|
ميثولوجيا الأهوار ..الأهوار وذاكرة المثقف ..بين مخيلة الأسطورة والخرافة والمنجز الأبداعي
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 1366 - 2005 / 11 / 2 - 12:52
المحور:
الادب والفن
ــ الحلقة الثانية عشرة ــ (( ليس من السهل معرفة ماذا ينقص الماء كي يتكلم ، غير إن لكلامه الذي من كريستال وزبد ألسنة أطرافها ماسية تقول وداعا لكل ما يظل على الضفاف )) أستورياس
((ولا بد من نشدان لمواضع كانت هي الأكثر استعدادا وقدرة من سواها على إنضاج وإطلاق تلك الرؤية في الأفق والصدف لا تغيب هنا عن وقوع ذلك الحدث الانتفاضة الذي منه وعنه استقى حيدر حيدر روايته فإيحاءات ثورة الزنج والقرامطة والحسين بن علي كانت قد حضرت اليوم وتكررت على المكان نفسه الذي جاء منه إبراهيم أبو الأنبياء، برومثيوس الرؤية الإلهية الأعلى، ففي أور وعلى مقربة منها تفجرت انتفاضة الأهوارعام 1968 ومن محطة القطار المسماة أور حيث ذهبت أبصارنا تبحث في تراب تلك الأرض عن آثار أقدام النبي إبراهيم. تم ترحيلنا نحن الجرحى بعد ذبح الانتفاضة التي هزت العراق ودفعت لتغيير نظام عبد الرحمن عارف على عجل وقبل أن تستفحل هذه الظاهرة وتتسع بحيث لا يعود بالأمكان حصرها، وكانت رحلة إبراهيم هي الأخرى إلى مصر لتنشأ بعدها تلك المدرسة التي رسخت عبر سلسلة متصلة نهايتها إلى النبي محمد حيث الختام والتمام.. )) الكاتب العراقي عبد الأمير الركابي ــ باريس
مافي أعلاه هو مجتزئ من مقالة للكاتب العراقي عبد الأمير الركابي المقيم في باريس وهي تتحدث عن روح المقاربة التاريخية المكونة لأحداث الرواية الشهيرة ( وليمة لأعشاب البحر ) للروائي حيدر حيدر والذي أشاعت حين صدورها الكثير من القراءات والرؤى لما فيها من تساؤلات وجودية ووجدانية تهم المعتقد والفكر حد الذي دفع الأزهر إلى تحريم دخولها إلى مصر وسحبها من الأسواق ..وبعضا من أحداث الرواية تقع إحداثها في مناطق الأهوار عبر سرد احد الشخصيات المشاركة في انتفاضة ( هور الغموكة ) عام 1968ومن الذين التقاهم الروائي في الجزائر وجسدهم في شخصيتي مهدي جواد ومهيار الباهلي وهي شخصيات حقيقة عاشت ردحاً من الزمن في غياهب الأهوار تمارس كفاحا مسلحا بعد حادثة الهروب الشهير للسجناء الشيوعيين من سجن الحلة عبر حفر نفق والهروب منه لهذا يصير المكان ( الأهوار نقطة البدء لحلم هؤلاء الهاربين إلى سماء التغيير والحرية ليلتقي المكان وفضاءاتها برؤى والدة مهدي جواد التي كانت تردد وكما جاء في الصفحة 77 من وليمة لأعشاب البحر : ((يتذكر مهدي أمه يوم كانت تقول له:" يا جمل يا حمّال ستموت في بلد ما ولن يمشي أحد في جنازتك بسبب أفكارك".فيجيب: " إلى الجحيم ..لا أريد كفنا أو مشيعين، أريد أن أموت عارياً تحت شمس أو في ظل غابة وهذا أفضل لنفسي .....")).. هذا الهاجس الوجودي التصق بالمكان ( بيئة الأهوار ) ومثل تجانسا في خلق حالة الاندماج بين المكان والذاكرة لهذا جاءت الرواية رغم ابتعاد مشاهد الوصف لطبيعة المكان بدقائقه غلا انك تستطيع أن تشم من ديالوج الشخصيتين ( مهدي ومهيار ) رائحة القصب والسمك والماء والجواميس . فطبيعة كالأهوار مثلت في خصائصها الجمالية رؤى معكوسة على ذاكرة المثقف العراقي منذ العهود السومرية الأولى وتكاد تكون أساطير الحضارة العراقية هي ( أساطير مائية ) تعود في مخيلتها إلى روح المكان وخرافته والتصاق هذه الخرافة بالهم الميتافيزيقي لتظهر لنا حكايات أسطورية لتخلو من الماء والقصب والسمك والصياد ودورة الحياة عبر شاهدي الماء والهواء وتأتيهما النار بعد ذلك كما في أسطورة الخليقة والطوفان وآدابا وملحمة جلجامش وأيوب السومري وغيرها من الأساطير . كان الماء والقصب والطير والموجودات الأخرى تمثل وعيا كونيا لهاجس المثقافة بين الإنسان ومحيطه لهذا ألهمت وقواه التخيلية روح القص وقول الشعر فجاء التراث الرافديني القديم في اغلبه مولودا في تلك البيئات حيث تتفرج الآلهة على سطح الماء وتتخيل مصائر البشر ويمكنها أيضا أن تبني مخيلة تمتلكها عاطفة الشوق لجمال الطبيعة وسحرها لتدفع بقواها الجسدية لتجمع القصب لبناء المعبد وتشوي السمك وتذبح الطير قرابينا للآهة التي اختارت هذه الطبيعة لتكون موطئ قدم السكنى للإنسان المتحضر الذي كتب الخرب وصنع الفخار واخترع الإلة الموسيقية وعزف عليها: (من القصب صنع الصياد نايه وأعطاه للراعي الذي تحبه عشتار مرضاة لها .. ولأجلها ذبح القرابين وجلب الطير والسمك من المياه العميقة وحين تأمرني السيدة المبجلة بشئ آخر فأني سأذهب حتى دون أن تنطق لعمل من القصب الطويل بيتا أتعبدها فيه.. أننا رهن طوعها .. وأنا وبيت القصب والمركب سنصاب بقوة عواصفها حين تغضب لجل هذا علي أن أرضيها دائما ولا اجعلها تغضب ) أذن كان المكان وموجوداته هو كل مفردات الذاكرة الأسطورية والشعرية وهي في زمن كذلك كانت لب الأدب وقيمته الشاسعة . والى كل العصور بقي المكان يمثل روحا للخلق وللإبداع وكان هو موطنا لواحدة من الديانات الغنوصية وهي المندائية والغنوصية رؤى تعتمد على نقاوة البحث الروحي وصفاء التأمل