17 كانون الثاني 2003
كنت قد قررت ساعة خرجت من السجن ليل يوم الاحد 29 كانون اول 2002، ونحن على حافة جرف نهاية العام (لا نهاية العالم!)، ان اكتب "وصف حالة" (Case Description) لتجربتي الثانية في سجن الجويدة، لاوزعها من خلال القوائم والمواقع الالكترونية، ولتنشر في الصحف التي عادة ما تكون "خارجية" لان صحفنا الداخلية "تتعفف" عادة عن نشر المقالات المعارضة والناقدة لمنع "الذوق العام" من "التلوث" بجرثومة "التفكير المنهجي التحليلي النقدي".
لكني تمهلت قليلا، ومن خلال عنوان رسالة بعثت بها الى المقربين من الرفاق والاصدقاء مبشرا اياهم بالافراج عني: "خارج من الزنزانة الى السجن"، والردود التي وصلتني: "اهلا بك الى السجن الكبير" (رانيا الساحلي)، و"مرحبا بهشام فى السجن العربى الكبير و يبدو أنها أمة واحدة ذات سجون خالدة" (عصام حنفي)، كان لا بد من مقاربة مختلفة لهذا الموضوع، وكان واضحا ان الجميع، بمن فيهم انا، ودون اتفاق مسبق، يشعرون بما هو اكثر اختلافا واشد وطأة من "الاغتراب" في اوطانهم، هذا "الاغتراب" الذي ما انفك ينظر له مثقفون جلهم من "المهاجرين" الذين عالجوا اغترابهم النفسي عن مجتمعاتهم باغتراب اعمق هو الاغتراب "المادي".
الاغتراب هو انسلاخ ثقافي/اجتماعي عن المحيط: ان تشعر انك قد اتيت في عصر ليس هو بعصرك، وبين اناس ليسوا هم بناسك، وفي بيئة ثقافية/اجتماعية لا تطيقها ولا تمثلك. هؤلاء هم مثقفو "الابراج العاجية" الشهيرة، مثقفو "الذات المنزهة"، مثقفو "النرجسية اللامتناهية"، وبالتأكيد فهم ليسوا المثقفين "العضويين" الذين يراهم غرامشي ملتصقين بارضهم وناسهم ويعملون على تثوير بناهم الاجتماعية/الاقتصادية، لا نبذها لقاء "عصر لما يأت بعد".
ان الرفاق والاصدقاء العرب الذين رحبوا بي من داخل اوطانهم الى "السجن الكبير" الذي خلده مظفر النواب: "...فهذا الوطن الممتد من البحر الى البحر سجون متلاصقة سجان يمسك سجان"، واقعون في حالة لا علاقة لها بالاغتراب: انهم متمسكون بارضهم وناسهم وبناهم الثقافية/الاجتماعية/الاقتصادية ويحاولون تثويرها امام هجوم العولمة الامبريالية، يرفضون تفكيك انفسهم ومجتمعاتهم، ويخوضون صراعات يومية من اجل الا يصبحوا مجرد "مستهلكين" و"عمالة رخيصة" في اطر فاقدة للسيادة الوطنية ولا تملك حتى الحلم عن "مشروع قومي"، ناهيك عن اممي.
الرفاق والاصدقاء، داخل وخارج الوطن العربي، النشطاء (Activists) في مواجهة التطبيع ودعم الانتفاضة ونصرة العراق ومقاومة الهجمة والهيمنة الامبريالية الاميركية ومقاطعة البضائع والخدمات الاميركية والداعمة للكيان الصهيوني، لا يشعرون انهم "غرباء" في اوطانهم بل العكس تماما، والا لما كانوا يستهلكون انفسهم يوميا في "حرب المواقع" هذه. انهم يشعرون بانهم "معتقلون" داخل اوطانهم. وان كان المعتقل داخل حدود السجن مقيدا بشروط مادية تحدد حريته المادية، فان "المعتقل" خارج المعتقل يعاني ربما قهرا اكبر لانتفاء التقييد المادي للحرية، وبالتالي انعدام المبرر الذي "يسهل نفسيا" مسألة انتفاء الحرية. وهكذا ربما نفهم ملاحظة علي حتر الساخرة: "ان المعتقلين داخل السجون هم اكثر حرية منا نحن الذين خارجها".
