|
حدث في قطار آخن -16-
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 5002 - 2015 / 12 / 1 - 22:08
المحور:
الادب والفن
وصلت سابينه في هيئة ممرضة إسعاف خصوصية...
"المجد لمَلاَئِكَةِ الرَّحْمَةِ، للسيدات حَامِلَات الْمَصابيح في الشرق، بالأمس واليوم وغداً، سمعت وتسمع وستسمع عن شقاء المُمَرِّضات في مشافي الشرق، بكافة أنواعه وأشكاله وانتماءاته، عن تعبهن وإرهاقاتهن الجسدية والفكرية ليل نهار، عن مداواتهن للمرضى وإسعافهن للجرحى وتضميدهن للجروح، عن رؤيتهن اليومية للدم والأعضاء المبتورة، عن مرافقتهن للموتى وعذاباتهم حتى اللحظات الأخيرة، وعن مهاراتهن التمريضية وقدراتهن الإنسانية... العمل-الفن الذي تؤديه المُمَرِّضات في الشرق هو من أقدس الأعمال الوطنية والإنسانية والفنية قاطبة، لو كان الشرق يحترم الإنسان لصنعَ تمثالاً للممرضة الشرقية بعد حرب 1973 مباشرة... ربما سيأتي اليوم ومعه يأتي من يمنحكن كفريق عمل جائزة نايتينجيل... تقول الممرضة البريطانية فلورنس نايتنجيل (1820 - 1910): ليست مهنة التمريض عملاً بسيطاً يُمارس في وقت العطلة، بل هي فن يتّطلب التفاني والإخلاص العظيمين والتحضيرات الكبيرة، مثلما هو الحال عند رسم لَوْحة بريشَةِ الرسّام أو حين إبداع مَنْحُوتة بِيَدِ النَّحَّاتِ، لأَنّه ماذا يعني العمل على الجسد الميت، أي على قطعة قماش ميت أو على قطعة رخام بارد، إذا ما قورن بالعمل على الجسد الحي؟"
وصلت سابينه، ترتدي الزي غير التقليدي لممرضة، الذي يحوي بين طياته نكهة الولاء والطاعة دون أن يتطابق مع شرع الله، لَبِست حذاء أحمر بكعب متوسط، وضعت على رأسها قبعة قطنية بيضاء ومكشكشة، يتخللها خط كحلي عريض، قبعة أعطت لروحها لمسة تواضع، لتسريحة شعرها جاذبية عطر، ولقامتها مظهر كبيرة ممرضات، ارتدت ثوباً قصيراً أبيض اللون، لَفَّتْ مِئْزَرَهَا حولَ خِصْرِهَا وعقدته بشكل أنيق، غطى المِئْزَرُ الجزء الأمامي من جسمها تاركاً منطقة الظهر والمؤخرة دون حجاب...
ما إنْ وصلت حتى أجابته وكأنها اِسْتَرَقَت السَّمْعَ من خَلفِ بابِ الصالون لمونولوجه الذاتي ودهشته في حضرة الشرطية هنيلوري: - لم يحترق شيء يا أحمد؟ هل فقدت حاسة شّمّك القوية؟ - لا، ما زلت قادراً على إدراك الروائح! - هل سكرت يا أحمد، قبل أن نبدأ؟ - لا لم أسكر بعد! لم أشرب بعد! - هل ترغب أن تأخذ غفوة ثم تلحق بنا؟ - كيف لي أن أنام، وأترككما لوحدكما تسهران؟ - سننتظرك حتى تصحو! - لن أغادر من أحتاج إليهن في هذا المساء الماطر، شرطية وممرضة!
"بعد الكأس الأول، تجربته الأولى مع النبيذ الأحمر ولم يتجاوز السابعة عشر، قبل منتصف الليل بساعتين في يوم رأس السنة، ينتشي فجأةً، ينتشي حتى السكر الخفيف، ينتشي حتى النعاس الثقيل، ترجوه قريبته الأصغر عمراً: اذهب للنوم يا أحمد، أعدكَ أنْ أوقظكَ قبل صعود البوابير البرّاقة بكل الألوان إلى السماء، سأوقظكَ حتماً قبل إطلاق العيارات النارية، سأوقظكَ قبل تفتيت هذا العام الحزين إلى مثواه الفقير... ينظرُ إليها بعينين ثملتين غير مصدق وعدها، يحرك كف يده اليسرى راجياً، كمن لا حول له ولا قوة، يجيبها متمتماً: كيف سأنام؟ كيف سأنام وأترك الوطن لوحده يسهر! كيف يطاوعني قلبي أن أترك الوطن لوحده يسهر حتى يسكر!"
دخلت الممرضة تحمل بين يديها لوحاً خشبياً دائري الشكل، لوح يشبه صدر الفطور الصباحي في الشرق، صدر الألومينيوم بسماكته الرقيقة وقطره الذي يتناسب طرداً مع عدد أفراد الأسرة ووضعها الاقتصادي، صدر الفطور، تلك اللوحة ذات الوجهين، وجه ما قبل البداية ووجه النهاية، خاصة فيما إذا كانت الأسرة تعيش في بحبوحة من المال العام، حيث تتراكم فصول حبات الزيتون الأخضر والأسود حتى التخمة، بقايا الزعتر البلدي، آثار خفيفة من البيض المقلي، قشور جبنة البقرة الضاحكة، حروف الخبز المرقد والكؤوس الفرنسية الفارغة...
