل حال، شكرا للقهوة،شكرا للمرارة،شكرا للفنجان،وألف شكر لشفتيك. صوت المشجعين الخاشعين أمام الشاشة في المقهى قطع همساتنا وخرب اندياح الموج علــى الرمل. ـ لقد سجلوا ـ ما سجلته أنا أهم بكثير! أخجلك الغزل الصريح،اضطربت يمناك وهي تمسك بالفنجان،أردت تغيير مجرى الحديث. ـ لستَ وطنيا. ـ "أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن". ورحت أدندن بأغنية فيروز،وراح خداك يختلسان حدائق الورد،كانت سويعة في دقات الساعة وكانت عمرا في دقات قلبي. الساعة،ليتها ما صنعت،ليتها تركت المعصم حرا،وتركت العمر حرا،ليتها ما وجدت.. ـ راح الحال! ـ أعلم ذلك،لهم المكان،فليرتاحوا في وطنهم الكروي. دسست القطع النقدية في جيبي،من غير انتباه،وعند أول محل لبيع التبغ خرجت الإيطالية تزاحم الدينار،لم أفكر في إرجاعها للنادل،لم تكن تساوي شيئا وكانت أثمن من كل شيء،بيننا روما،ضحكت،وافترقنا على موعد لم يتجدد.. ألقى ببصره إلى ما تبقى من لوعة، بقي الخرطوش وحيدا،ليس تماما،إلى جانبه أوراق تحاصرها الصفرة،حاول انتزاعها من مكانها،لكنه أجَّل ذلك. أيها الخرطوش من أفرغك،في صدر مَنْ تناثر بارودُك،بأي أذن سُمِع صوتك؟ بقايا ذعر تسكن في أعماق هذه الاسطوانة الصغيرة ،قربها من أنفه،شكرا لطولك أيها الأنف،رائحة البـارود لازالت عالقة،نعم من هذه الاسطوانة رأت العين وسمعت الأذن،وشم الأنف،رأت العين النار وسمعت الأذن الدَّوي،وشم الأنف رائحة الجثث المتفسخة،لا!.. شم الأنف رائحة البارود تسافر في أجواء الضغينة وتنداح أمواج غضب، أيها الخرطوش! لِمَ بقيت وحيدا،والبندقية في رحمها توأم يبشر بالموت ويزغرد بالنحيب. من أبقاك؟..ألعرسٍ بالزرنة والبارود والتبراح؟ قَلَبَ الخرطوش،دقق في قاعدته بأحرف لاتينية محفورة في القاعدة النحاسية كتب"صنع في فرنسا" ممتاز..غنيمة حرب! من أبقاك في درج به منديل حبيبتي،وتمثال طفولتي،وذكريات داعبت قلبي وفكري،من أبقاك،أجب، ألا تجبني؟ صاح بأعلى صوته حتى ظن الجدران تتداعى مجيبة نداءه،خرطوشْـ شـْشـْ......أششْ خراطيش الموت لا تجيب! يا راس المحنة لله جاوبني! كل الآثار تشي أن باروده انطلق منه،بصوت دوي،وصورة نار ودخان،ورائحة،ورائحة.. في وجه من سددت الطلقة،انطلقت صوب من،هو لا يذكر يحاول أن يفرز الأيام ،الأيام المتشابهة،يقسمها حسب المحطات البارزة،حسب المعالم الواضحة في حياته،ولكن الذاكرة تتأبى عليه،لسْتِ أول خائنة، أفلتت العبارة من بين شفتيه بصوت مسموع،حاول أن يستجلب تاريخ بلده لعله يسعفه فيجد للخرطوش مكانا،وكان التاريخ مليئا بالخراطيش الفارغة،سمر ناظريه في جدار الأيام المتهالكة،تشابهت الخراطيش كما أوجه القتلة..دس الغنيمة في جيبه،غنيمة! شيء من بقايا معركة ما في صالة قمار كبيرة تدعى الوطن! لم أكن قاتلا،ولو كنت كذلك فكيف لي نسيان وجه ضحيتي،كيف أنسى الدم المسفوك والصرخة الخرصاء، لا..لا لست قاتلا! أيتها الأوراق.. أيتها الثعابين السامة..أيتها الأوراق..أيتها الخراطيش البيضاء..ماذا تخفين أنت كذلك؟ عن أي بياض تتحدث،الأوراق ميتة،الصفرة تحيطها،والقضم في جوانبها لا يخفى،كصحيفة قريش على جدران الكعبة. هل افتحها؟ دعها مطوية،أرجوك لا تفتح،وماذا يخيفك منها؟ لا أدري! سحب يده قبل بلوغها الأوراق المطوية،لاحت الصورة بين عينيه،لقد أرجعها ولم يقرأ ما كتب على ظهرها،ربما لم يكتب شيء،ولكنه لا يذكر أنه التقط صورة ولم يدون على ظهرها يوم المناسبة ومكان التقاطها. لماذا تخيفه الصورة،بل لماذا يخيفه ظهر الصورة؟ الأوراق تلوح رخوة،رطبة،مندَّاة،متراصة كأنها تحتمي ببعضها مـن هكذا قيامة،أيتها الأوراق كم أخافك،أخافك أكثر من الخرطوش. شعر ببرد خفيف،كيف يكون هذا ونحن في آخر الربيع،انتبه لنفسه،لم يكن يرتدي سوى قميص رقيق،عَزََّ عليه أن ينسى نفسه وسط هذه الكومة من العناكب،وأغرورق القلب بالأسى! العنكبوت ينسج قصوره في أركان البيت؛في زوايا الغرفة تزاوجت العناكب،وأنجبت،وأكلت ذكورَها إناثـُها،وجاورتها الصراصير تغني مواويلها،وأقامت الأفراح،ولعبت الجرذان في السقف،والسطح..كانت لهم مملكة! يا إلـهي! الخشخشة..حبس أنفاسه، الخشخشة.. الفأر!كان يأمل أن يرى فأرا مذعورا منكمشا على ذاته،يصيء نـادما على أفعاله،تـائبا من صنيعه،ينتظر عفوا كريما أو قتلا رحيما. فتح الدرج الأول،ثم الثاني ثم الثالث،وكـانت المفاجأة، ليس ثمة فأر،لكن آثاره باقية لقد قضم سرج الفارس،وأنهك قاعدته،وحوط الأوراق بلمسات من توقيعه،بل ترك في جوفها ما يشبه ثقبا أسودا كما هتك حرمة المنديل،وأتلف القلب الحريري،والشفتين المطبوعتين. وماذا أبقى؟ كل هذا الخراب فعله الفأر،غاب القط ولعبت الفئران،وما يدريني،فالخشخشة توقفت ولا أثر للفأر في أدراج المكتب،تلف من غير متلف،قيد الجريمة ضد مجهول،ثم لماذا الفأر لوحده،والبيت فيه الصراصير والعناكب،والجرذان،والخنافس،والحلازين،والغرفة كما أدراج المكتب،وقوادم السرير،ورفوف الخزانة،صارت كلها مباءة لهؤلاء جميعا،لا بل صارت لهم جمهورية حقّ لهم أن ينتخبوا فيها رئيسا! فكر أن يخرج من هذه اللوحة السريالية،فكر أن يفتح النافذة لعل هواء منعشا يتسلل إلـى خلايا مخه فيعطيه مزيد قوة لفك شفرة هذه الفوضى لكن عنادا قديما جاءه من اللوحة ذاتها ،ودفعه إلى كشف المزيد من غير أن يفتح النافذة. أيكون النور الذي يكرهه هو السبب العميق في تركه النافذة مغلقة،يكفي نور المصباح،وعاد يفتش الأوراق القديمة في الدرج الثالث. الصورة أياها،بندقية على الكتف الأيمن،ومجلد لا يظهر عنوانه في قبضة اليد اليسرى،السفح،الحصى عند الجزمة العسكرية،الشعيرات تغطي الوجه والبسمة الباهتة تعاند الشفتين،وتخذل صاحبه،الصدرية الجلدية المتآكلة عند الكتفين وعند الكمين،والجيب الممزق،التنورة إلى ما دون الركبتين،والسروال إلى ما فوق الكعبين. دقق النظر في الصورة ،ربما تلتقط العينان المتعبتان تفاصيل أخرى ،تفاصل قد تشجعه على قلب الصورة، وقراءة ما كتب على الظهر. لا شيء! السفح،والبندقية على الكتف اليمنى،والصدرية، الجلدية،التنورة، السروال، الجزمة العسكرية،آه قبعة على الرأس إنها أشبه ما تكون بقبعة جيفارا ،وخصلات من شعر تنحدر على الجبين تبدو ناعمة وكأنها شعر آسيوي.