أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق الخولي - دقات منتصف الليل2















المزيد.....

دقات منتصف الليل2


طارق الخولي

الحوار المتمدن-العدد: 5006 - 2015 / 12 / 6 - 01:01
المحور: الادب والفن
    


لم يبرح الدكتور عبد الرحمن من كرسيه الذي جعله يهتز مع ذكرياته التي ما ان يري اي صورة تقفز الي ذهنه من الماضي حتي يبغضها،شعر بحُرقة تجتاح فؤاده،البكاء وحده الذي يحيط به،ساعتان وهو جالس يحدق في سقف الغرفة،ولكنه كان في الحقيقة يحدق في نفسه،في عالمه الخاوي،يسترجع ما مضي من الم،ويعد نفسه للالم ايضاً،انه دائم القلق،ربما قلق من لاشئ ،سوي الهواجس التي تحيط بنا وتستحوذ علينا،انه القلق من الاتي،والرعب من المستقبل،مع انه اكثر حظا من زميله الدكتورخالد،الذي لم يحظي بنفس شهرته ،لم يكن له عيادة الي الان،الي الان يعيش علي الفتات التي تعطيه له الحكومة كراتب ،يستطيع اي طبيب له حظ مهني ان يجنيه في يوم واحد،حتي هم بالقيام،ويدهُ تمسح ما ذرف من دموع،فبرغم طباعه الجافة وحنقه
الدائم تجاه الاخرين،الا انه رقيق القلب،فذاك الشعور الذي يراوده بين حين واخر
بالقسوة،لم يتعدي سوي الدقائق التي يشعر فيها باثارة جنسية، اما في ايامه العادية فلا شئ من هذا يجول بخاطره،لا سيما ان راي احدي الممرضات المساعدات له،هي سوسن انها الوحيدة بينهن هي التي تثيره،رغم جمالها المحدود،وقامتها القصيرة،وملابسها المعتدلة،ليست بالفضفاضة ولا الضيقة،ولكنها ومع هذا كانت انيقة اللباس متناسقة المظهر،حتي تراكب الالوان كانت انيقة ومعتدلة،كانت تعجبه طريقتها في كل شئ،اللباس والكلام،ونظرات عينهاها وسيرها ووقوفها،رغم حبه الكبير لزوجته سميرة لكن شعورا ما كان يخالجه،بالطبع هو لم يتعدي الاعجاب،ولكنه يشعر تجاهها بانها تستحق لقب انثي،فالانوثة ليست تنحصر في الجمال والطول والعينين الخضراوين ،بل لها ابعاد اخري كثيرة لم يشعر به الا رجل يعرف كيف يفرق بين الجمال والانوثة،ومن الممكن ان تجتمع الصفتين،وان كان جمال النفس لهو الاطول والاعمق والاجمل.
اننا الان في عصر مزيف،كل شئ اصبح مغاير ومخالف للمعني الحقيقي للجمال،اضفنا الكثير والكثير،اصبح بالامكان تغيير لون العينين في لحظة،وحتي الرموش والشعر ،وتكبير اي مكان في الجسم او تصغيره،ادوات مكياج السيدات ومساحيقهم اصبحت صناعة لا غني عنها مثل الاكل والشراب،ولكن جمال النفس ونقائها لم يستطع احد تبديله
او التاثير عليه،ان كان ذي القوة هو فقط من يلجم نفسه ويقومها.