السؤال الآن: اذا كان "المغترب" يجد خلاصه ب"الهجرة"، سواءا الى بيئة مادية تلائم مزاجه (حالة المثقف النرجسي المهاجر كمثال)، او الى سراب خلاصي طوباوي متوهم (حالة الحركات الدينية الانسلاخية -اي المنسلخة عن مجتمعها اراديا- كالتكفير والهجرة كمثال)، فكيف يجد "المعتقل" خلاصه؟
ان المثقف او الناشط "المعتقل" هو الصورة العكسية تماما للمثقف "المغترب" من حيث ان الاول منغمس ومندمج في مجتمعه وقضايا مجتمعه الى الدرجة التي يحس فيها ان عجزه عن احداث التغيير المطلوب، ووعيه للمحددات و"الممنوعات" التي تفرضها عليه السلطة، هي قيود معنوية اشد وطأة من القيود المادية، وبالتالي فهو "معتقل" بشروط اصعب داخل اطاره الاجتماعي الذي يجب ان يكون بيته لا سجنه.
ان احدى اهم الملاحظات التي نقلها الي المعتقلون الذي مضى وقت على اعتقالهم، هي عدم وجود "مرآة" في السجن بتاتا، ومن يريد ان "يتمارى" (اي يشاهد انعكاس صورته) فان يلجأ اما الى مقابض الابواب بعد تنظيفها جيدا (مصنوعة من الالمنيوم ومسطحة) او الى نظارات نزيل يلبس النظارات. لقد اخبرني النزلاء انهم "نسوا وجوههم" تماما، بل ان احدهم واثناء مروره امام مرآة في احدى ردهات المحكمة لم يتعرف على نفسه، وقام برفع يده وتحريكها في الهواء ليتأكد ان هذا الذي تنعكس صورته امامه هو هو!
رجال بلا وجوه (Faceless Men). اجزم بأن هذا هو الشعار المفضل للعولمة. استنساخ لانهائي لمستهلك لا وجه له، واقنان لا وجه لهم.
ان سؤال التحرر الذي طرحته اعلاه، يجد اجابته في المزيد من الانغماس في الهم الاجتماعي/الاقتصادي/الثقافي العام، والمزيد من محاولات تغيير وتثوير الواقع على قاعدة الخطوة الواحدة التي تسبق مشوار الالف ميل.
ان حرية المثقف/الناشط "المعتقل" تكمن في فعله اليومي باتجاه اعادة "السجن" الى "البيت" الذي كانه، واعادة الملامح الى الوجوه المنسية، وقبل ذلك كله: ان لا يفقد الواحد منا وجهه طبعا. و بصيغة اخرى: يجب تعميق "عضوية" المثقف/الناشط بصيغ تتلائم مع البيئة المحيطة دون ان تتصالح معها، وهو امر قد يبدو (بوجود اشخاص فاشيين من نمط دبليو بوش، وامبرياليات متوحشة من نمط الولايات المتحدة، في "صدارة" العالم) عبثيا، ولكنه في واقع الامر ليس كذلك.
"اميركا ليست قدر العالم" كما يقول عنوان الورشة التي سينظمها منتدى الفكر الاشتراكي في عمان قريبا. وعندما نشاهد نضال العرب الفلسطينيين ضد الآلة العسكرية الارهابية الصهيونية، وصمود العرب العراقيين في وجه الحصار والتجويع الدولي بتحريض اميريكي، وصمود الرفاق في كوبا امام حصار مشابه، وصعود مناهضي الامبريالية في فنزويلا (شافيز) والبرازيل (لولا)، والغضبة الاممية العالمية المناهضة للعولمة والحرب...كل ذلك يشير بشئ من الوضوح ان للانسانية قلبا ما يزال ينبض بالحب والحرية.