والظل، ظله يبدو ممتدا فإما أن تكون الصورة التقطت مساء وإما أن تكون الصورة قد التقطت عند الصباح. أعاد النظر ويده اليمنى تحاول قلب الصورة لتقرأ التاريخ ولكن اليسرى كانت تعاندها وشعر لحظتها أنه صار اثنين،لم يعد واحدا،ليس سهلا على المرء أن يشعل الحرب الأهلية في داخله،لن يتدخل أحد لإطفائها حتى الطبيب النفسي لن يستطيع التوفيق بين الإخوة الأعداء،الأسلحة خفية وخفيفة كدبيب النمل،كالشرك..تمنى لو لم يدخل الدار بالمرة،تمنى لو لم يفتح المغاليق،هم بالخروج لكن الضوء القادم من المصباح أغراه بإمعان النظر في الصورة ،وحده النور يستطيع أن يقرأ تفاصيل أخرى. اقترب من المصباح،كان النور ينزل من أعلى. شلال من النور يتدفق على تقاسيم الوجه،وعلى تفاصيل الصورة،لم يستطع النور اختراق ورقة الصورة وبلوغ ظهرها وكشف المكتوب. كان يخشى النور،ويهوى الدياجير،كان يمشي دائما في الظل،وعندما تلفحه الشمس يولي هاربا إلى أقرب مكان فيه الظل،كان يحتمي بالآكام،ويأنس بالأدغال،ويألف المغارات،بل كانت المغارات تألفه.. ها هو اليوم يحاول فتح صندوق الأسرار بمصباح باهت لكن الصورة أجبرته على فتح عينيه وقراءة الظلال والألوان،لا بل قراءة اللونين الأبيض والأسود،قرَّب الصورة،لم يكن أحد إلى جانبه،كان وحده.. وحيدا كما الحب في بلدتي،وحيدا كما الدمع في مقلتي. كان وحده، قرَّب الصورة من عينيه،الشَّعْرُ في وجهه بدا متناثرا،والشارب بدا ممحيا،حتى شككه في نفسه وأعاد عليه السؤال القديم الجديد من أنا؟ هل من تفاصيل أخرى،تفاصيل قد تعين على إبطال ما يود الإقدام عليه،تفاصيل قد تعيد الصورة إلى حظيرة الألبوم أو إلى زريبة النسيان،تفاصيل تشنق الرغبة في قلب الصورة وقراءة التاريخ. الصورة كانت باهتة! ضنينة بمكنونها. هل هي الصورة الأخيرة؟ ***** لم يكن مساء،ولم يكن الذين أحبهم قد قرروا،عندما كانت الأوراق تساقط على القلوب الخائفة كندائف الثلج كان حبرها يبلل البارود،وكلماتها تليِّن بعض القلوب،خاف على باروده،وخاف على قلبه،ووحده الليل معين المجرمين والبؤساء والعشاق،والفارين من سجن ما،ها هو الظلام يلوح كالنور الساطع!! عندما قررت الانسحاب لم أخبر أحدا من رفاقي،الحصار لم يكن من حولنا فحسب بل كان الحصار في داخلنا..كان الحصار آلاما نتجرعها وآمالا انعقدت ثم تفسخت،شُرْبُ فنجانِ قهوة صار ترفا،والخبز والزيتون صار من الكماليات،والعيون بدأ يخبو بريقها الأول،والخطابة لوحدها لا تصنع نصرا،الدنيا مطبقة والسماء من فوقنا لا تمطر،الله تخلى عنا،لا! الله لم يتخلَّ عنا.. نحن من تخلَّى عنه! السماء فوقنا ظل ممدود،ورزق محدود وأشواك تكبر في الحلق،وقصص بدأت تتناقص ما عدا ما يهمسه بعضنا لبعض عن الصحون الطائرة التي ألقت بوجبة من توبه ووعد بغفران ولم يأت الغفران،كلنا أبناء الطين والخطيئة! الأفق صار أضيق من الضيق،والرغبات يعاندها الدخان المتجمع في مأزقنا..