وشفافية البحث وانطلاق الغيبيات في مقاربة الخلق الواحد كما أن الغنوصية هي سياحة المعنى في البحث عن نفسه . وفي الاهوار مارس المندائيون غنوصهم بتمازج روحي مع المكان وموجوداته وصار الماء سيد طقوس التعميد حيث يعتقد الهاجس الغنوصي أن اكتمال تواصل الروح برغبتها لايتم إلا عبر طقسا راقيا وجميلا وكأن مياه الأهوار كفيلة بأن تكون هي هذا الطقس وبعيدا عن تأريخية هذه الطائفة وأصولها المكانية فأننا نقف فيما يخص ثقافتهم التأريخية عند رأي الأستاذ عزيز سباهي في الصفحة 20 من كتابه ( أصول الصابئة ومعتقداتهم الدينية الصادر عن دار المدى في طبعته الثالثة 2003 قوله : (( فلقد كانت المنطقة التي ظهرت فيها أديان التوحيد تعج يومها في التفاعلات الفكرية والدينية إثر الفتوحات والصدامات العسكرية بين الفرس واليونان والرومان . كانت الوثنية واديان الأقوام التي فقدت الصدارة لتنسحب طواعية عن مسرح الحياة كليا بما تنطوي عليه من معتقدات وطقوس وأساطير وإنما تترك آثارها في عقول وتتأثر بها الأديان الجديدة مثلما عانى الأدب والفكر والفلكلور عامة . وفي حالات ، بقيت أثارها لدى تجمعات صغيرة ظلت الضغوط الموجهة إلى هذا الحد )) وحتما إن السيد سباهي يقصد المنطقة التي ظهرت فيها أشارات الديانات التوحيدية الأولى هي بلاد الرافدين ومصر وفلسطين حيث نمتلك من الموروث المقدس ما القرآن والتوراة والرواية الأسطورية إشارات إلى ولادة إبراهيم ع في أور وبعث يونس إلى نينوى وربما طوفان نوح ع هو في أمكنة بطائح اليوم وتقابل قصة أيوب السومري مع قصة النبي أيوب ع الواردة في قصص الأنبياء في الكتاب الحكيم وفي جنوب العراق بمدينة (المدينة) وهي واحدة من مدن الأهوار هناك مكانا مقدسا مرتهن بشجرة سدر يقال في الموروث إنها شجرة آدم ع وتحتها استظل أبو البشرية . وفيما يقصده بالتجمعات الصغيرة فهو يقصد في المقدمة المندائية التي تثير الغرابة عند المستشرقين والمهتمين بالديانات الشرقية كيف حافظة هذه الطائفة على موروثها الأدبي والروحي كتابة وشفاهية كل هذه العقود والحقب التاريخية الصعبة ؟.. وعليه فان المنطقة هي وليدة ما كان والذي كان هو مستوطنة للتحضر الفكري والثقافي وكان هذا لا يتصل فقط في أقوام عاشت في عهد سلالات الطليعة البشرية الواعية ( زمن اكتشاف الكتابة والمسلات والدساتير الأولى ) لكن الأمر يمتد إلى عصور أخرى قادمة ومنها العصر الإسلامي حيث ظلت المنطقة تمثل مكانا تنويريا للكثير من العقول العربية في مجالات الفقه والشعر وغيرها رغم مرورها بفترات عصية تحولت فيها هذه المكنة إلى مكانات للعصيان السياسي والمسلح وهذا أيضا يمت إلى وعي المكان كون ثقافته تتقبل مفهوم الثورة التي تولد من المبررات الفكرية والطبقية أولا كما في ثورة الزنج والقرامطة وغيرها من الثورات التي نشطت في العهود الأموية والعباسية وبعدها في الأزمنة المظلمة حتى قيام الدولة العراقية الحديثة وما بعدها . تم قراءة المكان قراءة أبداعية في أكثر من مستوى ولكنها أهمها هي القراءة الأدبية المتمثلة في تراث المنطقة من أدب وأغلبه تراث شعري ونصوص تتعلق بحكايات أسطورية ــ خرافية وأخرى تراثية تتعلق بالمكارم والعادات وأجاويدها من الرجال البارزين والمتنفذين . والتراث الشعري لمنطقة الأهوار هو تراث في أغلبه شفاهي تتناقله الذاكرة بتعاقب الأجيال ويمثل انعكاساً لصورة الحياة وجمالها من خلال ما خلد في الذاكرة من قول للواعج قلوب الصيادين ورعاة الجواميس وهذا يتناقل على شكل أبيات شعرية وأبوذيات تتشكل فيها مفردات الصيد كالشبكة والفالة والمشحوف والقصب والسمك والجبيشة وهي في التعبير االشفاهي الموجود الحياتي الذي يمكنه أن يمد النفس بجذوة التعبير عن المكنون حيث تدفع الطبيعة ( إنسان الأهوار ) إلى التحدث عن اللواعج بفطرة وتلقائية لذلك كانت ولادة الأطوار الغنائية هي ولادة مكانية تصنعها طبيعة الحياة ومصادفاتها الاجتماعية والطبقية والوجدانية لتولد أطوار ظلت خالدة حد هذه اللحظة تمثل علامة مضيئة وبارزة في التراث الغنائي العراقي ومنها أطوار المحمداوي والمجراوي المولودان في منطقة العمارة وطور وطور الصُبي المولود في منطقة سوق الشيوخ بمحافظة ذي قار ويمكننا هنا أن نسوق الحكاية الشعبية المتداولة حول ولادة هذا الطور . (( * الطور الصُبي : ضمة على الصاد وينسب إلى الطائفة الصابئية ـ المندائية وهو من أشهر الأطوار الغنائية الشعبية العراقية وولد كما في التأريخ وفق الرواية التالية : أن ناصر السعدون رئيس عشائر المنتفك وهو أمر متصرف لمدينة الناصرية والمسماة على أسمه والتي بناها الوالي العثماني مدحت باشا في عام 1873 م .قد أرسل على روحي شعلان وهو صابئي يسكن قضاء سوق الشيوخ في الناصرية جنوب العراق وكان حدادا وطلب منه أن يغني بيتا من الأبوذية وبسرعة وإلا قطع رأسه ..وشهر سيفه عليه فأرتجف روحي شعلان خوفا وقال : { أيا ويلي }..