ان عبد الرحمن لم يعجب بسوسن سوي لرقتها وجميل حسها،كانت شديدة الشعور بالمرضي،كانت ما ان تاتيها سيدة علي وشك الوضع حتي تهتم بها وتتالم لالمها،كان يتعجب عبدالرحمن من سلوكها،ويري انها تبالغ،وليس فقط عبدالرحمن وحده الذي كان يري ذلك،بل كل من عرفها،كانت تلعنها زميلتها عزة كل لحظة،ولكن في نفسها لم تجرؤ ان تبدي ذاك الشعور بالبغض ناحيتها،بل علي العكس،كانت دائمة البشاشة في وجهها،وتصفها باجمل الصفات،ولكنها تحقد عليها،رغم ان عزة اتت الي هذا المكان قبل سوسن بسنة تقريبا،ولكنها جعلت الجميع يحترمها رغما عنهم،حتي زقزوق الذي لم يسلم احد من لسانه وربما يده،اجبرته علي احترامها واجلالها.لقد كانت لاتنطق الا الحق،لا تكذب مهما كلفها الامر،اشتهرت بين الطاقم والعاملين في المستشفي بثقافتها ورقي فكرها،وتقديرها للصغير قبل الكبير،والمريض قبل الصحيح،كانت تعامل الجميع معاملة حسنة،رغم علمها بما كان يكمن في نفوس البعض من المرتشين،فالممرضات الذين يعملون في عنبر الولادة هم الاكثر حظا من غيرهم،لانهم وبكل بجاحة يطلبون من اب المولود(الحلاوة)والحلاوة هي بالطبع نقود مقابل خدمتهم الواجبة عليهم،ولو كان المولود ذكرا،تبجحوا اكثر،وطلبوا اكثر،فيعطيهم الاب مضطرا،وربما دعا عليهم ورفع يده متضعا الي الله ان يصيبهم في ابدانهم جزاء ما اخذوا منه،وبعضهم كان يدفع لهم خوفا،خوفا من اهمالهم زوجته او طفله،وكانوا يفعلون هذا كله دون علم سوسن،فمرة راتهم يفعلون هذا،حتي امطرتهم بالنصائح وعدم الاقتراب للمال الحرام،وكيف باخذ المال الحرام الحلال معه ايضا،ووعدتهم في المرة القادمة ستعلم مدير المستشفي،هي غائب عنها انه ربما كان مديرها يقتسم المال الذي تجنيه عزة وغيرها معه..اكثر من مرة منذ جاء الي هذا المكان،وبعد ان تبادلا اطراف الحديث لاكثر من مرة،حتي ايقن استقامة رايها،واصابتها،لم يعرض عليها امرا حتي يكتشف من خلال حديثها رزانة عقلها ورجاحة فكرها ونظرتها الثاقبة للامور،انها خبيرة في امور الحياة ،ذو ثقافة عالية،لا تكف ابدا عن القراءة،تحب كل شئ يتعلق بلغتها،حتي وهي تمشي عابرة الطريق او قاطعته،لا تكف عن قراءة اللافتات المعلقةعلي اوجه الابنيه المرتفعة،اعلانات عن اطباء او مكاتب هندسية او محلات،فكل يعرض بضاعته،ويعلن عن نفسه،نحن في عصر لم يكن للبطء فيه مكان قد تدهسك الاقدام،فقط يركض خلف الورق،المال جل ما يحتل الرؤوس،ان المتطلبات ذات حد الجنون،والكل حانق رغم المعيشة التي ما كان يحلم اجدادنا وابائنا ان يعيشوها،لقد ذادت اصناف الطعام والوانه حتي عند الفقير المعدم،ولكن الفقر الحقيقي سكن النفس،فاستعمر القلق،وارتعبت القلوب خوفا من المستقبل،فاخذوا من حاضرهم الي مستقبلهم،حتي اختلت المعادلة،فعاث القلق فسادا في الحياة..
لم تدخل سوسن الممرضة المقربة عبد الرحمن الا وكانت تتابط كتاباً،وفي الغالب كانت كتبها روايات رومانسية،وهذا مالفت انتباهه لها ايضا،فكانت بعد كل مرة تقرا رواية يطلبها منها كي يقراهاهو ايضا،ومع انه كان يكره القراءة منذ ايام الدراسة،الا انه وحدها القصص هي التي تخرجه من افكاره وهمومه وتاخذه الي احداث وشخصيات يراها في خياله فقط،فمنذ راها اول مرة تحمل كتابا حتي ظل يتقرب لها ببعض الكلمات الرقيقة،ثم سالها عن ماهية هذا الكتاب ذي الجلد الازرق،كان مرسوما عليه شجره جافة،ويستند علي تلك الشجرة رجل اشعث الوجه كث الشعر،والمنظر كله قد انتصف الصحراء،وهناك تلال بعيدة،والشمس من خلفها..فسالها متعجبا عاقدا حاجبيه
-ايه الكتاب اللي معاكي ده؟
-دي رواية.
حدق في وجهها مبتسما بسخرية:
-يابنتي حد بيقرا الايام دي،انتي باين عليكي فاضية.
قالت مؤكدة قال لها متسائلا:
-اذاً انا من الاموات.
ارتسمت وجهها الجدية :
-لو مش بتقرا فانت ميت.
قال:
-وماذا ستصنع لي القراءة؟
ردت عليه سوسن بشئ من اللغة الفصحي وتضغط وتؤكد مخارج الحروف:
-القراءة هي الباب الوحيد للمعرفة والثقافة،وهي المدخل الوحيد لتنمية الفكر والوعي،وهي غذاء الروح مثلما كان الطعام غذاء الجسد،وهي التي تاخذك الي عالم خيالي بارادتك وفي الوقت الذي تشاؤه،بل بها ستعيش اكثر من حياة.
تعجب وكانه يسمع هذا الكلام لاول مرة،او ربما لم يسمعه بهذه الطريقة،طريقة سوسن بصوتها الرقيق الناعم،الحروف والكلمات تخرج من بين شفاها متراقصة،تنقصها الاوتار حتي تغدوا الحانا..
كان يحب ان يحادثها دائما،في البداية كان يعجبه قوامها،ولكنه اكتشف خطأه،بعد ان عرفها حق المعرفة،وادرك انها ارفع منزلة وقدرا مما ظنها اول الامر،كان يخجل من نفسه احيانا،كيف فكر بسوسن بهذه الطرقة،وظل يخاطر نفسه،الا يمكن ان يغير نظرته تجاه النساء؟
ثم قال مطاطا راسه:
-نجرب..ممكن اقراها بعد متقرايها؟
وبعد يومين دخلت عليه سوسن حاملة الرواية،في الصباح،الساعة الثامنة،المكان سيكتظ بالمرضي،هناك بجانب غرفته الدكتورة سميرة زوجته لتستقبل المرضي من الاطفال،انها غرفة ليست مجهزة بشئ،لا يوجد مع الطبيبة غير سماعة وضعتها في اذنها،حتي لا يوجد تيرمومتر لقياس درجة الحرارة،مئات الامهات تاتي كل يوم،حاملة طفلها عل كتفها او بين ايديها،الزحام شديد علي الغرفة،لا مكان هنا لمن تجر طفلها في عربة صغيره تجرها بيدها،هؤلاء لا تجدهم الا في عيادات الاطباء المشهورين او من رفعوا اجورهم،حتي عجزت هذه الوجوه البائسة عن دفعها،لن تري في الساحة المقابلة لهذه الغرفة غيروجوه ظهرت عليها تقاسيم الشقاء،ووجوه مطبقة،ذووا افواه تكاد تكون فارغة،جعدت جلودها وانثنت ولكن البراءة وحدها هي التي سكنت ورسخت بين تلك القسمات البائسة،جميعهم اكثر من الخمسين عمريا،مرتدين الجلباب الاسود الفضفاض،اغلب هذه الملابس اوشك علي النفاذ..علي الذوبان..علي الاهتراء،انهم اتون من الريف،لم تكن الاطفال الذين يحملوهم ابناءهم بل هم احفادهم..ان المفاهيم والتقاليد تختلف الي الان عنها في المدينة عند البعض،فلا زال الي الان الابن يتزوج في بيت اهله،ربما في شقة واحدة،ولكن حياته الخاصة مقتصرة علي ساعات الليل فقط،اما غير ذلك فيكون جزء لا يتجزا من اهله،وزوجته ان كان اباه علي قيد الحياة فلابد ان تاخذ منه الموافقة علي اي شئ يخصها او يخصهما،ماعدا الاشياء الخاصة جدا،فلا يصح لاحد ان يتدخل هنا،وحينما يمرض احد الاحفاد تحمله جدته الي المستشفي حيث تمكث امه في المنزل،فهناك اُسرلا زالت الي الان تري خروج النساء الصغيرات الي الطرقات او الانتقال للمدينة التابعة عيبا،وحتي الخروج الي الاسواق،وهناك في الريف من يري عكس ذلك بل يؤمن به ويفعله دون خجل،فبعد ان انتشر التليفزيون وازدادت القنوات وتنوعت واصبح الحصول علي الانترنت شئ اسهل من العثور علي علبة سجائر،تغيرت مفاهيم كثيرة،وتبدلت تقاليد اكثر،واوشك الكبت التي خلفته تلك التقاليد علي الاختفاء،فتشابه لباس الريف كالمدينة،وتغير كل شئ،ومع هذا لم يفقد الريف رونقه وطبيعته الخلابة..






يتبع.......



#طارق_الخولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دقات منتصف الليل
- ليلة شتاء
- حقيقة اعظم دول العالم
- الصعلوك 2
- عقليه الشاعر
- الصعلوك
- دوله من ورق...
- بقايا رجل


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق الخولي - دقات منتصف الليل2