محاصرونا في أعماقنا،محاصرونا في أشواقنا، ليس لي عمران،عمر واحد لا يغير فساد أعمار أجيال، هكذا حسمت أمري لم أكن مقتنعا تماما بحجتي،ولكنها كانت كافية كي أقتنع أن الله لا يبالي بما نفعل،لقد تركنا نقرر لوحدنا ما يصلح وما لا يصلح في هذه الأرض العاهرة! أمنا الأرض، لا بأس، الأم تغفر دائما لأبنائها، وعندما يعضها الجوع للعدالة تأكل بعض أبنائها،لا أريد أن أكون هذا البعض! لاح الصبح،ومعه تباشير هزائم زاحفة،ولاح الصبح وكنا نظنه بعيدا ّ،صبوات القلب تكشف عن نفسها والحجب انزاحت والعودة لم تعد وعدا ولا أملا. جمعت أغراضي ولم تكن كثيرة ولا كبيرة،ألقمت بندقيتي خرطوشين،تناولت نصف فنجان قهوة ،استطلعت مداخل الغابة،لم نعد نسمع هدير المحركات،وحده الخوف يصنع أوهامنا ،لم يعد أحد يحاصرنا،لقد كنا محاصرين في بلاغة الخطب المسكوبة في آذاننا،وكانت الأيام رملا ينزلق من بين أصابعنا،ولم يعد لنا أصدقاء،لا،بل لم يعد لنا أعداء،وتلك كانت أقسى،وأقصى،صرنا تهمة سافرة تبحث عن أول قمامة للنسيان لترتمي فيها مع الشكر والامتنان! الجزمة العسكرية التصقت بقدمي منذ أمد بعيد،والصدرية الجلدية سوادها ازداد سوادا،صرت غـرابا أسحما والتنورة فقدت لونها الأخضر الفاتح ،والقبعة حوطها بريق أوساخ تنطق بالكثير من القذرات التي منحتنا إياها أمنا الأرض،والرائحة..؟ إيــهٍ على الرائحة،فيها التقى الخنزير بالكلب،وتضامن معهم الضبع،والثعلب،بل حتى الضفدع لها لمستها العطرية في بانوراما التوحش! لم أعد نكرة ،النكرة تَعْرِفُها اللغة،صرت أذنا تسمع،وأصبعا تضغط على الزناد،وجوفا مليئا بكثير من الخوف والقسوة، كنت يتيما بلا مقربة،كنت مسكينا بكل متربة،لا أهل لي،لا تاريخ لي،لا مستقبل لي..لا! إلا هذه، انتفضت كالعصفور يقاوم الموسى الممتدة إلى عنقه. حالة الشك والترقب تتراقص في نظراتنا،الثرثرة الفارغة لتشتيت الذهن وصرفه بعيدا عن مائدة السماء،الكلام المباح لم يعد مباحا،لم نقل للكلام: اصمت.لكنه تجمد على الشفاه. فقدتُ شهوة القول في مقبرة كبيرة محاطة بالصمت والعدوان،ومعصية الرسول،بنادقنا لم نعد نعرف في أي صدر نفرغها،جماجم الموتى،وآهات المكلومين هي ما بقي لنا من ذكريات في حضن أمنا،ووحده الخروج عن الصراط المستقيم ،وحده هذا الخروج هو من يعيد للقلب بعضا من ممتلكاته الخارجة عن القانون،وحده الترنح على حبل القلق والترقب من يكشف المناطق الهشة في أصقاع الروح،وحدها القمم تتلقى أول ندائف الثلج وطلائع النور،وحدها السفوح تتلقى ما ذاب. ما كذب الفؤاد ما رأى.. ما كذب الفؤاد..النظرات الذئبية تتناسل..التوجسات الثعلبية تفرخ..تغيرت الكلمات،وأسنت..فوقها يطوف بعوض الرياء المتخاتل،وناموس الكبرياء الزائف المدموغ بالخطب العصماء،لقد انتهينا! لم اسمع أحدا يقول:انتهينا،لم اسمع أحدا يفتخر بالنهاية،كانت النهاية تقررها الخطبة،والنهاية كما تقررها الخطبة مثل سيف ذي الفقار،إما النصر أو الشهادة! انتهينا، ومرحبا بما بعد النهاية،انتهينا،وحدها الكلمة كانت قادرة على هز أركان الإيمان إن بقي ثمة إيمان. قبيل الفجر كانت خطواتي الأولى خارج الدغل،الخرطوش الأول فجرت به جمجمة التردد،وبلبلت به جماعتنا،أصيبوا بسعار، استعر سعارهم لأننا ما وصلنا إلى هذه الحالة إلا لأن سعارا ما أتى على القلب والعقل معا،زلزلت الأرض تحت