فنظم بيتا وغناه خوفا من قطع رأسه والبيت يقول : جلد لاجن جفاني النوم جلداي وحل اليوم بين الخلك جلداي أغني لو يذر الشيخ جلداي لو أمشي وتظل داري خليه ومن هذه الحادثة نشأ الطور الصبي والذي يبدأ } بيا ويلي } وقد غناه بإجادة تامة مطرب في الناصرية هو { جبار ونيسة } وكذلك المطرب حسين نعمة...)).. وهكذا بقي التراث الشعري والذي في الأخر يؤدي إلى ظهور تراث غنائي يمثل فيما ترك من تراث أصالة حقيقية تكشف قيمة المكان ومستوى تحسسه للحياة وعكس ما تمتلك من جمال وذلك يحتاج إلى وعي وقراءة ذهنية متوقدة . كنا قلنا قبل ذلك إن المكان كان مستوطنة أزلية للأساطير وامتداد هذا هاجس شكل نمطا لمعتقد الذاكرة الشعبية في الكثير من معتقداتها الاجتماعية حيث لازالت قصص المكنة والكائنات الخرافية تسيطر على ذاكرة المكان بقصص وتخيلات ترتبط برموز حيوانية والجن والأثر ومنها من هو متداول في الحكايات الشفاهية المنتقلة من جيل إلى جيل ومنها من يرتبط بحيوان مائي خرافي أو مكان كهذا الأعتقاد الشائع عن معجزة ماكان متخيل ولكنه في محل الصدق عند الجميع أسمه ( تل حفيظ ) الذي يوجز قصته السيد قاسم الفرطوسي في مقال له بمجلة الآن العدد 28 : (( وأسطورة أحفيظ تناقلتها أجيال المعدان من جيل الى جيل آخر .واشنان حفيظ ( تل عالي وكبير )) يقع في الاهوار البعيدة والتابعة الى العمارة ولم يصله اي بشر ماعدا قصص بعض الصيادين والذين عثروا عليه بالصدفة وهي لا تصدق .. ويقال بأنه تل مرتفع وهو جنة من الأعناب و الارطاب والبساتين وفيه زورق من مذهب يحرسه الطنطل المسمى باسمه والويل الويل لمن يصل اليه او يتقرب منه والمعدان يعتبرونه المكان المخيف جدا والكثير ما تكون أهازيجهم بمدح رؤساء عشائرهم به فيقولون ( احفيظ الشافك ماتت جنحانه أو أنت أحفيظ المايندار )) أما الرحالة البريطاني ولفريد وليم سكير فقدا أحضر مجموعة من شباب الاهوار الأشداء واحضر كذلك عدة زوارق واخذ يفتش عنه ولم يعثر عليه فقال ( ان احفيظ اسم على مسمى ولا وجود له وهو أسطورة تناقلتها أجيال المعدان لإثارة الرعب بين الناس.))..وعلى ذات المكان أشتغل الكثير من الأدباء والكتاب نصوصهم ومنهم القاص عبد الرحمن الربيعي في نص له بنفس السم نشره في الستينيات من القرن الماضي فيما وظف القاص والروائي جاسم عاصي المكان في محور عمله القصصي (( مستعمرة المياه ) الصادر عن دار الشؤون الثقافية في 2004. ثم إن المكان شغل الدارجة كقول احدهم في المكان وهيبته المتخيلة : (( ياتل حفيظ يل كلك سحر يام ( ياما كان ) غموض وسومرك تحجي لليام ( للأيام والزمن ) جنان العدن تضويلك مثل يام ( مثل الجام الذي هو الزجاج ) أخاف أكرب وأموت بسحر مايك )) .. في حين يأخذ سحر المكان توظيف آخر يقارب المسمى الجديد لذات الظاهرة ب( كوت حفيظ ) كما عند الروائي العراقي في روايته ( مستعمرة المياه ) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية في 2004 وكنت قد تحاورت مع الروائي نفسه في طبيعة المكان ودلالته أيام كنا مدعوين في ملتقى ثقافي في العمارة في التسعينيات وكان حينها يمتلك مسودة الرواية ووصلت في النقاش معه إن تلك الأماكن النائية في عمق الهور تقارب في ميثولوجيتها مثلث برمودا وظاهرته الغريبة في المحيط الهادي وكان الروائي جاسم عاصي يوظف أشتغاله على هذا الأثر الميثولوجي والخرافي من خلال عمله في التعليم بتلك المنطقة وكون أسلافه ( السادة المكاصيص ) كانوا شاهدا لتلك المناخات وهم من بعض ساكنيها لتأتي الرواية عن الثر والظاهرة أكثر صدقا وعمقا وتحسسا لبيئة ومكوناتها الروحية والجيولوجية والإنثروبولوجية لأن القراءة الفكرية والأدبية للرواية تتشغل على عدة طبقات ومفاهيم ولكنها في النهاية تخلق يوتيبا من محبة الإنسان لأرضه وقومه وتاريخه الموغل في رؤى الأسطورة والحلم والمعتقد : (( وإياك إياك أن ترضى بالسهل ، فقد انحرفت يومها عن الصواب ، وزلت قدمي فابتعدت عن وصيا الأجداد . وها إنك تجدني نواة صغيرة لا يعرفها القوم هنا ، أما أنت فسوف تعرف كل شئ عن ذلك الخطأ وتدرك كم أرتكبت أنا من حماقات بحق مستعمرة المياه ، موطني وموطن قومي من قبل . سيرافقك العجب حين دخول ذلك المكان القصي الذي نواته الضوء . تعرف كيف أنحرفت عن جادة الوصول إليه ، فأنا لا أخفيك سرا ، فقد وصلت ، وأدركت توجه ، ولكن ليس الدخول هو ما نصبوا إليه ، بل هناك أشياء تعرفها في الوقت المناسب ، حينما تكون وجها لوجه أمام كوت حفيظ )) الرواية صفحة 96 فيما يحول الشاعر مسلم الطعان البيئة إلى ذاكرة للنفي والهجر وامتزاجها بهاجس النأي والاستلاب والفراق مع جمال المكان بيئة وتقاليدا ثم يذهب إلى تصوره في شوق ( إعبيد ) بطل القصيدة المهاجر أو المنفي إلى السويد إلى استعراض كل موجودات المكان وأمكنته ومراحله التأريخية في امتزاج لغوي جميل بين الدارجة والفصحى كقوله : ((إعبيدْ... هذا الوجعُ المجنون المتقن كلَّ فنون المعدان الطالع من ماءِ الهور بصدرٍ ينشجُ كالناي المذبوحْ إعبيدْ... يا جمرَ جنوبِ الله يا صدراً نسجتهُ الطاساتُ الفضيّةُ بخيوطِ حليبٍ جادتْ بعذوبتهْ ضروعُ الجاموساتْ إعبيدْ...