أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مرتضى العبيدي - علامات من ثقافة المقاومة زمن الاستبداد















المزيد.....


علامات من ثقافة المقاومة زمن الاستبداد


مرتضى العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5010 - 2015 / 12 / 11 - 00:15
المحور: الادب والفن
    



• تقديم:

من التُّهم التي كانت رائجة خلال عهدي الاستبداد السابقين وما زالت في العهد السعيد الحالي موجودة، تهمة تسييس الثقافة والمقصود بها ممارسة النشاط السياسي تحت غطاء ثقافي أو إعطاء محتوى سياسي للمنتوج الثقافي. وكانت هذه التهمة تكال أصلا إلى كلّ الجمعيّات الثقافيّة الحريصة على استقلاليّتها تجاه السلطة السياسيّة والرافضة للدخول إلى بيت الطاعة. وكان توجيهها إليها حجّة كافية لحرمانها من كلّ أنواع الدّعم من المال العام الذي كان يغدق على جمعيّات الموالاة. وقد عرفت عقود ما بعد الاستقلال أشكالا عديدة ومتنوّعة من النضال الثقافي يمكن أن نصنّفها وإن بدرجات متفاوتة في خانة ثقافة المقاومة للرّديء والسّائد. وقد تجسّد ذلك في أنشطة جمعيّات عديدة على الصعيد الوطني كما على الصعيد المحلّي وكذلك من خلال أشكال أخرى للفعل الثقافي سنستعرض شيئا منها في متن هذا المقال.

• جمعيّات خارج السرب: الجامعة التونسيّة لنوادي السينما:

من الجمعيّات التونسيّة التي تميّزت منذ الخمسينيّات في نشر الفكر التقدّمي والترويج لثقافة تقدّمية عقلانيّة وطنيّة ومعادية للإمبرياليّة نذكر الجامعة التونسيّة لنوادي السينما التي لعبت منذ تأسيسها سنة 1950 على يد ثلّة من شباب تونس المثقّف نذكر منهم الأستاذ الطاهر شريعة الذي يعتبره الجميع باعث السينما التونسيّة والإفريقيّة باعتباره مؤسّس مهرجان أيام قرطاج السينمائيّة وغيره من مهرجانات في بلدان إفريقيّة أخرى، لعبت الجامعة إذن دورا هامّا عبر شبكة نواديها أو فروعها التي كانت خارطتها تتّسع أو تتقلّص بحسب درجة توتّر علاقتها بالسلطة الحاكمة وكذلك بحسب قدرة مناضليها على توسيع هامش الحريّة المتاح في هذه الحقبة أو تلك. فكان نشاطها يقتصر أحيانا على المدن الكبرى ذات التقاليد الثقافية الراسخة كتونس العاصمة وبنزرت وسوسة وصفاقس وأحيانا أخرى يتّسع ليشمل مدنا وحتّى قرى عديدة في شمال البلاد وجنوبها مثل مدن الحوض المنجمي التي كان لكل منها ناديها الخاص في ثمانينيّات القرن الماضي أي في أواخر العهد البورقيبي.
وقد دأبت هذه النوادي على عرض أشرطة سينمائية مختارة بصفة دورية مشفوعة بنقاشات جدّ عميقة وثريّة لمحتوى الشريط وتقنياته، وكان ذلك يشكّل مناسبات جدّية للتدرّب على الحوار والاستماع إلى الرأي الآخر والتفاعل معه والتعليق عليه إن بالرفض أو بالقبول بشكل حضاري لم يكن ليفسد للودّ قضية. فكانت نوادي السينما تشكّل بذلك فضاءات للتدرّب على الديمقراطية لم تكن متوفّرة بالفضاء العام. وقد فسحت المجال بفضل كوادرها ومناضليها ـ وكلّهم متطوّعون ـ لأعداد غفيرة من الشباب والعمّال والمثقفين لمشاهدة أشرطة من روائع السينما العالمية وإجراء نقاشات حولها.
كما كانت هذه النوادي تقيم التظاهرات الثقافية ليتجاوز نشاطها العرض الدوري للأشرطة ومناقشتها، فتقام خلالها معارض الصور والرسوم والكاريكاتور وكذلك معارض للكتاب والأمسيات الشعرية وقد تتخلّلها حتى بعض العروض المسرحية ذات الصلة بموضوع التظاهرة. فتتحوّل النوادي بذلك إلى خلايا ثقافية حيّة تنافس أجهزة السلطة الرسمية من لجان ثقافية محلية وغيرها من جمعيات بائسة، نواد تقدّم بدائل ثقافية حقيقية تسعى إلى الرقيّ بوعي الجماهير وإلى الاستجابة إلى حاجتها في ثقافة مغايرة للرداءة السائدة. وكانت تلك التظاهرات تتّخذ أشكالا متعددة تكون السينما منطلقها كتنظيم أسابيع سينما مخصوصة لهذا البلد أو ذاك أو لهذه القضية أو تلك: أسبوع سينما بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، أسبوع سينما أمريكا اللاتينية، أسبوع السينما اللألمانية إلخ... أي كان التركيز يتمّ على التعريف بالسينما التي لم يكن لها حظّ في قاعات العرض التجارية. كما كانت تخصّص أسابيع أخرى لقضايا النضال الوطني والاجتماعي. فحظيت القضية الفلسطينية باهتمام كبير فخصّصت لها التظاهرات تلو التظاهرات في جميع أنحاء البلاد حيثما كان لجامعة نوادي السينما موطئ قدم، وكانت كل أيام فلسطين هي أيام لهذه الأنشطة، من ذلك يوم غرّة جانفي ذكرى انطلاق الثورة الفلسطينية ويوم 30 آذار/ مارس يوم الأرض الفلسطيني، يوم 15 ماي ذكرى قرار التقسيم، يوم 29 نوفمبر اليوم العالمي لمناصرة الشعب الفلسطيني...
كما كانت تقام أسابيع للأفلام المعادية للإمبريالية أو للأفلام التي تعالج قضية المرأة أو تخلّد النضال الاجتماعي، نضالات العمّال والفلاحين في جميع أصقاع المعمورة. وشكّلت نوادي السينما في هذا المجال فضاء حيّا تربّت فيه أجيال وأجيال على ملكة النقد وعلى تنسيب الحقائق بمقارعة الرأي بالرأي الآخر. وكان نشاطها ذلك كافيا لتصنيفها في خانة الجمعيات المناوئة والتضييق عليها الذي وصل في العهد النوفمبري حدّ طمسها أصلا إذ لم يتبقّ من نواديها الخمسين سوى أربعة أو خمسة نواد تعرض أشرطتها لجمع لا يتجاوز عدده بعض الأنفار بينما كان بعضها في وقت ما يضطرّ لعرض نفس الشريط مرّتين في الأسبوع لأنّ قاعة العرض لا تتّسع لأكثر من ستّ مائة مشاهد، وقد كان ذلك حال نادي قفصة في سبعينيّات القرن الماضي وثمانينيّاته على سبيل المثال. وكان مناضلو الجامعة وإطاراتها يضطلعون بأدوار جدّ هامّة في تنشيط الورشات والنقاشات في جميع التظاهرات السينمائيّة الكبرى في البلاد على غرار أيّام قرطاج السينمائيّة أو المهرجان الدولي للسينمائيّين الهواة بقليبية الذي كانت تسهر على تنظيمه ومازالت الجامعة التونسيّة للسينمائيين الهواة.

• الجامعة التونسيّة للسينمائيّين الهواة:

هذه الجمعيّة التي ولدت أواسط ستينيّات القرن الماضي ساهمت في وقت وجيز في اكتشاف طاقات كثيرة من بين الشبّان الذين هبّوا للالتحاق بنواديها حيثما أمكن تكوينها في جهات عدّة من البلاد حيث تخرّج منها بعد مدّة قصيرة من تأسيسها سينمائيّون وسموا السينما التونسيّة بطابع خاص نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر المخرج رضا الباهي الذي أنجز سنة 1972 في نادي القيروان شريطه القصير "العتبات الممنوعة" الذي لاقى المحاصرة والإهمال لأنّه تجرّأ ثقافيّا أن يتخطّى العتبات الممنوعة سياسيّا. هذا المخرج الذي سيكون له شأن فيما بعد بإنتاجه لعدّة أشرطة طويلة حازت جوائز عدّة في مهرجانات دوليّة مختلفة نذكر من بينها "شمس الضباع" سنة 1975 و "السنّونو لا يموت في القدس" سنة 1994.
وكانت العلاقة بين الجامعتين أي جامعة نوادي السينما وجامعة السينمائيّين الهواة حميميّة للغاية حيث تمكنّتا من إقامة عدّة تظاهرات مشتركة قوبلت بإقبال شبابي وجماهيري منقطع النظير رغم المحاصرة وقلّة ذات اليد. وكانت نوادي الجامعتين في مختلف الجهات تسعى للتقارب والتكامل لتعويض قلّة الإمكانيّات والحرمان من الدّعم العمومي. وقد أمكن لهذه الجمعيّة العريقة إنتاج عشرات الأشرطة القصيرة الوثائقيّة منها والروائية كانت في معظمها مرتبطة بهموم الشعب ومشاغله، كما أمكن لكاميراهات شبابها رصد وتوثيق أحداث كبرى في تاريخ الوطن ما كان للتلفزة الحكومية إمكانيّة الوصول إليها من ذلك فعاليّات الإضراب العام في 26 جانفي 1978 وانتفاضة الخبز جانفي 1984 أو الإضراب الشهير لأعوان الصيدليّة المركزيّة بداية ثمانينيّات القرن الماضي والذي تواصل قرابة الشهر والذي خلّده المخرج رضا بن حليمة في شريطه "سال الدم زال الهم" إلخ...
ولأنّها رفضت الارتداد عن خطّها النضالي في السّعي إلى نشر ثقافة معبّرة عن هموم الشعب وملتصقة به، فإنّها عانت هي الأخرى من ويلات المحاصرة والمنع والتهديد ومحاولات الاختراق أو التدخّل في شؤونها. ولا شكّ أن الكثيرين مازالوا يذكرون ما حدث مع وزير الثقافة آنذاك الأستاذ محمد اليعلاوي ـ أطال الله في أنفاسه ـ في مهرجان قليبية 1979 حينما رفض نتائج لجنة التحكيم الدوليّة واعتبرها منحازة للمناوئين. وقد مكّن نشاط هذه الجامعة ونواديها من مراكمة كمّ هائل من المادّة السينمائيّة التي يمكن اعتبارها جزءا من الذّاكرة الوطنية. وقد عرفت هي الأخرى مثل جامعة نوادي السينما في العهد النوفمبري حصارا كبيرا قلّص في عدد نواديها وهدّدها بالاندثار لولا روح المقاومة التي كانت تشحذ أبناءها للحفاظ عليها وقد ساعدهم على ذلك تطوّر التقنيات السينمائيّة والتمكّن ممّا يتيحه عالم الصورة الرقميّة التي مكّنت كثيرا منهم أن يشقّوا طريقهم ولو بإمكانيّاتهم الفرديّة المحدودة.

• رابطة الكتّاب الأحرار:

ومن بين الجمعيات التي انخرطت في باب المقاومة منذ نشأتها "رابطة الكتّاب الأحرار" التي تأسّست رسميّا سنة 2001 على يد ثلّة من الأدباء والكتّاب مثل الأستاذ جلول عزّونة والكاتب الحرّ سليم دولة ومحمّد الجابلّي والحبيب الحمدوني، إلاّ أنّ مؤسّسيها كانوا قد أفصحوا قبل ذلك التاريخ بكثير عن هواجسهم وعن الخطّ النضالي للجمعيّة القادمة بعدما تأكّد للكثير منهم ممّن كانوا منخرطين في اتّحاد الكتاب التونسيّين أنّ هذا الاتّحاد لن يصلح أمره بعدما تحوّل بصفة نهائيّة إلى بوق دعاية من أبواق النظام القائم في العهد النوفمبري. فبادروا إلى تأسيس هذه الجمعيّة التي رغم انحسارها جغرافيّا، إذ اقتصر معظم نشاطها على تونس العاصمة، فقد عرفت كيف تصمد وتصنع الحدث بانخراطها في النضال الديمقراطي الذي لا يعفى منه المثقّفون والكتّاب كما كان يروّج له اتّحاد السلطة. فراحت تقاوم جميع أشكال الرقابة على الإبداع والتنديد بمصادرة الكتب وحجزها والتعريف بالكتب المصادرة والاحتفاء بها بإقامة الأمسيات والندوات. وانخرطت رابطة الكتاب الأحرار في النسيج الجمعيّاتي النضالي ولم تتردّد في إصدار البيانات والتوقيع على العرائض المنتصرة لحرّية الفكر والإبداع والمتعلّقة بالحريّات الديمقراطيّة عامّة. وكان ذلك وحده كافيا لتنصبّ عليها نيران النظام بمراقبة أعضائها ومصادرة أعمالهم ومنعها من عقد الندوات والأنشطة حتّى أنّها لم تتمكّن من عقد مؤتمرها الأوّل إلا خلال سنة 2012. وكانت رابطة الكتّاب الأحرار تنشر بصورة دوريّة قائمة محيّنة للكتب المحجوزة والمصادرة لإعلام الرأي العام وكسب المساندة.

