أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - مدام ميرابيل النص الكامل















المزيد.....



مدام ميرابيل النص الكامل


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4987 - 2015 / 11 / 16 - 08:35
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الروايات (17)



د. أفنان القاسم


مدام ميرابيل
MADAME MIRABELLE

رواية




صدرت بالفرنسية دار لارماطان باريس 2003
























































إلى ماري، أم الرب،
إلى ماري كوري،
إلى ماريان،
إلى مريم،
إلى ميريام،
إلى ماريلين، إلى مارغريت.









































لن أقول تمامًا كما قال فلوبير:
مدام ميرابيل هي أنا.

مدام ميرابيل لي
ما الهوى للعشاق،
وللهالكين النار:
إنها وطني الكبير.
















































القسم الأول















1
لم يكن لي الكثير من العمر عندما التقيت بسُلاف، مغربية كانتِ السِّحْرَ والفَتْنَ لكل النساء، الهوى والضنى لكل الرجال، المرأة الأولى التي أوحت إليّ بالحدس العظيم، ألا وهو أن الله ينهض في الصباح. كانت بجمالها للفؤاد شَغَفًا، لكني لم أكن أعرف بينها وبيني في الوداد فرقًا. أَعْدَتْنِي نظرتها، التي لم أدرك أبدًا إذا ما كانت لِسَوِيّ أو معتوه، بمرض لم أشف منه تمامًا.
كنت قد ذهبت إلى المستشفى، لرؤية صديقة حطت بها الصدفة، كما يبدو، في قسم الروماتيزم، بينما كانت تشكو من وجع في الكليتين، وكان سريرها يحاذي سرير هذه السُّلاف التي التقيت بها هناك بإرادة هذه الصدفة الغريبة التي جاءت بها، هي أيضًا، إلى هذا القسم، بعد محاولة انتحار. استغللت هذا الجوار الملائم للتعرف على الجميلة المجهولة، وفي الحال، أنار الضوء في عينيها السوداوين. أفضل بكثير من المكر أو الفجور، كان سحر مسلمات شمال أفريقيا، نساءٌ لدينا عنهن فكرة غائرة وغامضة، ضائعة بين صور الحجاب وهز البطن وألف ليلة وليلة. سحر طوعي لكنه حقيقي، نابض وصادق، متعذر كبته. عدت إلى المستشفى في الغد وبعد الغد، كي أَخضع لحسنها أكثر من وقوفي على أخبار صديقتي، التي كانت حالها تتحسن، والتي ستغادر المستشفى بين يوم وآخر. في اليوم الأخير، لم تكن سُلاف في الحجرة، وكانت زيارتي مضجرة. أرغمت نفسي على البقاء نصف ساعة، بدافع اللِياقة، ثم، عند ذهابي، قلت لنفسي إنه لمن الصَّبيانية أن أحلم هكذا بينا لن أصحب هذه البنت على التأكيد أبدًا إلى أي مكان، حتى ولو كان باستطاعتي ذلك، حتى ولو كانت ترغب في ذلك. كانت تبدو تجريبية، وكنت كثير العقلانية.
وأنا على وشك المغادرة، لاقيتها أمام مدخل المستشفى، وهي تدخن مع أشخاص افترضتُ أنهم أصدقاؤها، وألقيت عليها تحية المساء، بسعادة لم يخفها أي جهد من طرفي. رشقتني بنظرة، وأنا أحاول متابعة طريقي. غير أنني، لفائض سعادتي، سعادة صدفة ملحة للقاء لم أعد آمله، وشاعري جدًا، لتلك اللحظة، للذهاب نهائيًا دون أن أراها للمرة الأخيرة، لذكرها يومًا في إحدى رواياتي القادمة، استدرت، لكل هذا، بعد عشرين مترًا. كانت لم تزل تنظر إليّ، ومن الواضح أنها كانت تأمل هذه الخاتمة، إلا أنها نادتني. كانت إذن من تلك النساء اللواتي يعتقدن بالصدفة، وكن مستعدات لإلقاء أنفسهن في حكايات مستحيلة، شريطة أن يكنّ على حق، أصغر حق، في الاعتقاد بها. عرفت عندئذ أن باستطاعتي، إذا ما آن الأوان، أن أكون واحدًا من أولئك الرجال الذين يقطفون الأقمار. كانت ترتدي مَشّايات من قماش وروب دو شامبر أزرق فاتح، مع هذا الظرف المعيب لامرأة يفاجئها المرء عند النهوض من الفراش. وكان لها حوض أوسع قليلاً مما يجب، لامرأة وضعت –أوسع قليلاً مع أن أثره عليّ كان سكريًا- غير أن اطمئنانها ومرحها امتزجا بسحر وسواد عينيها وشعرها. غضضت الطرف عنها لأتركها تقترب على مهلها أفضل ما يكون، كانت تود رؤيتي، ولم يكن لدينا ما نكتب به، فحفرت رقم هاتفها في ذاكرتي، وأنا أتظاهر بعدم بذلي أدنى جهد، وكأني وُشِمْتُ بالحديد. خرجتْ من المستشفى، وهاتفتها. طلبتْ مني أن أعدها، فوعدتها. وعدٌ بلا جدوى، بعد كل حساب، لكني لم أنس أبدًا هذا الرقم، رقمٌ حملته طويلاً كتبكيت الضمير.
مع ذلك، عدت إلى البيت مذهولاً كنبيّ، سنيًا، ربانيًا، منيرًا، مجنحًا، وأنا ألمظ كل هذا السحر الشهواني ببخل مفرط، وأنا أنأى أكثر ما يكون بحقيقة أنها لم تكن كاملة بما أنها طلبت مني أن أعدها –مما جعلني أحزر أنها ليست المرة الأولى التي تنتظر فيها هاتفًا من غريب. محاولة انتحار! نصحوني بألا أتورط في قصص مع هذه المريضة، ومع إحساس بالخطأ والصواب، اقتنعت بأن الجميلة والسرية سُلاف ستأتلق في ذاكرتي بشكل أفضل مما هي عليه في عُقَدِ مغامرةٍ ستنتهي حتمًا بالتهديد بالموت.
للحب آلهاته...
منذ ذلك الحين، عرفت مائتي امرأة، في حياتي. على الأقل. وكنت أستطيع بالتأكيد أن أعرف أكثر، ولكن ما الفائدة؟ أيًا كانت السعادة التي يوحين بها، أليس للنساء من الملل دومًا، في الركام، كما لليالي، للأفكار، للسجائر... وكما لكل شيء. نسبة مئوية في الإفراط سينتهي بها الأمر بالارتفاع ارتفاع الدخان، بالعبور في أثير الزمن، وبتعليمنا، بشيء من الخديعة، أن ننفتح شيئًا فشيئًا على النسيان. لحسن الحظ، هناك واحدة أو اثنتان، ربما، بينهن، وحتى ربما ثلاث، حسب طموح القلب أو عدم رضى الذكرى، يتأرّجن بعطر الخلود، ويغدون في نفوسنا المرجع الواعي أو اللاواعي، المقياس، لكل النساء الأخريات، السابقات واللاحقات، منذ الوقت الذي يعطرنهن فيه حسب رغبتهن. هل هن أكثر جمالاً أم أكثر كمالاً؟ لقلبنا القبيح واللاكامل، على أية حال، يبدون فريدات رائعات ومثاليات.
غير أن هذا ليس من فعل نزواتنا وحدها، فعلى النقيض من أسطورة الإعجاب بالنفس، وبغباء أسطورة الكياسة، التي مع الأسف انتشرت في حضاراتنا الحديثة، لا يكفي، هيهات، وقلبنا يتوقع ذلك، أن أولد امرأة لأكون امرأة. ما يلزمها من السحر الشيء الكثير، من الحضور. لمعظمهن، لا تعرف النساء أنفسهن، لا يزدهرن حقًا كنساء قبل أن يغدون نساء في المجتمع، قبل أن يغدون بالغات، عندما تتردد طبيعتهن المراهقة بين أن تضطلع بصدقها الأوّلي وأن تحاول التوافق مع العديد من الأعراف التي تسحقها. بعد ذلك، لا أحلام، لا حياة، لا شيء غير التخلي، الفتور، الظاهر، خراب المثالية، أحسن، تحولها إلى مبادئ بخضوعها للأسطورة اللاكاملة والناحلة، قِوام هذه الهوية الوحيدة. المرأة، المرأة الحقيقية، تُشَم، تُرى، تُعرف بين آلاف. بين ملايين.
سُلاف؟... كانت سُلاف المرأة الحقيقية قطعًا، وكان عليّ أن أنتظر عدة سنوات حتى أطّلع في النهاية على أسرارها، لما اشتدت عليّ الحمى فجأة دون إشعار، ودفعة واحدة، على مرأى واحدة أخرى من تلك الطُّرَف الرائعة. كالصاعقة الماحقة الصاعقة الساخطة، قررت أن أصلح خطأي الماضي في الحال، ألا أترك، ترك الطائش، هذه السُّلاف الجديدة اللامُنْتَظَرَة، تطير من بين يديّ.

2
كل النساء جميلات، يعرف معظم الرجال هذا، بالرغم من أن هناك منهن الأكثر رقة، الأكثر دقة، الأكثر فظاظة، الأكثر غلاظة، الأكثر أناقة، الأكثر عراقة، الأكثر طبعًا، الأكثر نبعًا، الأكثر إخلاصًا، الأكثر إجّاصًا، الأكثر صدودًا، الأكثر برودًا، الأكثر كَذِبًا، الأكثر أَرِبًا، الأكثر بكاء، الأكثر اجتواء، الأكثر سذاجة، الأكثر سماجة، الأكثر إدهاشًا، الأكثر إنعاشًا، الأكثر لامبالاة، الأكثر لامغالاة، الأكثر شكرانًا، الأكثر عرفانًا... هذه، إضافة إلى ذلك، لديك سِحْرٌ شَامِلٌ –رَوْعٌ سِحْرُهَا- في النظرة، وَفَضْلٌ كَامِلٌ في الحركة، يجعلان من جمالها الخاص مجازًا رائقًا. إلهة، أليس كذلك، لها من المدى على امرأةٍ المدى، ولا عجب ما تثير لدى الشخص، إذا ما كانت، بوصفها إلهة، فلنقل، للحب، ربانيةَ الجمال، مجنحة، متقلبة ومندفعة، رخصة، ملتبسة ودنفة. باختصار، لا تفعل سوى إنجاز قدرها. لكن، هلا تصورتم ما تفعله امرأة بين النساء فيكم، ترونها، فتقعون في غرامها، وتترككم حالمين، دافعةً إياكم إلى الإلقاء بأنفسكم من أعالي قنطرة من قناطر نهر السنين؟ ومع ذلك، ترتدي ثيابًا عادية، ترون هذه الثياب أو يكاد، كَمَثَلٍ أعلى تهملونها، وتنثر شعرها اللاعاديّ، يغطي هذا الشعر عيوبكم أو من عيوبكم ينال، فلا تخوضون غمار المعركة إلى جانبه، وتخذلونه. هذا الخذلان وذاك الإهمال يُنْقَشَان فيكم كدعوة إلى الشهوة، ومن الجليّ لعيونكم ما ترون فيها من ظرافة وإثارة وطِفلية ونَزْوية، هذه العيوب المحاسن التي يوجبها الحب ويغفر لها في ذات الآن.
وإذن!
هذه المرأة كانت هناك، كانت تنتظر قطارها كما لو كانت كل حياتها تتمحور في تلك اللحظة، كما لو كان هذا القطار، بِحَمْلِها، سيعتقها أخيرًا من وجودها الدنيوي، ويعيد إليها جناحيها. اضطرم نظري، ككل الأنظار التي اجتذبتها، دفعة واحدة، وكأني أفيق من غفلة طويلة. تَبِعْتُها بدافع فطريّ، وأنا أحلم بأن هذه المرأة من بين أخريات، هذه المرأة العادية والسماوية، ستكون عما قريب عشيقتي، وبطلتي الأولى الخالدة. كان ذلك في باريس، على رصيف محطة شاتليه، بعد ظهر خريفي، ثلاثين عامًا هناك الآن.
أن أحاول إعطاءكم فكرة عن هذه الغادة؟ يا حبذا، لكني لست على يقين من أنني قادر على أن أجلو أكثر غموض سحرها. كانت متوسطة القامة، رقيقة، على الرغم مما يبدو عليها من نهم، برنزية، مع انعكاسات صهباء، كمصرية. وكانت عيناها زرقاوين داكنتين، على ما أذكر، مغضنتين، ووجهها مبتسمًا مغويًا، لارتكاسٍ طبيعيّ... جسدها الأبيض، صدرها الحي، ذراعها الحيية، يدها ذات المغزى. في الواقع، هذا ما كانت: كانت تملأ جسدها من قمة الرأس حتى أخمص القدم. كانت تلك معجزتها منذ عودة الوجود من العدم: لم تكن ساقاها تتباهيان دونما فائدة، حركاتها تنسى دونما ذكرى، جسدها يرهق دونما عناء. كانت امرأة كحديثي الولادة الذين ينتفض جسدهم عند الضحك وعند البكاء، وتكون لهم محورًا نقطةٌ واحدة. وعندما تتجسد هكذا روحها المختالة المتيمة، تبعث الحياة فيكم، وتعيد خلق عالم معتقداتكم، قبل أن تحاذروا حذركم.
كان اسمها مارغريت، مارغريت ميرابو، وكانت تسكن في شارع موفتار رقم 69. ستقولون لي: من الطبيعي أن تسكن في شارع موفتار! شارع متعرج، امرأة متعرجة. هل تكون كاملة؟ أعتقد أنكم تقبلون بسحر اللحظات، بالروع الخلاق للقبض على شخصٍ كطُرفةٍ رائعة، بالروع المثالي، بالإغواء الرباني لنقشِ أنفسِكُم بأنفسِكُم على رخامِ فنانٍ خارجٍ عن الطراز. وبالتالي، عليكم أن تعرفوا ما لم يعد بعيدًا عن الواقع، ما لم يعد مخيِّبًا دومًا. لن أقول لكم إن هذه المرأة كانت الاستثناء الأكثر لا احتمالاً الأكثر إعجازًا. بكل صحو السماء وكل وضوح الشعاع، من ذا الذي سيكون بإمكانه أن يتصالح مع كل هذا الكمال؟ من ذا الذي سيكون بإمكانه أن يحتمل الخلود؟ خلال كم من الزمن؟ لا مذاق لشيء في الكمال، لا مذاق لشيء في الخلود، شيء بديهي –كذلك على الخلود والكمال أن يكونا بالفعل لا زمنيين. لكن كذلك، ماذا تعرفون عن المذاق؟ لعلمكم، أعتقد أنني لا أعرف عنه الكثير، وعلى أية حال ليس أكثر منكم، قبل أن أعرف مارغريت. على الأقل، كانت مارغريت في هذا مثالية، وامرأة، أفضل من أية امرأة على الإطلاق، لا قبل ولا بعد.
عند وصولي إلى الرقم 69، لم أجرؤ، بالطبع، على الدخول من ورائها، فلم أشعر أبدًا بالروح المغامِرة هذه، الروح المتكبرة التي تدفعني إلى متابعة امرأة غريبة حتى داخل عشها لأقول لها... أشياء لا أعرف ما هي. لم أخطط لشيء، وبقيتُ أنظر ببلاهة إلى الرقم المطلي بيد العبث فوق الباب. بعد عدة لحظات، ارتسم خيالها خلف النافذة، لأعبرَ، في الحالِ، طريقي، معتبرًا أن ما أفعل فعل المراهق لا الكاتب الكبير الباحث عن الأوهام لكتابة روايته القادمة، ولألتفتَ إلا وأنا آخذ مكانًا في مقهى على ساحة "المنحدر"، الواقعة قليلاً فوق.

3
من وراء نافذتها، كانت تعرض في الظلالِ الخفيفةِ للغروبِ نفسها، وكأن الأفق يتكلم معها، وكان يبدو عليها أنها تجوبُ الفضاءَ بين النجوم، فوقَ سقوفٍ تزاحمت ما بينها، والنجوم ساكنة وصامتة. بقيت هناك كالتمثال، دون أن تسعى إلى فهم ماذا، على الرغم من أنها ربما كانت سئمة من سَلبية حياتها، وفي كل الأحوال أكثر سأمًا وتعبًا من سأمها المزمن. كانت كتفاها تستسلمان للإغراء، وأصابعها تبحث عن جواب، تصغي إلى الرياح التي لا نهاية لها، وهي تهب على أنقاض اللوتس "Lutèce"، في الوجه المقابل. تحت، كان الناس يطرقون أكعابهم على البلاط، وهي، بين الشارع والنجوم، تنحو بأفكارها نحو النجوم، وتنحني بجمالها أمام الهموم، كانت تنفني.
تركت نافذتها، وجلست أمام مرآتها. كعادتها، نظرت بسعادةٍ وتعاسةٍ إلى نفسها. لم تزل جميلة، كما بدا لها، لا كتماثيل حديقة اللكسمبورغ، السرمدية الجمال، المعروضة، المنظورة، المحسودة، المصاحبة الصامتة للعشاق والأيام. ستخلُدُ، ربما، بعد مائة عام، بين يدي نحاتٍ سيحلم بها، ستكون معلومة مجهولة... غير أنها، خلال وقت قليل، ستلزَمُهَا الأقنعة وعمليات التجميل ومراهم النهار ومساحيق النساء الأرستقراطيات المتحذلقات، لتبدو في عيني الدمامة جميلة أكثر بقليل، وإلا كيف ستروق للحب بعد خمس سنوات؟ حياتها التي لم تفعل بها بعد شيئًا، سيكون لها مذاق الشيخوخة السابق لأوانه، مذاق المدفونة. كان زوجها رجلاً عديم الأهمية أحمق أو بالأحرى أحمق عديم الأهمية، زواجها عبئًا، عملها، قُرْطها، سُوَارها... لم تكن سوى عاملة بين مئات العاملات. في الواقع، لم تنجح في أي شيء في حياتها، لكنها كلما فكرت في هذا كانت تستدرك، وتقول لنفسها إن لها من الحظ ما ليس لغيرها على الرغم من كل شيء، إن لها شقتها وعملاً مستقرًا، إن باريس كما كتبه القدر لباريس، على ليلها أن يكون أزرق، على شعرها أن يكون أسود، على فتياتها العاشقات أن يكن برنزيات، مُلْفَحَات بشمس الصيف وملح البحر النائي. كانت الرياح تهب على باريس حاملةً آلاف حكاياتها وآلاف نيرانها، وكان من الجُودة بكثير هبوب الرياح.
تنفستِ الصُّعَداء.
كانت لسباستيان ميرابو، زوجها القادم، وهو في السابعة عشرة، بعض المغامرات الغرامية، على شاكلة أبيه الأرمل الذي له عشيقة في معظم المدن والبلدان كرجل أعمال. وخلافًا لأبيه، كان قَصِمًا وقَلِقًا، بحيث أن غرامياته دومًا ما كانت مُؤلمة ومُؤَمْثِلَة ومُيئسة، فانتهى به الأمر إلى الانطواء، وَوَقْفِ نفسه على دروسه في هندسة الطيران. خاب ظن أبيه لما رآه ينسحب هكذا من العالم، فشغّل كل ثروته وعلاقاته كيلا تكون الحياة العادية لابنه الحياة. ذهب به إلى الصالونات، واستصحبه في كل غدواته وروحاته، ونظم بنفسه حفلات الاستقبال الكبرى، السهرات الراقصة، السهرات الخيرية. في إحدى هذه السهرات الخيرية، حيث تؤم كلُّ نساءِ الخواص، وعلى التحديد، النساء اللواتي، دون هذه الحجة المُحِجة، يتفضلن بالظهور في سهرة برجوازية لا يأتيها على التأكيد أي وزير ولا أي أمير، عرف ابنه مارغريت دوفور، كنته القادمة. تلك الفتاة الوردية من الخجل، والتي تحضر للمرة الأولى، ما في شك، أولى سهراتها، وبتشجيع من أمها، فازت بمباراة "ماريان" السهرة، رمز الجمهورية. وعلى الفور، وقع سباستيان في غرامها، شارحًا لها بِحُمَيّا، بحياء، كيف أن الحب الأبوي، ولا أي حب آخر، يستبدل، بالنسبة إليه، حب المرأة، هوى الحياة، وها هو يقع على امرأة عمره. سيأخذ على نفسه التزام الأنبياء، وسيحبها حتى نهايات الأزمان. ضحكت على التأكيد، فطلب حالاً يدها، من صميم القلب كان طلبه، وكله استعداد ليموت حبًا. مارغريت الساذجة، البلهاء، المحمومة، المثملة بسهرة بالغة السعادة، سألت أمها بعينيها، فتظاهرت بعدم الانتباه. اعتبرت الواقعة أكيدة، والاستئذان للموافقة لم يكن ضروريًا، وعلى العكس، نبهت بجذل وابتهاج العراب ميرابو إلى أن هذه أهم "رحلة عمل" يقوم بها.
بعد الموت السعيد للزوج -أستاذ رياضيات أناقته ولياقته جعلتاها تفترض علاقات وثروة لم ترها على الإطلاق- مارست الأم هواية جمع العشاق على أمل أن تجد أحدًا تستطيع بنقوده أن تصنع سعادتها وأن تتزوجه. كانت هذه المرأة تؤمن بالحب إيمانها بالفضائل الأخلاقية الشيء القليل، وغالبًا ما كانت تردد على مسمع مارغريت إذا ما لم يكن الرجال يحبونهن إلا لجمالهن، فعليهن ألا يحببنهم، هن، إلا لثروتهم. أما عن الحب والحبيب، فلا تعرف إلا الصدفة قدرةً عليهما، وذلك بتقديمها لهن عشاقًا جيدين، ثريين، من نوع ميرابو الأب، الذي تطمع في موقع إلى يمينه، في هذا النوع من الصالونات. كان على سباستيان أن يتزوج قبل نهاية دراسته: تفهمين، يا مارغريت، أنك لا تستطيعين تفويت هذا، إنها فرصة حياتك! اختارت مارغريت شقتها بنفسها، شارع موفتار، وسارت الأمور على ما يرام، حتى أن الحب المجنون لسباستيان قد بدأ يغزو قلبها... لما انطفأ الأب ميرابو، مصعوقًا بسكتة قلبية، بعد تبديد ثروته في كازينو من كازينوهات غابة بولونيا. مما اضطر سباستيان إلى ترك دراسته تمامًا قبل الحصول على دبلومه، ليعمل في قاعدة للطائرات الخفيفة كتقني. زوج ميكانيكي! لها هي التي عليها أن تكون ماريان السهرة لحياة بأكملها! الطلاق الآن، الانفصال... خمسة أعوام من الانفصال الفعلي قبل أن يتم الطلاق دون رضاء أحد الزوجين! لأن زوجها لم يكن يريد هجر تلك التي كانت كل شيء بالنسبة إليه، ولأنه بكى.
انفجرت ضاحكة...
شخصت ببصرها إلى صورة نهديها المدهشين: نهداها، بطنها، سرتها، خصرها المُحنى، ساقها القسيمة، قدمها المشيقة، كل هذه العوالم التي غالبًا ما حفرت بشرتَها الرخصة أصابعُ زوجها الخشنة. كان الخريف يقترب منها، وها هي تلك الأصابع الناعمة للطالب في الماضي، الخشنة والنتنة في الحاضر، كم مرة لعينة نهبت أحاسيسها وسحقتها بقوتها العمياء، فاثارت قرفها. من الآن فصاعدًا، وبقدر الوقت الذي يحتفظ فيه جمالها بِسِمات الشباب، أرادت أن تضع قلبها وشفتيها أينما يبدو لها ذلك مناسبًا، وبعد ذلك، سترى. أرادت أن تختار، من الآن فصاعدًا، يدين ناعمتين معطرتين كيدي السيد هنري -شارع فوش أغنى شارع في العالم- مَنْ قصت، منذ خمسة عشر عامًا، صوره في الجرائد والمجلات، وَمَنْ عبدته في السر. في ذلك الوقت، عملت أمها كل ما بوسعها لتتزوج من رجل مثل السيد هنري، والذي غالبًا ما كانت تحدثها عنه كمِلْكيّة شائعة، ومع ذلك، لم تفعل شيئًا. كانت مارغريت، في ذلك الوقت، تسبح في أحلامها: أنه سيكون لها ذات يوم، أنها ستعرف كيف تظفر به، وكانت تبتسم لصوره، تقبلها، وتعده بألف وعد، أنها ستبقى على إخلاصها له... اليوم، لم تعد تحلم بالسيد هنري، الذي بدأ الكبر يبدو عليه، إلا أنها غالبًا ما كانت تحلم، عندما تعجز عن الاستسلام لأهوائها، بالغِنى، بالحب الخالد أو العذري، بالزهد، بالحكمة القديمة، بالغَناء... بقليل من كل هذه المثل العليا على الرغم من اختلافها وتضادها. في إحدى المرات، حين وصولها إلى مصنع السيد هنري، كانت على وشك تحقيق حلمها القصي. رماها بنظرة وضاحة كانت كافية لاعترافه لها، في برق لحظة، بألف شيء وشيء يَعْجِزُ عن الوصف. وفي نهاية المطاف، لم يأت لرؤيتها. من المحتمل أنه كان يستعجله شغلٌ من مقامه، ليمنح نفسه متعة كهذه. ثم مضت الأيام، وانتهى بها الوضع إلى عدم معرفة إذا ما كان الأمر يتعلق بالفعل بنفس السيد هنري. و، الحقيقة، ما كانت لتستحق مثل تلك الأصابع، هي، التي تسير حياتها سير الآلة "بنعومة" في المصنع، حياة تُنْجَز خلف نافذةِ شقةٍ صغيرة في شارع موفتار، بينما العباقرة والنجوم يعملون بإكبابٍ أصم على قدرهم الخالد؟ أرادت ألا تُقعد العواصف، وتقرر كل شيء في لحظة واحدة، ولكنها... تدبقت كالذباب. نظرت إلى سرتها، ولم تتحرك. ماذا كان باستطاعتها في الواقع أن تفعل؟ لقد ألقت المرساة. تأملت سرتها، أمامها، وبدأت تعاينها، وهي تردد بغموض "أيها السيد هنري"، وتفحصها باسطةً أسفل بطنها، فيعمل بطنها ثالوثًا طريفًا مع نهديها المستطيلين.
فجأة، "رأت" نفسها في المرآة، بيضاء فاترة، بشرية حشرية، وأحست بالتشنج: كان شيء ما فيها محطمًا.

