هاله ابوليل
الحوار المتمدن-العدد: 5006 - 2015 / 12 / 7 - 00:35
المحور:
الادب والفن
" كان صوت إصطكاك العجلات بالسكة مسموعا لدرجة أنه يمنع أصحاب الدرجة الثالثة من النوم ,من قال ان في هذا القطار المتهالك درجات أو حتى مقطورات مغلقة ,أنه أشبه بحركة لولبية تتلوى مثل حية تسعى .مقاعد متقابلة ,هذا كل ما توفره ,أوه لقد نسيت ,ثمة شبابيك واسعة تستطيع أن تتدلى نها للخارج وهذا ما فعلته طيلة تلك الرحلة . شهدت الشروق الأول في الصباح والغروب الأخير ثم الشروق الأول على مايبدو
بالحقيقة , كان قطارا لنقل الجنود بين المحافظات ...
الصحراء الممتدة على طول الخط الذي ينساب بإتجاه حلب كان يجلب الإحساس بالخيبة ...
لون الرمل الأصفر والتراب الأحمر الممتد مع خفوت انطلاقة حادة لشمس الظهيرة ودخولها في جوف الرمل
كل ذلك جعل من فكرة إقلالنا لهذا القطار فكرة سيئة , وخاصة مع توقفه المستمر لنقل القرويين بملابسهم العسكرية وقبعاتهم المهترئة الى بيوتهم في نهاية عطلة الإسبوع .
لقد إنتهبت الى أن لا أحد منهم يحمل مسدسا , كنت سأبدي رغبه بالتدريب عليه في تلك الصحراء ,طبعا سادفع ثمن الفشكات ,وثمن أجرة إستخدام السلاح ولكن لم ينتبه لي احد
شعرت وكأني فتاة لامرئية , وكأني أعاني من الشفافية المعتمة لدرجة إني أرى بالضوء ما لا يرى بالعتمة
هل هناك ما يرى بالعتمة . ماهذا الهراء !
تأخر الوقت ولم نستطع أن نغفو ,
كيف سنغفو ! وهذا التدفق للعمال والجنود ياللهول , إنهم يغطون المساحات الفارغة , يسرقون هواء القطار المغلق على نفسه
يا آلهي كم هو بطىء هذا القطار , سلحفاة من حديد تمشي , وها هي الساعة تتوقف على عقارب منتصف الليل .... كنت أريد قهوة على وجه السرعة ،،، لم أكن وقتها قد تعودت بعد على شرب القهوة ,كان عمري حينذاك أثنان وعشرون عاما أو ربما اقل ولكن الأرجح إني كنت في سن أكبر . ولكن من يهتم !
,, في سوريا بالذات وبهذا العمر, تعتبر الفتاة قد قطعت شوطا طيبا في العنوسة ,’ ولكن جمالي الهادىء – الخالي من التبرج كان شفيعا لي بحيث أبدو كفتاة ممتنعة عن الزواج بإرادتها وليست من فاتها القطار
انا الآن في القطار , والقطار بطىء جدا , مثل إنتظاري فارس على خيل جامح يستطيع أن يروض النمرة .القهوة
مرة أخرى ,شممت رائحتها من بعيد .يا ترى هل يحضر القرويين قهوتهم في بكارج خاصة !!
ولكني - ولحسن الحظ - سمعت أحد الجنود يقول لصاحبه وهو يضع حقيبته قريبا من الكرسي المقابل لنا ،،،إنه ذاهب الى المطعم
نعم لقد سمعت كلمة المطعم .وفجاة بدأت معدتي تزقزق يبدو أن عصافير الجوع تمردت
سهير المليئة بالشحوم لن ترفض دعوتي وخاصة إني من سأدفع
سهير :" يقولون في هذا القطار – الخردة يوجد مطعم هل ترافقيني !
يوجد مطعم ،،، شهقت بجوع لا ينتهي ,ربما تخيّلت إنهم يقدمون لحما مقددا أو سمكا مشويا أو جمبري مسلوق بالميرندا
ولكن كيف لإبنة خالي هذه أن تعرف طعم الجمبري
إننا لسنا في بيئة بحرية كل ما تعرفه على الأرجح طعم الزيتون والزيت المغمس بالبصل والبيض
وربما تعرفت على السجق مؤخرا.