أقدامهم،الدوي كان كبيرا،أكبر مما كانت تتحمله آذانهم،دوي تأذت منه آذانهم التي استمرأت "عفا الله عمَّا سلف"،وعمَّا خلف وتخلف،كان الرجع يصنع لي المنفذ،فرحت أرقبهم وأرقب منفذي للخروج،لقد سمعت كثيرا بلاغة:"ولو أرادوا الخروج لأعدُّوا له عدة" كان مرافقي الفنان يستخفه الشوق إلى محبوبته،لم يقل لي ذلك لكن الصبَّ تفضحه عيونه،العودة صارت بالنسبة له محيطا يخشى عبوره،وها هي اللحظة حانت،الدفء والحنان،وأيام السمر،وتصحيح ما يمكن تصحيحه،لقد أنهكته حرب لم يختر يوما توقيتها،ولم يختر يوما أن يكون وقودا لها،لقد ساقته الأقدار إلى هنا،وها هي الأقدار تدفعه للخروج. خرجنا،نعم خرجنا،وما إن صرنا على مبعدة منهم حتى سمعنا اسمينا يترددان على ألسنتهم:خونة،باعونا، غدروا بنا،خانوا الله ورسوله. لم نكن مع الرسول حين خرجنا ولم نكن معه لما اخترنا طريق العودة. وإن يريد خيانتك فقد خانوا الله من قبل. لم نخن أحدا،كنا نتهم بأننا خنا الوطن،تنادوا بالويل والثأر،وتعاوت الذئبية، وتماكرت الثعلبية ،والأرنبية ،حتى الأرنبية تنزلت عليها شآبيب الشجاعة،شآبيب كنت أسمعها كثيرا،خاصة عند الدفن،الكل كان يطالب برأسينا،والكل في سرِّه كان يقر بما فعلنا،ويود لو كان معنا. ابتعدنا،أنفاسنا تتلاحق وصوت مرافقي لا يكاد يسمع؛يلهث،ويلهث..يتعثر في حذائه الرياضي،يكاد يسقط،السقوط ما أصعب السقوط! الأحراش..الأدغال..الطرق الملتوية..الطرق ثعابين تلتف على نفسها،والثعابين تنساب هنا،تنساب هناك،السلحفاة تتقوقع،تخفي رأسها،والسير بالتأني فيه السلامة،وسيرنا نحن لو نتريث سنكون طعما للنحاس المحمَّى،أو للسكين المشحوذ.حيوان ينفلت،يجفل من وقع أقدامنا،وفوق رأسينا يحلق نسر يبحث عن وليمة دسمة بجثة متفسخة،صرصرة تتناهى من الغابة،فحيح يشق القلب،زقزقة تندلع في كل مكان،وحفيف أجنحة لا يوحي بأية شاعرية،وصوت تكسر يرتطم على مسمعينا فتتسارع نبضات قلبينا،كانت أنفاسي متقطعة،شعرت بدوار خفيف،خفت على نفسي أن أفقد الوعي،ما تناولناه من إفطار لا يكفي.. الجوع،التعب،الخوف،ويا موت زر إنَّ الحياة ذميمة،وأخيرا وجدنا ركنا نستريح فيه،قلت لمرافقي لم يبق لنا إلا القليل وسنكون على مشـــارف المدينة،جذب نفسا عميقا تأمل أغراضه،نظر إلي،كانت نظرته موحشة،مخيفة،انكمشت من نظرته،لم يكن يحمل سلاحا،سلاحنا الوحيد بندقيتي وبها خرطوش يتيم،قال لي في شبه إنكار لما فعلناه:ليتنا انتظــرنا لبضعة أيام،يبدو أن خروجنا غير مناسب. لم أجبه،طمأنته بأن ما فعلناه هو من إرادة الله. لم نأخذ ما يكفينا من الراحة حتى سمعنا أصواتا نعرفها جيدا،محشوَّة بالكثير من اسم الله،بدأت الأصوات تقترب تقترب،ازداد خوفي وتضاعف من نظرة مرافقي،شعوره بالندم أخافني،تردده جعلني حذرا منه،ولم تكن البندقية حبلى إلا بخرطوش واحد،يدي كانت على الزناد،وصاحبي انبطح حتى تساوى بالأرض،كانـوا أربعة،لو رفع أحد منهم رأسه لرآنا..أبناء الكلبة قد يطول الحصار ولن نتمكن من المئونة،كانوا يتكلمون بلكنة أمازيغية ممزوجة ببعض الكلمات الفرنسية،لا..