4
أعادت ارتداء ثيابها بسرعة لتتحاشى الصمت، وكذلك أعادت وضع حذاء جلد الأيِّل الذي انتحت، والذي فكرت عشرين مرة في تبديله، ونزلت إلى الطريق. ضائعة بين أحلامها، منذ لحظة، وواقعها العضوي المُغِمّ، لم تعد تعلم إذا ما كان عليها أن تمشي فقط لتنسى، أم إذا ما كان عليها أن تواصل الاعتقاد أن مصيرها لم يزل على ظهر الأيام –وتغذ السير إلى الأمام كالأمراء الذين حينما يولدون يغذون السير نحو مجدهم الأبدي والإلهي. عادت تصعد شارع موفتار، وهي تسير على رصيفه الضيق المتعرج الدُّهْنِيّ، بينما يتجلى الليل للعيان كشراع أزرق سميك.
عندما وصلت إلى ساحة المنحدر، أضاءت المصابيح القديمة دهشتها. تناول الملتحي قيثاره، وغنى، كما هي عادته: لا شيء، تعرفين جيدًا، الوقت يمضي... كان المشردون، في زاويتهم، يضحكون، ويشربون، وهم يصاحبون الأنغام بضجيجهم، وأنسام المساء الأولى تتراخى بينهم. ألقت على العازف نظرة أخرى، قبل أن تدخل المقهى القديمة "كأس الجعة". ورجلها المثالي، ذاك الذي كانت تحلم بكونها حبيبته إلى الأبد، رغم أنف الجميع، ماذا لو كان الملتحي؟ هذه الفكرة، المثيرة للسخرية واليائسة، كدرتها أكثر مما كانت عليه.
كالأسرار الأخيرة، كانت القاعة غاصة بالرواد.
- كأس جعة كبيرة، من فضلك.
تظاهر الساقي بالانفعال:
- في الحال، مدام!
رجال عاديون وأثرياء باليأس، فقراء مدقعون ومبقعون بالزيت، شجعان ولا مبالون، فهل ستكون هنا كل حياتها؟ لم يلبث الساقي أن عاد، أدار الكأس متظرفًا ليبدو مستحبًا، وأوقفه واضعًا إياه على المشرب.
- كأس جعة كبيرة للمدام!
شكرته دون أن تنظر إليه، فأنعم النظر في حسنها كما لو كان يراها للمرة الأولى، بينما بقيت تنحني على كأسها. كان بودها، لكن لم يكن لديها ما تقوله لواحد مثله. أو، ربما، الواقع... واحد مثله، من يكون؟ ناداه زبون. وهي تراه يبتعد متواركًا كنادل باريسي حقيقي، رأى كل شيء، وطعم من كل شيء، شربت قليلاً، والتقطت أذنها بعض العلامات الموسيقية. لا، لا الساقي، ولا الملتحي، ولا... دفعت، جرعت كل الباقي، وخرجت. في الساحة، وقفت بين المتسكعين.
كان عازف القيثار يخفض رأسه، ويغمض عينيه، وهو يعزف. كان يلعب دوره كمتسول قيثاري ملتحٍ أحسن ما يلعب... أو، كان يعيش ذاك الروع الغريب لحياةِ-متسولٍ-ملتحٍ-عازفٍ-على-القيثار.
الحقيقة، ما الذي لم تعطه ليكون لها، هي أيضًا، دور تلعبه، ليكون عيشها حياتها في عفويةِ وسلامةِ طَوِيَّةِ روعٍ مثاليٍّ من كثيرٍ يفيض به العالم؟ فيما يتعلق بالتجربة، الثروة مثالية، الشقاء مثالي، لكنها هي، لم تكن شيئًا.
فكرت في الرجوع إلى البيت، إلا أنها بقيت هناك عشر دقائق، وهي تُدَوّم في رأسها. هل ستذهب لتنام، لترى أحد الأفلام، لتشرب كأس جعة أخرى، لتجرجر قدميها حتى تشبع قدماها من العناء؟ كان الملتحي يغضّن وجهه الرجولي المجعد بألم. كل هذا الجهد لأفضل ألم؟ ما المتعة التي يمكنه أن يجنيها من الغناء دومًا الشيء ذاته؟ هي، حياتها، كانت الشيء ذاته دومًا، وكانت الجحيم. جحيم حارق كما يجب ورخيّ، عمل ثابت كما يجب وشريف، شقة لها تستطيع أن تنزوي فيها على خاطرها، مقاهٍ على مقربة منها، مطاعم، يونانية في معظمها. جحيم راحة وحرية. انطلقت نحو البانتيون، مجمع الأرباب عند القدماء ومدفن عظماء الأمة (إلى عظيمات الأمة الوطن عارف الجميل، كانت أمها تقرأ، كلما مضت من هناك، على طريقتها، ما هو منقوش على الواجهة، وكانت تُعِزّ مقبرة المجد هذه أكثر من كل شيء). ثم، غاصت في شارع سوفلو، حيث تبعتُهَا، نحو حديقة اللكسمبورغ.
كانت الحديقة على وشك الإغلاق، وكان الحارس يقوم بتفتيشه على دراجته النارية، وهو يزمر بالكلاكسون.

5
ثمانية عشر عامًا من قبل، كان لها من العمر ستة عشر، عندما أخفقت في أول حب لها، وهزئت بها أمها. قهقهت، وهي ترى ابنتها مبلبلة الفكر، منتفخة الوجه، مبقعة الصدر، لأن صديقها الأمرد، بشعره الأشعث على طريقة بتهوفن، تركها لأجل واحدة غريبة الأطوار ذات شعر ملون، وقالت لها: - بيأفوخٍ كهذا، تستطيعين أن تتنافسي معها، الآن! التهمها السخط على أمها، وليأسها أمام البديهة القائلة بأن كل النساء متنافسات في أعين الرجال، أغلقت مارغريت عليها غرفتها، لتمزق صور السيد هنري. السيد هنري الذي لم تكن له يد في هذا، بدا لها جد بريء، جد غريب عن هذا الحب القبيح الذي يمارسه مجتمع الرجال بلا عاقبة، والذي تهرب منه مقسمةً ألا تُحِب أكثر مما تُحَب، هي، وألا تضحك أمها منها. ركضت لتتبع نصيحةَ تماثيلِهَا في حديقة اللكسمبورغ، كما كانت تهوى، وتجعلها شاهدة على قَسَمِهَا. لم يكن هناك أحد على التقريب، في ذلك اليوم. كان هناك النادر من العشاق الفتيان، والذين على ما يبدو يخاتلهم الشعور الجليّ، وهم يتعانقون في الظل، وكان نبع الفتوة المتدفق يذوب في أزرق الليل المتساقط. لم تكن هناك مراكب، ولا أطفال. انطلقت صفارة الحارس من الناحية الأخرى للحديقة، كالكلاكسون، منذ لحظة، وامتلأ الخلاء بالعزلة. لم تزل في ذهنها ذكرى الغد، فألقى عليها، من بين أوراق الأشجار، تمثال هيبوليت الأسود، النافخ في الناي أعذب الألحان، نظرة عاشقة. اقتربت منه و، في الوقت الذي كانت تفحص فيه ألا أحد من حولها، تدفعها رغبة مضطرمة في التمرد يعرفها أبناء الاستثناء وحدهم، في اللحظات التي يشعرون فيها أن حياتهم ملكهم، ذهبت لتمس الفخذ القوية لفتاها الجميل المتواطئ والأخرس. جاءت النجوم حتى أطراف أصابعها، نَوْرَةً، وفجأة، كما بدا لها، اختلجت الفخذ كالقلب. ومن خلف جذع حَرِش، تقدم منها رجل كان يراقبها بلا شك، له لحية كثة وطلعة ملتبسة، وكانت كالمُدَوَّخَة، خجلة، متحجرة، يصلها كل شيء من بعيد كما في حلم. مجرد نظرة كانت كافية ليتركها، فلم تفعل. جذبها إليه دون كلمة، وغدا بربريًا، ليفضي به المساق إلى اغتصابها. دوختها أكثر رائحة كحوله وتبغه الحِرِّيفَة ونرفزة حركاته المرتبكة، ولولا صفارة الحارس القريبة لأغمي عليها. ارتعد الآخر، ودفعها، فاستبقته، وقبست النار من رجلها الغريب. نظر إلى كل مكان من حوله، وهرب راكضًا، لتتعلم كيف تضمر الحقد له. التذت بالنذالة، والحارس يمر على دراجته، وينظر إليها بإلحاح.
- ستغلق الحديقة، مدموزيل، الرجاء التوجه نحو باب الخروج.
جهدت في الابتسام، وعادت إلى البيت نصف معيبة، نصف مهيبة، وهي تركض، وهي تبكي بجنون.
نصف مهيبة، نصف معيبة.
بحثت مارغريت بعينيها عن تمثال هيبوليت الأسود، ولمحته. كان عشيقها الغريب يرسل دومًا ألحان الحب نحو السموات، وكان زوجان من العشاق يلتصقان بالحاجز، ويتبادلان معها ابتسامة فيها ما فيها من رغبة في البكاء.
عادت تأخذ شارع سان-ميشيل، وتفكر، كما لو كانت ترتعد، بتأثير الهوى، في كل هذا الماضي الذي عاد ينبثق، لعدة ساعات ربما، كمصل الحقيقة، بعد سنوات من الأكثر عجينية. لم تكن قد تبدلت: في داخلها، تهزأ بها أمها قليلاً أكثر كل يوم، واثقة، معروكة، واعية لأخطاء وعيوب العالم. وهي، مارغريت، لم تزل تهرب بين حياتين، دون تفكير، تتحاشى التفكير. عما قريب، ستنطفئ بِصَمْتٍ حاملةً حقيقتها الصغيرة كَسِرّ، كعار، كحماقة. عندئذ، عرفت أن باستطاعتها أن تشتري لنفسها ما تقدر عليه من العمارات، من الثياب، أو من الأحذية، ما تريد، أن تتسكع في أحسن علب ليل أوروبا، أن تقضي ليلتين كاملتين دون نوم لتدفع وجودها بشكل أفضل إلى نهايته، أو أن تنزوي في بيتها دون أن تخرج منه، ودون أن تفعل أي شيء. سيزيد كل هذا من تعبها، لتغدو أكثر عجينية وأكثر سكونية، وليخدم كل هذا، في النهاية، شيخوختها بسرعة أضعاف ما هي عليه في طبيعتها. والحال هذه، كانت طبيعتها تغلي في داخلها، ذاك المساء، و، لن تكون إلا لهذه اللحظة، لن تكون إلا هذه الحميا أبدية.
مقذوفة خارج الزمن فجأة، وهي تمزج فيما بينها انحرافات المزاج والأحلام والقرف من وجودها، كانت الأوراق الميتة تتساقط خلفها، وكانت أضواء المصابيح القديمة تعمل بقعًا واضحة في المساء، فتتنادى الظلال العارية سرًا وراء الفترينات المنطفئة في الأعماق السوداء للدكاكين. كانت تمضي دون أن ترى شيئًا...
على ساحة السوربون، كانت أرصفة المقاهي مزدحمة بالناس، مغمورة بالمتعة الجماعية لليلة من ليالي الخريف، وكان العشاق يهمسون ويقبلون. جلست على طاولة قربي –حيث سبقتها. شاعر، لا، رسام... عاينتني بلا تردد، بصراحة، وبإلحاح، وبدأتُ أتساءل إذا ما كانت على وشك معرفتي، إذا ما لاحظتني عندما مررت تحت نافذتها، أو حتى بعد ذلك. حاولتْ أن تستلفت انتباهي، ويا لسعادة قلبي الذي بدأ يخفق بقوة قوية، وعندما جاء النادل ليأخذ طلبها، نهضت، وذهبت.
انسلختْ بقوة خفية لا تثبت على رأي، وهي تنطلق في شارع شامبوليون الضيق، حيث كل شيء يصرخ بِصَمْتٍ كالعادة. كانت البنايات الهيروغليفية العالية تكاد تسقط على الدوام، يكفي أن تمضي مرة واحدة في أحد هذه الشوارع التي يبدو كل شيء فيها قديمًا قدم آلاف السنين، لتفهم هذه الفكرة الجغرافية والأركيولوجية لشارع شامبوليون، والشارع نفسه لا يتكون إلا من بِلاطه ورصيفه. ارفعوا أعينكم، فيغدو الشارع فضاء ضيقًا بين جدارين هائلين ورماديين، ويبدو اللون الكئيب قادمًا مما وراء القبر، وهو يناديكم من عالم آخر. وصلتها خطوات من نهاية الشارع، اختلط صداها بالريح. كان الهواء ساخنًا، وكانت له الرائحة الحادة والداكنة للقبور الفرعونية. تقدمتِ الخطوات منها بالعناد المتعالي والمتفاخر لإمبراطور روماني، ففكرتْ في الهرب، في البداية، ثم في طرد الرجل المحير بكل جسارة. لم يكن في هذا شيء من الشجاعة: ستوقف الرجل، وستغريه، أيًا كان، من النظرة الأولى. لأنها لم تكن امرأة بسيطة في الليل، كانت النار والهوى، القوة العاصفة للخريف!... إلا أن الرجل ما كاد يرفع عليها عينيه، فأحست بنفسها مضحكة. نظر إلى ساعته، وبدا عليه التفكير. كانت زوجته بانتظاره، وولده الصغير يعمل واجباته، وهو لن يتأخر عن العودة قبل الساعة التاسعة... كان العالم أجمع يتابع سيره المعتاد المتضح دون أن يعير كل مارغريت ميرابيل اهتمامًا، ولم تكن سوى نقطة مثيرة للسخرية لا شأن لها في باريس وفي كل العالم.
عادت تصعد شارع شامبوليون بعناء، بوجهها المسخ، وهي تنفخ، وكأن على روحها المثول أمام قاضي يوم القيامة. خرجت من فم مثلث ماسوني برأس النسر، وعادت تقطع ساحة السوربون. كانت نشوانة بشكل ما، فمن ذا الذي لا تأخذه النشوة أو الجنون، الرغبة في العته أو التخلي، الشهوات التي لا أساس لها، المجردة، الحادة، وهو يفهم وجوده كما نفهم نملة في منملة –ثمنه بقيمة ركلة أو يكاد؟ أَخَذَتْ شارع كوجاس، ثم شارع سان-جاك، في الليل المائج، وأوقفت سيارة. هذا المساء، ستكون النجوم في باريس...

6
وصلتُ بقدمٍ رخوة، من ناحية حَلَبات اللوتس، ورأسي تشوشه آلاف الأسئلة لتطويق هذه المرأة، عندما وضعت مارغريت السيارةُ ذاتُها، بفوارقها الزرقاء، قرب كنيسة سان-ميدار، وعادت إلى حركة المرور لتنشلّ فيها. بعد هيجان قصير، استعاد الليل هدوءه المطلق، وغدا كل شيء عاديًا.
تواريتُ في عينيها، ومارغريت تصعد شارعها بقدمٍ حَرِكَة. كانت حقيقتها تُبنى من الهزيم والهزيز، فيُطمئنها ذلك قليلاً، وتسوي ثيابها. يا لتعاسة الحظ ألا يكون أحد هناك ليفاجئها ويلقي عليها نظرة لحوحة أو كنودة! أخذ قلبها يدق فجأة دقًا قويًا، وكذلك رغبتها في إطلاق ضحكة مدوية، ليس لأن الرجل اقترح عليها نقودًا، ولكن لأنها فعلت هذا معه، ولم يختلط عليها الأمر. ها هي أخيرًا لم تزل هي، وهي، هي أخرى لا تعرفها، تكتسح حواسُّها المضطرمةُ روحَهَا، وتُسْكِرُهَا سهولتُهَا البَدَهِيّة والقهرية. تمنت لو تصيح باكية، من الفرح، من الفوز والهول، من الخوف أمام هذا العالم الشاسع الذي ينفتح لها قليلاً أفضل مما كان عليه، هذا المساء، على شفير الهاوية. من هذا الحب المنتصر في جسدها، وطن الأحاسيس والشهوات، ومن حياتها المُرّة. لو لم تزل أمها على قيد الحياة لهنأتها حتمًا! ولنفكر أنها إلى حد الآن، لم تفهم أبدًا ما كانت أمها تريد منها!
أليس ألا نكون شيئًا في روحنا، ألا نعتقد بنفسنا، بداية أن نكون جسدنا؟ وبكلمة وجيزة، بداية الدعارة، فلا شيء يبقى في الجسد عندما لا يحكمه إحساس آخر غير المتعة. (وألا نعيش إلا بالمتعة، أليس ما ندعوه عامةً الدعارة؟) الشهية، التواتر، القدرة، السلطة، الفسق، مُتَعٌ يولع بها الحيوان الذي فينا، والتي لا نُقر لها بالسيطرة علينا إلا لنُرضي متعة على متعة، متعة عليا نقبلها في عُجْبِنا وخُيَلائنا كمُسَلَّمة طبيعية، ألا وهي الإغواء.
إذن، عند وصولها رقم 69، دخلت، وهي تزفر زفرة عميقة. صعدت بهدوء درجات أبلتها السنون، كيلا توقظ السكان الآخرين، خوفًا عليهم من الهذيانات الحلمية، فيقفون على أمرها، لتجد نفسها أمام زوجها، وهو يشخص ببصره إليها.
- ماذا تفعل هنا؟ سألت. ألم أقل لك بعدم العودة؟
دخل من ورائها دون أن يلفظ بكلمة، فما أحزن المناسبة، لِيُفْرِحَها صوته. وصوتها، هذا الصوت الناعم، في الزمن العادي، صَرَّ قلبُهُ بحدته.
خلعت أسمالها، وألقتها في السلة.
- قلت لك أن تذهب على ألا تعود نهائيًا، فلماذا تعاند؟ اتركني من فضلك.
- وجدتُ عملاً، قال كاذبًا، لا تريدين أن تعرفي ما هو؟
- اسمع، إذا وجدت عملاً، فهذا شيء حسن، سيكون باستطاعتك دفع نفقة آنييس، ابنتك. لكن قل ما هو، بما أنك هنا.
حاول المسكين سباستيان جاهدًا أن يساير ابتسامة مترددة.
- أحبك، يا مارغ...
- آه! فلتذهب! ألا لديك شيء أفضل من مضايقتي؟
- هذا لأني لم أصبح طيارًا؟ أو مهندسًا؟
- اسمع، لقد أخفقت في كل شيء، فماذا تريد؟
- ولكن، ألا تزالين على حبي قليلاً؟
- لا، أنا لا أحبك، أنا لم أحبك أبدًا! وتوقف مع هذا، من فضلك.
- بلى. قبلُ، كنتِ مغرمة بي، وكنتِ تعتقدين بقدر ما أعتقد أننا سنكون الزوجين الفعليين الوحيدين على الأرض.
- طيب، ماذا تريد، في النهاية؟ فلتذهب! دعني وشأني، طيب؟ دعني وشأني.
- كنتِ تحبينني فقط لأني كنتُ غنيًا كموسيو هنري، أليس كذلك؟
- آه! لا، أبوك كان غنيًا، وعلى التأكيد ليس بقدر السيد هنري. وأمي كانت من وراء كل هذا، وإلا أنت تعلم جيدًا أنني لن أتزوج بك أبدًا هكذا.
- اسمعي: إذا أردتِ فعلتُ كما كنت تقولين لي: سأقتحم ميدان السياسة أو الدبلوماسية أو سأفتح دكان...
تقدمت من الحمام شبه عارية، فأمسكها، وأحاطها بذراعيه المرتجفتين. خبأ وجهه في كتفها، وأخذ يبكي. قطعت رائحة الرجل الغريب وُثوبَهُ الحيوي، رائحة مني ومياه آسنة.
- من هو؟ طلب، وهو يعلي أنفه ارتيابًا.
- لماذا؟ طلبت، وهي تعلي أنفها تحديًا.
خفض رأسه.
- هل أعرفه؟
- واحد. لا تعرفه... لا أعرفه.
- كيف! هل أصبحت مجنونة؟
- اتركني، الآن! إنها حياتي! تقول إنك تحبني، يمكنك أن تدعني وشأني رغم كل شيء، بعض الشيء، لا يمكنك أن تدعني وشأني؟
لم يتركها، فحاولت دفعه. ألصقها على الحائط، بكل قواه، وغرق بأصابعه في عنقها، ليخنق يأسه. كانت تعلم جيدًا أنها، مهما فعلت، ستبقى حبه الأبدي، أمره المقضي، فسقط على ركبتيه، مكروبًا، مذهولاً، وبقي هكذا بضع لحظات أمام هاتين الساقين الممتنعتين وهذا الجسد المُفْسَد. هو كذلك لم يكن أحدًا –وحتى لم يعد أحدًا، وهذا أسوأ-، وحياة جسده كانت بائسة. أبله وبليد الذهن كان، ولإحساس بأن هذه الطريق دون مخرج، وأنه عاجز عن إيجاد أخرى في الوقت الحاضر، قام، وخرج.