دخلنا المقهى الذي تغيرت فيه المقاعد على شكل مواجهة ،،، متقابلين حول طاولة قذرة ,كان الكثير من الدخان يغطي المكان .
كان ثمة ضباب يتنفس مع الركاب رائحة تبغ رخيص ،،، فقطار بطىء بصوت ضربات رتيب , وفي ليلة منتصف الشهر وعند الساعة الثانية عشر , في قطار يقف كل ربع ساعة , ليتعلق به ركاب جدد أغلبهم ريفيون ذاهبون لقضاء العطلة في منازل ذويهم تاركين الرفاق في معسكرات التدريب
ياترى لماذا لم أرى دبابة خضراء ! في هذه العتمة مع ضوء متقطع وخفيف قد تنتابك رائحة خوف وأنت المحصن بالشرنقة الإجتماعية والوصايا الأمومية ماعساه يقدم سوى الخوف والرعب والإحساس بالهزيمة أن لا أحد راغبا في خوض تجربة الثورة
،،ما عساه يقدم قطار منتصف الليل من وجبات رخيصة !
لم تعد تتملكني مشاعر القرف. فالحياة كانت في مجملها محطة من الألم , مخيم من الصفيح والتبن لم أعش فيه . ومزاريب تنوح كنت أسمعها تروي حكايا البلاد الغائبة , وأناس يحفظون رسمة الخبزالبلدي لأوطانهم , ويتطلعون للبعيد في حلم عودة لماضي كان ملئيا بالخير والبحر والوعر.
كنا نحمل الوطن في حقيبة للبلاد التي خذلتنا جميعا لنريهم أرشيف الصور والبركسات وحنفيات الماء التي لم أصل إليها يوما .كان ثمة ألم في الداخل وعيون جميلة تعشق الجبال
قاسيون من بعيد .من على شرفة تطل عليه, كان ذلك وطنا أريده في وطني , ولكن كل ذلك تبدد بعد إنتهاء الزيارة القصيرة لأقارب لايرحبون بالضيف سوى لساعات . غادرنا الحلم وركبنا قطار الساعة الثانية عشر , لنجتاز صحراء الشام ,توقفنا في حمص وحماة وهناك كانت ظلال الموتى تخيّم على الروؤس - الآلآف الذين ذهبوا في مجازر الأب ولم تبقى سكينة في مطابخ المدينة
قتلوا بدم بارد كل من رفع رأسه وثار , ياللثورة كم تعشق الدماء ا!
النصر تغذيه دماء الثائرين , ولا يوجد رابحين ولا خاسرين .الجميع يقاوم ويبقى من يبقى , و يموت من يموت .
ولكن - حتما - جذوة الثورة لا تخمد , تشرب الدماء لترتوي ثم تخرج أذرعها باشجار تموت واقفة دوما
قجاة إنتهبت الى صبي يحدق بجيب بنطالي الجينز صحيح أنني ذات قوام ممشوق ولكن لي عينان رائعتان في حب العتمة , كل الألوان بداخلهم فلا تحتاج للخارج
وضعت يدي على جيبي لأكتشف أن الفتى كان ينتظر أي حركة مني لكي تسقط الليرات .
انها كل ثروتي والتي تقدر بثلاث الآف ليرة فقط , على وشك السقوط من جيب بنطالي الجينز ( ماذا لو لم اكتب كلمة جينز مثلا هل كان ذلك سيفوت على قارئي في معرفة ذوقي مثلا)النقود ستجعلني ادلل نفسي ,حيث أني أرفض معونة أحد ولا أحب التسلط على الآخرين لطالما كنت أتمتع بعينان جميلتان تحملان أخلاقا مثالية لاتتكرر .هذا مديح لا أستحقه طالما يصدر مني , بل أستحق أن يروه بي وبأفعالي .
شربت قهوتي وأنا ابنة الخامسة والعشرين في ذلك الوقت وأعين أبناء الريف الدمشقي تحدق بي , كنت أرى ذلك جيدا بعينان خرجتا للّتو من عملية تصحيح للنظر , عملية روسية بإمتياز جعلتني أعشق ساحة الكرملين قبل أن أراها -حيث كنت اعتبرأن العمى الذي أصابني , وأنا صغيرة قد فوّت علي الكثير من رؤية نظرات مهداة بخفر وحياءؤ أو بجرأة سيان .