هذا السرُّ المفضوحْ بموّالٍ ينشدُهُ الحذّافُ قُبيلَ مواتِ الماء إعبيد... )).. هذا الأدب أينما كتب وفي أي زمان فهو ابن المكان لنهي يعطي للقارئ صورة دلالية ومؤرشفة عن طبائع الهور وخصائص حياته لهذا كانت الكتابة عن المكان بشتى صوره تمثل شجن الحياة وافتراضاتها وكل ما كتب كان يعطي الدليل على أن المكان كان ويبقى مكانا خصبا للمشتغلات الأدبية وانه منجم ثر لتخيل الحالة الإنسانية يراد الكتابة عنها وان كان الرحالة والمستشرقين الجانب هم أول من أسس لثقافة المكان في حداثتها ونقل وقائعها الخافية عن الكثير من المجتمعات الأخرى بسبب عزلة المكان والنظرة الخاطئة التي أرى إن بعض الأدبيات ظلت تؤسس لها نتاج ظرف اجتماعي واعتقاد يمت إلى روح القهر والتي تكاد تكون غير منصفة لبيئة المكان وتقاليده ولكنها كتبت ربما في قناعة فكرة ما أو تجربة محدودة كما في رواية القاص العراقي فيصل عبد الحسن الموسومة ( عراقيون أجناب ) والتي تحدثت عنها الناقدة العراقية فاطمة المحسن في سياق الحديث عن مجموعة قصصية للكاتب نفسه بعنوان ( أعمامي اللصوص ) والمقالة نشرتها الكاتبة في جريدة الرياض السعودية اليومية بعددها 12725 في 24 نيسان 2003 . قولها عن الرواية : ((قبل سنتين نشرت لفيصل عبد الحسن رواية عنوانها "عراقيون أجناب"، وقد أثارت اللبس في فهم مقاصدها، وتعرضت إلى النقد واتهم صاحبها بتمثيل أفكار السلطة. والحق إن الرواية قدمت مادة تحفل بالانتباهات السوسيولوجية والانثربولوجية، وان جاءت من دون تدبر قصدي، ولا وضعت في إطار روائي يوحي ببعد معرفي، فهي تدور في منطقة الأهوار، حيث تعرض سكانها إلى إهمال واضطهاد طائفي منذ عصور قديمة، والرواية تقف بين كشف واقع حال هذه المناطق، أي الحديث عن الظلم الذي لحق أهاليها، وفي الوقت عينه تبدو كما لو إنها تأخذ مسلك الناس وعاداتهم مأخذ التهكم.)) .. لا أعرف دوافع رؤى قصص فيصل عبد الحسن اتجاه المكان وأهله ولهذا فأن استنتاج السيدة المحسن إزاء رؤية القاص لتلك البيئة في قراءتها ل (( أعمامي اللصوص )) تتلخص فيما يلي ((على مادة يحركها الخيال الشعبي والبيئة الشعبية، متخففة من حمولة اللغة الأدبية في الكثير من المواقع، ولكنها أيضا تمزج الحكاية المجازية بالصورة الواقعية. التهكم الذي يغلف مادة بعض القصص، يستطيع تجاوز واقعية الصورة باتجاه البحث عن معايير فنية للنقد الاجتماعي لا تعبأ بتزين الحياة قدر ما تمعن في تغريبها ومسخها، كي تجد معادلها في منطق اليأس من الإصلاح. )).. وهذا يقترب مع رؤية القاص عبد الستار ناصر واستغرابه لدوافع القاص فيصل عبد الحسن التي لا يعرف مبرراتها بشكل واضح سوى قراءته للحدث الاجتماعي بشكل شخصي عائد لإحساس اجتماعي ما يهم القاص عبد الحسن ليخرج بأكثر من حصيلة اتجاه الشخصية الأهوارية في عمليين هما ( رواية عراقيون أجناب و أعمامي اللصوص ) والتقاء نظرة عبد الستار ناصر مع الدكتورة فاطمة المحسن تأتي في قراءته لمجموعة فيصل عبد الحسن والمنشورة في عموده الأدبي الأسبوعي في صحيفة الزمان بعددها العدد 1864 في 17 / 7 / 2004 : ((وفيصل عبد الحسن كما نري يمتلك أرشيفاً محترماً من حكايات (أعمامه اللصوص) وهم لصوص إلي حدٍ ما كما يقول الجد الأكبر، أما الضحية التي يسلبونها كل شيء فهي من جنس (المعدان) وهم سكان منطقة الأهوار في جنوب العراق وتعود أصولهم إلي السومريين أهل البلاد الأصليين وهم يعيشون عادة علي صيد الأسماك وتربية الحيوانات ومنها الجاموس، ولا تدري لماذا يتلذذ المؤلف بالضحك منهم وعليهم؟! - جدتي تعتقد أن المعدان من المشركين الكفار وسرقة حلالهم واجبة وتبيحها الشرائع والدين وهي مفاهيم خاطئة لا نعرف من أين توارثها أهلنا؟ ص 49. لكن المؤلف ما ينفك يسخر منهم على طول الجزء الأول من حكايات أعمامه السبعة، بل تشعر – أنت القارئ- أن سوء الفهم بشأن المعدان لم يكن اعتباطياً، بل هو أمر مرسوم قبل الكتابة وبعدها!)).. أننا نضع هكذا تصور أدبي عن المكان في مغايرة عن قراءات أخرى لكي نثبت أن المكان لايعني الصورة الأيجابية دائما في تصور المحرر لبعضا من خصائصه . وان اتفقنا مع طروحات الكاتب أو لم نتفق ففي النهاية نحن نحصل على أبداع كتابي يهم المكان أي كان شكله أو غرضه لأننا لسنا معنيين بدافع الكتابة وتأثيراتها بالنسبة للمبدع نفسه ولكننا نجد من بين الكثير من القراءات لمثل هذه المكنة قراءات انفرادية بهذا الشكل لأسباب شتى تخص طبيعة القرينة التاريخية بين المكان وما حوله وتلك القرينة خلقت عبر حقب طويلة من الزمن مفارقات ومعتقدات وتصورات وصور وانطباعات موروثة عبر تعاقب الأجيال وليس ندعو إلى تغيرها بل إن ناتج القراءة يمكن أن يخلق تصورا أخراً في صالح المكان أو ضده وهذا آت من طبيعة المادة المكتوبة ومدى صدقها . تكلم الأدب العراقي عن المكان كثيرا وتنوعت التعايشات والقراءات ومنها قراءات ولدت في ظروف صعبة وحرجة كتلك التي حدثت أيام الحروب ويمكن أن نحصل من أدب الأهوار الكثير من الحكايات الشفاهية عن المكان أيام الحرب في أزمنة لا تحصى منذ سومر وحتى العصر الحالي ومنها حروب التحرر التي قادها سكان الأهوار ضد الغزوات الأجنبية بشتى مذاهبها وفتراتها التاريخية فلقد كان لهم واقعة حتى من جيش الأسكندر المقدوني وولاة أمية وبني العباس والصفويين والترك والإنكليز وفي كل مرة كان أهل الأهوار يثبتون للغازي توقهم الدائم للحرية وكما حدث في نشيدهم وهم يغرقون الدراعة الإنكليزية في سوق الشيوخ : (( خبر لندن وأهل المليكة بان الهور والسايح والعكيكة تره أذراع المعيدي كوي ولاهي ركيكه َغرك مركبهم بالطينة )) وهم يقصدون في مهوالهم هذا .. الملكة فكتوريا ..