7
طار الحب على جناحي الليل، ومزقت كواسر الشمس بمخالبها السماء. تذكرت مارغريت مساء الأمس، فتنهدت من أعماق قلبها، والقطار يذهب بها إلى المصنع، وطريق العمل لا يفضي إلى شيء آخر غير العمل، كدوامة محكمة الأبعاد. توحدت وجوه الركاب الكابية بأخوة صفراء شاحبة اللون، بعد أن تركت لليل الساعات الساخنة للأمل، وشكلت التعبير الإيجابي والعملي لنهار جديد من العمل، سيُصلح بطريقة قويمة انحرافات الليل.
نزلت في محطة شامبينيي، وأخذت الباص 208 إلى المنطقة الصناعية حيث يوجد مُجَمّع السيد هنري. كانت عيدًا للقربان، مارغريت، وعَبْرَ الزجاج الأخضر المزرق للباص، بدت الشمس كماكينة بيضاء، وهي تطبع قطرات المطر الجافة المختلطة بالرمل على وجهها. كان نهر المارن في خُرْمِهِ ساكنًا كبحيرة ميتة، وأشجار الصفصاف واقفة لا تقطع الفصول، ولم يكن بالإمكان أن تُرى على صفحته غير الأوراق الراقدة. ترك الباص قنطرة المارن، وتجاوز دار البلدية. تباطأت حركة السير، وعلت منبهات السيارات الساخطة. رأت نفسها بعين الغيظ بين ذراعي الرجل الغريب، فهل كانت هي؟ هي؟ عاد نهر السخط إلى مجراه. لا، لن تكون شيئًا آخر غيرها، مدام ميرابو، العاملة في مصنع الثري موسيو هنري، حيث ينسى الكل نفسه، حيث يجهل كل واحد الكل، ويجهل نفسه. كانت مصنوعة لطريق الأشواك، ولأخطار الآلة. من أحسن منها؟ وهرب حلم مساء الأمس في الظل إلى الظل لأن ضعفها كان حقيقتها الوحيدة. حتى أنها ستعود على التأكيد إلى زوجها، كي يضغطها بين ذراعيه، كي يأخذها على كتفيه، كي يجفف دموعها، ويجعل منها شخصًا قويًا. ستستعيد ابنتها، وستعيش طوعًا أو كرهًا عيشة من يقطع الأيام بلا نهاية. كان لآنييس من العمر خمسة عشر عامًا، لم ترها منذ عام تقريبًا، منذ الانفصال. وضعتها في دير، في بور-روايال، لتكبر بعيدًا عن مشاكلها، ثم، بعد أن تعودت على العزلة والحرية، في صحراء الأنانية التي كانت حياتها، فكأنها هجرتها. الآن تكبر ابنتها بعيدًا عنها...
أخيرًا توقف الباص، وسارعت الأجساد التي يشق عليها العمل نحو البوابة الحديدية الكبيرة.
- مارغريت!
كانت جوزيان الصغيرة، امرأة قصيرة جدًا وسمينة جدًا تعيش في المُفرزات العمالية إلى جانب المصنع، وكانت المسكينة، وهي تركض، تتأرجح كالبطة البدينة.
- صباح الخير، يا مارغريت!
- صباح الخير، يا جوزيان الصغيرة! وإذن! أسكن في باريس وأصل في نفس الوقت وإياك!
- آه! لكن أنت لديك هموم أقل، وعليك ألا تركضي من وراء أحد. أنا، لدي البنات، الأولاد، الأدوية، بسبب حساسيتي... ألم اقل لك؟ ذهبت لرؤية الطبيب، وقلت له ما عندي، أجرى لي تحاليل، وبعد ذلك، أتعرفين ماذا قال لي؟ إنها ليست حساسية، إن لا شيء عندي، إنها ليست حساسية إطلاقًا. العمى! لربما يظن أنني لا أعرف مم أعاني!
- أوه! هو طبيب مع ذلك...
- وحساسيتي؟ ليس هو من عليه احتمالها. أنت لا تتصورين... وقال أشياء كثيرة عن الحساسية النفسية-لست-أدري-ماذا، لكني أنا أعرف ما عندي.
دخلتا المصنع.
- ليست كحساسية من شعر الكلاب أو القطط، ليست كحساسية مثل هذه، لكن عندي حساسية، هاه؟ تحكني مرات، تحكني من كل مكان، أنت لا تتصورين! زد على ذلك، حسنًا، وعدني، مع ذلك، بإجراء تحاليل أخرى، لأنها إذا كانت حساسية، فسيبدو ذلك، أما أن يفكر في أنها ليست كذلك... سترين.
لبستا بزة العمل، وغطتا شعرهما، ووضعتا قناعًا على وجههما، وانفصلتا بإشارة من الرأس. سالت أنهار العسل في قنوات واسعة، وهي تتموج، وتتوهج، وتتدوم، إلى ما لا نهاية، وانصبت في صواعات شفافة. كانت مارغريت تراقب الصواعات الممتلئة، وتسوي مستواها عند الحاجة، وبعد ذلك، كانت جوزيان الصغيرة تغلقها، هناك غير بعيد، على السجادة المتحركة. كانت بقبقة العسل الذي يغلي في المراجل، في الناحية الأخرى من المصنع، تختلط بالضجيج الحاد للمحركات التي تقذف الإكسير في موجات سميكة، مما كان يتطلب قوة هائلة لدفعه في القنوات.
في ساعات الشك تلك، والضغط الحقيقي لوجودها المادي، كانت في الواقع امرأة عادية. كانت ترتدي بزة عمل، ككل الأخريات، وتغطي شعرها بعناية. كانت تقوم بأفضل ما تقدر عليه، وكانت لها هيئة جادة. ثم، كانت تقضي وقتها في عد الوقت الذي تبقى لها قبل طعام الغداء أو نهاية اليوم، والوقت يمضي ببطء. أحست بالصداع و، ككل مرة، فكرت في أن تطلب من رئيسها نقلها إلى مصنع آخر من مصانع السيد هنري، أكثر هدوءًا، حيث تستطيع خاصةً إطلاق شعرها، وقليلاً نسيان كل هذا العسل الذي يلتصق بأصابعها وبحياتها. تعبئة القناني بالنبيذ مثلاً، أو بالأحرى ملء الأكياس بالفواكه الجافة، اللوز، إذا ما حالفها الحظ.
عند منتصف النهار، لم تتحرك جوزيان الصغيرة من مكانها.
- وإذن، ألا تأتين للغداء؟ سألتها مارغريت.
قالت جوزيان لا برأسها، فوق عنقها الخفيّ إلى درجة يتساءل المرء فيها إذا ما كانت تريد أن تبعث فيه بعض الحيوية بكل بساطة.
- لا تريدين أن تأكلي؟ لستِ جائعة؟
- لا، عندي ساعة إضافية. تعرفين؟ لأجل الأولاد، أجابت بعصبية، وهي تخضخض رأسها إلى اليمين وإلى اليسار. تساعدني جوزيت قليلاً في تنظيف البيت، لكن لتجد عملاً، لا تريد ترك المدرسة، ف...
انسحبت مارغريت ، وهي تسحب شالها، وأخذت من الهواء نفحة. كان زكيًا هذا الهواء العليل، ولا يكفي أبدًا بالقدر الذي تأمله. اتجهت إلى الكشك، وانتظرت برخاوة دورها لشراء ساندويتش جبن بالزبدة وزجاجة عصير. خلف الكشك، كانت الشاحنة المصفحة للنقود هناك، عند ساعة الغداء كالعادة، كما لو كانت تحتقر العمال المغبونين في حقهم، وهم يقذفون قطعهم النقدية في ماكينات توزيع الساندويتشات والشراب، والتي سيذهب بها الوحش شبعان خلال عدة دقائق. ذهبت تجلس على مقعد في زاوية، ومن أمامها مدينة الغابة "لابيه"، مدينة العمال، الأشبه بركام من العلب الموضوعة هناك بالصدفة بعضها على بعض. كان يُلقى فيها ما يقارب ألفي عائلة من عمال مصانع هنري الثاني وهنري الرابع... أما هي، فهي لا تعمل ساعات إضافية، ولا تضحي بنفسها. عادت تفكر في آنييس، وتتأوه، وهي تنظر إلى ساندويتشها بلا شهية. ستذهب إلى رؤيتها قريبًا جدًا، كانت ابنتها. وهي تفكر فيها، لم تعد تعرف نفسها في هذه المرأة المتقلبة الأطوار التي تركت نفسها مساء أمس تسقط في الدعارة بدلاً من الذهاب لزيارة ابنتها، طفلتها، كالأم الجديرة بأمومتها مثلما ستكون من الآن فصاعدًا.
أكلت غصبًا عنها، ثم تمشت قليلاً في الضوء المغبر للخريف، والخير يستعصي عليها، فالشر جميل، على الأقل كما تفهمه، كما تفعله. وهي غائبة مع أفكارها، مضت قربها سيارة السيد هنري الرولس رويس السوداء.
- توقف!
أطاع السائق.
انساب الزجاج الملون تلوينًا خفيفًا، وكشف عن وجه السيد هنري المبتسم ابتسامًا رائقًا، وقلبه يخفق بقوة قوية.
- ألف معذرة، مدام! كنا على وشك أن نقلبك، أليس كذلك؟ ولكن كذلك، كيف تذهبين من هنا دون أن يكون أحد بصحبتك؟ هل يمكن لامرأة فتانة مثلك ألا تجذب كل أنظار هذا المُجَمّع؟
ما هو اسمها؟ و، كم هو غريب أمرها، تذكره بامرأة عرفها في الماضي البعيد! تكلم معها بتلقائية، كما لو كان يتكلم مع صديقة، وباطمئنان، كما لو كان يعلم أنها تأمل هذه اللحظة منذ أعوام بحُمَيَّا المتدين. فجأة، تساقطت الحجارة على مقدمة السيارة، وإحدى العاملات تسب السيد هنري، وتصرخ بوحشية مطالبة بحقوقها، حقوق لم يوفق إلى فهم ما إذا كانت اجتماعية أم نقابية أم شخصية أم ثأرية. وبسرعة، غادرت السيارة، ومارغريت بيديها المفتوحتين في حركة بلا جدوى لم تفه بكلمة. انقض الحرس الخاص على المتمردة، وذهبوا بها إلى حيث لا يعلم أحد إلا الله. إلى تلك الزنزانة التحت الأرضية ربما، حيث، كما يقال، يجيء السيد هنري بالعمال الذين يختارهم بدقة. تخيلت مارغريت نفسها بين الذراعين البدينتين للمعلم الكبير، وهو يسيء معاملتها، وابتسمت متحيرة مبتهجة لهذا الحب العنيف، الأليم، الاختياري.
تدفقت دقائق ما بعد الظهيرة كمشروب روحي، وعما قليل كعسل مرصود للملائكة. لقد أوقف السيد هنري بنفسه سيارته، وسأل عن اسمها. كانت لها هيئة غبية بالتأكيد، وكانت تنظر إليه كما لو كان قادمًا من كوكب آخر. لم تفه بكلمة، وبقيت فاغرة الفم كمراهقة. ولكن من المؤكد أنها ستجيبه عما قريب: "مارغريت ميرابيل، صانعة العسل!" وستميل قليلاً، دون أن تتوقف عن النظر إليه، ولن يعود هناك ما هو مبهم. أو ربما، ستخفض بالأحرى عينيها؟ لقد سأل السيد هنري عن اسمها... ودفعة واحدة، بدا كل ما حلمت به دومًا على مرمى يدها.

8
حالما عادت إلى البيت، انطلقت نظرتها من النافذة، في الليل الأزرق، طليقة من أي قيد. ضغط عليها الانتظار، التعب، والصمت، وأحست بصدرها يمتلئ كبحر هائج لا يعي وعي النفس من المد والجزر: اليوم، أوقف السيد هنري سيارته و... هل سيأتيها غدًا؟ هل سيبعث بمن يأتي بها؟ ستذهب للأكل في نفس المكان، ولن يخيب سعيه. إذا ما هرب في المرة السابقة، فسيكون هذه المرة غير ما كان انتقاميًا في طبعه. كان عليه أن يكون منارة الحب. الحرية. لقد تكلم معها، وكانت على بعد إصبعين منه. ستكشف الإصبعان الثريتان والمعطرتان اللتان ستأخذانها برقة عما قريب، وبعفة، عن قلاعه وأعاجيبه، وسترافقانها حتى كبد السماء! ثم ستثأر لكل النساء اللواتي أمكنه خداعهن في الماضي، وسيكون لها عليه من السيادة ما لا يُقهر وما يُنكل به.
تحت، لم يبق من المساء سوى الأرصفة الغبية المبلطة. كان العالم في موضع آخر، وبلاط الطريق المطهر والمدور يدور في العيون كعلامات استفهام. كان الليل يقترب من منتصفه، والهدوء يسيطر على المكان، غير أن الأمواج في داخلها تزأر تعلو وتتحطم بعنف على مرتفعات الحب الهائلة التي تقيمها في الهدوء. في السماء، كانت النجوم السخية، الأمومية، على الأسطح المتلاصقة، تعرف ربما إذا ما كان السيد هنري سيأتيها غدًا أو سيبعث بمن يأتي بها. كانت تحتفظ بالسر جيدًا. وإذا ما لم يأت؟ سيأتي. كانت قد قرأت ذلك في عينيه. كانت حلمه، ذئبته العاشقة، عشيقته بامتياز، المرأة التي يحلم بها كل الرجال أو باستطاعتهم أن يحلموا بها أو عليهم أن يحلموا بها...
ألقت مارغريت جسدها على السرير، وأغمضت عينيها. تناولت يد السيد هنري، ووضعتها على نهد ثم على آخر. التهب النهر تحت بشرتها، وأخذ يهتز، يغلي، يصرخ. وهذه الحشرجة وحدها، كأنفاس تاجر رمال الهوى، تبعث الحياة في آلاف المضاجع الصامتة الغافية من باب حي دوفين إلى الباب الذهبي في قلب باريس. تحولت باريس إلى تأوه رهيب، مع أنه بارع، شبقي، وشهي، واغترفت كنه وجودها الليلي. باريس، ضوء الأنوثة الطفلية وعربدة الأقوياء من المنجمين.
تفجر الكون.
في السكون الوليد، ظنت مارغريت أنها تسمع خطوات تجول قرب بابها، خطوات ذئب، ربما. أو بالأحرى، لا، خطوات خنزير بري، خطوات سميكة وناشفة في نفس الوقت، حوافر خيل تقريبًا. كانت تبطئ لتراقبها حتمًا، وثقلها يطبع، من هذه المسافة، خَطَرانها غير المحسوس. والغريب في الأمر أنها لم تكن لتتوقف، وكان عليها أن تدور في دائرة. إذن لم تكن لها. عادت تفتح عينيها ببطء، فوقعتا على المصباح المعلق في السقف، والذي يقوم بحركات ذهاب وإياب منتظمة. كان قلبها. انحرف السرير قليلاً، وعند رأسها، قَبّلت الكرة الصفراء اليسرى الجدار الجبسي، فجعلت دقات قلبها تدوي في كل الشقة كما لو كان ذلك عبر سماعة الطبيب. فجأة، نزلت الدرج خطوات مسرعة، خطوات حيوان، خنزير بري أو... قفزت، وذهبت لترى. تحت، انغلق الباب، فركضت نحو النافذة، لكن لا أحد هناك. لا أحد آخر غير الناس. ربما كان خيالها. غير أن هذه الصدفة أخرجتها للحظة من غفلتها. أعادت ارتداء ثيابها، ونزلت.
صعدت شارع موفتار بسرعة، فالرجل/الحيوان ربما كان هناك، وستخونه نظرته. مع قليل من الحظ، لن يكون زوجها. لا، كان جد ثقيل. لا، كان هناك من يراقبها، من يحبها بصمت كالحارس الملاك. ستأخذ حذرها من الآن فصاعدًا، وستعرف كيف تفك أدنى إشارة... على ساحة المنحدر، لم يكن عازف القيثار الملتحي، ولأول مرة، كما تذكر، يعزف شيئًا. كان يجلس وحيدًا، على منأى من المشردين السكارى الفائحة رائحتهم والمتكدسين كالجرذان. ابتسم لها، فأضاقها، وأدهشها، وفجأة أخافها. أدارت ابتسامتها، وأسرعت الخطى نحو البانتيون بأعمدته الداكنة الغارقة في الصمت الساجي للقبور. لم يكن تمامًا نوع الإشارة التي تنتظرها. هبطت شارع سوفلو مسرعة أكثر، والتفتت عدة مرات دون أن تتوقف. كان أحدهم يراقبها إذن؟ الملتحي؟ عادت تلتفت عدة مرات، ولا يبدو أن أحدًا يتبعها. كان يبدو على بعض متنزهي منتصف الليل النادرين، وهم سياح في معظمهم، أنهم يتنزهون بلا مبالاة، دون أن يعيروها أدنى انتباه، ودون أن يلاحظوا حركاتها الحذرة. أرادت الرجوع إلى بيتها، غير أنها كانت خائفة من الوقوع على مضطهِدِهَا. فكرت في اللجوء إلى حديقة اللكسمبورغ. ستكون مغلقة، في تلك الساعة. ثم، لن تكون في أمان بالفعل. بحثت، من وراء السياج، بشكل آلي، عن التمثال الأسود لهيبوليت، ووجدته أخيرًا في مكانه، ولكن دون نايه. كان هيبوليت عابسًا، وإذن، على التأكيد شيء ما سيقع لها. عادت تأخذ شارع سان-ميشيل، بمصابيحه القديمة المنطفئة، وبدا أن خطوات تتبعها من كل جهة، والخوف من كونها مطاردة جعلها تقشعر بضراوة. وصلت ساحة السوربون شبه راكضة، وبالطبع المطارد كان أنا.
هنا، قرب المقاهي التي لم تزل مليئة بالرواد، أحست بالراحة. كان الرواد يشغلون معظم الطاولات، عشاق وعاديون. وكان الشاعر المكتنف بالأسرار، الشاعر أو الرسام، بخديه الغائرتين ونظرته البعيدة وهيئته الضائعة، الوحيد، الغائب، كان هناك في نفس مكان مساء أمس (تدبرت أمري مرة على مرة لأسبقها). كانت لدي أصابع طويلة خنثوية وعظمية بعض الشيء، أصابع لرومانسي قَصِم القلب. وكان يبدو عليّ أنني أتكلم مع نفسي، وأغلقُ عينيّ كلما قَبّل عاشقان بعضهما.
جلستْ أمامي، وهي في الوقت نفسه تنظر من حولها بروع وحذر هامسة:
- اعذرني، هل تسمح لي بالجلوس هنا، فقط للحظة؟ هناك من يتبعني...
تفرستُ فيها بهيئة شديدة الدهشة:
- عفوًا؟ بالطبع، اجلسي. أحدهم يتبعك؟ أين هذا؟ قلتُ مخفضًا صوتي كي أدخل في سرها خائفًا في الوقت ذاته من المبالغة وخلع القناع عن وجهي.
نظرتُ حتى أقصى الساحة، وأدرتُ رأسي في كل الأنحاء، دون أن أرى أحدًا.
- كان لدي انطباع بأنني مطاردة من طرف أحدهم، أجابت الجميلة المجهولة، خجلة ومضطربة، وهي تواصل البحث بعينيها لتقنعني بشكل أفضل بأنها لا تكذب. أنا لم أره، لكن... لهذا كنت خائفة، ولهذا توجهت إليك بالكلام، كي أستطيع الرجوع... دون أن أخاف من وجودي وحدي.
كنت أبدو دهشًا دومًا، وأتظاهر برصدها كشيء مثير للفضول، وأخيرًا أترك نفسي على سجيتها.
- وكذلك لأني أعرفك قليلاً، قالت.
كان دمها يتوافد على عنقها المخملي بموجات ضخمة.
- تعرفينني؟
- لو سمحت لنفسي بذلك! لقد رأيتك أمس، كنت هنا، على نفس الطاولة... هل تفهم قصدي؟
- صحيح، لا مكان آخر لي منذ عدة أيام، جازفتُ وأنا أبتسم لها ابتسامة واسعة.
كان وجهها الملون والساطع الخارج منذ لحظة من روعه، وكانت جميلة أكثر من أي وقت مضى. من الواضح أنني بتأكيدي ما قالت قد هونت عنها الشيء الكثير، ولم يعد من الداعي التظاهر بالدهشة. كانت تبتسم ابتسامة أقل ما يقال عنها مسكرة.
- كيف لي نسيان أني لم أرك أبدًا؟
- كنت جالسة على تلك الطاولة، هناك، لكنك كنت غارقًا في أفكارك. كنت تنظر قليلاً في الفراغ... ثم أنا لم أبق كثيرًا، بقيت دقيقة فقط.
- تصوري أني كنت أبحث عن وجه، وأكثر تحديدًا عن وجه أنثوي آخذه نموذجًا لبطلة روايتي القادمة. وكنتِ هناك أمامي، ولم ألاحظك!
- إذن أنت كاتب؟ عملت بابتسامة طفلة ومسحورة، تخيلتك شاعرًا أو رسامًا، لم أكن بعيدة كثيرًا!...
- نعم، لا... إنها امرأة مثلك تمامًا تلك التي أبحث عنها. شيء لا يصدق! هل أنت من الزبائن المعتادين على ارتياد هذا المقهى؟
- لا، إنها الصدفة. من العادة ما أكون في "المنحدر"، هل تعرفه؟ قلت لك، كان لدي انطباع بملاحقة أحدهم لي. ما أقوله يوحي بالهبل، لكني أؤكد لك أنني بدأت أشعر بعدم الارتياح بالفعل. الآن عاد إليّ اطمئناني بعض الشيء. سأتركك. أتمنى أني لم أزعجك؟
- لا، أرجوك، على العكس! أقول لك كنت أبحث عنك، ويا لها من صدفة! كنت أبحث عنك، وها أنت تجيئين إليّ! وتريدين الذهاب وأنت لم ترتاحي بعد؟ فلتبق قليلاً...
ابتسمت. أذهب، لا أذهب، أذهب...؟
- الصدفة؟ قالت أخيرًا. وإذن، يجب علي أن أقول لك الآن: من عادتي ألا أعتقد بما هو باطل أو وهمي. اليوم لدي انطباع بأن الصدفة والاتفاق قد اتفقا على أن يقوما بالحيل معي.
- على التأكيد! ستضحكين إذا ما قلت لك إن اسمي هازار (صدفة)! ولكن لخدمتك –انحنيت تعبيرًا عن احترامي- ألا يضمن لك هذا أنني أعرفها أفضل من أي شخص آخر؟ إنها حليفتي الأكثر نفاسة!
أخذت الجميلة المجهولة تضحك ضحك الماء في الحلوق المرمرية، وأنا مفتتن بها.
جاء النادل، فاعتذرتُ قائلاً له إننا سنذهب.
- وإلى أين؟ تحدتني مارغريت لما ابتعد النادل قليلاً. أنا أفضل البقاء.
- إلى مكان أكثر هدوءًا، لنتكلم قليلاً، قلت بكل الهدوء وكل التركيز اللذين كنت قادرًا عليهما، إذا ما لم يكن لديك مانع. سيقفلون هنا بين لحظة وأخرى... وكنت تريدين التحدث معي عن كل تلك الصدف التي تطاردك.
صدفة سعيدة! ربما كانت تفكر. لم يكن ذلك بفضل الشكل الأعجف للرجل المخلص والبسيط الذي كان لي، وإنما لهيئة الفنان الغامضة الباحث عن الإثارة. ولأني كنت قربها، على عكس السيد هنري. موسيو هنري... سترى أمرها معه غدًا.
- هل لديك مانع؟
- لست أدري، عَمَلَتْ وهي تتعثر بقرارها.
- أعرف مكانًا صغيرًا... سحره المطلق يذكّر بمركز-شمال فرنسا.
- و؟ هل تحب مركز-شمال فرنسا؟
- ولدت في اللوار-و-الشير، قرب الغابات السوداء، و...
بسطتُ لها كفي، فترددت ثانية، ووضعت كفها، وهي تفهم بغموض أن هذا كميثاق توقّعه، مع إحساس بإمساك ظفر سميك لخنزير بري بين أصابعها. في الأخير، نهضت.
- إنه مطعم صغير يبقى مفتوحًا حتى الصباح، في جزيرة سان-لوي. هل أنت جائعة؟
- لا، لست جائعة.
- لكنكِ لم تتناولي طعام العشاء، مخطئ أنا؟ ليس الأمر مهمًا. ما هو أساسي أن نستطيع التكلم بهدوء، أليس كذلك؟
- ممممم... أفكر أنه لمن الأفضل لي أن أعود إلى بيتي: لقد تأخر بي الوقت، وأنا أعمل غدًا...
- لن أبقيك طويلاً، هذا وعد أقطعه على نفسي، ساعة صغيرة فقط، لحظة فقط. أود كثيرًا أن أعرفك قليلاً، أن "أرصدك"... هل تفهمين؟ أن أدرس ملامحك... ومفاتنك. أنا لا أستطيع إخراج بطلتي هكذا من العدم، من لا شيء. هل تنسين أنك الآن بطلة روايتي؟
- هل هي رواية أم سيرة؟... أنت تكاد تعرفني، وأنا ليس لدي شيء مما لدى بطلة، وإذا ما لم آت للتحدث معك...
- العكس هو الصحيح، قلت بنبرة لا أَكْمَل، أنت امرأة مدهشة.
حنت رأسها إلى جانب إشارةً للتساؤل. أزحتُ عينيّ كيلا أوهمها بإغرائي لها أو بكونها امرأة سهلة.
- مدهشة، جميلة، ساحرة.
كان السحر معنا، فابتسمتْ بسعادة.
- ما هذه إلا بعض كلمات تجازف بقولها لتبقيني...
- لا، أنا صادق فيما أقول، أؤكد لك. حضورك اللامتوقع، هنا، هذا المساء، يعمل في الجو كحركة متناسقة، ويلهمني... أشياء ما أمكنني أبدًا كتابتها دون أن أعاشرك بعض الشيء. هيا، قولي لي إنك ستأتين.
لم تقل شيئًا. وضعت يديها في جيبي سترتها الدفيئتين، وأنا أفكر: لقد غامرتُ بالقيام بالخطوة الأولى، وندمتُ على عدم وجود سيجارة صغيرة معي أدخنها لأعطى يُسرًا أكثر لشخصيتي.
- في كتابك، هل تقع في غرام بطلتك؟
- ممممم. ليس أنا، ولكن على القارئ أن يقع في غرام بطلاتي. هن مني بعض الشيء، فأفعل كل ما في وسعي كي أنقلهن بنحو يستطيع فيه قرائي، هم، ربما، الوقوع في حبهن... وفي حب جُمَلي.
- هل أنت واثق إذن من أنك لا تغازلني؟ قالت ضاحكة كما لو كانت ترفض هذه اللعبة، طريقة من طرق العدوان.
- كما أنا واثق من أنك لن تقعي في غرام مجهول يقترح أن يفحصك كفراشة في مختبر.
- إذا ما وقعتُ في حبك أنا، فماذا ستفعل؟
- سأبذل كل طاقتي كي لا تقعي في حبائلي، كوني مطمئنة. لقد أصبحتِ جزءًا مني، ولا أريدك أن تتعذبي بلا جدوى.
أخذنا نمشي تحت المصابيح المنطفئة، وهي تنشر عطرها في الليل، والليل يقترن بها إلى حد الإفراط. كان الأمر سحريًا، وكنت أضحك كهرير القطط.
- عطرك... يذكرني بِشَبِّ الليل، زهر ينمو في غابات المنطقة التي كنت أسكنها، في مساءات الخريف خاصة.
- أنا لا أضع عطرًا، ابتسمت.
- هل تعرفين أن الاسم الصغير لشب الليل هو "جميلة الليل"؟
ابتسمت من كثير إلى أكثر، مسائلة إياي بعينيها، وعما قليل ستستسلم مغلوبة على أمرها.
- أؤكد لك. إنها زهرتي المفضلة. وما أفضله من حيوان... ما هو حيوانك المفضل؟ أنا، إذا ما خُيرت بين كل الحيوانات ما أُمسخ مثله، قلت بهيئة جادة، كنت خنزيرًا بريًا: الخنزير البري هو السيد الأرستقراطي لغاباتنا. منذ آلاف الأعوام، قلت وأنا أصقل عباراتي بمتعة الراوي، كان يعيش في اللوار-و-الشير الأوس والأسد والفهد... اندثرت كلها ما عدا الخنزير البري الذي عرف كيف يتكيف ليبقى. لقد ربح كل المعارك، وبفضل خَطْمِهِ، قلتُ وأنا أغضن أنفي، أنقذَ الطبيعة من تدمير الإنسان، وَصَنَعَ فرنسا.
قهقهت مارغريت، ثم استدركت:
- لم تكن أمي تحب الخنازير، لا الأليفة ولا الوحشية. كانت تفضل الطيور الجارحة: النسر، الصقر، السقاوة. كانت تعبد السماء، والأعشاش فوق القباب العالية... وأنا، أعتقد أنني كأمي.
- إذن أنت لا تحبين الخنازير؟ أنت تسعدينني كما ترين، هكذا أنت لن تقعي في حبي.
ضحكتُ بقوة أكثر مما يجب، مما أعطاني انطباعًا بتحويل هذا الملاحظة التي أردتها روحية وطريفة إلى حمرنة. اقتربنا من المطعم، فأشرت إليه بسبابتي لأذهب بانتباه مدعوتي إلى مكان آخر.
- هناك.
غير أنها كانت تضحك على وجه رائع:
- آه! في الحب، لا تعد مارغريت بشيء.
أليس ما نعتقده، أن هذه النساء كسُلاف ومارغريت، هذه الآلهات الكامنات في حقيقتنا الإنسانية، لهن ميل طبيعي للسكري واللؤلؤي واللوني؟
- مارغريت؟ هذا هو اسمك؟
- صحيح، لم أقدم نفسي بعد. أي نعم، اسمي مارغريت، مارغريت ميرابو. أو ميرابيل. ميرابو اسم زوجي السابق.
- ميرابيل (ثمرة الجانرك)! صدفة سعيدة على صدفة سعيدة!
كانت تسطع كالفكرة الجلية.