لا سيتغير الوضع ويومها سنفاجئهم في الثكنة على الطرف الآخر،سيعرفون معنى قوتنا.. عندما ابتعدوا قلت لصاحبي لسنا المعنيين بحديثهم. ما زالوا يؤمنون بالهجوم والدفاع والنصر والهزيمة،أية مسرحية رديئة الحبك والإخراج! ما زلت تؤمن بالمسرح والحبكة والإخراج،أي فنان تعيس أنت ،قلتها في سري،كان فنانا حتى وهو يحاكم خصومه. مرُّوا،ابتعدوا،وبدأت مسيرتنا تجاه الشرق،عند بيت أحد القرويين حصلنا على كسرة وربع لتر من الزيت،لم يسألنا من نكون،كانت هيأتنا تنبئ عنا،عرض علينا بيضا مسلوقا،خشيت أن تكون حيلة لاستبطائنا حتى يسلمنا لأعدائنا،شكرته،وأوهمته أننا متجهان جنوبا،وأعطيته اسما لأحد القرويين كان معنا،فترحم عليه الحق أن الذعر تملكني،ولم أكن كذلك من قبل،أهي الرغبة في الحياة؟ ربما! الوشاية قد تقضي على كل خطتي،وهممت بإفراغ الخرطوش الأخير في صدر القروي،لكنني تراجعت في آخر لحظة. ها هي الغابة وراءنا، لم يبق إلا سفح ،وهضبة،ثم تطل المدينة،كانت الشمس تختفي وراء الغابة،لم يبق إلا شعاعها يتشظى بين الأشجار،كنا قد ابتعدنا،السفح،والحصى،وهضبة في الأفق تلوح،البندقية على كتفي اليسرى،نقلتها إلى الكتف الأيمن،وحملت المجلد باليد اليسرى،كان مرافقي يجتر صمته،لم يكن عارفا بمخارج الغابة كما لم يكن عارفا بمداخل المدينة. لم يعد يجمعنا شيء بالغابة،لم نعد نسكن الغابة! لم أعلق على قوله،تجاهلت تلميحاته،ثم بادرته:علينا أن نأخذ صورة تذكارية. تناول آلة التصوير التي لم تفارقه خمس سنوات كاملة جربها ليتأكد من جهوزيتها. ابق على تلك الوضعية:كانت البندقية على الكتف الأيمن،المجلد في اليد اليسرى،الصدرية الجلدية، التنورة الخضراء،والسروال المشموط،والجزمة العسكرية،وقبعة جيفارا،استدرت وتهيأت للالتقاط الصورة،لاح ضوء آلة التصوير. ــــ ممكن صورة أخرى. ــــ ممكن،وبعده التقط لي أنا صورة،ما هي الوضعية التي تفضلها؟ ــــ صورة من يتهيأ لإطلاق النار. ــــ تواجهني بالكاميرا،وأواجهك بالبندقية. ابتسم،ظن أنها مزحة،ولكنني أقنعته بأني جاد فيما أقول. اتكأت على ركبتي اليمنى،ووضعت البندقية على اليسرى في حالة استعداد لإطلاق النار. قرَّب آلة التصوير من عينه اليمنى أغمض اليسرى ،قربت البندقية من عيني اليمنى وأغمضت اليسرى كثير عليك رؤيتها،كثير عليك جمالها،كثير عليك ..،دقق التصويب،دققت التصويب.. ــــ ابق هكذا لا تتحرك. ــــ ابق هكذا لا تتحرك. يريدني جامدا على الورق،يريد تأبيد اللحظة،يريد تخليد النهاية،لاح ضوء آلة التصــوير،وسقط المصور،آخر الخراطيش .. والعالم كما في السينما الأمريكية التي أدمنت مشاهدة أفلامها أكثر من قراءتي القرآن ينقسم إلى نوعين:من يمتلك المسدس ومن يحفر،لقد رنَّت العبارة في أذني منذ أمد بعيد وها أنا أحفر صدر المصور بآخر الخراطيش،أفرغت آخر إبداعاتي في صدر المصور،لم أعد أسكن الغابة،صارت الغابة تسكنني.
#عبد_العالي_زغيلط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفرقة الناجية
-
قراءة في رواية -عصر الطحالب-* للكاتب: كمال بولعسل
-
نهاية الوطنية القديمة
-
عائشة -نائمة-...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|