ملاحظة ما قبل اخيرة:
في الدراسة التي كانت سبب اعتقالي (آليات القمع والانتهاك) ونشرت في مجلة "الآداب" البيروتية (عدد 11-12 2002، تجدون الدراسة على الرابط التالي: http://www.adabmag.com)، انتقد الصديق العزيز جدا سماح ادريس -رئيس تحرير المجلة- الفقرة التالية التي وردت في القسم الاخير من الدراسة: "والحديث عن إصلاح هنا هو حديث عبثي غير ذات معنى. المطلوب هو تفكيك السجن، وهو تفكيك لا يتأتى إلا بتفكيك النظام الرسمي العربي وخيوط ارتباطه بالصهيونية والإمبريالية، وإنجاز الثورة العربية الديمقراطية الاشتراكية بكافة أبعادها وتداعياتها في إطار الوحدة البينية، والتواصل الأممي مع كافة قوى التغيير الحية في العالم"، واعتبرها "مؤدلجة وشاذة عن السياق"، او على الاقل "غير مشروحة باسهاب اكثر". ارجو ان يكون فيما قلته اعلاه ايضاحا اشمل حول هذه المسألة.
ملاحظة اخيرة: شكر واجب
الشكر اولا لشهدائنا الابطال: بفضلكم نحن احياء، ونقاوم.
ثانيا، لا بد من شكر كل من وقف الى جانب حرية الرأي والتعبير والكتابة، وضد القمع والعدوان والهيمنة، خصوصا اولئك الذين لم اعرف عن جهودهم، او سهوت عن ذكر اسمائهم فيما يلي، واشير بكل امتنان الى الجهود الكبيرة التي بذلها كل من التالية اسماؤهم (مع حفظ الالقاب، وبترتيب عشوائي): محمد ابو جبارة، سماح ادريس، علي حتر، عبدالفتاح البستاني، اوغستين بيللوسو، عصام حنفي، امال صلاح، ابراهيم علوش، ديغول عديلي، خالد رمضان، زياد الجيشي، عبدالله حمودة، ميسرة ملص، كيرستن شايد، عايدة الدباس، كندة حتر، رانيا الساحلي، المخيم المناهض للامبريالية، اكرام العقرباوي، لجنة التضامن مع القضية العربية-اسبانيا، ايمان بدوي، عصام عدنان، ندى القصاص، مية الرحبي، نسرين الفار، الاتحاد العالمي للاعلام واستطلاعات الرأي، دونا جعلوك، مراسلون بلا حدود، مجدولين درويش، احمد الخميسي، عبير الدباس، محمد رستم، نبيل زهير.
كما اشير بالشكر العميق الى الموقعين على بيان المطالبة بالافراج عني من غير المذكورين اعلاه وهم: اتحاد الشباب الديمقراطي-لبنان، سعد محيو، نجاح واكيم، رانيا المعلم، سميرة صلاح، سهيل ادريس، صلاح صلاح، عبد العزيز الحسيني، حركة حقوق الناس-لبنان، عربي عينداري، عصام حكيم، حركة الشعب-لبنان، غسان عيسى، كمال ابو عيطة، حركة الكرامة-مصر، ابو احمد فؤاد، نادي الساحة-لبنان، ابو العلا شعبان، محمد بيومي، محمد منيب، محمود عباس، نادي اللقاء-لبنان، نزيه ابو عفش، نوار الساحلي، نوال المعلم، احمد بهاء الدين شعبان، اسماعيل شاهين، امين اسكندر، حمدين صباحي، جورج بستاني، سايد فرنجية، مركز اجيال-لبنان.