9
جعلتها تدخل المطعم أمامي، وقاعته المعطرة مغطاة بكرم وعطاء النباتات والزهور النامية في اللوار-و-الشير.
قادنا النادل الكهل، كما يلائم هذا النوع من المطاعم، إلى طاولة، وجعلنا نجلس بكل حِلم واحترام في جو محمر ومشجر من أجواء الخريف، على خلفية كونشرتو براندبورجوا لباخ.
تم تقديم المقبلات باحتفال من طرف الصادح الشيخ: شَكييير الملفوووف بجوز البيريغووورد.
بكل حرية، وكل حيوية، حكت مارغريت الأساسي في حياتها بسلامةِ طَوِيّة، والموسيو هازار (صدفة) الطيب الذي كنته يستمع إليها ببشاشة واهتمام بالغ في التفاصيل. في غضون ذلك، قدم النادل الطبق الرئيسي: فتيييلة سنجاب مشوووية مع شرائح برتقال وأوراق نعناع.
- إذن، قلتُ، إذا ما فهمتُ جيدًا، كانت أمك من وراء انفصالك عن زوجك كما كانت من وراء زواجك به: رسّخت في ذهنك مَثَلَهَا الأعلى الثقيل جدًا المتمثل بالسيد هنري، الذي، بشكلٍ واعٍ أم غيرِ واعٍ، انتهى به الأمر إلى التغلب في داخلك على كل حجة من الحجج الغرامية؟
- ربما... الحقيقة أنها دومًا ما كانت تترقب كل المقالات عنه وتقول لي دون توقف إن عليّ عندما أصبح كبيرة أن أتزوج من رجلٍ مثله، لأن أبي لو لم يمت باكرًا، وَفْقَها، لكنا أغنياء بقدر هذا الرجل.
- ولهذا السبب كنتِ على استعداد لقبول أي عمل في مصنعه.
أنعمت مارغريت النظر في عينيّ دون أن تعلم إذا ما كان عليها أن تحقد عليّ لِمَا قلت أو تعمل كمن توافق بصمت على تحليل يبدو أنها لم تتعمق فيه بهذا العمق. ثَبّتُ النظر، وأنا أضع كل ما بوسعي من ذكاء، في عينيها.
- والآن؟ لم يجر بعد أي شيء بينك وبين السيد هنري، أليس كذلك! ما عدا بعض الملاحظات عن جمالك يستطيع قولها أي رجل آخر خيّر القلب مكانه والتي لا تخون رغبته المكبوتة كبتًا خفيفًا في النوم معك. ما عدا هذا، لم يجر شيء، أليس كذلك؟ اعذريني، لديَّ عيبٌ معيب: غالبًا ما أكون مباشرًا في كلامي أكثر مما يجب. هي عادتي مع موديلاتي، وبعض الشيء مع الكل، وأجدني أميل إلى نسيان أنكِ لستِ بعد في كتابي...
- النوم معي، كما تقول، أو مع أخرى، بالنسبة إليه، أفترض أن الأمر واحد. أنا متأكدة من أنه لن يراني مرة ثانية، فهو مشغول جدًا، وكل نساء العالم على قدميه، لهذا...
- لهذا ماذا؟ هذا كل شيء؟ لن تحاولي؟ وثروته؟ و... العالم، المجد؟
- المجد؟ نعم... وبعد ذلك، ماذا سأفعل؟ لا، الأمر سواء، الآن. ما أريده اليوم أكثر من أي شيء آخر أن أجد الحب. الحقيقي. دومًا ما تأتي الثروة فيما بعد، وإذا أتت، فلن أقول لها لا. لكني الآن... بسلام مع نفسي.
خفضت عينيها.
- الحاصِل... لن أكون بسلام مع نفسي فعلاً إلا عندما أجد هذا الحب، لكن، طبعًا، من النادر ذلك، أليس كذلك؟
رفعت عينيها، وأرسلت إليّ ابتسامة كبيرة.
- ماذا! عدتُ إلى القول، أنتِ، ستكونين على استعداد لتضعي طموحك جانبًا وأحلامك لتسلمي مصيرك إلى صُدَفِ الأيام؟ من الصعب عليّ الاعتقاد بذلك. إذا كان هناك شيء تعلمته، فهو أن المرء لا يتغير، أن المرء...
- ها أنا أسلم مصيري الآن إلى موهبتك، موسيو هازار (صدفة)، وما سيثير الاهتمام أكثر إذا ما واصلتُ الاعتماد على حَدْسِكَ لتنجز شخصيتي.
ضحكتُ بسرور فاهمًا أن هذه الجملة مزدوجة، دون أن أدرك بوضوح سياقها. في تلك اللحظة، لم أعد أميز بين حصة الحيلة التي لدي من حصة الحقيقة. امتلكتني هذه المرأة، ولم أعد أعرف إذا ما كنت أريد التخلي لسحرها، إذا ما كنت أستطيع التملص منه، إذا ما كنت سأعرف رمي نفسي فيه دون أن أضيع.
- نارُكِ التي لا شفقة لها في داخلك لهي كنداء الفراغ، قلتُ بفطنة. أنتِ كمتسلق الألب أو أي جبل شاهق، الذي يهاجم الجبل الأبيض، الذي يصارع قمة الإيفيريست، تتركين حياتك بين يدي القدر، فسقوطك متوقع في أية لحظة، تخونك صخرة على شكل صقر، أو تجدين نفسك مرهقة في أسوأ لحظات صعودك، لكن طالما بقي لديك هدف، أنت لا ترين إلاه، على استعداد لكل شيء، تنسين حتى العدم الذي يناديك ويهددك بصمت.
- ليس لكل شيء: لن أرميني أبدًا على قدمي أحد.
- سيكون ذلك وكأن المرء يلقي بنفسه في الفراغ.
- أفضل أن أترك الصدفة تعمل ما تعمل، إلا إذا ما كان السيد هنري هو من يأتي إليّ، عندئذ سأغدو كل شيء له.
- غلط! خاطرتُ بقولي، وأنا أحضن بارتباك بعض الهواء. يجب كبح أكبر الغرائز الجنسية وكبتها، بهذا الشرط وحدة نشعر بالمتعة. المتعة في ذاتها عابرة! إذا ما نجحتِ في الصعود على رأس السيد هنري، ستستنفدين كل هذه الطاقة التي تمور فيك اليوم. وسقوطك في الفراغ سيكون ما أمرّه، لأنه أقل حسيًا، أكثر لا فهمًا. من الخطر الصعود عاليًا، إنها الطريق الأقصر لنهاية الشهوات والنزوات. أسوأ مما هو عليه في الشيخوخة، لن يوصل هذا، في رأيي، إلا إلى حالة للحب نهائية تعافها النفس، حب ميت-حي!
اعتدلتُ لأفسح مجالاً للنادل كي يضع التحلية: خِنّوص من عجييينة اللوز مغطى بالعسللل.
- تريد القول إن الموت يكمن لي؟ قالت وهي تنحني قليلاً أكثر مما يجب كمن تدلي بسر أو بشيء هكذا، ولكن دون أن ترحمني تاركة إياي طوال الوقت أتعذب. إذن أعتقد أن عليّ نسيان السيد هنري تمامًا أو أن أقطف في الحال كل ما تقدمه الحياة لي وأستعد للموت قريبًا. في هاتين الحالتين...
- هيا هيا، أحاول فقط أن أرسم تصميمًا لبطلتي...
ولكن يا لي من أبله!
اعتدلت مارغريت، وهي تشع تعاسة. كان من البداهة أن أترك دور الكاتب-المراقب في الحال، والدخول بشكل أفضل في لعبتها، وإلا ستذهب خلال لحظة.
- ولكني لست بطلتك، قالت ببسمة اجتماعية وخاوية حتى أنها لم تصوّبها باتجاهي، وأعتقد أنني سأتركك تنهي سهرتك معها!
ها نحن ذا!
- اعذريني، بطلتي لن تكون إلا على الورق... لا تزعلي مني إذا ما ذكرت بعض الأفكار السوداء...
لم تجب. خفضت عينيها على تحليتها، وبسمت للخِنّوص بسمة خفيفة. من أعماق الغموض حيث تغرق أفكاري بالتدريج، انبثق فجأة شعاع داكن أو ساطع، لم أكن أعرف بعد، فدندن موسيو هازار (صدفة) الذي كنته، وهو ينظر إلى زوجين آخرين غير بعيد: لا شيء، تعرفين جيدًا، الوقت يمضي...
فتحت مارغريت عينيها واسعًا.
- أين تسكن؟ سألتني جاهدة في تبديل الحديث بشكل طبيعي.
- في فندق صغير، شارع سان-دُني، لماذا؟
- للا شيء، همهمتْ.
أكلتْ دون أن تنبس بكلمة، عندما رفعت عينيها، رأتني أتأملها، بنظرة مشبوهة.
لم ألمس تحليتي.
- لا تأكل؟ لا تحب؟
- الحقيقة... قلت مع حركة صغيرة من رأسي وابتسامة زجاجية.
- كل، طيب الطعم!
- بدأتُ في الاعتقاد اعتقادًا جازمًا أنك لا تحبين أي نوع من الخنازير، لكن، في الواقع، يكفي أن تتبهرج بقليل من العسل أكثر مما هي على الطبيعة...
ضحكتْ قليلاً، وشعرتْ بالضيق أمام تحديقي المَرَضي، فصعد عسيرًا في حلقها، وجعلها تسعل. شل لسانها لعاب حامض، وتسلل إلى بلعومها، فسبب لها الغثيان. نهضت بسرعة راكضة نحو المغسلة، وتقيأت بعنف. تغطى وجهها بالقذارة، واجتاحتها الرائحة الكريهة. أحست لأول مرة منذ سنين بأحشائها ملجأً للتعفن، وبها لا شيء غير تسوية مغرضة بين المِعَى والأمعاء، لا شيء غير حيوان. وهي ترفع رأسها، وعيناها تنفجران بالدموع، لمحت وجهها المشوه في المرآة، أمامها، وصرخت في اللحظة التي أمسكتها فيها من كتفيها. غسلتُ وجهها، ونشفتُهُ بهدوء، بحنو.
- لا شيء، هكذا، أليس كذلك؟
حط الصمت فجأة بالأطنان: الظل أم الضوء، كان عليّ أنا أن أختار هذه المرة. كان من اللازم الاختيار. الآن أو أبدًا.
- أنتِ... رائعة، همهمتُ. على صفحات الوجود، مارغريت، أنتِ رائعة، أنتِ أجمل امرأة قابلتها على الإطلاق.
لففتها بذراعيّ بإحكام، ولم تبدِ أقل امتناع، أصغر نفاق للعبة جديدة.
تركنا الفندق، والليل يشحب في باريس، والنجوم تذوب في العِظَمِ اللازورديّ لسماء لم تكن سماء ليلة أمس تمامًا. كان نابليون بحاجة إلى بناء القناطر من أجل القضاء على مقاومتها، وكان نهر السين ينشق إلى فرعين داكنين من حول جزيرة سان-لوي كلسان الأفعى.
- تأخر بي الوقت بالفعل، قالت، عليّ واجب الرجوع إلى البيت.
رفعتْ قبتها بسبب البرد، فخلعتُ سترتي، ووضعتها على كتفيها.
- هل أرافقك؟ سألتُ حقًا بتهور ولكن عن حسن نية.
- لا، شكرًا، سآخذ تاكسي.
ها نحن ذا. بعد كل هذا، بعد كل هذه الجهود من طرفها ومن... طرفي لنتمكن من الالتقاء في ليلة، في ليلة واحدة، على تَخْمِ الحب، ها هي تبدل قوانين اللعبة من جديد، وتجعل من نفسها حساسة ورومانسية. هل كان من اللازم الإلحاح؟
مشينا عدة خطوات صامتين.
- متى سأراك؟
لم تجب مارغريت شيئًا.
- ستمرين لتعرفي أخبار روايتي؟ أعمل في جريدة على بعد خطوتين من هنا...
في أمواج نهر السين الداكنة، كانت الأسماك تضحك متشنجة.
- أجيبي بالإيجاب، فتسعدينني حق السعادة. سنتحدث من حول فنجان قهوة ساحة السوربون أو قرب بيتك شارع موفتار، تسكنين في الرقم 69، أليس كذلك؟
بهستيرية، سالت دمعة على خد مارغريت. وجدت نفسها غبية. ثم أخذت تضحك بِخَرَق، كسمكة تتعفن. نزلت النجوم عن سلالمها، وامتزجت بدموع ليلة بيضاء من ليالي باريس، فامتلأ الجو بالأحزان. انفجرت مارغريت باكية، وهي تضربني على صدري. أعادت إليّ سترتي، وهربت راكضة.
- ما...
انطلقتُ من ورائها.
- انتظري، اِعْذِرِيني، سأُرَافِ... أنا، يجب أن أقول لك شيئًا. مارغريت. أنا أيضًا كنت أعرفك، عندما جئتني على ساحة السوربون.
لم تكن تريد أن تسمع شيئًا، كانت تركض ركض الخنزير المهتاج، وتقفز قفز الجناح المحطم.
- الحقيقة، رأيتك للمرة الأولى أمس، لا، أول أمس، لم أعد أذكر، في محطة شاتليه، عندما كنتِ تنتظرين القطار، ولما رأيتك... عرفت في الحال أَيَّ راحٍ قادرٍ على إحداث الحب يسري في أوردتك، ففقدت عقلي. قلت لنفسي لا شيء في العالم أستطيع العذاب من أجله أكثر مما لو تركتك تختفين في الطبيعة. كنت تبدوين وكأنك تخرجين من أحلامي، أنت المرأة التي يحلم بها كل رجل، أو يمكنه الحلم بها، أو عليه الحلم بها... الحاصل، توقفي!
أمسكتها من كتفها، وبحركة حادة بعض الشيء جعلتها تدور نصف دورة. صفعتني، وابتسمت بغرابة. (ما أعترف به أنني ترددتُ، بقدر البرق في الظلام، بقدر الرعد في الخواء. كان من الصعب عليّ الاعتقاد أن هذا يقع لي. أعدت التفكير في الأمر لمامًا فيما بعد، و، حاصل الكلام، أعتقد أن هذا لم يقع إلا لموسيو هازار (صدفة). أضف إلى ذلك، في زمن عادي، لم يقع هذا لي أبدًا). أمسكتها بحيطة أكثر، وتابعتُ لاهثًا:
- تدبرت أمري في الصعود في مقصورتك، وسط عامة الناس، كي أستطيع النظر إليك... كانت لك نفس الابتسامة اللغزية الشفانية هذه، ابتسامة المحكوم عليه بالإعدام، الذي يستخف بكل شيء. إنه إغواء العدم، هذا ما ينفخ فيك الحياة، مارغريت، العدم الغريزي والخلاق الذي لا يصل إليه سوى أشخاص الاستثناء. اتفقي معي على هذا على الأقل: لقد قرأتُ ما في داخلك قراءة المحق، أليس كذلك؟
أخذت مارغريت تبكي باستسلام لا متوقع، لن يتأخر عن التحول إلى عداوة.
- عندما نزلتِ في محطة لوكسمبورغ، تأملتُ كما تأملتِ الناس الذين كانوا من حولنا، هل تذكرين؟ كانوا يرخون شفاههم كالبلهاء، في تلك اللحظة، قرأت في عينيك، وفي تلك اللغة التعبيرية جدًا التي تعبر بها حركاتك، أنك أحسست بكلمة "الرعاع" وما تعني. بعد ذلك، تبعتك حتى مسكنك في شارع موفتار. لم أجرؤ على التحدث إليك، فماذا كنتُ سأقول؟ صعدتِ، ورأيتك بعد عدة لحظات على نافذتك...
كان لابتسامتها المُرّة بريق عابر لابتسامة خجولة: كانت على حق، هناك من أحبها بصمت، من تبعها، من ترصدها، وتقريبًا من حماها، وهذا الحارس الملاك... رفعت رأسها نحو سماء باريس المحمرة: أينها الآن، النجوم؟ عادت إلى البيت لتنام، وسيصعد النهار عما قريب.
- هكذا، يا موسيو هازار (يا سيد صدفة)، تدخلت فجأة، واصل مرافعتك. كنتَ تفكر في الحصول عليّ لقاء وجبة شهية مع واحد من اعترافاتك المشبوبة العاطفة، هاه؟ هل هو اختصاصك، أم أنك أصبحت صادقًا الآن بعد فوات الأوان؟ لديك شكل الواثق من نفسه لما تكون مرائيًا ومخادعًا، ومن الخسارة بكثير أن تتغير. وقل إنني كنت على استعداد للإيمان بك وبالوقوع في حبك. الآن لن يكون لك شيء، حتى ولو رجوتني جاثيًا.
- لا، أنا... أقسم لك، لم أُعِدّْ شيئًا...
- مَثَّلْتَ عليّ من البداية حتى النهاية، فهل هناك أفضل من ضربة الكاتب؟ اعترف على الأقل بكونك لا أقل لديك ما تقوله لي...
- لكنني كاتب! على أي حال، لم أنشر بعد، أعرف جيدًا ما تفكرين، لكنني كاتب، و، أقسم لك، الرواية التي حدثتك عنها، ستكون... رائعة من الروائع. أرجو منك المعذرة، أطلب منك أن تغفري لي. دعيني أرافقك.
نظرت إليّ لِهُنَيْهَة، وكأنها لم تعد تعرفني.
- فلتذهب إلى الشيطان!
- من فضلك، يا مارغريت.
لم تكن تنظر إليّ –لماذا لم تذهب إذن؟- كانت تطبع عليّ أفكار التعفن والأفعال الخائبة، وكأن المقصود زوجها. مُكْرَبًا، مُعْدَمًا، تركتُني أسقط على ركبتيّ، وأخذتُ ساقيها الممتنعتين بين ذراعيّ.
- أمس مساء عندما كنتِ في شارع شامبوليون، وكأنكِ منبوذة في قعر الهاوية، رأيتك تصعدين هذا الشارع، وكنتُ أكثر انفعالاً، وأنا أراك أكثر إلهية من موسى أمام شوك النار. وفي شارع سان-جاك، أخذتُ أركض من ورائك كي أمنعك... لكن كان من اللازم ذلك، أليس كذلك؟
ساخطة منذ لحظة، لم تعد مارغريت تدري ما تحس به. إذن رأيتُ كل شيء، وعرفتُ كل شيء، إلا أنني بقيتُ. وبينما أنا أحكي، تأكد لها قليلاً قليلاً أن الوضع قد انقلب في صالحي. انحنت، أقعت، وداعبت لي شعري.
- هل تبكي؟
- لا. كنت أتمنى ذلك. لست أدري، لست قادرًا على ذلك. لم أتعلم البكاء أبدًا. سامحيني... دعيني أرافقك.
و، بنعومة، قبلتها، ولكن، قبلاً صغيرة، على الكتف، وبدا لي أنني أتعذب، وأنا أغامر على العنق، وأضيع، وأنا أمسّ مسًا خفيفًا الشفتين الفتانتين لشفتيها المُفْتَنَتين. كنا على وشك أن نمارس فعل الحب تحت المصباح، فقهرتُ نفسي فجأة، وهي تلهثُ:
- لا تتركني!
- تعالي!

