|
صورة المرأة -الكيان و الإنسان في رواية -الموت بلون آخر
سعاد الحياني
الحوار المتمدن-العدد: 4998 - 2015 / 11 / 27 - 18:30
المحور:
الادب والفن
"الموت بلون آخر" رواية للروائي سامي البدري تصور الموت بأبشع صوره حين يكون مجانيا وعشوائيا. وهي أيضا تصور الحياة مجسدة في ذلك الحضور القوي للمرأة. فضاء الرواية مؤثت بالكامل بالحضور الأنثوي الرافض والساخط . حيث تظهر الجانب المشرق للنساء والذي يظهر تحديدا في الأزمات حيث يفك المجتمع قيده حول النساء ويكون أكثر تساهلا في فتح المساحات في وجه حضورهن الذي يرمم ما يخلفه الموت من خسائر وانكسارات. "موت بلون آخر"، للروائي العراقي سامي البدري، والصادرة حديثا عن مؤسسة الرحاب، للطباعة والنشر في بيروت هذا الشهر، رواية تجسد هذا الحضور فاتحة باب أمل أمام وطن يتداعى يأكل أبناءه أو هم يأكلوه، صارخة أن الأمل في نهضة نسائه وفي رفضهن لذلك الموت العشوائي وحملهن لبذرة الحياة..، وقبل ذلك كله شجاعتهن في مواجهة الموت. ما يميز الرواية هو أنها تقدم شخصياتها الأنثوية تقديما غير تقليدي، فلا تبدو المرأة منكسرة خائفة غارقة في دموعها وضعفها، بل قدمها الروائي، سامي البدري، قوية متزنة رافضة لعبث الموت المحيط بها، وأكثر من ذلك مواجهة له بنفس لامبالاته، كما واجهته لبنى الطيبة أو غسق القوية وحتى صدى الطفلة. ولا تكمن هذه الشجاعة فقط في مواجهة الموت، بل أيضا في مواجهة موت الآخرين، حيث لم يهتم الكاتب بملء صفحات روايته بالبكاء والعويل، بل عوضه بإظهار مشاعر إنسانية تفيض حكمة وفهما لمغزى ذلك الوضع وتتمرد عليه، المرأة بصفة كينونتها الفردية ولإنسانية، وترفضه وتصر على مواجهته " رفض لبنى الهروب من منزلها" و" رفض غسق و زينب السفر الى خارج العراق. ولفهم كينونة المرأة، كما تجسدت في الرواية، سأحاول أن أتحدث عن الشخصيات الأنثوية كما قدمتها الرواية، كل حسب دورها. وحري أن أشير الى أن حضور المرأة كان قويا، سواء بعدد الشخصيات الأنثوية و تأثيرها على سير الأحداث، أو بحضورها و تأثيرها على الشخصيات المذكرة: كمال ومتلازمة اليف و عقدة الإضطهاد؛ عامر وعشقه لزينب وعقدة الرفض المكتوم التي إكتنفت علاقتهما، وكذلك شخصية إليف، الأنثى الغائبة الحاضرة في أحداث الرواية وحياة بطل الرواية، كمال عبد العظيم الروّاف. تبدأ أحداث الرواية بعد وفاة إليف، لهذا لم يتسن لهذه الشخصية أن تقدم نفسها، فهي أكثر الشخصيات التي تعرضت للظلم (بطريقة العرض المباشر) في الرواية. فقد تعرفنا عليها من خلال انطباع " كمال "عنها أو من خلال ما أراد هو أن يخبرنا به عنها. إليف القاسية عديمة المشاعر، المنشغلة بالتمتع بكل ما تعشقه النساء من تسوق وإرتياد للأماكن الفخمة والجميلة عن كل ماهو جدي ونوعي. إليف المرأة التي تفننت في إضطهاد كمال الزوج وتقويض ثقته بنفسه وتحويله إلى شخصية مهزوزة على المستوى العاطفي، مع ما يملكه من مؤهلات فكرية وما يملكه من فيض حنان يفتقده أغلب الرجال. هناك معطيان جوهريان من خلالهما يمكن أن نفهم شخصية إليف كما هي فعلا لا كما قدمها كمال . المعطى الأول هو زواج كمال من إليف وملابساته.