فاتني ذلك حتى أصبحت عادة التحاشي في التمرس بعيون البشر هي طريقتي بالحياة , وكان ذلك بالنسبة لهم غرورا فائض الدرجة لفتاة لاجئة و فقيرة في حي فقير , ولكنها جميلة لدرجة إنها باتت ترى القباحة في البشر وليس في الظروف التي جعلت منها لاجئة في بلاد تآمرت على بقائها لاجئة .
افكر بأن ذلك قد يجعلني مبعث حزن و ربما يذرفون عليّ الدموع مثلما ذرفوا على القضية تبريرات الخضوع
كان ينبغي علي ألا اذكر ذلك النص في الأعلى ,هل تعتقدون أن ذلك كان صائبا!!!
اعتقد انه حشو لا داعي له , ولكني حتما لن أحذف كلمة جاءت في تدفق لا أملك زمام توقفه
قهوتي المعبقة بالضباب السيجاري المتبعث من عشرات المدخنين, أشعرني بخوف ما
ماذا لو انقض هؤلاء الجنود هل سيقتلوننا , لأننا لاجئات مثلا , ولكن من يقتل قبل من !
سؤال لا يخطر من عقل متمرد , بل من خوف مشحون بالخوف .
رأيتني أسرع خارجة وابنة خالي التي لن اقول لكم عن اسمها لأنها لا تملكه , تركض ورائي وكأن عفريتا احمر أو اصفر يتبعني .
عدت لمقعدي وأنا ألهث. ،، كنت دوما شجاعة ومقاتلة شرسة لأخوتي المتوحشين , ولكني في ذلك المكان العابق بالدخان وقطار بطئء يتسلى بأعصابنا حتى يصل حلب , كنا نحتاج لثماني ساعات على الاقل لكي نصل. ،،الثماني ساعات ليست قليلة في عرف فتاة تسافر لأول مرة لوحدها , لقد نسيت لماذا اكتب هذا ... أن هذه تجربة ترويها فتاة قد وصلت من العمر عتيا فلما تحدث بذلك الذكرى كل تلك الخدوش
تقول:"
إن ذكرى ذلك الضباب وصوت ارتطام العجلات بالسكة ورائحة دخان ممزوجة برائحة عرق تنز من بشر لم يستحموا منذ أسابيع وذلك الإحساس الغريب لفتاة لم تكن ترى سوى الوطن المسروق , وصارت ترى بالمقلوب أوطان الآخرين كم هي بشعة . ،،،
كل ذلك لا يمنعني من نسيان الحدث
جلوسي ضمن قافلة من الرجال , اتوسط المكان ،،اشرب قهوة. جعلني انهض وأعود لمقعدي واتشعلق بقضبان النوافذ الصدئة ,احدق وأحلامي حولي و مخاوفي في العزلة تنمو وتكبر
كان ذلك الخوف الذي تسرب بداخلي وتلك الرحلة الغريبة المسكون بهواجس اللاوعي ,هو من جعلني اختار طريق سفري , فاخترت غربتي طواعية , كنت أريد ان أخرج من جلباب أمي . واسرق شاحنة ابي لكي امضي بلا خوف في الحياة
وكان لي ذلك سرقت الشاحنة وتمردت ورأيت و"اشهد اني عشت "ولكني لسوء حظي أصبت ببرد شديد ,فبقيت في رداء أمي أجلبب أفكاري وخطواتي.
فتيات كثيرات يغبطنني على الحرية . وآخريات يحسدنني على خساراتي الآن .رغم أن ذلك الكم من القصص لا يعتبر خسارات لديهم .
لم يكن صاحب الخيميائي يعرف أن كنزك هو عقلك ,كان يعتقد أن عقلك ينام فوق الكنز ولشدة توهانه لم يسمع رنين الكنز .
صحيح أن الرحلة نفسها ,هي نصف الكنز ,ولكن الكنز الأعظم حتما هو ما يتبقى فيك من أحلام تستيقظ كلما غفوت
فسدت أحلامي مؤخرا . لقد افسدتها وهرب خيالي الفتيّ في رحلة الحج الأخيرة , وبقي ضميري – وحده بلا حجاب ,
القطار وصل لنهايته وهو يردد صدى ضربات حديده على السكة متأملا وفود المغادرين
يا ترى هل يحفظ القطار وجوه المسافرين الذين ركبوا فيه منذ عشرين عاما !
#هاله_ابوليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