"رجته جارته الغنية البخيلة تعليم ابنها الراسب في الصف التاسع مادة الرياضيات، كان الابن صديق طفولته، لهما نفس العمر، فرح لطلب الجيران حيث أحس بقدراته المبكرة على مساعدة الآخرين وربما حلم ببعض النقود كتعويض عن تعبه هذه المرة، لم يتوان لحظة واحدة عن تلبية طلب الجيران، ذاك المساء عمل مع ابن الجيران ساعات طويلة على حل مسائل الحساب، انتصف الليل ولم يحظ إلا بكأس شاي يتيم بسكر قليل، وحين نهشهما الجوع توجها سراً إلى المطبخ، في براد الجيران الكبير انتظرتهما بيضة بلدية بحياء، ادخلا رأسيهما في البراد دون جدوى، البراد خال حتى من البرد، حاولا في المطبخ وبصمت مطبق قلي البيضة الوحيدة، استيقظ الرب، رب الأسرة، أيقظته الرائحة، أحضر قطعة خبز، حاول بها احتضان الرائحة، صرخ بوجهيهما: ماذا تفعلان في هذا الوقت المتأخر يا أولاد، هذه البيضة هي بيضتي، إنها طعام فطوري!"
على الصفيحة الدائرية من الخشب زَبادِيّ تسعة صغيرة وعميقة، زَبادِيّ بألوان سابينه المفضّلة، بين دائرة الزُبْدِيّات باقة ورد أبيض، أدارت سابينه ظهرها وأسفل خصرها غير المحجّب إليه وراحت توزع الزَبادِيّ، ثلاثة لكل منهم، أحس بنار تسري في جسده، حدَّثَ رغباته السرية: "لأننا ما زلنا لا نجرؤ على الكلام العلني حول الثالوث المحرم، الدين والجنس والسياسة، وتحديداً قضايا الجنس، سوف يتأخر إدراكنا لمعنى الحياة القصيرة جداً، والتي يغفلون في الشرق أنها تُعاش لمرة واحدة فقط."
- بماذا تتمتم يا أحمد؟ سألت الشرطية. - لم أقل شيئاً! - ماذا ترى يا أحمد؟ سألت الممرضة. - لا أرى شيئاً! - كاذب! قالتا بصوتٍ واحد وضحكتا. - الشرقي شخص طيب ونظيف، الشرقي صادق لا يكذب! قال أحمد ببراءة. - الشرقي يلتقي مع المؤخرة الغربية وجهاً وجه. قالت الشرطية بمرح. - هل تقصدين: الكرسي الشرقي يلتقي مع الكرسي الغربي وجهاً وجه؟ رد أحمد حانقاً. - لم أفهم ما تعنيه، أحمد؟ لعلها اللغة! لعلك لم تفهمني! - أقصد ذاك النصب التذكاري لكرسيين من الغرانيت في ساحة بيتهوفن في مدينة فايمر الألمانية، تلك الحالة الرمزية للالتقاء والتقابل والتواصل الأدبي والإنساني، المسيحي والإسلامي، النصب الذي يجمع بين الأديب الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته والشاعر الفارسي حافظ الشيرازي. القضية والعلاقة بين الشرق والغرب لا تكمن فقط في بالجنس وقضايا المرأة. أجاب أحمد على سؤال الشرطية متحدياً.
- أضم صوتي إلى صوت الكاتب البريطاني روديارد كبلينغ بقوله: "الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب... سوف لن يلتقيا أبداً". قالت الشرطية بلؤم. - عزيزتي في زي الشرطية، لا تستعجلي ولا تنسي أن العالم الغربي قد حصل على كل ما يملكه تقريباً عن طريق الشرق... دينه، فنه، علومه، ثقافته العلمية وحضارته برمتها، حتى حبوبه وثماره. أردف أحمد: إنه ليس كلامي، بل هو كلام مؤلفين محترمين، مثلاً: الكاتب الألماني كارل كارل فريدريش ماي، في روايته "الأرض وأمير الجن".
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حدث في قطار آخن -15-
-
حدث في قطار آخن -14-
-
حدث في قطار آخن -13-
-
حدث في قطار آخن -12-
-
حدث في قطار آخن -11-
-
حدث في قطار آخن -10-
-
حدث في قطار آخن -9-
-
حدث في قطار آخن -8-
-
حدث في قطار آخن -7-
-
حدث في قطار آخن -6-
-
حدث في قطار آخن -5-
-
حدث في قطار آخن -4-
-
حدث في قطار آخن -3-
-
حدث في قطار آخن -2-
-
حدث في قطار آخن
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -52-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -51-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -50-
-
حَمِيمِيَّات فيسبوكية -49-
-
المرسم
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|