فكمال تزوج إليف لأنها شكلت له مخرجا من أزمة، وسيلة للهروب من وطن يتهاوى . كانت إليف مطلقة، وهذا هو التنازل الذي يقدمه كمال للحصول على فرصة الهروب من وضع شاذ يعيشه في بلده المحاصر بحرب طاحنة، (حرب الثمان سنوات التي خاضها العراق مع ايران في مطلع ثمانينيات القرن الماضي). فإليف المحاصرة بأحكام المجتمع الجاهزة والعدوانية تجاه امرأة مطلقة، كان دخولها لهذا الزواج " الصفقة" من موقع ضعف كما هو موقف كمال تماما، الذي أراد دائما، وعلى كامل مساحة الرواية، تقديم نفسه كضحية. فالمرأة كانت واعية تماما أن كمال لم يخترها لذاتها، ولم يحببها لذاتها، وهو ما رفضه كبرياءها وترجمه كرها واضطهادا لكمال. فعالم المرأة لا يعرف الوسط بين الحب والكره؛ عالم المرأة الزاهي بالألوان، يقف في هذه النقطة بالذات، بين الأبيض الناصع أو الأسود القاتم. كمال لم يكن يريد الحب من إليف، كان يريد تعايشا مسالما لا تستطيع امرأة قوية كإليف أن تمنحه إياه، فاختارت أن تكون أنثى محترقة وحارقة لكل من حولها. لم يتحدث قط كمال عن جمال إليف حتى أنه استغرب حين سألته حفيدته بغريزة أنثى "هل غازلتها؟" ليعترف أنه فعلا لم يغازلها أبدا. فكيف لامراة أن تعيش بسلام مع رجل لا يغازلها؟ ماعاناه كمال مع إليف كان نتيجة طبيعية للعيش مع امرأة معتدة بنفسها وتعي أنها ليست موضوع حب لشريكها. كانت صرخة في وجه كمال الذي رفضها والذي أراد بالمقابل ان يأخذ دون أن يعطي شيئا. المعطى الثاني الذي يكشف جانبا من شخصية إليف هورغبتها في الإنجاب مرة ثانية. فالواضح أن إليف تفتقر للحب، حيث فقدت الأمل بالحصول عليه خارجا فانكفئت على ذاتها وأرادت أن تبحث عنه في أحشائها داخل رحمها. فتكرار الولادة هو بحث عن الحب أو عن موضوع يستحق تصريف مشاعر الحب والإهتمام الذي تفيض به الأنثى، والتي غالبا ما تكون حريصة على أن يكون موجها لذات تستحقه و تكون قادرة على مبادلته. لبنى: المرأة الطيبة التي عاشت كما أراد لها المجتمع أن تعيش، تعطي ولا تأخذ، عكس إليف.. لبنى الوديعة التي تتألم لأنها لم تنصف ولم تكن ذاتا محبوبة أبدا، تترجم هذا النقص طيبة وتعوضه بالمزيد من العطاء. هي خاضعة تماما للقوالب الجاهزة، لا تبدي أي تمرد أو رفض ولا تعرف الحقيقة إلا من خلال أعين المحيطين بها ولا تتوانى عن التسليم بما رسم لها. لم تمتلك لبنى الشجاعة للدفاع عن حبها ولا التشبت به بعد عودة كمال.، ونرى بوضوح كيف تراجعت أمام حضورغسق وزينب إلى حد التلاشي حتى قبل وفاتها..، وحتى رفض لبنى لترك منزلها رغم تهديدها بالقتل، كان ضعفا أكثر منه قوة، فمثل هذه الشخصية تعرف أنها لن تستطيع الإستمرار خارج الحيز- الفضاء الذي وجدت فيه دائما.. خروجها من الجماعة غير ممكن حتى لو كان الثمن حياتها.. كذلك فإن موتها كان بشعا مأساويا وجثتها فقدت وسط الجموع، فمثل لبنى كثيرون قابلون للتلاشي والذوبان... إلى أن استطاعت زينب ان تحصل على جثتها وتكرمها أخيرا بالدفن. فالطيبة أيضا مكون أصيل من مكونات الانثى لا بد أن تحافظ عليه حتى مع كونها قوية. غسق: المثقفة القوية الواعية، امرأة فاهمة لواقع وطن جريح تنهكه الطائفية والفساد.، تعيش هذا الواقع و تعرف كيف تحافظ على مسافة معقولة معه. فهي فضلا عن كونها مثقفة لها نزوعات تمرد عرفت كيف تغرسها في الإبنة زينب، و هي أيضا امرأة ذات تجربة تساعدها على تمثل الأمور بنضج. وعلى المستوى الإنساني لم تجد حرجا في التعبير عن حبها لكمال وفي اعتبار هذه المشاعر التي احستها تجاهه، شيء عادي ومنسجم مع ذاتها كأنثى.