|
الطبيعة السوسيولوجية للغة البشرية
عبد الرحيم بن داود
الحوار المتمدن-العدد: 5000 - 2015 / 11 / 29 - 14:54
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
شكلت اللغة في الزمن الحاضر، كما هو الحال في الغابر، مرآة الشعوب ووعاء ثقافتها وحضارتها وإبداعاتها. إذ هي ذاك الوعاء الحاوي للثقافة ووسيلة التفكير الذي يحدد رؤية العالم ونواميسه، لذلك شكلت معرفتها أهم ركيزة لتحصين الهوية، والذات، والشخصية. وإن الدفاع عنها واجب بالضرورة يضمن للأمة استمراريتها ويحفظ لها مكانتها المنوطة بها بين الأمم الأخرى، كما جاء في قانون ابن خلدون اللغوي: "إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم". كما تقوم اللغة بدور المميز بين الشعوب، فمثلا ميز اليونانيون أنفسهم عن البربر لأن البربر شعب لا يتحدث اليونانية، واستخدم اليهود في الأندلس اللغة العبرية، بوصفها وسيلة تحفظ طقوسهم الدينية، بينما استخدم الأطباء اليهود في بولندا مصطلحات طبية عربية بدل اللاتينية التي كان يستخدمها الأطباء المسيحيون . وبذلك يصح القول، إذا اعتبرنا اللغة كائنا حيا واجتماعيا في الآن ذاته، فهو كائن حي، لكونه يتأثر كسائر الكائنات بعوارض الزمان والمكان، من تغيرات وتحولات وتقلبات. وكائن اجتماعي، باعتباره يتغذى من الأحداث الاجتماعية، ويتأثر بعوامل التطور التاريخي. ولهذا عدت اللغة وسيلة التفاهم بين البشر، يكتسبها الإنسان من المحيط الذي يعيش فيه. فهي لا تولد بولادة الإنسان ولا ترتبط بخصائصه البيولوجية أو العرقية، بل هي ظاهرة مكتسبة تخضع للشروط التي يعيشها المجتمع الإنساني، وهي تنعدم وتتلاشى بانعدام ذلك المجتمع. وما يؤكد هذا الطرح "ما حدثنا به الكاتب جول فيرن في روايته الجزيرة المسحورة عن شخص اسمه آيرتون، كان أصحابه المستعمرون قد ألقوا به فوق جزيرة نائية بسبب جريمة ارتكبها، وبهذا انقطعت حياته عن البشر وانفصمت صلاته بالإنسانية، حتى أنه بتتالي الأيام فقد المقدرة على الحديث وعلى التفكير أيضا. فلما أعيد لعالم البشر راح يسترد بصورة تدريجية مقدرته على النطق والتفكير، وعادت إليه موهبة الكلام وأصبح فردا طبيعيا في المجتمع" . وهذا ما يعني استحالة أن تعيش اللغة وتتطور خارج الجماعة الإنسانية، فلا لغة دون مجتمع، ولا مجتمع دون لغة، حتى أن من ينشأون ويترعرعون مع الوحوش يألفون حياتهم هذه، ويفقدون بالتالي سماتهم الإنسانية. وقد أورد عالم النفس الهندي ريد سيتغ قصة لطفلتين عثر عليهما سنة 1920، في وجار للذئاب كانتا تعيشان مع صغار الوحوش، وكانت الأولى تقترب من الثامنة من عمرها، بينما كانت أختها في حوالي الثانية، وسرعان ما توفيت الصغيرة بعد العثور عليها، أما الثانية فعاشت عشر سنوات عجز العالم الهندي خلالها عن إعادتها إلى الجماعة البشرية، فقد أورد [هذا العالم الهندي] في مذاكراته أنها ظلت كعهدها السابق تحبو على أطرافها الأربعة [...] كما كانت تعوي خلال الليل وتنام في النهار عند زاوية الحجرة، متجهة بوجهها إلى الجدار [...] وخلال سنوات أربع تعلمت ست كلمات فقط، زادت في السنة السابعة فأصبحت 45 كلمة [...]" . وهذا ما دفع بعض الباحثين لبذل جهود كبيرة من أجل البرهنة والتأكيد على أن اللغة جهاز حي، يخضع لما يخضع له سائر الأحياء من حيوان ونبات، وعلى أنها [أي اللغة] تولد وتنضج ثم تهرم وتموت. ومقصدنا من هذا الكلام أن اللغة تكتسب من الآخرين، فهي لا تولد تلك الولادة البيولوجية المعروفة، بل تنشأ انطلاقا من نشأتين: "نشأة حينما أخذ الإنسان يلفظ أصواتا مركبة ذات مقاطع وكلمات متميزة للتعبير عما يجول بخاطره من معان وما يحسه من مدركات، ونشأة حين يشرع الطفل بتقليد أبويه والمحيطين به فيما يلفظونه من مفردات وعبارات، فتنتقل إليه لغتهم عن هذا الطريق" . أما عن كيفية موتها، فإما أن تموت اللغة موتا طبيعيا من الكبر والضعف والتقدم في السن ، وإما أن تموت قتيلة، وذلك بفعل الغزو المسلح، وإما أن تموت اللغة بالتسمم، ويبدأ ذلك بتسرب رشح من الدخيل من لغات أخرى تحتاج إليه فتقبله . ولعل هذا هو ما يفسر كون مجتمع لغوي ما، لا يستطيع الخروج عن نطاق سائر المجتمعات الأخرى، فهو ليس منفردا ومنعزلا عنها، بقدر ما هو مخالط للجماعات المتباينة، وهذا الاحتكاك بينه وبين هذه المجتمعات سيؤثر لا محالة على حياة اللغة، فإن لم يكن بالسلب فبالإيجاب أو بهما معا.
#عبد_الرحيم_بن_داود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جيم كاري في جزء ثالث من -سونيك القنفذ-.. هل عاد من أجل المال
...
-
الجولاني: نعمل على تأمين مواقع الأسلحة الكيميائية.. وأمريكا
...
-
فلسطينيون اختفوا قسريا بعد أن اقتحمت القوات الإسرائيلية مناز
...
-
سوريا: البشير يتعهد احترام حقوق الجميع وحزب البعث يعلق نشاطه
...
-
مصادر عبرية: إصابة 4 إسرائيليين جراء إطلاق نار على حافلة بال
...
-
جيش بلا ردع.. إسرائيل تدمر ترسانة سوريا
-
قوات كييف تقصف جمهورية دونيتسك بـ 57 مقذوفا خلال 24 ساعة
-
البنتاغون: نرحب بتصريحات زعيم المعارضة السورية بشأن الأسلحة
...
-
مارين لوبان تتصدر استطلاعا للرأي كأبرز مرشحة لرئاسة فرنسا
-
-الجولاني- يؤكد أنه سيحل قوات الأمن التابعة لنظام بشار الأسد
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|