10
أمسكتُها من يدها، واستهمتُ كمن يملأ صفحة بالصور في البون الشاسع والعاصي الذي يفصلنا عن الفندق والسعادة. كنا نتبادل بعض النظرات صامتين، من وقت إلى آخر، لندفع عنا بعيدًا، بكل قوانا، كل تعب، وكل الأفكار المضادة. هل نكتب عمرنا باللحظات أم بلحظة؟ هل نجدنا بالأمنيات أم بأمنية؟ تمنت لو يوجد الفندق بعيدًا جدًا لتبرهن لنفسها هِياج شهوتها، في حين بدا لها أنه بعيدٌ بالفعل أكثر مما يجب، فاضطرت إلى ترك صبرها يكدر شعورها. كانت الإرادة في تحقيق ما لا نريد، ما لا نرغب، ما لا يمكن تحقيقه. اختل عقلي، كنت أحبها كثيرًا، كانت وعدي الخلاب، وأنا لهذا كنت أحبها أكثر من أي شيء في الوجود، كموتي كنت أحبها، وكنت أسعى إلى الخلاص بالهرب معها من كل البشر، وحتى بالهرب منا. لم أكن أتطلع إلى المستقبل، والمستقبل كان ماضيًا في يدي القابضة على يدها، ولم أكن أبال بالحاضر، والحاضر كان موجة من أمواج نهر السين السرمديّ. كانت اختصارَ الأزمانِ على خاصرتها، وركونَ العالمِ إلى الهدوء، ولم نكن الهدوء، كنا الصخب القادم للهزيم، العواء الكريم، والأبيض الأسود في حلكة النهار، عندما تغيب الشموس، ولا تبقى سوى شمسنا. ليت أني لم أكن! كل هذا شيء كثير لن أحتمله! كل شيء غدا كثيرًا، غدا كبيرًا، وجودها قربي، لحظاتها معي، دقات كعبها على البلاط الرطيب، وأكثر ما غدا كبيرًا وكثيرًا وبعيدًا فندقي القريب.
أخيرًا وصلنا شارع سان-دُني، وضوء الفجر يبتلع ضوء المصابيح. كانت بعض العاهرات يقفن هنا وهناك، وسماتهن التعبة تبين على وجوههن. نظرن إلينا، ونحن نعبر، بإرهاق وحسد، وهوى الحياة أكثر دناءة من حياة الهوى، في صباح ليلة بيضاء، تهمس باغتباط تخضبه التفاهة الساخرة. ونحن نمر تحت هذه النظرات المنهوكة، الخضراء المزرقة، والفاحصة، أحست مارغريت بالضيق، كما لو كانت في أرض غريبة.
- لماذا اخترت السكن في هذا الشارع؟ وفي فندق، فضلاً عن ذلك؟
ابتسمتُ لها ابتسامة الوُثوق، ونحن نبطئ غير بعيد من عتبة الوُصول.
- لأن الحرية، في أيامنا، لا توجد بالفعل إلا في هذه الشوارع، وسط بنات الهوى. هناك في هذه الشوارع شيء يسري بسلام، على الطبيعة، كما في ساعات الإنسانية الأولى. تصعد المومسات مع زبائنهن، أحيانًا نتلاقى على الدرج، نبتسم لبعضنا، دون خجل، دون كذب، أحيانًا بحرارة، مع هذه الإنسانية البسيطة التي أكلمك عنها، هذه الإنسانية الواقعية والصادقة... شارع سان-دُني، إنه شارع الشبق المحرَّر.
حيتني مومس:
- مساء الخير، موسيو دافيد، أو بالأحرى صباح الخير!
وابتسمتْ بلا مبالاة.
- صباح الخير، أوديت!
- موسيو دافيد؟ همست مارغريت. هذا اسمك؟
لم أجب شيئًا. كدت أنسى أنني لم أزل موسيو هازار (سيد صدفة).
- اسم جميل!
- أنا من اخترته.
انفجرت مارغريت ضاحكة:
- مع أمك، عندما وُلدت؟
العفوية والحيوية اللتان كانتهما هذه الضحكة أعادتا رسم الإخلاص الأول لمارغريت وتذكيري بسعادةِ لُقيتي إياها.
- اخترته عند بلوغي، دومًا ما كنت أريد تسميتي دافيد...
على باب الفندق، حيتني مومس أخرى بابتسامة واسعة، كانت على وشك الرجوع إلى "البيت" هي أيضًا. وهي تُخرج مفاتيحها، نَظَرَتْ إلى مارغريت، وسألتها بصوت حيادي تمامًا:
- هل أنت جديدة، في القرنة؟
احمرت مارغريت خجلاً، وصنعت تلك الابتسامة المسطحة التي نعطيها بلا اقتناع كل مرة نريد فيها التظاهر بأننا لم نفهم شيئًا (أو عندما لم نفهمه بالفعل أو لم نسمعه، ولكن، لسبب أو لآخر، لا نجعل أحدهم يعيده على أسماعنا). ابتسمتُ، بكل رحابة، وكلي افتتان، بينما انطلقت مارغريت، بسعر، نحو الدرج. فتحتُ بابي، وفي الحال، اخترقتِ الغرفة، وألقت بنفسها على الأريكة، دون أن تلقي نظرة على ما حولها.
- لم تستطع عوني! مهما بلغ الأمر، فالأكثر طرافة تغطيتي بالعار!
نهضتْ على عجل، وتعرتْ بفظاظة، وهي تلقي ثيابها على الأرض.
- تعال، الآن! أنا مثل أية واحدة من تلك البنات!؟
أعرف ما تفكرون... كنت أود لو أراكم، أمام هذه الفضولية السماوية الشهية اللذيذة الغريبة العجيبة التي تغلي من سورة الغضب، الجائعة إلى حياتها كما لو لم تحيَ شيئًا من قبل، تُقدم جسدها أمامكم بدافع الثورة، الرغبة، الخوف، طعم العدم... لم أكن قويًا بما فيه الكفاية، أنا، على الأقل، للعودة بعض ساعات إلى الوراء، ولأعطي صوتي وحركاتي الطبيعي المستحيل في صوتي وحركاتي منذ البداية. أمام هذه المجمرة اللا مفسرة، لم أكن سوى نَفْثٍ، بعضِ الأكسجين.
دخلتُ بهدوء.
- تَغْطِيَتُكِ بالعار! هي من غَطَّيْتِهَا بالعار. ومع ذلك، أنا واثق من أنها عاتبة على نفسها أكثر منك. لقد عاملتِهَا كأقل مما هو تافه...
وهي تتقدم عارية كاليوم الأول، كان كل شيء يضطرم فيها، ولم تشأ الخلاص من قدرها القهريّ. ظنت أنني أنام مع كل تلك البنات، ورأت نفسها متمردة، رأت نفسها لا مبالية، رأت نفسها تشبههن، رأت نفسها طفلة أمام أمها، وقامت بخطوة أولى نحوي. خَطَّطْتُ كل شيء كي آتي بها إلى سريري، كذبتُ عليها، خدعتُهَا، لم أغمض عيني خلال ليالٍ، وأنا أُعْدِدُ خديعتي، وأنا أتساءل كيف سأقودها حتى فندقي، وبشكل متناقض كل ما فكرت فيه انضاف دون أن ينطرح، ربما عَثَرَ بها الحظ، ولكن، في كل الأحوال، لم تعثر قدمها، وقامت بخطوة ثانية نحوي... هي، لن تكون مومسًا، ستكون عشيقتي، فخري، ظَفَرِي، كل حياتي.
دفعتُها –بحذر وارتياب ربما- فتشبثتْ بي لاهثةً، ونظرتُها نظرةُ المجنون واليائس. حاولتُ لثانية أن أسندها، غير أن تلك الأنفاس السحرية لشهوة مارغريت المتعذر كبحها اختطفتني مني، وجعلتني كالشاطح المنذهل النشوان المنتشي. تركتُني أترنح، وأسلمتُ نفسي للمتعة المتفجرة لهذا الجسد المتشذِّر.

11
نامت مارغريت طوال الصبيحة، وجزءًا صغيرًا من بعد الظهيرة. عند استيقاظها، لم أكن في الفندق. دافيد... تذكرت فجأة. لم تذهب إلى العمل! هل كانت عاشقة، هل كانت تحلم؟ تركها دافيد وموسيو هازار بكل بساطة في هذا الفندق القذر، هذا كل ما هنالك. نظرت بخجل من النافذة، ولما تزل بعد عارية. كان شارع سان-دُني يغرق في ضوضاء من المتعذر وصفها، وهناك في قرنة عاهرتان تنطران. فجأة، رأتني أخرج من دكان، تحت، مقابل الفندق، وتحت ذراعي علبة كبيرة. وأنا أراها بدوري، رفعت بفرحٍ يدي، والشمس تحت حجاب من الغمام تكشف عن وجهها بين فترة وأخرى، وتبتسم لي. كان ذلك رائعًا. صعدت بلحظة، وسارعت إلى الدخول، فألقت مارغريت بنفسها بين ذراعيّ.
- لم أحضر شيئًا للأكل، قلت، وأنا أبدي العلبة، لكن... افتحي، إنها لك.
قبلتني مارغريت كمن يعض خوخة في الصيف، وأخرجت من العلبة فستانًا طويلاً من الحرير الأزرق المخضر. شدته عليها، وهي تنظر إلى نفسها في المرآة، وتصيح من الفرح. قبلت من جديد العاشق المثالي الذي كنته، وركضت لتقيس هديتها. توارت قليلاً في قاعة الحمام، وعادت إلى الظهور كما لو كانت في حُلم.
- اخترته أزرق مخضر كعينيك.
قبلتني مرة أخرى، وهمهمتْ:
- شكرًا، يا دافيدي! شكرًا، يا حبيبي!
- هذا الفستان خيط لك، أنت أكثر لذيذة فيه... هل أنت جائعة؟ سنتناول بعض شيء في مطعم؟
في الطريق، لفتني برقة، ونحن نمر أمام المومس التي عادت إلى الفندق معنا في الصباح. حيتنا بلا تردد، وأضافت مع بسمة طيبة:
- أنا آسفة على هذا الصباح، ظننت... أنت تعرفين...
ابتسمت مارغريت بكل مرحها.
- ولكن! لا تعتذري! قلتُ، وأنا أقدم الواحدة للأخرى، لين، مارغريت...
حركتا رأسهما بنفس الطريقة، وفي نفس الوقت، وكأنه دور في مسرحية راجعتاه بإتقان، وضحكتا نفس الضحكة تحت أصابع الشمس. "تشرفنا" قالت الواحدة للأخرى، وأحستا أنهما قالتاها في نفس الوقت وبنفس الطريقة، واكتفتا بالابتسام كملاكين صغيرين في الفن الكنسي أمام سعادة تلك اللحظة الدنيوية. حركت بدوري رأسي كيلا أبطل السحر، وافترقنا بوجه يأتلق.
على بعد غير بعيد، أمسكتني مارغريت:
- سأريك شقتي، هل تريد؟ ثم، التماثيل، في اللكسمبورغ، طيب؟ لا أريد الذهاب إلى مطعم، أفضل أكل تفاحة.
- أنت متأكدة؟
- مههه! على كل حال، أنا لا آكل كثيرًا قبل العشاء.
- كما تريدين!
اشترينا تفاحًا، وقضمناه، ببساطة قضمناه. تفاحة من كل لون، قررت مارغريت، وكل واحد منا أكل نصفها. صفراء، وحمراء، وخضراء، ورمادية. عملت من هذه التفاحات لعبة التقسيم، وفي النهاية، أرادت أن آكل قلبها الذي لا يؤكل.
- ولكن لا، انتظري، سنلقي به في صندوق القمامة.
- آه! إذا ما كانت للرجال تفاحة آدم، فذلك لأن عليهم أن يفعلوا مثله.
- باه! إذا كنا مضطرين إلى حمل أخطاء أجدادنا، فما أكبر تورطنا!
- هيا، لنأكل، علينا ألا نترك شيئًا. ما الضرر الذي سيسببه لك هذا؟
- ليس هذا، ما...
سكتُ. إلى أين تجرني؟ ابتسمتُ، وأنا أنظرُ على استقامةٍ أمامي، حكاية قيام بهجوم مضلل، وَقَبَّلْتُ يدها.
- لم أعمل، اليوم، كما ترى، قالت.
- تريدين أن تتلفني؟ لدي بطاقة.
- لا، سأقول بسبب ابنتي. سأقول إنها كانت مريضة، وإنني كنت مضطرة إلى الذهاب إلى الدير. على كل حال، سأخسر يومًا. لكن يجب ألا يتكرر هذا، موسيو لو بويِت (السيد الشاعر)، وإلا انكشف أمري!
- آه! أنا لا أعدك بشيء.
تعلقت بكتفيّ، وعضت لي أذنيّ، ثم صاحت هامسة:
- كيف!...
- عندما نحب لا شيء يهمنا!
تجهمتْ:
- دافيد؟ هل تحبني؟
- لم أقل هذا، قلت "عندما نحب". لا يهمكِ أنكِ أضعتِ يومك، أنا مخطئ؟
- ستحبني إذن؟ أريدك أن تحبني، أريد كل شيء، الآن وإلا فلا. أنا، أعتقد أنني أحبك بالفعل، وإذا كان الأمر كذلك، فعليك أن تحبني كذلك...
- ولما نبدأ بعد!
- نعم، ولما نبدأ بعد! نحن لا نعرف أبدًا متى سيطرق الحب على بابنا، ولكن عندما يطرق، من الأفضل أن نفتح له، وبسرعة.
- لكن... وإذا لم يكن أنا؟ أريد القول: وإذا لم يكن أنا الذي تنتظرينه؟
- تريد القول: إذا ما لم نكن هنا، في نهاية المطاف، الواحد أمام الآخر، إلا مصادفة، إذا ما لم يكن لنا أي قاسم مشترك أو دائم نتقاسمه، إذا ما كان علينا أن نفترق كشخصين غريبين؟ تصور أنني سأفعل ذلك على الرغم من كل شيء، لكني لا أعتقد أن هذه هي الحال.
- مع أي شخص كان؟
- ماذا مع أي شخص كان؟ لا يأتي الحب هكذا، كيفما أتى، مع أي شخص كان، الحقيقي: السحري، الصاعقي، العجيبي...
وهي تواصل السير، أخذت تغطي وجهي بآلاف القبل الناعمة هامسة:
- أحبك! أحبك! أحبك!
قطعنا معًا ساحة المنحدر، وأنا أفكر أن هذه المرأة لا مثيل لها في الوجود، وأنت على استعداد للخضوع بين يديها إلى درجة تشرب فيها بولها، أو تقتل نفسك على فخذها، لتشعر بالحرية. عندما رآنا عازف القيثار الملتحي، أبدى وجهًا طويلاً قاسيًا وباردًا. لمحت مارغريت زوجها من بعيد، تحت عمارتها، وهو يجتاز عتبتها، فطلبت مني أن أنتظرها قليلاً في الشارع، وعندئذ ابتسمت:
- إذن هذا هو الحب الذي كنت تحدثينني عنه منذ قليل؟
- أرجوك، إنه زوجي... لن أتأخر عنك، وهو على كل حال لا يستأهل التعرف عليك.
قبلتني، وتركتني راكضة. أخذت بريدها، الرسائل قليلة والإعلانات كثيرة. وهي تصعد، فتحت رسالة مرسلة من الدير: بذاءات، تهديدات، محاولات هرب... أخذت ترتعش، وهي تقرأ. وجدها زوجها، وهو يعود إلى النزول، على وشك الانهيار، فأسندها. اعتدلت، وتبعها بصمت. فتحت الباب، والتوتر الشديد بيتها، وتركته يدخل، وهي تقذف الرسالة في وجهه:
- هذا بسببك، صاحت، سأفقد ابنتي بسببك!
تصفح سباستيان الرسالة بسرعة.
- أنا أعمل من الصباح إلى المساء، ولا أستطيع زيارتها، لكن أنت، لماذا لا تذهب إليها، أنت، ملك العاطلين عن العمل!
أعاد بهدوء وضع الرسالة في الغلاف، وجعلها على حافة الطاولة.
- تكلم! أليس لديك ما تقوله؟
- من قال لك إني لا أفعل شيئًا؟ أنا أقضي كل وقتي في البحث عن عمل لأواصل دفع بنسيون البنت، ولم يعد باستطاعتي الاحتفاظ بفرنك واحد، بسبب فكرة الدير فكرتك. من جهة أخرى، جئت لأقول لك لم يعد يمكنني الدفع، أنا طفران. عليك أن تتدبري أمرك، الآن.
- إذن لهذا السبب جئت؟ لم ينفع الإزعاج، ستحاول الابتزاز؟
تردد، رأى نفسه جاثيًا أمامها، فقرر البقاء واقفًا.
- الحقيقة... جئت لأجل شيء آخر، شيء يحرقني، شيء واخز يحرق لي الدماغ، يسمم لي الحياة...
تركته يقول، وهي توافق بهزة من رأسها عفويًا.
- أنا أراكِ في كل مكان طوال النهار، ولا أستطيع أن أدركك... أنت مدينتي، أنت كل حياتي...
أخذها بين ذراعيه بقوة.
- كفى! كفى! توقف! صاحت.
ضربته، فتركها.
- منذ تلك الليلة... أنا أتعذب أقسى عذاب، همهم. لماذا تفعلين كل هذا، يا مارغريت؟ ماذا فعلتُ لك؟ عودي إليّ، تعرفين جيدًا...
- أنني مهما أفعل، سأبقى حبك الأبديّ. أعرف!
زفر.
- بففف! أ... ذاهب، هذ... لا ينفع لش...!
- وآنييس؟ أنت لا تظن أنك ستنسحب كالشعرة من العجين هكذا؟
- تدبري أمرك.
وذهب.
تركته يذهب، انتظرت أن يبتعد، وأشارت إليّ بالصعود. وأنا أدخل سليب اللب، لم ألاحظ عينيها الداكنتين. جُلت طويلاً في كل حجرة، تأملت أقل قرنة، وأنا أبتسم، وكأني أكتشف معبدًا. جلست في النهاية على طرف السرير، في حجرة مارغريت، وأدنيتها مني. جلستْ، وفي الحال، أحسستُ بتبدل مزاجها.
امحت ابتسامتي.
- ماذا هنالك، يا مارغريت؟
ابتسمت لتطمئنني، ابتسامة من ابتساماتها، هل تعرفون؟ تجنبتِ الجواب:
- ماذا، ألا تحب شقتي؟
- تعرفين جيدًا أنني أحبها، أنا لا أتكلم عن شقتك.
- أوه، لا شيء! إنه زوجي، لا يأتيني إلا بالمشاكل.
أخذتها بين ذراعيّ، وغطيت وجهها بالقبل:
- أنا لأول مرة في عشك، في شرنقتك، فانسِ زوجك، انسِ العالم، المشاكل، انسِ كل شيء! طيب؟
- يجب أن أسحب ابنتي من الدير...
وذابت في قبلاتي.
في المساء، رفضتْ من جديد الذهاب إلى المطعم. أرادت البقاء في السرير معي، والحب كل أكلنا. نهضتُ جائعًا، وغايتي لم تكن إبطال السحر، لكني لم آكل طوال النهار، فالحب هكذا لا يقيت إنسانًا أو خنزيرًا بريًا، وعما قليل سأكون منهكًا. بحثت في الثلاجة، ولكن دون فائدة، فارتديت ثيابي كيفما اتفق.
- سأذهب في طلب بعض الأطباق اليونانية، هل تحبين؟
- أسرع! أرغب فيك!
بعد عدة دقائق، عدت فارغ اليدين. كانت لم تزل تنتظرني في السرير، عارية، وبالموضع نفسه. أخذتني بين ذراعيها دون أن تطرح عليّ أي سؤال.
- لا أعتقد أن ما يجري بيننا مغامرة صغيرة، قالت، رغبة نحاول إشباعها، حاجة نريد تهدئتها. ما يحصل لي معك فريد في حياتي، أعتقد أني وقعت في حبك بالفعل، يا دافيد.
- أنا، يسبب لي الجوع، ولا أدري إذا ما كان ذلك إشارة حسنة، سنرى فيما بعد. لن يتأخر النادل عن إحضار الأطباق.
اكفهرت.
- أعرف، إنه الحب الأحادي الجانب. أفهم الآن ما أسببه من عذاب لسباستيان.
أردتُ تقبيلها، فصدتني.
- مارغريت، ليس هكذا نقع في الحب، كوني صبورة، قليلاً. لا أريد أن أشتهيك لساعتين فقط أو ليومين. إذا كان عليّ أن أحبك، أريد ذلك كل العمر، كليًا، بكل صدق. الحب أن نعتقد كلانا بضرورة العيش معًا إلى الأبد.
أخذتها من ذقنها برقة.
- طيب؟
- إذن متى ستقنع نفسك بضرورة حضوري إلى جانبك، موسيو هازار (سيد صدفة)؟
- في الحب، يجب ألا نخطط، يجب أن نترك الأمور تجري مجراها، يجب ألا تعود الصدفة طرفًا جوهريًا، الزمن وحده ما يحسب حسابه من الآن فصاعدًا.
ألقت بنفسها عليّ، وهي تلتهمني قُبَلاً.
- لن تتركني! لن تهرب مني! رددت.
هدأتْ قليلاً على الطرقات، فنهضتُ، وأدخلتُ النادل، وهو يحمل صينية كبيرة. رأى مارغريت من بعيد، فأغلقت عليها الباب، وطلبت منه وضع الصينية على الطاولة. بعد ذلك بلحظة، خرجت مارغريت عارية، فتشوش النادل، وصرفته بسرعة.
- لقد جننت المسكين!
لم أكن مسرورًا. بالنسبة إليها، كما هو الأمر بالنسبة إلى الطبيعة، على العراء أن يُعرض للعين دونما أي خجل، دونما أي تعقيد. وعلى العكس، بالنسبة إليّ، كل هذه المفاتن عليها أن تكون لي، لا لأحد غيري.
انفجرتْ ضاحكة.
- لنر ما طلبتَهُ لنا، قالت، وهي ترفع الجرس الضخم الذي يغطي الصينية.
أطلقتْ صيحة مرحة على رؤية الأطباق الملونة التي تتكون منها الوليمة: خضراء، بيضاء، حمراء، وردية، كستنائية. ورق عنب، فلفل محشي، تاراما، سلطة يونانية مع طماطم وخيار وجبن فتة، كل هذا للمشهيات. ثم شيش كباب، رز ولحم بالتوابل، قدم خنزير، وحلويات القطايف والبقلاوة. شعرتْ فجأة بالجوع، جوعٌ أخرج الذئب من حلقها، فأخذت تأكل من كل الأطباق على اختلافها. كانت تأكل، وتؤكِلُني. كانت تضحك، وتقبّلُ العاشق المثالي الذي كنته، فأقطف حبة رز على شفتيها، أو على قطعة لحم أتنازع معها. وبدوري ألقمتها كما ألقمتني، بيدي، بفمي، وأنا أزقمها بالضحكات، بالطعام، بالقبلات، إلى أن سقطنا على الأرض من الشبع. غفونا قليلاً. بعد ذلك، نهضت مارغريت، وأعدت القهوة. ومن جديد، عملنا الحب...