• المقاومة الثقافيّة محليّا:

ذكرنا نماذج من المقاومة الثقافيّة على الصعيد الوطني. إلاّ أنّه لا يمكن بأيّ حال أن ننسى ما أنجزه جنود مجهولون في جميع أرجاء البلاد في الحقل الثقافي، هؤلاء وهم في أغلب الأحيان شبّان من المتخرّجين حديثا من الجامعة، ساقتهم التعيينات إلى هذه الجهة أو تلك من أرض تونس، حلّوا بها ومازال صدى أصوات رفاقهم في الجلسات العامّة بالكليّات وفي حلقات النقاش يملأ رؤوسهم وكذلك صدى الحراك الثقافي بالعاصمة في دور الثقافة والمهرجانات، فراحوا يحاولون محاكاة ذلك الزّخم ونقله ولو في حجم محدود إلى حيث تواجدوا للعمل. فأنشأوا النوادي الثقافيّة واستغلّوا ما كان متاحا لخلق حراك ثقافي ينقلون من خلاله شيئا ممّا تعلّموه إلى غيرهم من الأجيال الناشئة التي كانت تنظر إليهم بعين الإكبار والاحترام. فكانت نوادي الأدب ونوادي المسرح والشعر والقصّة ونوادي الفكر تعمّر دور الشباب ودور الثقافة ودور الشعب في أقصى أرياف البلاد تخلق الحركيّة وتزرع الأمل وتكشف عن طاقات إبداعيّة ما كان لها لتبرز لولا هذا العمل لذاك الجيل من أوائل خرّيجي الجامعة التونسيّة الذين كانوا يتفانون في أداء واجبهم المهني كمدرّسين ويتفاخرون بتحقيق النّسب العالية في الامتحانات الوطنيّة ويكمّلون ذلك بتنشيطهم لتلك الخلايا الثقافيّة الحيّة. فبرزت بفضل جهودهم جمعيّات عديدة موسيقيّة ومسرحيّة وغيرها. وعرف بفضلهم شباب كثير طريق الإبداع والشّهرة.
ونحن بصدد الحديث عن المحلّي لا بدّ أن نذكر جمعيّة بذاتها أثّرت في محيطها بشكل لا يدع مجالا للشكّ وجلبت إليها احترام كلّ أهالي المدينة وتقديرهم بما وفّرت لهم خلال عشريّات متتالية من مادّة ثقافيّة مميّزة ومن سند دراسي للأبناء عبر الدروس المجّانيّة وعبر مكتبتها الثريّة، ألا وهي "جمعيّة النهوض بالطالب الشابّي" والتي تجاوز صداها مدينة الشابّة إذ كانت محطّ رحال جميع الفنّانين والشعراء والمبدعين كلّما أغلقت في وجوههم فضاءات بقيّة المدن بفعل الحصار. ولعلّ كثيرا منّا مازال يذكر الانتخابات البلديّة لسنة 1990 التي سمح فيها للتونسيّين بالترشّح في قائمات تنافس قائمات الحزب الحاكم. وكانت النتيجة أنّ الشابّة هي المدينة الوحيدة التي فازت فيها القائمة الديمقراطيّة على قائمة الحزب الحاكم رغم اعتقادنا أنّ قائمات عديدة أخرى كان بإمكانها الفوز لولا التزييف الممنهج للنتائج الذي لم يمرّ في الشابة نظرا للتقاليد النضاليّة لشبابها وكهولها نساء ورجالا، أولائك الذين تمرّسوا عليها في هذه الجمعيّة بالذّات التي كانت مدرسة حقيقيّة للتدرّب على الديمقراطيّة وعلى العطاء والبذل. فتحيّة تقدير وإكبار لهذه الجمعيّة التي شكّلت على مرّ السنين منارة للثقافة التقدميّة يحجّ إليها التونسيّون من جنوب البلاد وشمالها. والذكر المخصوص لها هو من قبيل التكريم لا لهذه الجمعية فقط بل ولغيرها من الجمعيات المحلية التي نشطت كلّ في محيطها حتّى وإن لم تتمكّن من الإشعاع خارج حدودها المحليّة.

