صبا مطر
الحوار المتمدن-العدد: 4999 - 2015 / 11 / 28 - 18:45
المحور:
الادب والفن
السماء تنزف ذاكرتها البيضاء من أفواهها المفغورة نحو الارض, وتهوي حبات الثلج الناعمة من هوة الخيال السماوي الى الأرض مملكة الحقيقة , كاسية اياها باللون الأبيض في هذا اليوم الشتائي القارس. دمع السماء ينشج ذكرياته المتكسرة على أسطح البنايات ووجه الاشجار العالية وبوابات الصمت الذي يغلف الكون باتساعه. هامت احدى الحبات مع اتجاهات الريح المختلفة وتطايرت الى البعيد في محاولة للهرب من قدرها الملاصق لوجه الأرض, لكن لا جدوى فهي المحبوسة داخل تكوينها الثلجي وأن حالفها الحظ يوما, فأنها ستتحول الى دمعة تنساب على وجنات الحزن الذي يرتعش في الخارج وفي داخل روح ومى التي هاجرت الى هذا البلد البعيد, لتنسى وجعها الذي خلعته على أحد الارصفة هناك بعد ان تكسر حلمها الكرستالي على نتوء حقيقة أخبرها بها يوما رجل!! .
كانت ومى الفتاة العشرينية مسافرة الى أعماق الدنيا بلا اكتراث, بعد ان هجرت البيت والوطن والحب وأطلقت روحها عائمة خارج رداء المكان المكلل بخيباتها . لم يملك حبيبها شيئا ليقدمه لها غير بعض من كلمات الحب التي لاكتها شفتاه مرارا عند مفترق الخيبة التي مرت بها علاقتهما معا, بعدما ظهرت في حياته صدفة كما تظهر الجنيات في أساطير الحب الخالدة , ورسمت في أحداقه ابتسامه سرعان ما انتشر ضياؤها في أفياء روحه المعتمة من جراء الروتين والأيام التي تمر بخذلان متتابع على تقويم أيامه المتشابهة . كانت شابة في ريعان العمر وأزدهار رياحينه, رسامة موهوبة تصنع من ألوانها المشرقة عوالما من نقاء ومحبة, ترسم الحياة بتفاصيلها الجميلة في اللوحات وفي نفسها الطموحة التي تقاوم الخوف والأستسلام أينما وجد, فهي العاشقة المتحررة والثائرة على تقاليد مجتمعها الذكوري المصاب بالأزدواجية. ترسم للمرأة أجنحة من نور لتطير بها على أهداب الكون وتشعل الحب في قلوب معلقة بالكثير من الممنوعات. تمر بفرشاتها على كل ما هو معتم لتحوله بضربة سحرية الى حياة تنبض بالألوان المبهجة وتنطق بالمسرات الراقصة بين أفياء شعرها وأهداب عينيها اللوزيتين. ألتقيا صدفة في معرضها التشكيلي الثاني في بلدها الأم, وراح يتأمل لوحة كبيرة لفتاة تمتلك أجنحة من ألوان الا انها بلا ملامح تبكي. وكأنها المسجونة داخل أسوار نفسها ولم تتعلم يوما الطيران. جوفها الممتلئ يختصر نفسه على أطراف أجنحتها العملاقة. فهي تعشق التحليق في الكون الشاسع ولا تحدها ملامح معينة ولا تفاصيل جسدية مثيرة. حتى شعرها فهو معقود بجديلة بسيطة الى خلف رأسها الدقيق. لوحة مثيرة للجدل تجمّع حولها النقاد والحضور وكل أطلق عليها ما راق له من تحليلات وقراءات وأراء. الا انهم أجمعوا على انها امرأة لا تصلح للمجتمعات الشرقية. !!
أما هو فظل يحوم حول اللوحة ويمسح بأنامله على جناحيها العملاقين المثبتين بقوة الى الارض, مرة يتلفت الى الخلف ومرة يحدق فيها ومرة يمد يده للمرأة ليسحبها خارج اطار اللوحة.!
كانت ومى تراقبه من بعيد وتساءلت, ترى هل يعقل ان يكون هذا الشخص مؤمن بان المرأة ليست سلعة جسدية؟ هل تراه يؤمن بأفكارا تحررية مثيرة للاهتمام؟ هل يؤمن حقا بأحقية المرأة في المساواة بعيدا عن الشعارات الكاذبة وأطنان العبارات التي تتحدث عن ضرورة تحرير المرأة من عبودية الجسد؟ أم انها مجرد محاولة منه ليعرف ان كانت فعلا قادرة على الطيران ولو بعد حين؟
أثار الشاب فضولها وقررت أن تبادر بالذهاب اليه والتعريف عن نفسها كرسامة للوحة. وما أن ألتقت نظراتهما حتى لمع شئ في داخل الروح بهجة من هذا الآتي بلا أستئذان. انه يطرق أبواب القلب خلسة ويردد صدى أغنية الروح التي أستفاقت من سباتها في هذا المساء الناري الابعاد.!!