12
في الغد، قبل رئيس المعمل اعتذاراتها بعين شريرة. كانت مدام ميرابو تتنفس هواء لا يعرفه، ولم يكن هواء شخص لديه مشاكل. لم تبحث عن إطالة المقابلة، بينما في ظروف أخرى... لكنها في هذه المرة، بدت في مكان آخر تمامًا: كانت تفكر فيّ، في حبها المستحيل. كانت تبتسم للجميع، لمرتبانات العسل، للجدران. كانت تحسب عدد الدقائق التي زالت، والتي لم تزل، بأحاسيس ساخنة، برؤى خارقة. كانت تستعيد في ذاكرتها طريق العودة لتنثره بالزهور...
ابنتها؟ نسيتها.
السيد هنري؟ نسيته.
العالم؟
اِخْتُصِرَ إلى ذراعين تحلم بإلقاء نفسها بينهما.
جوزيان الصغيرة التي كانت تشك فيما يقع لها، وصلت بين الحِجَّة والموضوع:
- لديك هيئة العاشقة، يا مارغريت.
ضحكت مارغريت، واكتفت بقول:
- سأحكي لك فيما بعد.
وضحكتها ترن في الجو المتجدد للمصنع.
أخذت جوزيان الصغيرة تتكلم عن حساسيتها، عن صحتها، عن حالتها، ومارغريت تبتسم بلا انقطاع.
الظهر، الساعة، الثانية عشرة. تركت مارغريت جوزيان الصغيرة لساعتها الإضافية، وذهبت لعزلتها. وهي تأكل ساندويتشها، كانت تفكر بما أكلته مساء أمس، وأنا أضمها، وأنا أعضعض شفتيها، وأنا أجذبها إلى جسدي، وأنا أسحقها كما لم يسحقها أحد.
مضت الرولس رويس.
على الساعة الخامسة، تركت المصنع بعجلة. نادتها الصغيرة جوزيان، وهي تفكر في اللحاق بها، لكنها عكفت عن ذلك، وأطلقت نفسًا مديداً يائسًا.
لم أكن في الفندق، قالوا لها إنني كنت في الجريدة، وإنني تركت كلمة لها: تلفنوا لي لغرض عاجل، ولا أدري في أية ساعة سأعود. سألحق بك شارع موفتار حالما يمكنني ذلك.
بينما كانت مارغريت تنتظر تاكسي للرجوع إلى بيتها، وهي تغلي من الحنق، حيتها لين، وكذلك بنت ثانية وبنت ثالثة، أوديت وإسمرالدا، قلن لها إن الموسيو دافيد صديق الكل –من ناحية أخرى يحببنه كلهن بالسر. ضحكن، وهن يبدين حسدهن لها. أوقفن لها تاكسي، وأركبنها، وهن يقلن لها مع السلامة بشكلٍ مغالٍ فيه. ما أن وصلت شقتها حتى قرع الجرس، فتحت الباب لتجد نفسها أمام باقة ضخمة من الزهور.
- مدام ميرابيل؟
- نعم.
وضع الرجل الباقة على الطاولة، وجعلها توقع على ورقة قبل أن ينسحب بأدب. فتحت غلافًا صغيرًا، وقرأت: "أقبلك –دافيد"! أطلقت صيحة فرح، أعادت ارتداء ثيابها، وشدت الباقة على نهديها. كل شيء كان على ما يرام، حتى أن حامل الباقة دعاها "مدام ميرابيل"، فلم الإصرار على يأسها بلا هدنة؟ ألقت بنفسها على السرير مع زهورها، وانتظرت.
تأخرتُ، وتجاوزت الساعة منتصف الليل، عندما تَرَكَتِ السرير لتنظر من النافذة: كانت النجوم تتلألأ في السماء وعلى الأرض. لم يدغدغها المشهد، كانت حزينة، قلقة، متوترة. فكرت في الذهاب إلى الفندق، في الحصول على عنوان الجريدة... بقيت على النافذة طويلاً، لكني لم أجئ. عادت إلى سريرها، وأخذت تقص تويجات الزهور.
عند عودتي إلى الفندق في الغد، وجدت علبة مستطيلة باسمي على شكل تابوت. فتحتها، لأجد قُمَعَ الزهور بلا تويجات. رميت العلبة، ونمت. كنت تعبًا، ولم أستيقظ إلا نحو الساعة الخامسة بعد الظهر. ارتديت ثيابي، وأخذت قهوتي في حانة صغيرة قرب فندقي. قالت لي لين إن مارغريت مرت باكرًا هذا الصباح، ولم تكن مبسوطة.
وصلت إلى موفتار، ولم أجد مارغريت قد عادت بعد. ذهبت عند سوزان، بائعة الزهور، واشتريت باقة أكبر من الباقة السابقة. انتظرت على عتبة الباب، دونما قلق، فلم أكن عصبي المزاج. وصلتْ أخيرًا، ومرت ببرود من أمامي. قبّلتها في الداخل، وطلبت منها المغفرة. شرحتُ لها أن الجريدة نادتني لأكتب سلسلة من المقالات لا أحد يستطيع كتابتها غيري، مقالات عاجلة وقعتها تحت عدة أسماء مستعارة. حافظت على سحنتها العابسة، فقدمت لها باقة الزهور:
- باقة صغيرة كي تسامحيني...
اختطفتها من يدي، قصت تويجاتها، وقذفتها على الأرض.
- ما الذي يمكنني فعله كي تغفري لي؟
- أريد باقة أخرى، همهمت.
ترددتُ حائرًا، ضربتُ الأرض بقدمي، ونزلتُ. عدة لحظات فيما بعد، عدتُ بباقة أكثر جمالاً من سابقتيها. أَمْسَكَتْها، وأخذت ترمي المارة بالزهور، وهي تقهقه.
كانت تريد أن تجننني؟ أمسكتها بعنف من ذراعها:
- هلا أوقفت لعبة الأطفال هذه؟
زرعت أظافرها في بدني، ثم تراجعت:
- تسمي هذا لعبة؟ لم أنم طوال الليل، أنا، بانتظارك! لماذا لم تتلفن لي؟
- لأن بكل بساطة ليس لدي رقمك!
بقيت مارغريت للحظة منذهلة:
- لم أعطك رقمي؟
انفجرت ضاحكة، حاولت التماسك، ولم تكن لتقدر على ذلك. كانت تنثني وتتثنى من شدة الضحك، وأنا لم أعد قادرًا على التجاوب معها، وقد تجاوزني الأمر. ضمتني، وقبلتني:
- لماذا لم تطلبني إياه؟
- لم تتركي لي الوقت الكافي...
- أوه، يا كُرْنُبي المسكين! معذرة، معذرة. الحق أني لم أفكر أنا كذلك. اغفر لي...
مرة على مرة، انفجرت ضاحكة. كانت لضحكتها سعادةُ كونِهَا تُضْحِكُ، وكل هذا لا شيء، على الحب أن يكون مطلقًا، متقدًا، متلهفًا، بلا حدود...
تصالحنا، وأكلنا باقي الأطباق اليونانية، ثم نزلنا إلى مقهى كأس الجعة. كان الصيف الهندي يقترب بالنجوم إلى أصابع الزبائن، فجلسنا على الرصيف.
بحثت مارغريت بعينيها عن عازف القيثار الملتحي، الذي لم تكن تسمعه، بلا فائدة. وعلى العكس، كان الشحاذون دومًا هناك في نفس المكان، لا يهمهم إذا ما كان الطقس جميلاً أم رديئًا.
أفرغت نصف كأسها، ونهضت.
- سأعود، قالت لي، وهي تشير إليّ بالبقاء جالسًا.
اتجهت نحو الشحاذين، وسألت عن الملتحي. أجابوها بأنه اختفى فجأة منذ يومين، بشيء من غريزة القطيع أجابوها. كانوا سكارى وحزانى، فأشفقت عليهم.
- هل أقدم لكم كأسًا؟ قالت لهم.
فتحوا أعينهم المنتفخة واسعًا، وكأنهم يرون هذه المرأة الجميلة في الحلم. حَكُّوا وجوههم الثخينة، وانفجروا ضاحكين.
- بجد، أقدم لكم كأسًا، لا تريدون؟
مد لها أحدهم قنينة خمر:
- هل نقدم لك شيئًا للشرب، مدام؟
توقفوا عن الضحك لحظة، بانتظار أن يروا رد فعل المدام. بعد ثانية من التردد، أمسكت الزجاجة، وأخذت جرعة، فانفجروا جميعهم ضاحكين. قاموا، واقتربوا منها. كانوا يريدون لمسها، ورفعها، فأخذ مارغريت الذعر أمام هذه الجرذان الضخمة التي ألقت بنفسها على صدرها، على رأسها، على كتفيها، ونادتني لأخف إليها في الحال.
قال لي شحاذ اجتاحه الحزن من جديد:
- لسنا أشرارًا، أردنا فقط أن نعطيها جرعة من النبيذ، للسيدة الجميلة، لسيدتنا العذراء ماري!
تلك الليلة، ارتعشت مارغريت بلا توقف، وهي بين ذراعيّ. هذت، وقالت إن الجرذان تحاصر بيتها... كانت لديها حرارة، ولم أغلق عيني لا أدري ما أفعل.
اعتدلتْ فجأة:
- سأموت، يا دافيد!
طلبتْ مني أن أضغط يدي على قلبها، فأطعت حائرًا، خائفًا، راجفًا، وأنفاس مارغريت متقطعة، تكاد تختنق.
أخذتْ تصرخ:
- ناد على طبيب! فمي ناشف، أنا بردانة!
كنت ضائعًا، صدقوني. هل عليّ أن أطلب الطبيب أم أن أعطيها غطاء من الصوف؟ قفزتْ، وسحبتْ غطاء من الخزانة التفتْ به. أمام اضطرابي الشديد، ركّبت بنفسها رقم العيادة الليلية، ومدت لي السماعة.
وصفتُ حالة مارغريت لمحدثي الذي وعد بإرسال طبيب في الحال، فقالت مارغريت بصوت هش وراعش:
- سأموت، يا دافيد! ماذا ستفعل، لو مت؟ هل ستحب أخرى...؟
قبّلتها، وضغطت قلبها بكفي، فمدت ذراعيها، لتحيط بهما عنقي.
رسمتْ ابتسامة شاحبة:
- أحبك، يا دافيد! لماذا لا تحبني؟
- ليس وقته، يا مارغريت، فكري في نفسك، الآن.
- أنت أغلى ما لدي في الكون! أنت كل ما لدي!
- توقفي عن الكلام. تنفسي بقوة.
أخذتها بين ذراعيّ، كانت رخوة وباردة كالجليد.
- أنت لا تحبني...
- بالطبع أحبك.
- أنت لا تحبني بالقدر الذي أحبك فيه.
زلقتْ غائبة عن الوعي بين ذراعيّ، فسارعتُ أرفع الهاتف:
- أين الطبيب؟! هل أرسلتم أحدًا؟
- نعم، يا سيدي. دقيقة وسيكون عندكم. حافظ على هدوئك.
- إنها على وشك الموت!...
رجعت إليها. كانت تتنفس ببطء. كانت ترتعش.
أعادت فجأة:
- أنت لا تحبني بالقدر الذي أحبك فيه، يا دافيد...
ماذا سأفعل لو حصل لها شيء؟ لو ماتت بالفعل؟ كنت حائرًا. تخيلتها ميتة بين ذراعيّ. ماذا سأفعل أمام زوجها، ابنتها... خاصة أمام الصغيرة التي لم أرها أبدًا؟ ماذا سيكون مصيرها؟ تَرَكَهَا أبوها، سأكون مسئولاً عنها... ؟ ولكن لا، لم أكن أريد أن تموت. رفعتُ مارغريت بين ذراعيّ، وهززتها بقوة:
- قاومي، مارغريت! تنفسي! تنفسي!
قرع الجرس، فأسرعت أفتح الباب، وأدخلت الطبيب، وأنا في أقصى ارتياعي. عندما فحص الطبيب مارغريت، شَخَّصَ المرض بعُصاب جسمي (داء الجهاز العصبي): نوبة حصر نفسي أو شيء كهذا. أعطاها إبرة مهدئة، ونصحها بالسيطرة على أعصابها والقيام ببعض الرياضة. قالت لا، عملت رياضة في الماضي واليوم هي مشغولة. عند ذهابه، طمأنني مؤكدًا أن لا خطر هناك.
نهضت مارغريت من السرير، ووجهها شاحب بالفعل، وجلست على ركبتيّ قائلة إن جسدها يحيا من جديد.
- هذا لأجلك، قالت، أريد أن أحيا لأجلك.
قبلتني.
- الآن، يجب النوم، قلت. أنت بحاجة إلى النوم. غدًا لن تذهبي إلى المصنع. سأتلفن لهم. وأنا، عليّ الذهاب إلى "رامبوييه"، لتحقيق أعده للجريدة.
- متى ستعود؟ ستعود باكرًا...
عصى مارغريت النوم، كانت تنام قليلاً، ولا تتأخر عن الاستيقاظ مذعورة. فتحت الباب، ونظرت إليّ نائمًا على الأريكة، ثم رجعت إلى سريرها. عادت إلى النوم قليلاً، فهزتها يد خفية بعنف. نهضت مرة أخرى، فتحت الباب، ونظرت إليّ، وأنا أنام دومًا بنفس الموضع. رجعت تنام، وعندما استيقظت من جديد، لم تجدني.

13
كيف أمكنه أن يذهب ويتركني في هذه الحال؟ تساءلت مارغريت وكلها استغراب، وخلصت إلى أنني لا أحبها، أو، ربما، كنت أحبها، ولكن حبًا غير كامل، لم يمنعني من الذهاب إلى رامبوييه، من تركها كما فعلت. فماذا أفعل كي أحبها؟ كانت تحبني كثيرًا، لم تفهم عمق هذا الحب، بحدة لم تعرفها عندما كانت أكثر شبابًا. كانت على يقين الآن أن حبها للسيد هنري، في ذلك الوقت، لم يكن سوى حلم، سوى وهم. دفعتها أمها نحوه دون أن تكون لها رغبة فعلية في ذلك. وكذلك حبها لسباستيان كان وهمًا، فتحطم مع أول زوبعة... وراء هذا الحب كانت أمها كذلك، وهي تدفعها نحو المجد، نحو النقود. أنا، دافيد، كنت حبها الفعلي، حبها الوحيد، دون أي حساب أو وهم. كان الحب الذي تمنته طوال حياتها، والآن تريد أن يبقى طويلاً، طوال العمر لو أمكن، إلى الأبد. كان عليّ إذن أن أحبها حبًا ليس مشروطًا، فتحتفظ بي على الدوام، أرتبط بها ترابط الحبال... لكن، حسبما يبدو لها، كنت أفضل عملي عليها، وغابات رامبوييه الرطبة كانت أغلى عندي منها.
عادت إلى السرير، وهي ترتعش كالفراشة الضائعة. كانت ترتعد من الرأس إلى القدم، ولم يطل بها الأمر حتى نامت. هذه المرة، نامت عدة ساعات متواصلة. عندما استيقظت، ركضت تفتح الباب، ثم تذكرت أنني تركتها منذ مدة طويلة. زادها ذلك حزنًا، لأن ذلك لم يكن حلمًا، ولأنني ذهبت بالفعل إلى رامبوييه من أجل التحقيق. أقنعت مارغريت نفسها بأني أحب كثيرًا مهنتي كصحفي، وبأنها لن تستطيع إبعادي عن عملي لأقترب منها. إلا أنها تستطيع هي أن تترك المصنع من أجلي، لأن عملها لم يكن سوى وسيلة للوصول إلى السيد هنري. وبالتالي كان عليها تركه دونما تأخير لتبقى إلى جانبي، ولتغدو كل شيء لي، لأني كل شيء لها. على فكرة أن تبقى إلى جانب من تحب، أحست في داخلها بحياة جديدة تنمو، ونسيت كل كوابيس الليلة السابقة وكل أوجاعها.
في المساء، أشعلت التلفزيون، ولبدت من وراء النافذة، لتترقب عودتي. عند نشرة الأخبار، تكلم الصحفي عن خنزير بري قتل شخصين بوحشية في غابة رامبوييه. اقتربت من الجهاز، والصحفي يعلق: إن الخنزير البري حيوان ما انفك يعمل ضد الحضارة، وذلك في كل الأزمان، وهذا الذي نحن في صدد الحديث عنه قد غدا سيدًا لتدمير السياجات والحواجز وأنصاب الأوتوروت! هذا ويحث رئيس المقاطعة كل السكان على المشاركة في مطاردته. رأت خنزيرًا بريًا، وهو يقطع الأوتوروت، ودوت طلقات النار. أطفأت، وعادت إلى النافذة، في اللحظة التي طرق فيها أحدهم الباب. كنت أنا. قفزت على عنقي، وقبلتني بنزق.
- هل كل شيء على ما يرام؟ سألتني، وأنا يبدو عليّ التعب.
- كل شيء.
- دافيد، ماذا بك؟
- لا شيء، أشعر بألم، هنا.
أشرت إلى كتفي، فأرادت أن ترى. منعتها، وجلست على الأريكة. جلست قربي، وهي تضع رأسها على كتفي:
- هل هذه هي الكتف التي تؤلمك؟
- نعم.
- سأداويها لك، قالت، وهي تغطيها بالقبلات.
- أرى أنكِ برئتِ تمامًا.
- كان القلق، كما قال الطبيب، فما عليّ سوى أن أحاول الإيمان بك.
- ثقي بي، أرجوك.
قلتُ، وأنا أبتسم، وأنحني لأقبلها.
- هل تعشيتِ؟
- لا، كنتُ أنتظرك.
- هل نذهب إلى مطعمنا، مطعم الجزيرة سان-لوي؟
- أفضل البقاء هنا معك.
- لكن لا شيء لديكِ للأكل.
- وما يدريك؟ قالت، وهي تفتح الثلاجة.
أضافت:
- أحضرت دجاجة مدخنة، سلطة خيار، وبيرة. هكذا نمضي الليلة هنا سوية.
- كما تريدين.
نهضتُ إليها، إلا أنني صحتُ من الألم. خلعتْ لي سترتي وقميصي، وخنقتْ صرخة على رؤية كتفي الممزقة.
- من فعل لك هذا؟
- هذا لا شيء، حادث صغير أخرق.
نظفتِ الجرحَ، وربطتْهُ. شكرتها، وقبلتها بأناة، برقة. بعد ذلك، أحضرت الدجاجة، وجلسنا للأكل. حدثتني عن تركها لعملها: المصنع بعيد، يبعدها عني، وهي تتعب كثيرًا... نسيت السيد هنري تمامًا، وتحقق حلمها الكبير:
- حلمي الكبير أنت!
- لكن لا تتركي عملك، قلتُ، ليس بعد، سنتكلم في ذلك في اللحظة المناسبة.
- اللحظة المناسبة متى؟ ألقت بقلق. إنها اللحظة الأنسب!
تمالكتْ عن حنقها، وضغطتْ يدها على يدي.
- أنا أريد أن أفعل هذا كي أبقى قربك.
- لكني أنا، قلتُ، وأنا أسحب يدي، لستُ أبدًا هنا. تعرفين جيدًا أنني...
- أنت تفضل مهنتك، أليس كذلك؟ قالت، وهي ترتعش. أنت تفضل مهنتك...
- أرجوكِ، توقفي. سنتكلم في هذا خلال بعض الوقت، هذا وعد لن أرجع فيه...
بدت، وكأنها ضلت الطريق إليّ، صرخت، وقلبت الطاولة. احمر وجهها للغضب، فهل ترون؟ حتى والغضب يستحوذ عليها، كانت ساحرة.
- أنتَ لا تريدني!
- اهدأي! ما الذي يقع لك؟
- أنتَ لا تريد أن تعيش معي!
- اسمعي، لستُ في وضع يسمح لي بالتفكير في هذا الآن. كنت مسافرًا، وأنا تعب، أنا جريح، أنا...
- أنتَ لا تحبني!
- أليست لديك أسطوانة أخرى غير هذه؟ قلت صائحًا.
- طيب! اخرج من هنا! اذهب! أنا لا أريد رؤيتك! اذهب!
وفتحتِ الباب.
- اخرج! صرخت.
نهضتُ متحيرًا، مترددًا، محرجًا، ممزقًا، أخذتُ سترتي، وخرجتُ دون أن ألتفت.
انفجرت باكية، وعادت تفتح الباب، فلم أكن هناك. ركضت إلى النافذة، ونادتني، فلم أرفع رأسي، وواصلت عبور طريقي في الشارع الأفعى.

14
تبعتني مارغريت، واعتذرت، فواصلتُ صعود شارع موفتار بقدم مصممة. كانت القوة العمياء فيّ التي تربطني بها، هذه القوة ذاتها كانت تفعل كل شيء لتبعدني عنها، بعيدًا عن هذا الحب المربك، هذا الحب المكتسح، هذا الحب-العبء. بالنسبة إليّ، على الحب أن يولد، ثم يكبر. نحن لا نحب طفلنا تمامًا منذ الولادة، نحبه قليلاً كل يوم حتى لا نستطيع إعطاء قطرة حب أكثر. بالنسبة إليها، يمكن للحب أن يبدأ كبيرًا مع أول رجل نقع في غرامه. كانت إذن تحبني قبل أن تعرفني، وربما كانت تحبني منذ أن بدأ قلبها بالدق في معبد الحب. لم تكن تفهم موقفي، وبالمقابل كانت تريد الاحتفاظ بي بأي ثمن. الاحتفاظ بي. فقط الاحتفاظ بي. اعترفت "بأخطائها"، ولم تعد تبالي الآن إذا ما كنت أحبها أم لا، المهم أن أبقى معها.
- إذا تركتني انتحرت!
لم أجب، كنت أحمل معي آلام كتفي والسحر الذي يسببه لي جمالها وغضبها وتوسلاتها. كالمطرود من الجنة، تركتُ كل شيء من ورائي، جزيرتي، روحي، امرأتي. أحسست أني لا أحبها، أني لا أكرهها، فما العمل؟ واصلتِ التوسل إليّ، جذبي من ذراعي، من كتفي الممزق. كان الألم حادًا، ومع ذلك لم أكن أصرخ.
في شارع سوفلو، هددتني: إذا لم أعد أريدها، ألقت بنفسها تحت سيارة. لم تتوصل إلى إثارة شفقتي، فأخذتْ في شارع سان-ميشيل تركض وتصرخ. ألقت بنفسها أمام سيارة نجحت في تفاديها في الثانية الأخيرة، فالتفتُّ على صرير العجلات عند احتكاكها بالإسفلت، وركضت أوقف كل السيارات لأحملها.
- أنت تحبني، قالت لي ضاحكة. أعرف، أنا حبيبتك.
أرادت تقبيلي، فوضعتها على الرصيف، حدقتُ في عينيها بضع لحظات، وأنا أحاول أن أميز في نظرة المرأة التي لها علاوة على لعنات حبها دوافع مثل هذا الحب الجنوني، ثم ذهبتُ، مدفوعًا بتلك القوة العمياء التي كانت فيّ، تلك القوة التي لا شفقة لها.
- دافيد!
سارعتْ إلى اللحاق بي، وأمسكتني.
- أنت لا يهمك أمري! أنت تريد التخلص مني! أنا لن أعطيك الفرصة على تحقيق ذلك، سأبقى حية كي أجبرك على حبي!
ونحن نمضي بساحة السوربون، قهقهت:
- ها هي طاولتك، موسيو هازار (سيد صدفة)! هل نسيت؟ لديك شكل من نسي كل شيء بسرعة كبيرة!
عتم وجهها:
- أنا نسيت العالم أجمع من أجلك! نسيت العالم ولا أرغب إلا فيك! أنا بحاجة إليك، يا حبيبي!
أمسكتني من كتفي الجريحة، فصرخت، هذه المرة، من الألم، وصفعتها بعنف تاركًا إياها. في الواقع، كنت أترك جزءًا مني. هذه المرة، الوداع يا جزيرتي، الوداع يا جنتي، الوداع يا وطني. كان صفعي لها يعذبني، كيف جرؤت أصابعي اللعينة؟ كان صفعي لها يدكني، ووجودي يترنح. لم تبكِ، تبعتني من بعيد، كما فعلتُ في الماضي. استدرتُ عدة مرات، ولم أرها. كان وجودي يترنح، وضميري يعذبني. توقفتُ في أعلى رصيف سانت-أوغسطين، ونهر السين كان هادئَا، تنطفئ النجوم على صفحته. كانت الأدراج التي تصل إليه خاوية: لا عشاق، لا قبلات، لا شحاذون مع قناني خمرهم. أحسستُ بتعاستي العميقة وبفراغي، وانتفضتُ فجأة على سماعي لصرخات مارغريت الآتية من تحت:
- دافيد، هل تسمعني؟ أنا لا أعرف العوم! لكن إذا ما لم تأت، ألقيت بنفسي في السين!
هذه المرأة، هل كانت مجنونة أم أنها تمثل قدر كل كائن مجنون، قدري؟ صححتُ خطأي، وصرختُ بدوري:
- لا تكوني مجنونة، اصعدي!
- سألقي بنفسي في السين!
- قلت لك اصعدي! إذا ألقيت بنفسك في السين، تركتك، وذهبت.
- أنت لن تذهب! أعرف أنني غالية عليك، أنت لن تتركني هكذا! دافيد!
- أقسم لك أنني سأذهب، إذا فعلت هذا! ولعلمك أنا ذاهب.
ألقت بنفسها في نهر السين، فلم أعد. كانت واحدًا من أولئك الرجال الملعونين الذين يدمر لهم البصر هوى امرأة تهب نفسها، والذين يجعلهم الحب أعمياء كالكره. ألقت بنفسها تحت عجلات سيارة من أجلي لكني صفعتها، غرقت في نهر السين من أجل تليين قناتي لكني غدوت أكثر قسوة من الصخر! طفت على السطح، وعامت حتى الرصيف. كانت تعرف العوم جيدًا. صعدتِ الدرج بأقصى سرعة تستطيع عليها، وعادت تطاردني.
- دافيد!
كنت قد قطعت ساحة شاتليه، وأنا أتقدم باتجاه شارع سان-دُني. عندما حاذتني، ألقيتُ عليها نظرة مواربة.
- ها أنا أرى أنك لا تعرفين العوم! قلت واجدًا الذريعة لقسوتي والعذر لعماي.
- وأنت، ما أنت سوى واحد قذر! كنت ستتركني أموت!
الآن، هي أيضًا تقسو، هي أيضًا تَمَّحِي أمام نفسها متحولة إلى ضحية هذه القوة العمياء، ويدلف كلانا في فعل تحدي نفسنا لنفسنا.
رفعتُ صوتي:
- ربما كان من الأفضل أن تموتي! ستريحينني وستريحين نفسك!
- اطمئن، أنا لن أموت في وقت مبكر! أجابت، وهي ترفع صوتها، هي كذلك. وها أنا أنذرك، ستتعذب، وستبتهل إليّ لأخفف عذابك، لكني سأواصل تعذيبك، ولن أسمع لك!
أمسكتني بعنف من كتفي الجريحة، فصرخت من الألم. تعلقت بعنقي، وغطتني بالقبلات (كان تحديها يتوقف هنا: كانت مغرمة بالفعل). تركتُني لها، وفي الوقت نفسه، دفعتها.
- أحبك، يا دافيد! هل تفهم ما يعني هذا بالنسبة إليّ؟
- ألن تهدأي، ألن تتوقفي أبدًا؟!
- أنت لا تفهم... أنت لا تفهم!
أخذت تصرخ كالممسوسة في عقلها:
- سأجعلك تفهم رغم أنفك!
سبقتني إلى الفندق، والمومسات يحيينها، فتجاهلتهن. كانت الهاوية، العدم، كانت الخسارة، الدمار. أوقفت أحد العابرين، وطلبت إليه إذا ما أراد أن تفعل الحب معه مجانًا. ابتسم الشاب، بغباء، لم يكن يصدق كثيرًا ما تقول، فركضت لين نحوي:
- أسرع، يا موسيو دافيد، افعل شيئًا! ستصعد مارغريت مع واحد!
- لقد فقدت عقلها تمامًا، قلت ضاغطًا أسناني.
كانت تجر العابر من ذراعه، فلحقت بها:
- هل ستتوقفين عن هذه اللعبة؟! هل فقدت عقلك؟!
ومع ذلك لم تكن لعبة، أو بلى، لعبة مع قدرنا المنتقم، لعبة خاسرة مسبقًا. وأيضًا تلك الهاوية المعتمة، ذلك الغياب لكل شيء.
- هل تعتقد بأني لست قادرة على ذلك؟ وأنت ما يهمك هذا؟ أنا حرة، أليسني حرة؟ أفعل ما أشاء بجسدي! لين والأخريات يفعلن ما يشأن بأجسادهن، أليسهن حرات؟ هن غير خاضعات لأحد! أنا لم أعد خاضعة لك، أليس هذا ما كنت تريده؟ اقتلني إذن، إذا كنت تحبني، أيها الجبان!
ذهبت مع الرجل، فأعطته لين كيسًا واقيًا، وانتقام القدر ذاك الذي يقهقه.
- لن تفعلي شيئًا! صرختُ.
- سنرى!
- إذا ما جرؤت تركتك إلى الأبد.
أخذت تطلق ضحكة ساخرة واسعة وشفافة، وصعدت إلى حجرتي. في الواقع، كنت قد تركتها منذ اللحظة التي غادرت فيها شقتها، كانت لم تزل تلتصق بشفتيّ، ببطني، بقدميّ، وكان على أحد العابرين أن ينتزعها من جسدي. بقيت ساكنًا على الرصيف، فاشتعل الضوء. كانت لين وإسمرالدا وأوديت مشلولات مثلي، وهن في صمت داعر طيب وبريء. كن ينتظرن ما سيتبع، غير مصدقات. انفتحت النافذة فجأة، وظهرت مارغريت. رمت لي المفاتيح، وعما قليل، انطفأ الضوء.
مضت بعض الدقائق، فنزلت مارغريت تسأل عني، أنا الذي ذهب للسقوط في هاويته. كان كل هذا من الجنون والعته، كان كل هذا من الضياع والشيزوفرينية. قالت لها لين إنني ذهبت دون أن أقول إلى أين أنا ذاهب، ومع ذلك كنت أذهب إلى جحيمي. بدت حزينة، وبقيت أوديت وإسمرالدا محتارتين، مذهولتين. نزلت مارغريت شارع سان-دُني، وهي تسأل العاهرات اللواتي تعرفهن والأخريات. سخرت بعضهن منها، حتى أنهن اندهشن للسؤال. بحثت عني في كل الشوارع المجاورة لساحة شاتليه، وعادت من الطريق نفسها لتطلب عنوان الجريدة، ولا أحد لديه العنوان. أخذت تتلفن لكل الجرائد، لكن جهدها كان جهدًا ضائعًا. نادت تاكسي لساحة السوربون، وهناك ظنت أنها تراني جالسًا على طاولتي المعتادة، فركضت نحو الرجل الذي يعطيها ظهره، وأدركت في اللحظة التي ضمته فيها أنه لم يكني. غالت في الاعتذار، وغادرت تعيسة، تعبة، يائسة. أعادها التاكسي إلى الفندق، لتنتظرني في غرفتي، ولم تتأخر عن النوم.
في الصباح، استيقظت مذعورة. لم أعد إلى الفندق، فاندفعت إلى قسم الاستقبال لتسأل عن أخباري. لا أخبار عني، وكل أخبار العالم لا شيء. خرجت إلى الشارع الخالي من العابرين في تلك الساعة، بينما بعض الدكاكين كانت مفتوحة، ورائحة كريهة تتصاعد من الشارع مع أنه كان نظيفًا. أغلقت أنفها، وركضت إلى ساحة شاتليه، حتى القنطرة. انحنت على نهر السين، وهي تتنفس بقوة كبيرة. كانت الرائحة تطاردها، رائحة مقززة، سميكة، خانقة، راحت تطاردها، وهي في التاكسي، حتى ساحة المنحدر، كغيمة فوق كل باريس.
كان الوجود يتفسخ.
وهي تركض في شارع موفتار، لمحت زوجها. نادته، وسألته إذا ما رآني، إذا ما رأى دافيد.
- دافيد؟ دافيد من؟
صعدت الدرج ثلاثًا ثلاثُا، وهي تفكر أن مفاتيح الشقة ليست معي، ولكن ربما كنت أنتظرها هناك...؟ لحق بها زوجها، مجروفًا بفيض من التساؤلات، كالمجداف الخاضع كان مجروفًا، غير فاهم ما يجري. تركته مع تساؤلاته، ونزلت من جديد إلى شارع موفتار، ثم من جديد إلى الفندق... فمن يدري ربما عدت؟ في الطريق، من داخل التاكسي، كانت تتفرس في العابرين، ونسيت حتى الرائحة. لم تكن السيارات تتقدم في شارع سان-دُني، فدفعت للسائق، لتركض نحو الفندق. ومن جديد، قال لها قسم الاستقبال إني لم أعد بعد، وإن لا رسالة هناك... لا شيء. طبعًا، لم تذهب إلى عملها: أقامت في غرفتي، وانتظرت، إلى أن قطفت فاكهة الانتظار: فهمت أنني لن أعود. لم تكن تعرف ما تفعل أو إلى أين تذهب. لقد تركتُها. ذهبتُ على ألا أعود. ضاع العالم، ولم تشأ التصديق: ربما أضاعتها عيني. نعم، كنا معًا، و، فجأة، أضاعتها عيني! أخذت تناديني... كانت تضيع. دقت لين على الباب، وحاولت تهدئتها. ضمتها بين ذراعيها، ووعدتها بفعل كل شيء كي يعود دافيد إليها. لموسيو دافيد قلب طيب، كل البنات يعرفن هذا.
لم يكنَّ يعرفنني على حقيقتي.
نزلت بنات الهوى على الرصيف، فذهبت مارغريت إلى دكان الملابس التي اشتريت لها منها الفستان الأزرق المخضر، وابتاعت أربعًا أو خمسًا قدمتها للمومسات. سأراها عليهن، وسأفكر أنها هي، وهكذا سأجدها، وأعود إليها. شهقت منتحبة على كتف لين، التي قادتها إلى غرفتها، وأعدت لها فنجان مرامية، راجية إياها أن تهدأ وأن تنام. نادتني مارغريت دون انقطاع، وظنتني أناديها بدوري، فغادرت الفندق بعجلة، وهي تركض باتجاه هذا الصوت... وما لبثت أن أدركت أنها كانت تهذي. كان العالم يضيع، وكانت تضيع، والجزيرة التي لي كانت تغرق في المحيط، والمحيط شجرة البندق التي كنت أصعد عليها وأنا طفل.
عادت إلى بيتها، وذراعاها تمتلئان بأمواج اليأس. هل تعرفون أن اليأس يحرض الكائنات التعسة؟ لم تتوقف عن طلب الفندق كل ساعة، وفي كل مرة كانت تستلم نفس الجواب السلبي... في الأخير، عرفت أنني لن أعود، أنني لن أعود، فوصلتها صرخات الحيتان من بعيد، من شواطئ الوهم الحقيقي. عند منتصف الليل، استيقظت ثائرة الأعصاب: كان تنفسها متقطعًا، وكانت ترتعش، وعاصفة من البرد كانت تهز جسدها. لم يتوقف الحيتان عن الصراخ، كانت تتعذب أشد عذاب، وفي نفس الوقت، كانت تشعر بحب كثير لي. أن تحب واحدًا مثلي، كان ذلك كمن تحب موتها، إلا إذا ما زين لها الشيطان. نادتني مرة أخرى، ومرة أخرى ابتهلت إليّ، بلا جدوى. تحاملت على نفسها، وطلبت طبيب العيادة الليلية الذي لم يتأخر عن الحضور، وضربها إبرة مهدئة. سألها عن أخبار زوجها، فأجابت دون أن تستطيع احتواء حزنها أنه مسافر. الحيتان، قالت، لم تشأ السفر معه، وكانت تصرخ! قال لها الطبيب إنها بحاجة إلى الراحة، إن قلبها تعب، وإذا لم يُعْنَ بها أحد، سيخور عاجلاً أم آجلاً. اقترح عليها الذهاب إلى المستشفى، فرفضت، وقالت إن لها صديقة ستهتم بأمرها. وبالفعل، أخذت تاكسي في الصباح الباكر لليوم التالي، وذهبت عند جوزيان الصغيرة.
الحيتان... كانت تهرب من الحيتان...