• أوجه أخرى من المقاومة الثقافية

ولعلّ من أبرز علامات هذه المقاومة الثقافية ما أنجزه فنّانون عديدون إن فرادى أو ضمن فرق موسيقية تأسّست لتقدّم أغنية بديلة للسّائد الممجوج وقد أغلقت في وجهها جميعا قنوات التواصل الجماهيريّة كالإذاعة والتلفزيون، فما كان منها إلاّ أن راحت تجوب البلاد لتؤثّث التظاهرات المقامة هنا وهناك خاصّة في مدارج الجامعة أو في دور الاتّحاد العام التونسي للشغل. فما إن بلغ مسامعه صوت الفنّان المبدع الشيخ إمام عيسى أوائل السبعينيّات وكذلك صدى فرقتي جيل جيلالة وناس الغيوان المغربيّتين حتّى انبرى شباب مولع بالموسيقى يخلّد النضالات عبر هذا الفنّ ويشحذ العزائم لمحطّات قادمة. فكان الشباب الطلاّبي يردّد أغنيات لزهر الضاوي في المظاهرات ويحوّلها إلى شعارات خاصّة بعض مقاطع من رائعتيه "وينو الاستقلال يا دم الفلاّقة" و "يا شهيد الخبزة رجعت". وقد كان لزهر الضاوي من روّاد هذا الفنّ إلى جانب الراحلين حمادي العجيمي والهادي قلّة وكذلك الفنّان المبدع محمّد بحر.
وبعد تجربتي إيمازيغن وأولاد بومخلوف، برزت فرق عديدة بعضها اندثر كفرقة أغاني الحياة بالدهماني وبعضها مازال صامدا حدّ اللحظة على غرار "أولاد المناجم" و"البحث الموسيقي" والحمائم البيض وفرقة الكرامة و"عشّاق الأرض" التي كانت تغيب أحيانا لتعود من جديد و"عيون الكلام" التي جاء ظهورها كفرقة متأخّرا عن التي ذكرنا. وكثيرا ما كانت عروض هذه الفرق تندرج ضمن فعاليات تظاهرات متعدّدة الأنشطة فكان يصاحبهم الشعراء أمثال الشاعر الوطني الرّاحل بلقاسم اليعقوبي وعبد الجبار العش وآدم فتحي وعلي زمّور وكمال الغالي والنّاصر الرديسي الذين كتبوا الكثير من أغنيات البحث الموسيقي والطيب بوعلاق الذي كتب خصوصا لعيون الكلام، فكانوا يرافقون هذه الفرق في حلّها وترحالها ويساهمون في تنشيط تلك التظاهرات الثقافيّة.
بينما كان شعراء آخرون يدعون لإقامة الأمسيات الشعريّة التي كانت تجلب أعدادا غفيرة من المولعين بالأدب عامّيه وفصيحه. ففي بداية الثمانينيّات كان منصف المزغنّي يلقي "عناقيد الفرح الخاوي" و"عيّاش"، وكان محمد الصغيّر أولاد أحمد يتغنّى حيثما حلّ بنشيد الأيّام الستّة خاصّة بعدما صودر الكتاب بعد نشره وتوزيعه. وكان الشاعر علي لسود المرزوقي يتغنّى بقضايا الأمّة العربيّة وهمومها واقتفى أثره في ذلك الشاعر جمال الصليعي.
وشكلت هذه التظاهرات مناسبة لترويج الأدب التقدمي العالمي منه والمحلّي، إذ كانت تقام خلالها معارض للكتاب الذي ما كان ليصل إلى أقاصي البلاد عبر القنوات التجاريّة التقليديّة خاصّة وأنّ ثمانينيّات القرن الماضي شهدت تأسيس عدّة دور نشر أخذت على عاتقها نشر وتوزيع ما كانت دور النشر الرسميّة (الشركة التونسيّة للتوزيع والدار التونسيّة للنّشر) ترفض نشره. فنشر الرّاحل نور الدين بن خذر مجموعات أحمد فؤاد نجم "مرّ الكلام" و"العنبرة" في دار ديميتير، كما نشرت مكتبة دار المعرفة بإشراف الراحل منصف الدّبوسي التي اختصّت في ترويج الأدب التقدّمي، "المبادئ الأساسيّة في الفلسفة" لجورج بوليتزار في ترجمة رائعة للأستاذ عمر الشارني. وأسّس المناضل عزّ الدين الحزقي دار الربيع للنشر بصفاقس ليستهلّ نشاطها بنشر كتابين هامّين، "تسرّب الرأسماليّة إلى تونس" للأستاذ رضا الزواري و"الحركة النقابيّة بتونس" للراحل الأمين اليوسفي. وافتتحت دار محمّد علي الحامّي