، كما لم تتوان في التعبير عن فشلها في الزواج الذي استمرت فيه إلى أن حسمه موت الزوج. وعكس لبنى، لم تكن غسق لتعيش كما أريد لها، بل كانت قادرة على إنشاء عوالمها فكرا أو على مستوى المشاعر باستقلالية تامة، حتى داخل الوضع الإستثنائي للبلد، حيث عاشت وشكلت حصنا لإبنتها دون مساعدة من أحد. لم يكن السفر يخيف غسق، كانت على استعداد لخوض غماره، فهي قادرة على زرع جذورها في أي مكان. موت غسق كان غير واضح الأسباب و مفتوح على أكثر من تأويل، لكنه كان اكمالا لصورتها الإستثنائية، حتى جثتها لم تكن قابلة للذوبان وسط الجثت الأخرى، فهي شخصية اسثتنائية وغير متكررة بوفرة. زينب: الإبنة، النسخة عن غسق الأم، في الواقع لم أجد أي تبرير لوجود زينب سوى رغبة الكاتب في تحويل شخصية غسق الاستثنائية إلى شخصية قابلة للتكرار عبر استمرارية الإبنة التي تأثرت بأم تحدث قطيعة مع السائد و تكسر دائرة إعادة إنتاج الثقافة التقليدية لتشكل رافدا مختلفا يمد الإبنة بثقافة بديلة، فتبدو زينب أكثر عمقا ونضجا من بنات سنها، وأكثر حرية واستقلالية، ومختلفة الإهتمامات والآفاق. فالشخصية تبدو للوهلة الأولى مفتعلة وتم حشوها بشكل غير معقول، فهي نسخة عن غسق وبنفس الملامح والجمال والتفكير. وجود زينب في رأيي في الرواية له هدف واحد و هو التعبير عن كون المرأة تكون ما هي عليه وفق الوسط الذي تعيشه، فالنساء إن بدون ضعيفات مشتتات الفكر وسطحيات، فهذا لأنهن لقن هذه السمات. ولعل ما يؤكد فكرتي هو تكرر ذات الأمر مع صدى الحفيدة التي تتدحرج ما بين الطفولة والأنوثة، حيث تفاجئنا من حين لآخر بكلام كبير أكثر عمقا من عمرها و إدراكها، كما تفاجئنا حوارات زينب. فلعل الكاتب أراد من خلال تلك الحوارات أن يوضح لنا أن الأنثى هي نتاج وسطها وليست كل تلك السمات السلبية التي تسم النساء سوى نتيجة طبيعية لما لقن لهن ولما وجدن عليه الأمهات والجدات . فالكاتب يأبى إلا أن يجعل الفتاتين، صدى وزينب، شاهد على كون القصور في الفكر او السلوك، ليسا قدرا و طابعا للنساء، وإنما هي سمات قابلة للتغيير و كل النساء قابلات لإعادة البناء بشكل أعمق وأنضج. امتثال: شخصية مشوشة، تعرف أنها متميزة وليست على استعداد لتقبل ما يسطر لها؛ تعي أن امكانياتها أكبر من أن تقيد بقالب جاهز تدخل عبره لتخرج نسخة عن الأم والجدة، و لكنها لا تملك الشجاعة لتكون كما تريد، لأنها خجولة وضعيفة. امثتال هي التعبير الدقيق عن حقيقة أغلب النساء واقعيا، وهذا التشويش غالبا ما تكون نهايته الإنصهار داخل القوالب المعدة، بينما يختار سامي البدري نهاية مختلفة لها، وهي الإنتحار. انتحار امتثال ليس مرده الحب المفقود فقط، هو أيضا احتجاج على الضعف، كما أشارت في رسالتها، أو هو اختيار لنهاية أشرف من الإحتضار الطويل في ثوب امرأة تسير بين الجموع بلا إرادة .رواية "موت بلون آخر " تجسيد لذات المرأة لا كما اعتدناها، صفات وسمات واحدة متكررة وفق نموذج مرسوم مسبقا، بل هي تصوير للمرأة الإنسان الذي يملك أن يكون مختلفا ومتعددا وقابلا للتغير والتجدد؛ كيان يمكنه القبول أو الرفض، وفي أسوء الحالات، الموت احتجاجا. هي رواية تقول أن النساء لا يحتجن سوى أن يتركن حرات الإرادة ثم بإمكانهن الظهور على صور جد مختلفة... بإمكانهن تكسير كل القواعد والقوالب المحنطة لإرادتهن وكينونتهن الإنسانيتين.
#سعاد_الحياني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنس في التراث الإسلامي
-
قبل الثورة ..الحداثة اولا
-
العلاقة الجنسية بين الاحتياج الطبيعي وبين البطولة الذكورية
-
أزمة القيم في الإسلام
-
الثامن من مارس وتحطيم وهم حماية النساء
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|