وإنهم من الهور ومناطق السائح والعكيكة وهي من سواد مدينة سوق الشيوخ ..بأن سواعد أهل الأهوار قوية وبها اغرقوا المركب الإنكليزي بطين مياه النهر. أعتقد مع كل التفاصيل لجزء من ذاكرة المكان الإبداعية أن الأمر أرتهن بمسوغات وجودية أملت على المبدع شروطا معينة تهم طبيعة ما يكتبه وأني اعتقد إن عدا الموروث الخرافي للحكاية الميثولوجية فأن وعي التأسيسي المتحضر للحديث عن ثقافة المكان وروحه آتية من كشوفات الرحالة والمستشرقين الأوائل الذي بدءوا يقرأون المكان ويكتبون عنه بدءا من القرن التاسع عشر ولكن أدبيات البيئة الأهوارية ظهرت في أغلبها في مؤلفات صدرت في منتصف القرن العشرين وكان فيها ثناء ووصف أدبي لمكونات ثقافة المكان ومرجعياته كما فعل كافين يونغ في كتابه العودة إلى الأهوار الصادر بترجمتين عربيتين عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــ بيروت . وترجمة أخرى عن دار المدى ــ دمشق وقيمة هذا الكتاب ــ الوثيقة ــ أن يونغ وثق وتحدث في مقدمة طويلة للكتاب عن ثقافة المكان ومرجعيته الحضارية العريقة منذ العهود السومرية وحتى يومنا هذا وكان يونغ يعود إلى الألواح والمرتسمات ونصوص التوراة ليؤكد بان هذا المكان ليس بيئة بوهيمية مثل أي قرية في مجاهل أفريقيا أو الأمازون كما ساد شيئا من هذا المعتقد عند بعض الأوساط الأستشراقية بل إن المكان كان حافظة لعهد من الثقافات الأولى لهذا كان كالفين يونغ يرى : إن روح البيئة والمعتقد والأرث كونا شخصية حادة ونبهة وغيورة . وتلك الشهادة يمكن أن تعد ركيزة بنت عليها الذاكرة الأدبية العراقية تصورات النص وقيمته الأخلاقية والأدبية والتربوية والروحية.. ولأننا درسنا في فصل سابق رؤى الكتب المؤلفة عن عالم الأهوار من قبل الرحالة والمستشرقين فأننا نسعى هنا لقراءة الجهد الإبداعي للكاتب العراقي وقدرته على قراءة المكان بذات الحماس والنظرة الثاقبة التي حرس على تأسيسها أولئك الرحالة والمستشرقين وهي رؤى لتجاورات احكمت في الذات العراقية المبدعة ما تعتقده إن المكان مصدر خصب للإلهام وغني بالتجارب وعليه فان المعايشة والولادة والشعور بالانتماء إلى هذا العالم الساحر دفع الكثير لكي يجعلوا من بيئة الأهوار عناوينا لنصوصهم الإبداعية كما فعل القاص جمعة اللامي وفهد الأسدي وعبد الرحمن الربيعي وجاسم عاصي ووارد بدر السالم وغيرهم . ويكفي إن واردا كان من الشجاعة أن يحتفي بهذا العالم بقوة وخصوصية ويطلق على واحدة من أهم مجامعيه القصصية أسم ( المعدان ) التي وصفها الناقد الدكتور قيس كاظم الجنابي في دراسة له عن المجموعة (( يوغل وارد بدر السالم إلي أعماق الأهوار في جنوب العراق ليصور نماذجه الإنسانية في هواجس وخصوصيات تتعامل مع المكان تعاملاً خاصاً مفعماً بالتواصل والانتماء حتي إن الواقع يتحول إلي نوع من فنطا زيا الأحلام والسحر، في كل إحساس عميق بالعزلة والخوف والصراعات الدائمة مع البيئة والآخرين ففي أول نص كتبه بوصفه توطئة لقسمي المجموعة القصصية (المعدان) عنوان (مي أيدين فردوس مستمر) ثمة إشارة إلي سحر المكان وجاذبيته وإلي وجود جغرافية عفوية بريئة، وصفها بأنها تكرس تاريخاً متراكماً في أسراره، وأنها خلقت حضارة وإرثاً ووعياً، وهذا ما يجعل هذه الجغرافية نوعاً من الانتماء والتعبير عن واقع متفرد لكنه هنا واقع ينطلق من منظور القاص وتفاعله معه، بمعنى أن القاص يشكل عدسة تمخر من خلالها ظلال الحياة إلي القارئ )) وقصة المعدان والمنشورة في مجلة الأقلام العدد الأول لعام 1988 وحملت القصة عنوان مجموعة وارد بدر السالم القصصية وكان موقعها في المجموعة بالصفحة 79 والصادرة عن دار الشؤون الثقافية عام 1995 . وارد بدر السالم في قصة ( المعدان ) كشف بجرأة وتقنية نصية محترفة عالم من عوالم الذات الأهوارية وهي تقرر أحكامها وسنائنها وفق التصورات الطاغية لشيخ العشيرة وفريضتها حتى لو كان هذا التصور غرائبيا كما فعل شيخ آل موزة في حكمه مع معضلته مع آل بزون وكان وارد في هذا يرسم فنتازيا رائعة للمكان ويشكل من الحدث والعرف عقدة جدل الحياة وطغيان موروثها القاسي في انتماءه إلى حكمة الفريضة وحكمه وكان تنفيذ حكم الفريضة بهذا الطريقة الغريبة والشاذة مثلها وارد بدر السالم في تصوير جميل رسم بأطر المكان والبيئة ومجوداتها : (( يا شيخ عذاب ..