للنشر التي أسّسها الأستاذ النوري عبيد نشاطها بنشر كتاب قيّم للأستاذ الهادي التيمومي "النشاط الصهيوني في تونس". كما أسّس في نفس الفترة وبمدينة صفاقس كذلك الأستاذ ناجي مرزوق دار صامد للنشر والتوزيع لتنشر عديد النصوص التي كان الشباب يتلهّف على اقتنائها ومنها بالخصوص "الإخوان المسلمون في لعبة السياسة" للدكتور رفعت السّعيد، وقصيدة "عرس الانتفاضة" للشاعر مظفّر النوّاب و "عن الناصريين وإليهم" للمفكّر القومي عصمت سيف الدّولة وبعض كتابات المناضلين حمّة الهمامي ومحمّد الكيلاني قبل أن تتمّ مصادرتها وحجزها وإعدامها. وإذ نذكر دور النّشر فإنّنا لا ننسى دار بيرم التي أصدرت أواسط الثمانينيّات كتابين هامّين الأوّل للأستاذ سليم دولة بعنوان "ما الفلسفة، ما الثقافة؟" والثاني للكاتب المناضل شكري لطيف بعنوان "الإسلاميّون والمرأة: مشروع الاضطهاد". وكانت هذه الدار تميّزت بالخصوص بإصدار مجلّة فكريّة بعنوان "أطروحات" صدر منها ما لا يقلّ عن 12 أو 13 عددا زاخرة بالكتابات التي تطرح قضايا فكريّة حارقة. وقد ساهمت هذه المجلّة إلى جانب الكتب المذكورة وغيرها كثير في تحريك السّواكن وطرح الإشكاليّات الفكريّة. وكانت بمجرّد صدورها تنظّم حولها حلقات النّقاش والموائد المستديرة. وكانت هذه الكتب والدوريّات لا توزّع عبر المكتبات والمسالك التجاريّة فقط، بل كذلك عبر البيع النضالي الذي تحمّس له ثلّة من الشباب أخذ على عاتقه إيصال هذا اللون من الأدب إلى أقصى أقاصي البلاد.
وفي الختام لا بدّ من إلى الإشارة إلى أنّ المثقّفين لم يتركوا مجالا إلاّ وحاولوا استثماره وتطويعه لخلق ثقافة جديدة من ذلك تكوين الشركات ذات الأهداف الثقافيّة إنتاجا وترويجا. وقد حاز المسرح نصيب الأسد منها فكانت فاميليا تعنى بتجربة جليلة بكّار وفاضل الجعايبي والتياترو لإبداع زينب فرحات وتوفيق الجبالي ومدار لمنصف الصايم ورجاء بن عمّار والحمراء لليلى طوبال وعزّ الدين قنّون ومسرح الأرض لناجية الورغي ونور الدين الورغي كأبرز تجارب المسرح التقدّميّ والتجريبي والاجتماعيّ في تونس. كما أسّس حبيب بلهادي شركة للإنتاج والترويج الثقافي وكان لها فضل استدعاء الشيخ إمام لزيارة تونس وإقامة عدّة حفلات في مدن عديدة. وكانت "صوت الأمل" للإنتاج السمعي التي أسّسها المناضل عبد الله الشّرقي في أواسط الثمانينيّات وقد أمكن لها إنتاج أشرطة غاية في الرّوعة قبل أن يزجّ بصاحبها في السجن لمشاركته النشيطة في حملة "قلم وكراس لأطفال العراق" في بداية التسعينيّات. وقد أمكن لهذه الشركة الصغيرة في فترة نشاطها إنتاج خمس أشرطة غنائيّة لكلّ من لزهر الضاوي "نوّار اللوز" والثنائي مارسيل خليفة ومحمود درويش في رائعة "أحمد الزعتر" وشريط للفنان الراحل الزين الصّافي وشريطين للفنان سعيد المغربي.
وقد حرصت على ذكر كل هذه الأسماء لأنّ أصحابها اكتووا جميعا بنار الفعل الثقافي يوم كان الإدمان عليه يؤدّي بأصحابه إلى التهلكة، إلاّ أنّ معظمهم صمدوا وثابروا لزرع الأمل والتبشير بغد أفضل، مع الإشارة إلى أنّ من ذكرنا لا يمثّلون سوى جزء بسيط من الناشطين في الحقل الثقافي فالمعذرة إلى كلّ من أغفلنا ذكرهم وهم كثر. ولعلّ جهة ما كمؤسّسة الأستاذ عبدالجليل التميمي مثلا تهتمّ يوما بتعدادهم وإحصاء تجاربهم وتدوينها كعلامة نيّرة في تاريخ هذه البلاد الذي لا يجب بأيّة حال أن يقتصر على المجال السياسي.