15
كان أولاد جوزيان الصغيرة يتابعون باهتمام تطورات مطاردة الخنازير البرية وليس اصطياد الحيتان، فقد تسببت هذه الحيوانات الوحشية بعدة حوادث على الطرق التي تشق غابة رامبوييه.
- يجب القضاء عليها كلها عن بكرة أبيها! كانوا يقولون بحمية أقرب إلى الحمية القومية.
وحده يهوذا، كبير الأولاد، لم يكن من نفس الرأي: كان يحب لو يكون قويًا كخنزير بري. ومارغريت تسمعه، امتلأت بالحزن. تذكرتني، تذكرت كلامي عن هذا الحيوان، حبي له، حبها لي. لماذا لم تولد من بطن هذا الحيوان، كي أحبها طوال حياتي؟ لذلك طلبت أم يهوذا منه التركيز على واجباته بدلاً من التفكير في حماقات كهذه، خاصة أمام مارغريت التي لها من التعاسة ما فيه الكفاية لتنشغل بتعاسات الآخرين. لم تكن جوزيان الصغيرة تعرف جيدًا لماذا هذه الأشياء تحزن مارغريت، وكانت تبذل كل ما في وسعها لتهدئتها، وللحيلولة دون كل ما يمكنه أن يكئبها. لكن مارغريت كانت في الحزن مليكة للحزن كما كانت في الفرح ملكية للفرح، حتى حزنها كان شيئًا آخر. كان حزنها يسعد الحزانى، فترق حالهم، ويحتملون الحياة.
لم أعد حزنها، كانت الحزن.
كمان الحزن.
الراقي.
الرقيّ الحزين.
لأنه حزنها وليس حزن الرعاع.
الحزن كأداة إنتاج.
كحق من حقوق الإنسان.
انتهت إجازة جوزيان الصغيرة، فنادت ابنتها البكر، جوزيت، أمام مارغريت، وقالت لها:
- ابتداء من الغد، أنت من عليك الاهتمام بمارغريت، سأعود إلى العمل غدًا، ومن الآن فصاعدًا، ستكون مارغريت شغلك الوحيد من خارج دروسك.
- أحس بتحسن كبير، تدخلت مارغريت، وابتداء من الغد، يمكنني العودة إلى بيتي.
رفضت جوزيان الصغيرة، وأبدت جوزيت رغبتها في خدمة صاحبة الصحة الضعيفة. ضمتها مارغريت، وقالت لها كما لو كان ذلك نوعًا من الأبابة:
- لو كانت ابنتي آنييس هنا لساعدتني. لها من العمر ما لك، يا جوزيت، خمسة عشر عامًا على التمام.
- عمري ليس خمسة عشر عامًا، قالت جوزيت، لكني أستطيع القيام بخدمتك.
جاء الصغير جوفريه، وَقَبَّلَ مارغريت:
- أنا أيضًا، أستطيع القيام بخدمتك.
لم تبتسم مارغريت منذ زمن طويل، فجذبته إلى صدرها، وقبلته برقة.
- وأنتَ، قالت جوزيان الصغيرة لآخر العنقود، ابتداء من الغد، ستعود إلى الحضانة عند مدام دولاكروا.
- الحياة لا تنتظر كثيرًا، يا جوفريه، همهمت مارغريت.
- ما هو قصدك؟ سألت الأم.
- سيكبر جوفريه، وسيعرف.
- سيعرف ماذا؟
- كل ما عرفناه وما لم نعرفه.
- مممم...
- سيحب وسيتزوج وسيأتي بالأولاد وربما سيتزوج دون حب مثلي.
- بحب أم بدون حب سنجد أنفسنا نحن غير المحظوظات وحيدات دون أحد.
- كما تقولين، نحن غير المحظوظات.
أحضر يهوذا كأسًا من عصير البرتقال لمارغريت، وانسحب القهقرى، وهو يشخص ببصره إليها بغرابة.
- كم له من العمر، يهوذا؟
- إنه الثاني بعد جوزيت، ألا تعرفين؟ حوالي الرابعة عشرة.
- له شكل الرجال، يهوذا.
تضرج وجه يهوذا، وعاد إلى حجرته القهقرى، وهو ينظر بعين الهوى إلى مارغريت، نظرة خنزير بري يعشق خنزيرة برية تغوويه براوئحها. كان لروائحها عليه أثر كبير: عطرها، أنفاسها، بخار حمامها، أريج غائطها، وأكثر ما كان يثيره هذا الأريج، فيقفل على نفسه الباب بعدها، ويشمه شم المهتاج، يراها عارية بين ذراعيه، حقيقية، خيالية، وبأصابعه الخائنة يعيد اكتشاف جسده اكتشاف المعابد المنهارة والمدن المندثرة منذ ولادة الإنسانية.
- آه! لو كانت آنييس معي في موفتار لما أزعجتُكِ، يا جوزيان الصغيرة.
حركت جوزيان الصغيرة جناحي البطة اللذين لها:
- لا تفكري في هذا! فكري في صحتك! عندما تبرئين، أخرجي آنييس من الدير، وخذيها معك، فالعزلة ليست شيئًا جيدًا.
لم تبق مارغريت، فضلت قضاء باقي نقاهتها في بيتها، هكذا تحرر الصغار منها. أحست بالمتعة على فكرة إعتاق الآخرين من عبودية علاقتها بهم. كان لم يزل فيها شيء من عواطفها القديمة، الغريبة، قبل أن يغتصبها الرجل الغريب. عزمت على عدم النبش في مقبرة الماضي، ومع ذلك، لم تتوقف عن التفكير فيّ. أنا كذلك، لم أتوقف عن التفكير فيها. لم أستطع نسيانها. عادت إلى كل الأماكن التي كنا نرتادها. اشترت نفس الزهور. قضمت نفس التفاح. شربت نفس الجعة. أكلت بشكل منتظم في المطعم اليوناني تحت عمارتها حتى سئمت من أثينا... على ساحة المنحدر، عاد عازف القيثار الملتحي، وعاد يعزف، وهو يغمض عينيه. حياها الشحاذون باحترام كبير. أَجَلّوها إجلالهم لأم الرب. ودون أن يعلموا، عجلوا في إنضاج فواكه النسيان. في أحد الأيام، قادتها خطواتها إلى حديقة اللكسمبورغ. كان ذلك بعد الظهر، وكانت تلك المرة الأولى التي تذهب إليها في وضح النهار. رأت فيها عصفورًا يتحاور مع أفعى، وفي الظل، كان صيني عجوز يملأ الفضاء بحركات رقصة الموت والعدم، وكان تمثال هيبوليت جامدًا، أسود دائمًا، وحجره باردًا. انتهى الأمر بالأشجار إلى العراء، كان الشتاء... أين فيدرا؟ أين مضت نار الحب التي كانت تلهبها؟
غادرت الحديقة، وترددت قليلاً في شارع سان-ميشيل. ذهبت إلى ساحة السوربون، التي وجدتها خالية. ومن جديد، أحست بالكآبة، وعجلت عودتها إلى البيت.






































القسم الثاني














































1
ومضت الأيام يومًا يومًا، الواحد بعد الآخر، كعربات السكة الحديدية، والمصنع وُجهة القاطرة التي يشير الزمن إليها. كانت مارغريت تنظر عبر النافذة، والقطار في أقصى سرعته، وتقول لنفسها إن الشتاء يصل في نفس الوقت من السنة الماضية. رغبت في البكاء على صدر دافئ، على كتفٍ حانٍ، وعادت إلى التفكير في ابنتها وفي زوجها. هل هو إذن قدرها أن تكون للأمل قاتلة ولليأس قتيلة؟ ولكنها كانت فيدرا، الفرنسية، نافخة الحياة في التماثيل، والحب في الليل مملكتها! لم تعد تحتمل الضوء البارد للشمس، فأغمضت عينيها، وأحست بعجلات القطار، وكأنها تدور على جسدها. قاومت الانسحاق، وقررت الذهاب لإحضار ابنتها من الدير. ذكرتها ابنتها بالشر، بالأيام الغابرة، بكل ما لا يستحق الذكر. راعت في الماضي النجوم، واليوم التقاليد، القواعد، زنابق الحقل. وكارتداد اللهب، عادت تفتح عينيها على فكرةِ أن باستطاعتها ترك ابنتها عند جوزيان الصغيرة. هكذا تنقذها من روائح الشموع ودهاليز العزلة وأظافر الحزن، وتوفر الكثير من نفقات هي في غنى عنها، بما أن زوجها لم يعد يدفع النفقة.
في نفس المساء، عند الخروج من المصنع، تكلمت مع جوزيان الصغيرة:
- ...وما رأيك لو أحضرت لك آنييس؟ تكملين تربيتها أفضل مني، وتستطيع أن تكبر مع بناتك...؟
- ولكنها كبيرة، ردت جوزيان الصغيرة، لم تعد بحاجة إلى تربية أحد.
- يكاد يكون لها من العمر خمسة عشر عامًا، وتظنين أن الأمر قد انتهى، وأنها أصبحت امرأة، هكذا، بقدرة قادر؟
- أوه لالا! لا تزعلي، كنت أمازحك، هذا كل ما كنت أفعل، كنت أمازحك.
- إذن تقبلين؟
- ولكن لماذا لا تأخذينها، أنت، أنا لا أفهم؟ هي بحاجة إليك، إلى أمها، إلى حنانك...
تنهدت مارغريت:
- ليست بحاجة إليّ بقدر ما هي بحاجة إلى نقود، وسيكون من الصعب عليّ توفيرها إذا ما لم يدفع سباستيان النفقة، فهو عاطل عن العمل دومًا. أمس كان مستعدًا لشراء طيارة والأرض برمتها، واليوم ليس لديه ما يكفي لشراء رغيف.
لهثت جوزيان الصغيرة لبدانتها، ولسرعة خطوات مارغريت، فأجابت كما أمكنها:
- إذن اتركي شارع موفتار، فهو غالٍ عليك، وتعالي، أنت أيضًا، لتعيشي معنا، أنت وابنتك.
دخلت المرأتان مجمع سكنى العمال، المحاط بسياج عال، وكأنه وجار كلب أو سجن.
- أو اطلبي سكنًا هنا، تابعت المرأة البطة، لديهم الكثير من الشقق الفارغة، هكذا تكونين معنا، ومع آنييس، وتكونين جنب المصنع... إلا أنني لن أخدعك، فهي إسطبلات بالفعل. آه، لو يمكنني الحصول على شقة صغيرة في باريس... ! لكن شارع موفتار ليس لنا، الآن يهدمون كل شيء، ويبنون ما هو حديث مكان ما يهدمون... سيأتي يوم يطردونك فيه، كوني متأكدة، لهذا ما أنصحك إياه، أن تأخذي شقة صغيرة هنا، حتى ولو كان في ذلك بعض البؤس، على الأقل نكون فقراء ما بيننا...
- سبق لنا وتحدثنا في هذا، وكما قلت لك... قالت مارغريت دون أن تولي جوزيان الصغيرة اهتمامًا.
- إنها دومًا نفس الأحلام التي تحلمين بها، وإذا ما واصلتِ مع أحلامك، انتهى بك الأمر إلى تدمير نفسك. لن يبقى شيء تستطعين النظر إليه باستقامة دون أن تخفضي عينيك!
- هذا ما تقولينه أنت.
- أنت متأكدة؟
- تمامًا كما أنا متأكدة من كونك جوزيان، الصغيرة، السمينة، صاحبة الحساسية!
- ما أقوله أنا ستدمرين نفسك، شئت أم لم تشائي، ولهذا السبب سأُعنى بآنييس، لا لسبب آخر.
أفاقت مارغريت فجأة، كوردة كانت تفتح عينيها، وهي غافية، وضمت جوزيان الصغيرة التي كانت تتابع:
- سأطلب من العجوز دولاكروا أن تأخذ آنييس بعض الساعات في الأسبوع، إنها عجوز مشحاحة، لكنها ذات قلب طيب! هكذا تتعلم آنييس قليلاً، ويكون لها قليل المال.
- نعم، أريدها أن تتعلم مهنة جيدة.
- لا يبقى إلا أن نسألها إذا ما كانت موافقة.
- ولماذا لا تكون موافقة؟
- لأنها بخيلة، قلت لك، ولأن فوق ذلك كل سنتيم ينفق له حسابه لديها، إنها حضانة أطفال صغيرة، إذا أردت أن تعرفي.
كان على المرأتين أن تتحاشيا الحفر، والأولاد، والأوساخ، في الطريق المؤدية إلى مقر العجوز دولاكروا، والذي منه يتصاعد بكاء حاد. أحست الأم أن قلبها ينقبض، وأن موتها لا يقدم ولا يؤخر. كانت الكلاب تنبح من كل مكان، وكانت شمس الشتاء الجامدة تغرق في المستنقعات الصغيرة كالجسد الممزق.
تناولت جوزيان الصغيرة ابنها، الذي يذرف دموعًا حارة، بين ذراعي العجوز دولاكروا.
- ماذا بك، يا جوفريه! ماذا جرى لك، يا صغيري؟
- كأن عقربًا لدغته! أجابت العجوز دولاكروا بجفاف. من عادته أن يكون وديعًا أكثر من غيره، لكنه اليوم لم يتوقف عن البكاء.
- ربما لديه بعض الحمى، قالت مارغريت.
لمست جوزيان الصغيرة جبينه.
- لا أظن.
فجأة، توقف الصغير عن البكاء.
- انظري بالله عليك! قالت العجوز دولاكروا، ها هو يسكت الآن! أتساءل ما الذي كان لديه ليبكي هكذا!
ابتسمت جوزيان الصغيرة، وقالت للعجوز دولاكروا، وهي تشير برأسها إلى صديقتها:
- لمارغريت ابنة في الدير، طلبت مني أن آخذها عندي، فقلت ربما كان بإمكانها أن تأتي لعونك بعض الشيء، نصف نهار، أو كما تريدين، لتكسب مصروف جيبها... جوزيت، ابنتي، لا تريد إيقاف دروسها، وإلا طلبت ما أطلب لها، كي تساعدني قليلاً، ولكن...
تأوهت العجوز دولاكروا بهدوء.
- أهالي الأولاد الذين أحرسهم لا يدفعون شيئًا كثيرًا، شَكَتْ، كلهم شغيلة، وأنا، رغم حاجتي الماسة إلى معاوِنة، تجدينني أشقى وحدي لأوفر بعض المصاريف.
غاب القمر في دياجي الليل.
- ما هو عمر ابنتك؟ سألتها العجوز دولاكروا.
- خمس عشرة سنة.
- أعطيها مصروف جيبها، شيئًا ليس كبيرًا، تدخلت جوزيان الصغيرة، المهم أن تتعلم مهنة.
صاحت العجوز دولاكروا آليًا بهذا الطفل أو ذاك، وسألت:
- والمدرسة؟ في أي صف هي؟
- قلت لك إنها في الدير، أجابت الصغيرة جوزيان، وقد عيل صبرها، ومارغريت تريد إخراجها من هناك.
- ألا تواصل دروسها في الدير؟
- بالطبع تواصل دروسها، لكن أمها تريد استعادتها، وقد حان الوقت كي تتعلم مهنة جيدة.
- ما تعلمته ابنتي من دروس يكفيها، قالت مارغريت. هي كبيرة الآن، وعليها أن تتعلم مهنة جيدة، مهنة نظيفة، ليس مثلنا نحن الأخريات في المصنع.
تأوهت العجوز دولاكروا من جديد.
- هل تعتقدين أن العناية بالأطفال مهنة سهلة؟ تساءلتْ، وانظري إلى القصر الذي أعيش فيه: هذا كل ما كسبت! خلال تسعة وعشرين عامًا مضت بلمح البصر، انظري ما كسبت!
ازداد الليل دجى، وفضلت مارغريت الذهاب، فشكرت جوزيان الصغيرة العجوز دولاكروا معجلة اللحاق بصديقتها.