لن يرغمنا احد على فعل ما تريد ولو يصير الهور احمر بدمائنا . وأنت تعرف كم هي يابسة رؤوس آل بزون ولكنني أعطيك الحق فما تقول له يجري لذلك ماتقراءه نواميس العشائر ، فالعار عار ولو جاء من بقرة . كان صوته يتصادم في أركان المضيف ذي الثلاث عشر شبة فيملأ أسماع الجميع إلا رجاله فقد أحسوا برغم نبرته الواضحة ، إنه مخذول تماما وإن كلماته تحترق على وهج اللوكسات التركية الساطعة وانه يجاهد كثيرا كي يظل قويا وموازيا صاحب الرأي السديد والقائل كلمة الحق . ثم التفت إلى أقرب رجاله قائلا بتسليم : العشيرة لا تحتمل أصبعا فاسدا بينها : هذا قدرنا ولاعيب في الثأر ! ) أن وارد كان مصورا بارعا في الحديث عن حقيقة هذا العالم ومكنوناته لتأتي كلمة الدكتور عبد الاله احمد في الغلاف الخير بحق مجموعة المعدان دليلا على صدق ما رأيناه في نص المعدان : (( قصص هذه المجموعة ما كان منها قصيرا وقصيرا جدا تتفرد في كونها تتوغل في عالم مجهول ندر تناوله في القصة العراقية وهو عالم الأهوار الساحر والغامض وقراه القصية التي لا تقع عليها الأنظار )) كاتب عراقي آخر وظف المكان ونسيجه الاجتماعي من جهة وعي امرأة من ذات البيئة هي ( غدارة ) هو الروائي زيدان حمود في روايته (( خرائط الكائنات )) وهي في تفاصيلها الكثيرة قراءة عميقة لذلك المجتمع وتفاصيله عبر كفاح امرأة امتلك البأس والحكمة والأصرار عبر أثباتها لوجودها وحقها في تربية ما خلف لها من بنون وأبناء وهي التي تقراها الرواية كامتداد لشكيمة وبأس الأنثى العراقية من زمن سمير أميس وشبعاد وفدعة وغيرهن من ذوات الوجود التاريخي لهذا صورت الرواية هذا الكائن داخل أهله وبيئته في صور ومداخلات وجودية لا تحصى في الكثير من المواقف والعقد والمثابات . وكان القاص زيدان حمود يعتمد كثيرا على ذاكرة السماع وإدراكه بان له صلة رحم وقرابة بالمكان وشخوصه لهذا جاءت قراءته عميقة ولغتها ثرية ومؤثرة وان معظم شخوص روايته هم حقيقيين وعاشوا في ذات المكان الذي يصفه القاص بأنه مكانا للأجداد والأسلاف ويقصد أرياف الأهوار ومحيطه: (( في الزمن الذي يسيطر فيه الاحتلال العثماني حيث أصبح سيف الأغا بديلا عن الشريعة والدستور ، ففي تلك الفترة التي عم فيها الجوع والتسلط والفتك والصراع القائم بين قوتين غاشمتين تتصارعان في أرض ليست لهما ، هدفهما نهب الخيرات وإذلال الشعوب حيث كان الناس يعانون من التخلف والقهر وتفشي الأوبئة والأمراض أضافة إلى التطاحن والقتل الذي يكون لتفه السباب والتي تكون ضحيته المرأة التي تعطى سبية لأي شخص بلا حساب ولا قانون سوى قانون الدية والفصل ، حيث يتعادل دم القتيل بدماء الفتيات الأبكار الآئي يسقن كما الضحية إلى الجلاد في زمن غاب فيه الحاكم وتسلط فيه المحكوم تعطى المراة تعويضا عن حالة لم تقم بارتكابها وتشارك بفعلها . )) .. هذا الحكم الأجتماعي بمفارقاته ظل مسيطرا على التناول الإبداعي الذي يهم بيئة الأهوار واغلبه في النتاج الروائي والقصصي والسر إن التنوع في الطبائع وغرائبية بعضها مثل لدى المبدع العراقي موضوعة دسمة تقرأ من وجوه وجوانب متعددة وان اختلفت مشاهداتها وهذا عائد إلى أن طبيعة مجتمع الأهوار طبيعة تغريبية قامت في تأسيسها الذهني والعقائدي على الموروث الصارم الذي لا يحاد عنه مطلقا وهو يسير ضمن أفكار وقوانين العشيرة حتى فيما يخص العلاقات الأجتماعية بشتى صورها الشاذ منه والصالح لكن جمالية الأمر يكمن في الصياغة والتناول لهذا العالم من وجهة نظر المبدع نفسه حيث تختلف القراءات للمر بين قاص وآخر كما في قصة ( عودة طائر الفجر ) للقاص هيثم محسن الجاسم وهي ذاتها عنوان مجموعته الصادرة عام 1999 . والقصة مليئة بعاطفة العلائق الأنسانية التي ينحرف فيها ميل الآخر خارج نمط وتفكير مجتمع الأهوار فتكون النتيجة أن يلاقي المخطئ جزاءه بأي قدرية كانت . قدرية العرف العشائري أم القدرية الإلهية . والقصة هي حكاية أخرى لهاجس أنثوي تكرر مشهده في الكثير من القرى المغيبة في أزليتها من طبائع الحياة لتأتي رسم الجاسم لشخوص القصة المراة المتمردة وزوجها الوديع الطيب صورة تنقل حقيقة المكنون للذات التي سكنت المكان ( مكان الأهوار ): ((يسكن راشد قرية (الهويشة ) بهدوء . لم يشتك من احد ، ولم يشتك أحد منه . يحب فوزية حبا كبيرا ، لم يصادر حريتها الشخصية أبدا ، كذلك ، لم يعاملها كالآخرين في بيوتهم . لم يكلف فوزية بعمل مرهق قسري . عاش راشد حياة بسيطة جدا . يخرج كل فجر للنزهة والصيد ، وحده ، في زورقه الثمل الراقص على موجات الهور اللاطمة لخدوده بغنج يقتاتون على السمك والطيور ، وتشتري فوزية ما تحتاج إليه من السكر والشاي والدقيق بما تحصل عليه من دنانير من بيع السمك والطيور . استمرت الحياة لذيذة وهادئة في بيت راشد، حتى جاء يوم غير كل شئ . عثر راشد على أعقاب سجائر في حوش الدار . أنتظر ذاك اليوم حتى وقت متأخر من الليل ، إن تقول فوزية شيئا ، لاشئ ، راح تأكله الوساوس والظنون ، وغاب عقله في ضباب قاتم من الشك .)).. تناول آخر للمكان وطبوغرافيته السكانية عبر رؤى الأسطورة والفنتازيا تأتي من قبل قاص عراقي آخر هو فليح خضير الزيدي في قصته الموسومة ( زوال ) . ومثل عوالم الزيدي القصصية تأتي زوال الامتدادات للتفكير الأستقرائي والأشغال الحفري الذي دأب عليه الزيدي في منجزه القصصي وهو يحاول أن يدخل شخصياته في مختبرات كشف وتحليل وتأويل وكذا يفعل