ترددت ومى في قبول ما يحدث وحاولت مرارا أن تصد الشرارة المتوقدة من عينيه وقلبه وأن تدير نظراتها بعيدة عن كلماته وصوته الدافئ, فهي القوية التي ناضلت دهرا من أجل تحررها من السلطة الذكورية. الا أن شيئا ما قد كسر الحواجز والقيود والألتزامات كلها وجعلها تذعن لطلبه بالخروج سويا بعد انتهاء حفلة الأفتتاحية.
قالت في نفسها ربما يكون مختلفا عن الآخرين؟ ربما أهداني اياه القدر هذه الليلة بعد رحلتي الصعبة في بحار التمرد؟ كانت تأمل من أعماق نفسها ان يكون قادما من كوكب أخر أو عالم آخر أو ثقافة اخرى , وربما تمنت أن يكون مصابا بمرض العصيان الأجتماعي لسلطة الذكورة!.
راحت تحلل وتفتش في قرارة نفسها عن تعليل يقودها الى السبب الكامن في محاولة مد يده الى أجنحة تلك المرأة ومحاولة مساعدتها على الطيران , الا انها لم تجد أجابة واكتفت بالصمت وجعلته يتحدث عن نفسه وعن كل شئ اراد اخبارها به . تمشيا في الشوارع وتشابك نبضهما سويا في مواجهة الليل وانسابت خطواتهم الفرحة على الاسفلت لتعلن لحنا جديدا لقصتهما التي اتسعت وتمددت على مفارق الكون الاربع. كان شابا وسيما, طموحا وذكيا الا انه لصيق بظله الأسود الذي لم يفارقه لحظة واحدة . حمل اليها العالم ووضعه بين يديها في ذلك اللقاء المتفتح الأزهار. تحدثا معا عن ضرورة ان يكون الأنسان حرا وان لا يكون مقيدا بأطاره الجسدي وان يمارس أحقيته في العيش ككائن حر بغض النظر عن فوسيولوجيا الجسد. كان مؤمنا بضرورة أن يحيا الأنسان بفكره لا بجسده الذي سيفنى بعد حين غير معلوم. وفي كل لقاء كان يضع يده في يدها ويجوبان أروقة عالمها السحري الذي يحتويهما هما الأثنان فقط بعيدا عن هلوسة وضوضاء الأخرين. فهما يبنيان عالمهما الواسع الأمتداد بفكرهما وحريتهما غير المحدودة. نسيت ومى أجنحتها المقيدة بالأرض بعد أن حلقّا سويا الى عوالم متفردة في نقاءها وصدقها ومحبتها. لم يريا الناس الذين كانوا يذرعون الشوارع ولم يستمعا الى صوت ارتطام سلاسل روحيهما وحكايتهما معا بالأرض!. فهما عاشقان ينتميان الى أزمنة مختلفة , الى ان ارتطمت سفينتهما المضيئة بذلك الصوت الأخرق المنبعث من خلف أسوارهما المنيعة. كان صوتا من نار أكل المكان وترك الصدى عملاقا يلتهم الليل ونجوم المساء وحكايتهم معا. أنه صوت زوجته المتهدج بليونة يأتيه عبر هاتفه الخلوي تخبره بأن ابنه الصغير محموم جدا ويجب ان يأخذوه الى أقرب مشفى. ترك الرجل ومى معلّقة بحبال الوهم, وحدها بعد ان سرق منها جناحيها وأستقل سيارة أجرة أنطلقت بسرعة جنونية الى حيث يعرف الى أين. أما هي فلقد ظلت وحيدة في ذلك الشارع المكتظ بالبشر تترنح من وقع المفاجئة وتهوي كما حبات الثلج التي تعوم في الخارج وترتطم بالأرض مملكة الحقيقة والصدى يردد كلماته المستعجلة التي أطلقها من شباك سيارة الاجرة, أعذريني فلقد نسيت أن اخبرك بأنني متزوج ولدي اطفال, ورحل عنها تاركا لها ظله الأسود غارقا في الصدى !
#صبا_مطر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