خاتمة

وفي الختام، ماذا يمكن أن نستخلص من هذا العرض الموجز والجزئي لبعض العلامات البارزة في مضمار ما أسميناه بالمقاومة الثقافية؟
1ـ إنّ اتّهام المثقّفين بملازمة الأبراج العاجيّة والاستنكاف من الاحتكاك بالجماهير لا يمكن تعميمه، بل إنّ جزءا منهم غير يسير اختار على مرّ الحقبات التاريخيّة السبيل الوعرة ووضع نفسه في خدمة شعبه في مجال الثقافة بالذّات.
2ـ إنّ النضال الثقافي لم يكن في تنافر مع النضال السياسي بل كان في تناغم معه وفي حالات عدّة ممهّدا له، فكان الثقافي يؤدّي إلى السياسي وكثيرا ما اكتسب السياسيّون شيئا من خبرتهم في الفضاءات الثقافيّة.
3ـ إنّ الوقائع التي ذكرنا والتي تبدو بسيطة إذا ما نظرنا إليها مجزّأة كان لها عميم الأثر في صقل العديد من الطاقات التي سيكون لها شأن إن في المجال الثقافي أو في المجال السياسي.
4ـ إنّ وعي السلطة السياسيّة في عهد بن علي خصوصا بخطورة الثقافي وقدرته على نشر الوعي واستنهاض الجماهير جعلها تناصبه العداء وتحاصر حدّ الموت جميع المساحات التي كان التحرّك داخلها متاحا، غايتها في ذلك خنق كلّ نفس تحرّري.
5ـ إنّ تقلّص مساحات الفعل الثقافي خلق نوعا من التصحّر تضرّرت منه بصفة خاصّة فئة الشباب الذي وجد نفسه خاوي التكوين لا يقوى على مواجهة ما كان يحيط به من أخطار وآفات إن مادّية أو فكرية.
أبعد كلّ هذا مازال يحقّ لنا أن نواصل اعتبار الشأن الثقافي ترفا يمكن تأجيله إلى ما بعد تحقيق أهداف الثورة؟

مرتضى العبيدي



#مرتضى_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثنائية الأمن والحرية في مواجهة الإرهاب
- حوار مع الأستاذ عبد الحميد الطبابي حول كتابه الجديد -دراسات ...
- ماذا يحصل في تركيا بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات ...
- لا لسياسة الحرب والإرهاب والبؤس! من أجل جبهة مشتركة لنضال ال ...
- العمليات الإرهابية في باريس ترسم مجددا خط الفرز بين القوى ال ...
- حوار مع الأستاذ مصطفى القلعي حول كتابه الجديد -التيار الإخوا ...
- اليونان من الاستفتاء إلى قبول المذكّرة الجديدة
- أمام هجمة رأس المال، الطبقة العاملة العالمية تتجنّد للدفاع ع ...


المزيد.....




- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...
- بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو ...
- سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مرتضى العبيدي - علامات من ثقافة المقاومة زمن الاستبداد