في زوال وهو يبحث عن أجداده من السيركاوية من سكنة الأهوار الأصلاء الذين امتزجوا بالمكان وهضموا روحه بشتى وجوهه ولكنهم في لحظة ما غابوا من خارطة الأهوار واختفوا في مجهول يقدره الكاتب بنتاج وصول القارئ إلى فك طلسم ذوبان العشيرة في الزمنة التي لا تعطي القصة لها مستويات واضحة لا حاضرا ولا قديما وذلك ما يميز سرد الزيدي وتوظيفه للأمكنة داخل نصوصه : ((لم تنفع كل الجهود التي بذلتها في الفترة المنصرمة للتنقيب عن عشيرة السيركاوية الزائلة من خريطة العشائر العراقية اليوم والمتبقية في ذاكرة الطاعنين في السن من رجال العشائر المجاورة لهم من عشائر ال- مايد والهصاصرة وال إبراهيم والجماملة وال شدود والعساكرة والعبيد والشديد وال حسن وال جويبر وصولا إلى البو صالح وال رميض.. معرجا على مراكز الشرطة ومخافرها والنبش في سجلاتها المصفرة والقريبة من حافة مستنقعات القصب القصية ، ذهابا إلى عمقها مخفر شرطة بني أسد حيث كان في الخدمة اقدم مفوض شرطة هناك : - اترك هذا الموضوع يا ولدي .. لأن السير كاوية رجالا ونساءًً هم مجانين المستنقعات.. وهم الذين احرقوا هذا المخفر لأكثر من مرة وضاعت كل الإفادات القديمة والوثائق التي تبحث عنها .. هم كانوا موجودين فعلا .. ولكنهم أبيدوا عن أخرهم ولا اعرف شيئا غير ذلك يا ولدي .. لم أجد ما يروي فضولي المتعطش لسبر أغوار عالم صغير قد افتتنت به دهرا وحصلت على خيوط واهية للوصول إلى ماهية ذلك العالم الغامض)) ظل هذا المكان ( عالم الأهوار يتمسك بأخيلة الزمن عبر محاكاة الذاكرة المثقفة لهذا العالم وأستغلال كل رموزه حيث قدر للأدب أن يتناول المكان ومحتوياته من شتى الوجه والمراحل ولأننا ندرك أن المكان هو بدء قديم للحكاية أيام كانت الأساطير والحكايات الخرافية هي شغل الشاغل لمادة التدوين والتي تبنى عليه قناعات البشر وطقوس عباداتهم فأن الكاتب العراقي المعاصر أستطاع أن يوظف هذا الموروث الغني ويمزجه بالواقع والحياة وتفعيله وعبر هذا الاتجاه كانت الكتابات تأخذ من الرموز الأسطورية والحكايات القديمة مادة للتوظيف ورسم رؤى المتخيل الجديد الذي نتأمله ونريده للعالم الساحر (عالم الأهوار ) وذلك ما عمل عليه القاص نعيم عبد مهلهل في نصه ( فتاة حقل الرز ) المنشورة في مجلة الموقف الأدبي السورية في عدد حزيران 2003 ونشرت أيضا في مجلة مسارات في عددها الأول 2005 . والقصة هي حكاية الهور مع الحضارة الجديدة والحرب والعولمة عبر تناسل الأجيال وتغيرات الذاكرة ونأي بعض أبناءه إلى المجاهل البعيدة ( أوربا ) فيما بقيت الأجيال الوليدة ملتصقة بالأرض وانتظار القادم المغيب رغم الحروب والجفاف ، فأن روح المكان السومرية تديم الروح الحالية وتخلق الأمل لدى بطل القصة بأن المنفى سيعود يوما على ترابه الأصلي حتى ولو على نعش وهو ما حصل في نهاية القصة : (( تمتد قريتنا في منحدر من ضوء أخضر، هو ما يعكسه الماء على الجزيرة الصغيرة التي أسس عليها أعمامي مملكتهم، وقد أسميتها افتراضاً –أور آل بوكامل –وهو جدنا الأكبر، الذي حفر في أخدود الزمن غربة عجيبة استطاع فيها أن يخلق بلبلة في المدينة التي صمم أشواقها مدحت باشا وأعطاها لمهندس بلجيكي لتسير على جادتها تصاميم عاصمته –بروكسل –ففي أوراق خاصة بهذا المهندس عثرت عليها ذات يوم في غرفة الأضابير بمبنى السراي –إنه كان يدركرؤى هذه الأرض ففضل أن تكون طرقتها مستقلة مثل نظرات فرسان الصحراء، أو مثلما النخلة التي ألهبت فيه حماس العمل وهو يضع أمام ناصر الأشقر تصورات ميدانية عن مدينة يستطيع الوالي إغراقها في أي لحظة –وكان جدي كامل أحد عمال السور عندما صفع الصباغ العثماني لأنه سب العشيرة، وهرب إلى عمى المدى السومري ليؤسس سلاسة مشاغبة ساهمت في أكثر من موقعة وأهمها أنها ساعدت فارس الصحراء –بدر الرميض –في ثقب المدرعة البريطانية –فايركنك –وإرغام جنرالات الملكة فكتوريا على احترام رغبات شيخ آل بو صالح.).. ومثل هذا يفعل القاص محمد سعدون السباهي بتصوره الأخر عن المكان وقدرته على عكس مشاعره على المبدع كونه أصلا من أب ولد وعاش في أديم الهور وقراه وتحديدا قرى هور الفهود ففي مجموعته القصصية ( طيور القيامة ) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية في 2004 هناك قصة جميلة ومؤثرة عنوانها (شاهد إثبات ) وهي تتحدث عن وقائع الحدث الجديد مسبباته عبر سرد حكائي للجد الذي هو سليل المكان الأزلي ووليده الجنوب ( الهور ) والقصة هي رؤيا توثيقية قصصية عن حالة الأستلاب التي شعر بها إنسان ذلك المكان ومدى الحسرة والشجن الذي يصيب الذات حين تجبرها على الاقتلاع من جذورها والذهاب بها إلى المدينة حيث الحياة لا تطيب إلى الجد إلا بين غابات القصب وغناء الصيادين لهذا كان الجد يستخدم موعظة العمر ليرشد بها الجيال القادمة وكأنه صوت سومر يعيد صدى الأشياء بحكتها ودروسها : (( ينفض بمراره رأسه الصغير الحليق ، يسنده على الجدار ، يمسح بكم ثوبه عينيه النديتين ، يلعن ضعف البصر ووهن ساقيه ! إذ لم يزرها منذ سنوات ، يطمئن نفسه بأنه سيعتذر لها وذلك ساعة ينتقل إلى عالمها فقد أوصى أن يكون مثواه الأخير إلى جانب قبرها ، وهي من دون شك ستتفهم من جانبها ظروفه . سيشرعان منذ الدقائق الأولى للقائهما المنتظر ببناء كوخ جديد شبيه بكوخهما ذلك الذي أقاماه بجوار مسطحات الهور الساحرة في أحدى قرى الجنوب الخصيب)) وهكذا نصل إلى يقين أن المكان بخصائصه كفيل بخلق نمط متفردا من الثقافة . والمكان يعكس سماته بشتى تفاعلاتها . وكان التفاعل السياسي هو منجم لا ينضب لرؤية الأدبية عند كل الشعوب . وكذلك فعل هذا التفاعل عند قراءة الذاكرة العراقية المبدعة لتأريخ الأهوار ومحطات الحرية في أزمنتها الكثر وعلى هذا الهامش دونت الكثير من الأعمال الأدبية الرائعة التي تجسد نضال أهل الهور ودفاعهم عن سلام قراهم وحرية الحياة التي مورست عليها شتى أنواع القسر وفي هذا الأتجاه كتبت أعمال أدبية كثيرة وعملت أفلاما سينمائية وثائقية جسدت الحياة بكل رغباتها وأحلامها عبر رؤى الكتاب والمبدعين ومنها أفلاما نالت شهرة عالمية وتعرض مخرجيها للتعسف والاضطهاد والنفي كما حدث للفلم العراقي ( الأهوار ) للمخرج قاسم حول وبيني وبين المخرج قاسم حول مراسلات كثيرة تتحدث عن هذه المضايقات والصعوبات . وكان الفيلم وثيقة حية أفردنا له فصلا كاملا في كتابنا هذا . ولأن المكان كان مؤى للكثير من الحركات التحررية فقد كتب من عايشوا التجربة الثورية ومارسوها في عمق الأهوار الكثير السير الذاتية والقصائد والقصص وكان للذاكرة العراقية المبدعة الشاعر مظفر النواب الكثير من القصائد الرائعة عن الهور وعالمه وثورته وكم أريد لهذه القصص الرائعة أن تمحى من ذاكرة الشعب وبعضها تحول إلى أغاني خالدة كأغنية الريل وحمد التي أداها بأتقان المطرب ياس خضر لكنه بقيت تتناقل من قبل الأجيال جيلا بعد جيل ومنها قصيدة حمد بمطلعها الشهير: حمد تفكه بثنايا الهور والبيرغ ركد نصه حمد والعار طر الهور ما مش زلم وتكصه . وكانت تجربة هروب سجن الحلة الشهيرة من قبل بعض السجناء الشيوعيين محفز للكتابة عندما قاد أبطال هذا الهروب انتفاضتهم في هور الغموكة القريب من مدينة الشطرة وقد أصدر قبل عام احد المشاركين في هذه الأنتفاضه السيد عقيل حبش الجنابي كتابين وثائقيين للمكان وما جرى عليه من عمل ثوري وحسب أزمنة ذاكرة الكاتب وقدرته على السرد والوصف هما كتابي ( شهادة حية من لهيب المعركة ــ انتفاضة هور الغموكة في عام 1968 ) عن منشورات دار الغد وكتاب الطريق إلى الحرية عن دار الملاك للفنون والأداب ) .. غير إن رواية الكاتب أحمد الباقري ( ممر إلى الضفة الأخرى ) والصادرة عن دار قرطاس في الكويت عام 2004 وهي رواية تسجيلية تناولت نفس حدث انتفاضة هور الغموكة ولكن بصيغة أدبية بحته معتمدة على الوثيقة التي كتبها عقيل حبش ولكن اختلاف الباقري عن السيد حبش أن الباقري أعطى للحادثة بعدا أدبيا صرفا وحول المتن الروائي إلى أبعاد أوسع في تناولها الإنساني وقدرته على توظيف روح الشخوص وتحركهم داخل مساحة المكان ( الهور ) وهذا عائد إلى حرفيته وقدرته على توظيف ما سمعه من عقيل حبش أو قراءه ليبني نصا قد لايمت بالصلة المباشرة إلى محتوى رواية حبش ولكنه قد يلتقي معها في روح المعنى فقد كانت الرواية عبارة عن صورة لسيناريو مشهد ُينظر إليه من أبعاد شتى وفي النهاية يكتمل القصد المراد من جدوى كتابة العمل الذي تحدث كثيرا عن الأهوار وطبيعة العيش فيها في ظروف صعبة وقاهرة عاشها أبطال الرواية . في النهاية يبقى هذا العالم الساحر مصدر الهام وإبداع للذاكرة الأدبية التي أستطاعت أن تعايش المكان بفضل الانتماء إليه ولادة أو معايشة . فلقد خلقت الأهوار بأجوائها الساحرة وطبيعتها البكر أجواء ملائمة لمن يريد أن يوثق هذا العالم وكانت مجمل العمال الإبداعية المكتوبة عن الهور وعوالمه مكتملة بالصدق والحسية فهي إنما تنقل واقعا ساحرا وحياة عاش فيها أناس امتزج بهم التاريخ وغاب عنهم وغابوا عنه لفترات متفاوتة من الزمن لكنهم مثل عنقاء دائما يصنعون من رماد الفجيعة حياة أخرى..
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة جدا 12
-
ميثولوجيا الأهوار..وزارة الموارد المائية والأمانة الوطنية في
...
-
الماني يرطن بالكردية وياباني يتحدث بلهجة بغداد ..وانا بلغة ا
...
-
قصص قصيرة جدا
-
قارئ الجريدة والكشوفات الجديدة
-
مندائيات
-
ميثولوجيا الأهوار ... الأهوار في عيون المستشرقين والرحالة ..
...
-
ثوب المسيح أكمامهُ قصيرة ..ثوب المطر أطول قليلاً
-
بالرمل لا بالخيمة تلوذ الحياة
-
عود الفارابي
-
دمعة رامبو
-
ميتافيزيقيا خد الوردة ونباح الكلب
-
مديح بنزيف الخاصرة ..تيه الذاكرة والجسد
-
ميثولوجيا الأهوار ..طبيعة تستغيث وأحلام عودة المياه الى أزله
...
-
المعدان عرب الأهوار زادهم الفطرة والتشيع والكرم
-
قبعة مكسيكية ..وموسيقى موزارتية ..وشاي مهيل
-
سيف المتنبي
-
ميثولوجيا الأهوار..الأهوار والمندائيون ..خليقة تعود الى آدم
...
-
عين المعري
-
ميثولوجيا الأهوار ..تجفيف الأهوار ..تجفيف لأحلام الأنسان وال
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|