2
ها هي العجوز دولاكروا تفعل كل شيء لتُثَبِّطَ هِمَّتَهَا بينما تحاول الحصول على أفضل ما يكون لأجل ابنتها! ولكن ماذا يعني ذلك؟ في أحد الأيام سترى، ستفعل كل ما تريد، ستحقق كل ما تتمنى، ستستبد بكل من تحب وكل من تكره. وعلى الفور، أخذت تبحث عن وسيلة تسحب فيها ابنتها من الدير بأسرع ما يمكن، ما بين الثامن والعاشر. وعلى التأكيد، لن يكون ذلك من التعقيد الشيء الكثير، ولن يبقى سوى الذهاب هناك، وكل ما يستتبع ذلك... ولكن كيف الذهاب؟ وعلى الخصوص، كيف الظهور دُفْعَةً واحدة، بعد غياب طال أكثر من عام، والعودة بها هكذا، كمن يعود بنهر، بجبل، ببحر الخَزَر...؟
في شارع موفتار، كانت المطاعم اليونانية تعرض أطباقها الملونة، كما كانت تعرض دومًا، من وراء الفترينات، وكانت توحي بانحراف الأخلاق، ولمارغريت، بانحراف الغرائز، فقالت لنفسها ربما كان عليها العمل عدة ساعات إضافية يمينًا يسارًا، كجوزيان الصغيرة، لتستطيع إعطاء آنييس بعض النقود، كيلا تتوقف حياتهما على عجوز شمطاء كالعجوز دولاكروا، أو على أي شخص آخر. أمتعتها هذه الفكرة، كالرز اليوناني باللحم والتوابل، وأخذت تبتسم لظلها، الذي تتابعه بعينها على الأرض. تذكرت زوجها، فأفقدتها ذكراه صبرها، وجعلتها تفكر في إجباره على دفع النفقة التي حددتها المحكمة.
وهي تصعد الدرجات المحتكة بقدم الزمن إلى شقتها، ميزت شبحًا، خيالاً، كان ينتظرها على عتبتها. إذا كان زوجها، طردته شر طردة، وليذهب إلى التغني بالمجد بعد ذلك. لم تفكر فيّ هذه المرة، أنا، دافيد، دافيد الغريب، السقيم، المعتل، الخاضع لتلك القوة العمياء فيه، الهارب أمام قدره، أمام سُخامه، والذي نجحت، في نهاية المطاف، في نسيانه. كانت كالآلهات اللواتي يستبددن بعواطفهن، ويجعلن من أنفسهن نماذج للطبيعة العاتية، فيهيمنّ على جموحات القلوب. مارغريت الإلهة، الربة، أم الرب، حين وصولها فوق، وجدت نفسها أمام راهبة في ثوبها الأسود، فخارت قواها.
تقدمت الراهبة منها، وأمسكت بذراعها.
- مدام، كوني قوية، اسمعي ما لدي قوله لك، همهمتْ.
- وقع شيء ما لابنتي، أليس كذلك؟ سارعت مارغريت إلى الافتراض.
- لندخل بالأحرى، ولا نتكلم في كل هذا هنا.
فتحت أم آنييس الباب، وألقت بنفسها على كرسي، بينما بقيت الراهبة واقفة في المدخل، وتركت الصمت يملأ المسكينة مارغريت بالقلق. جمعت يديها، وقالت كمن تدعو وتسترحم:
- كان على ما وقع أن يقع منذ زمن طويل، فأكثر من مرة أحسسنا أن ابنتك تفقد صبرها... وهي إذا ما هربت من الدير، فقد كنا نعلم جيدًا أن الخطأ خطأك، مدام...
- خطأي، همهمتْ، لكن كيف هذا خطأي؟
- ألم تزالي تتساءلين؟ لم تزوريها مرة واحدة منذ شهور بينما كنت على بعد عدة خطوات من الدير، حتى أنك لم تكتبي لها...
- كنت أفكر في ذلك، كنت أريد إبعادها عن مشاكلنا، أنا وأبوها.
- ومع ذلك سبق للأم العليا أن كتبت لك حول هذا الموضوع لتوفر عليك النتائج التي نتوقعها، والناجمة عن بعادك، لكنك لم تبدي أي رد فعل. الآن، هربت آنييس، ولم يعد هذا من مسؤوليتنا، مدام ميرابو.
حاولت مارغريت أن تستجمع أفكارها.
- ربما ذهبت عند أبيها؟
- قالت لنا الشرطة لم تذهب، وأرسلت اسمها إلى أقرب المدن، في حال حصول شيء لها.
- لا، يا أختي، ابتهلت مارغريت، لن يحصل لها شيء، أليس كذلك؟ لعلمك، لقد اتخذت قرارًا بإحضارها وإبقائها معي كي أُعنى بها بنفسي.
- الآن، لقد سبق السيف العذل، مدام.
مدت الراهبة ورقة.
- هذه نفقاتها حتى نهاية السنة، فكل هذا لا يعني أننا نلغي العَقد، وبناء على ذلك توجب الأم العليا دفع المصاريف في أقرب الآجال، وليكن الله عونًا لك في إيجادها.
دارت برأسها في أنحاء الصالون، وعلى وجهها علامات التقزز، وغادرت، وهي تضرب الباب من ورائها، فانتفضت مارغريت، وأدركت أن ما جرى لم يكن حلمًا رديئًا. عادت تلتهم الشارع الأفعى بقدميها متجهةً صوب محطة المترو، وبعد نصف ساعة وجدت نفسها في ساحة الجمهورية، أمام تمثال ماريان، في ثوبها الفضفاض، وغصن زيتون بيدها. تذكرت تلك السهرة البعيدة التي تُوجت فيها المرأة الرمز للجمهورية، وكان كل ذلك بلا جدوى، المجد والثروة اللذان كانت تعتقد بهما اعتقاد المجنون بجنونه، كان كل ذلك جنونًا في جنون، سرابات، كان كل ذلك سرابات غامضة. سارعت بالهرب من التمثال المختال، والأشجار شبه العارية تلقي عليها ظلالها السوداء، والفضلات تغطي الأرصفة، وتكاد تمنع من الدخول في المحلات التجارية. كان كل ذلك كذبًا في كذب. عند زاوية عمارة زوجها، كانت أضواء أحد الأكشاك تتكسر، والبائع ينقل حزم الجرائد إلى الداخل. ألقت نظرة أخيرة على ماريان، كان كل ذلك وهمًا في وهم، ثم قطعت الساحة، وهي تدعو السماء أن توجد ابنتها عند أبيها. كانت في سرها تأمل أن يكون قد كذب على الشرطة، وقد خبأها عنده. صعدت على الدرج العريض، ورائحة نتنة تصعد معها. رائحة البشر، رائحة الوجود. رائحة نتنة. رائحة تأتي من كل مكان. رائحة نتنة لا تطاق. لن تعرف الأسماك النوم. رائحة نتنة. رائحة كريهة. رائحة عطنة. غطت وجهها بمنديل، وطرقت الباب. تأخر زوجها، فلم تطق صبرًا. طرقت الباب من جديد، فجاء يفتح، وهو نصف عارٍ.
دفعت الباب بعنف، ودخلت.
- لماذا أبطأت في فتح الباب؟ أرعدت مارغريت. الرائحة النتنة لا تطاق، هنا!
سكتت فجأة، وهي ترى امرأة عارية على السرير.
- سامحيني، تلعثم سباستيان ميرابو، لم أكن أنتظر رؤيتك، أنا...
- نحن لا نجد أي أثر لابنتك، وأنت لا تجد ما تفعله أفضل من النوم مع ملكة فرنسا!
رمت للمرأة ثيابها، وطردتها، وأخذت تبحث عن آنييس في الشقة، بينما كان زوجها، على الرغم من تحيره، في غاية السعادة.
- إذن أنت غيورة، همهم، أنت غيورة، مارغريت!
- أين آنييس؟ أين تخبئها؟
أمسكها سباستيان من كتفيها، وحاول تهدئتها، فراحت تبكي، وتصرخ، وتضربه على صدره. تساقطت على الأرض، فثارت الأرض، وكأن الأرض براكين من الحرير لأجلها.
- هل أنت أحسن؟ سألها زوجها، وهو يهبط قربها. أترين؟ إنها ليست عندي.
- أين هي إذن؟ أين يمكنها أن تذهب؟ سألت باكية.
- أنا لا أعرف، يا طفلتي، قال بصوت منخفض، أنا لا أعرف.
أفزعتها فكرة أن تكون قد فقدت ابنتها إلى الأبد، فعادت تضربه على صدره.
- إنه خطأك! إنه خطأك!
- ماذا! اسمحي لي أن أقول لك إنه خطأك أنت، كل هذا. لأن لو لم ننفصل لما حصل شيء من هذا.
ضربها بدوره، وجعلها تبكي، وجعله يبكى هو كذلك... ثم حملها إلى السرير، وأراد كلاهما الرجوع إلى حلمهما الضائع، لا شيء غير بضع لحظات، لا شيء غير نسيان نفسيهما قليلاً، حلمهما المذل، المهين، حلمهما الكبير. وهبت نفسها جسدًا وروحًا حتى العناق الأخير، وبعد ذلك، ناما نومًا عميقًا، وأحدهما في حضن الآخر. استيقظت مارغريت خلال الليل، ارتدت ثيابها، وغادرت الشقة.
وهي تقطع ساحة الجمهورية في الاتجاه النقيض، رأت ماريان بين الظلال و، من جديد، ظنت أنها ترى نفسها فيها. ربما كان التمثال تمثالها، ومع ذلك لم تكن سعيدة أن تكون رمز الإرادة الدموية والحرية الشعبية. لأنها، بعد كل هذا، ظلت قلقة وحزينة.
كان عليها أن تجد ابنتها.

3
كانت جوزيان المسكينة تترنح، وهي تركض من وراء مارغريت.
- مارغريت! مارغريت! نادت، احزري قليلاً ما أحمله لك من خبر سعيد!
وقبّلت صديقتها التي نظرت إليها بقسوة، وكما لو كان ذلك بتقزز.
- دعيني وشأني، يا جوزيان، ألقت مارغريت.
تهللت الصغيرة جوزيان:
- لا تكوني حزينة، يا مارغريت، وافقت العجوز دولاكروا على أخذ آنييس، ومن الساعة الثامنة صباحًا إلى الساعة السادسة مساء. قالت لي ذلك منذ قليل، عندما جئتها بصغيري جوفريه.
لم تبتسم مارغريت كما توقعت، وبعثت نظرتها السوداء الخاوية الخوف في قلبها.
- ماذا هنالك، يا مارغريت؟ أليسه خبرًا سعيدًا؟
أعطتها مدام ميرابو ظهرها، وواصلت المشي صوب المصنع، بينما المسكينة جوزيان كانت منتفخة جدًا متكرشة جدًا، فلم تعد قادرة على اللحاق بصديقتها، كانت تتخلع في المشي على نحو محزن.
- قولي لي ما بك، مارغريت! أنت تقلقينني عليك!
وجدت الأشجار نفسها وحيدة بعد رحيل الطيور صوب الأصقاع الساخنة، ولم تعد للبحيرة سماء تتمارى فيها، وكانت الشمس شتائية وحزينة، كانت كابية، ولم يعد هناك سوى الموت.
بكت مارغريت.
- هربت آنييس، ولا أحد يعلم أين هي.
- ماذا! صاحت جوزيان الصغيرة، هر... و...
وانفجرت باكية.
وهما تدخلان المصنع، أخذت توبخ صديقتها:
- كم مرة قلت لك أن تذهبي للمجيء بها تحت كنفك، أنها كبرت، وأن الدير لم يكن مكانًا لها...؟ لكنك لم تصغي إليّ. فضلتِ أن يقع ما وقع بدلاً من إنقاذها طالما بقي هناك وقت لإنقاذها!
- ألم أطلب منك أخذها عندك؟ قالت مارغريت بصوت عال.
- طلبت مني لكن كان طلبك متأخرًا، كان عليك أن تطلبي مني قبل...
زفرت مدام ميرابو، وارتدت بِزّتها.
- اخرسي! صاحت. أنت أيضًا لا تعرفين من قول غير هذا؟
ارتدت جوزيان الصغيرة بِزّتها، وخفت إلى اللحاق بصديقتها، وهي تغطي شعرها، وتضع قناعًا على وجهها.
شغّلت مارغريت الماكينات.
- وماذا سنفعل، الآن؟ سألت جوزيان الصغيرة.
فكرت مارغريت في تذوق العسل، ولكن عاودتها الرائحة الكريهة، كان لكل عسل الأرض طعم واحد مر وكثير السكر.
- ماذا يمكنني أن أفعل؟ سألت مارغريت.
- تكلمي مع السيد هنري، نحن لا نستطيع أن نتنبأ بما ينتظرنا، هو لديه علاقات، وهو...
تنهدت أم آنييس بحزن.
- وكيف تريدينني، أنا، الذهاب لأرى السيد هنري؟
- تكلمي مع رئيس الشغيلة، وسيراه، هو، عنك.
- لا أريد التكلم مع أحد.
- وكيف تريدين أن يساعدك السيد هنري إذن؟
- الكل سيعلم عن آنييس، وإذا أراد أحدهم أن يساعدني، فليتفضل، ليس عليّ، أنا، أن أطلب منه ذلك.
- هذه طريقة لرؤية الأشياء لا تعجبني، وهذه طريقة لرؤية الأشياء لا تعجب أحدًا. أنت تعتبرين نفسك من؟ السيدة الأولى لفرنسا؟
تركت مارغريت نظرتها تميع في العسل السميك والساخن والعسل بدأ ينسكب، كانت تريد في طَوِيَّتِهَا خاصةً الانتقام من السيد هنري، الذي لم يأت إليها، ولم يرسل أحدًا للإتيان بها، في زمنٍ بدا لها بعيدًا فجأة، بعيدًا جدًا، الانتقام من غريزة الحب، فلعل الشعور بالبغض يجمعهما. كان باستطاعتها أن تكون له الفرح، اللهب، العسل، السعادة، الحرير الحار، الهناءة، الهوى، النماء، الدواء، الجمر، المخمل-
لكنه كان السيد هنري، وهي مارغريت ميرابو، مراقبة الصُّواعات الدبقة.
لم تقل إذن شيئًا لرئيس العمال، حقًا كانت فرصة مؤاتية لإنعاش بنات نعش بينها وبين السيد هنري، لكنها لم تقل شيئًا، فلم تكن تعلم إذا ما كانت ترغب في ذلك. اللهم إلا إذا أتى إليها، هو... لم يفعل المساء شيئًا آخر غير تضخيم ما تنوء به من عبء هرب ابنتها، مساء غائطي في أرض برصاء لا يرمي إلى شيء آخر غير إظهار هيئتها البرمة. لم يكن الليل أزرق، كان يتلألأ بالنجوم السوداء، وكان الشتاء يرتدي معطفًا لا تباين للون الكامد فيه. إلى الجحيم! جمعت أطراف شجاعتها، وخرجت للبحث عن الملتحي على ساحة المنحدر. كانت تريد أن تعبر عن رفضها للطبيعة، وألا تعتبر هرب ابنتها كواقعة أكيدة. اعشوشبت بالبرد، فالبرد كان شديدًا، كان ينمو على جسدها أخضر. لم يكن الملتحي هناك، والشحاذون انقرضوا عن آخرهم. فجأة، عرفت صوته، كان يصلها من مقهى كأس الجعة: لا شيء، تعرفين جيدًا، الوقت يمضي... دفعت باب المقهى، ودخلت. كان محاطًا بشبان في قرنة، لما فجأة، من قلب الضوضاء، بدا لها أنها تعرف ضحكة ابنتها، آنييس. بحثت بعينيها بحث الطماع الجشع عنها: كانت بين ذراعي فتى يحاول تقبيلها.
عندما برزت أمها واقفة أمامها، اعترى آنييس الخوف، ودفعت الولد بعيدًا عنها.
- جئتُ هنا لأراكِ، ماما.
أمسكتها مارغريت من ذراعها، وغادرت المقهى. تبعهما الشاب في شارع موفتار، وآنييس تلتفت عدة مرات. كانت لمارغريت نظرة قاتمة، نظرة القامع لغرائزه. جعلتها تصعد أمامها على الدرج القديم، لتقاوم ميولها. فتحت الباب، ودفعتها إلى الداخل.
- يمكنك أن تفعلي كل ما تريدين، صاحت آنييس رافعة ذراعيها في وجه أمها، الدير، لن أعود إليه.
أرادت مارغريت كسر عنقها، غير أنها أخذتها بين ذراعيها بحنان.
- لماذا فعلت كل هذا، يا بنيتي؟ لماذا لم تقولي لي شيئًا؟
تخلصت آنييس منها.
- وأين أنت كي أقول لك؟ أنت لم تأتي أبدًا لرؤيتي.
حاولت مارغريت أن تمسك يديها، أن تلمس أصابعها.
- أنا هنا، الآن، وكنت أريد الإتيان بك، لما...
سحبت آنييس يديها.
- لم أكن أريد إشراكك في همومي، تابعت أمها، لم أكن أريد أن تجدي نفسك بيني وبين أبيك.
- وذلك بتركي في السجن كنتِ تريدين توفير كل هذا عليّ؟
- لكن الدير...
- أكثر سوءًا من السجن!
عندئذ جلست مارغريت حزينة على كرسي.
- لم أنقطع أبدًا عن التفكير فيك، كنت أفكر فيك طوال الوقت، في المصنع، في المقهى، في الشارع، في النهار وفي الليل، وكأني أحملك معي، في دماغي.
- أما أنا، فلم أفكر فيك على الإطلاق. في البداية، فكرت قليلاً فيك وفي بابا، لكن فيما بعد، نسيتكما تمامًا.
صفعتها مارغريت، فأخذت آنييس تبكي، وتصيح بأقصى ما تقدر عليه.
- عندما كنتُ أُعاني من وراء قضباني، هناك، انفجرتْ، مُجْبَرَةً على العيش كراهبة، وكنتُ أُضِيعُ نصف عمري، لم تكوني هناك، أنتِ، ولم تتساءلي أبدًا إذا ما كان إحساسي إحساسَ من يرى الدنيا بشكل حسن أم رديء. ولو لم يكن جيروم، ذاك –أشارت إلى النافذة-، لما أملت يومًا في الخروج مما كنت فيه. وعما قريب، سأغدو عجوزًا مثلك، وسأموت من القهر.
فتحت النافذة، ونادت:
- جيروم، اصعد!
- آنييس، ماذا تفعلين؟ أنت لن تُدخلي هذا الولد هنا.
- كان يأتي كل ليلة، على الرصيف، مقابل نافذتي، وكنا نتكلم حتى ساعة متأخرة، حتى لا تبقى نجومٌ هناك، حتى يبكي الليل علينا.
- حتى يبكي الليل عليّ، همهمت مارغريت.
طرق جيروم الباب، فخفت آنييس إلى فتحه. أدخلته، وجرته من يده نحو غرفة نوم أمها.
- آنييس...!
- ماذا؟!
- اسمعي، أتوسل إليك، كوني عاقلة، هاه؟ لا ترتكبي حماقات تندمين عليها!... ألستِ جائعة؟ هل تريدين أن أع...
- أنا عاقلة، جِدّ عاقلة.
خبطت باب غرفة نوم أمها، وأمها بقيت هناك، منذهلة. بعد قليل، سمعت ابنتها، وهي تئن، ثم وهي تصرخ، فانفجرت باكية.


4
طرقت مارغريت الباب على جوزيان الصغيرة، والبرد يقص الحجر. غطى الشتاء الشمس بغيومه، وكان الصباح غائبًا. لم تكن جوزيان الصغيرة تنتظر أحدًا على مثل تلك الساعة المبكرة، ولم تفكر أن تجد مارغريت وآنييس أمامها، وفي الحال سالت الدموع من عينيها.
- عودة طيبة، يا آنييس! قالت، وهي تدعوهما إلى الدخول.
كان أولادها وبناتها قد نهضوا ليس إلا، فجاء أول من جاء جوفريه. أخذته جوزيان الصغيرة بين ذراعيها، وقالت له:
- هل ترى، هذه آنييس، ستعتني بك مع مدام دولاكروا.
ابتسم جوفريه، مع بعض الحياء، فأخذته آنييس بين ذراعيها.
- ستكون عاقلاً معي، قالت له، ليس صحيحًا؟
حرك الصغير رأسه، ابتسمت النساء الثلاث، وطبعت آنييس قبلة على خده. سحبت جوزيان الصغيرة مارغريت من ذراعها، وبكثير من الحذر والحيطة، همست في أذنها:
- كيف وجدتِهَا؟
- سأحكي لك فيما بعد، همست مارغريت، وهي تنظر دومًا إلى ابنتها التي تدلل جوفريه.
بعد ذلك، جاءت البنات، جوزيت الأولى، دُرْنَ بآنييس، وسألنها إذا ما كانت ستسكن عندهن بالفعل.
- طبعًا ستسكن عندنا، أكدت جوزيان الصغيرة، ستكون أختكن الكبيرة. أليس كذلك، يا آنييس؟
وضعت آنييس جوفريه على الأرض.
- نعم، آنييس موافقة، قالت مارغريت. سبق لنا وتحدثنا في ذلك بإسهاب معًا، أنا وهي.
بدورهم، دار الأولاد بآنييس، وقالوا ستكون خطيبتهم الجديدة، بينما يهوذا لم يفه بكلمة.
- أنتم لم تزالوا صغارًا لتفكروا في هذه الأشياء، عاتبتهم جوزيان الصغيرة، ستكون كأخت لكم.
تقدم يهوذا، وطبع قبلة على وجنة آنييس، فاحتارت جوزيان، وتأسفت، شارحة أن يهوذا لم يعد يطيعها.
- يريد أن يأخذ مكان أبيه، ظانًا أنه كبر، وأنه حر في فعل ما يريد.
أنبته بعض الشيء، وطلبت من أولادها الذهاب ليتناولوا فطورهم، فخفوا إلى المطبخ، وهم يتراشقون بالتهم، آملين في سرهم أن تجعل آنييس من أحدهم المختار لقلبها. وبعدهم، تمنت كل بنت بدورها أن تكون المفضلة لآنييس، ودخلن المطبخ، وهن يتشاجرن. قطعت جوزيت عليهن نزاعهن المعتاد، وهي تمارس دور البنت البكر، ثم ذهبوا كلهم إلى المدرسة –ما عدا الصغير جوفريه- وتنفست جوزيان الصغيرة الصُّعَداء.
- عليّ الآن تحضير جوفريه، فلن تطول ساعة الذهاب به إلى الحضانة، قالت، وهي تستدير نحو صديقتها. هل تريدين أن تشربي شيئًا، يا مارغريت؟ قهوة؟ القهوة على الرف، هناك، هل تعدين لنا فنجانًا صغيرًا؟
أعدت مارغريت القهوة، وصبتها في ثلاثة فناجين قدمت أحدها لآنييس، فلم تُرِدْهُ، وهمست، وهي لا تخفي غضبها:
- إذن هنا تريدين أن تتركيني؟!
- آه، أنت لن تبدأي من جديد! سبق لنا واتفقنا حول هذا الموضوع، وأنا لا أرمي إلى الرجوع عنه. اقبلي بالأشياء كما هي في الوقت الحاضر، وسنرى ما سنفعله فيما بعد.
عادت جوزيان الصغيرة وجوفريه بين ذراعيها، وهي تلهث، ومدته لآنييس طالبة إليها أن تمشط له شعره. شربت قهوتها، وابتلعت قطعة خبز كبيرة مطلية بالزبدة، وأخذت تشكو من حساسيتها، وتقول إنها ستعمل "ريجيم"... سألتها مارغريت الانتهاء بسرعة، فساعة العمل تقترب و، خاصةً، من اللازم أن تتكلم عن آنييس مع مدام دولاكروا.
- أتكلم عن آنييس مع مدام دولاكروا؟ ردت جوزيان الصغيرة كما لو كانت تختنق، مرة أخرى؟ ولماذا؟ سبق وتكلمت معها، سبق وتكلمنا معها. اليوم لم يعد هناك ما نتكلم عنه، لم يبق هناك سوى تقديم آنييس لها، وسيكون كل شيء على ما يرام.
وهي تصعد الطريق المليئة بالحفر، أعادت مارغريت على ابنتها وصاياها العشر، وآنييس تمسك جوفريه من يده.
- هلا توقفتِ قليلاً! أنا لم أعد بنتًا صغيرة، ردت آنييس. ومع ذلك، أعرف ما يجب عليّ فعله.
- صحيح، أضافت جوزيان الصغيرة، لم تعد طفلة، فاتركيها على حالها!
عند ذلك، رأت مارغريت جيروم، وهو يستند إلى جدار، واضعًا يديه في جيبيه، هناك غير بعيد.
- لا تقولي لي إنه تبعنا، استشاطت مارغريت غضبًا.
- لماذا؟ هل هي جريمة؟
- من هو، هذا الشاب؟ سألت جوزيان.
- سأحكي لك فيما بعد، قالت مارغريت، دون أن يزول غضبها.
ودخلت ثلاثتهن عند العجوز دولاكروا.
بعد العمل في المساء، عادت مارغريت وجوزيان الصغيرة سويةً عند العجوز دولاكروا، ووجدتا جوفريه ينام على ركبتي آنييس.
- هل هو مريض؟ استفسرت جوزيان الصغيرة مضطربة. لماذا ينام هكذا على مثل هذه الساعة؟
- هذا لأن آنييس دللته كثيرًا، قالت العجوز دولاكروا.
- إذن جوفريه ليس مريضًا، ابتسمت الأم.
- الصغير في صحة جيدة على الرغم من كل الجراثيم التي تحتفي بها البيئة، علقت العجوز دولاكروا.
كانت مارغريت تريد أن تعلم إذا ما دارت الأمور جيدًا مع ابنتها، وفي الحال طمأنتها العجوز دولاكروا:
- آنييس ذكية جدًا، فلا تقلقي من أجلها، وستتعلم كل شيء في وقت أقصر من قصير.
ابتسمت مارغريت، وهي تستدير نحو آنييس، وآنييس لا تبتسم.
- سأعود بجوفريه إلى البيت، قالت آنييس، وهي تقف، والصغير بين ذراعيها. هل أستطيع الذهاب؟
- بالطبع، يا حبيبتي، أجابت العجوز دولاكروا، على أي حال، إنها ساعة ذهابك.
أرادت جوزيان الصغيرة أن تأخذ جوفريه، لكن آنييس كانت قد خرجت معه، فشكرت مارغريت العجوز دولاكروا بحميا.
في الطريق، أشار جيروم إلى آنييس يريد التكلم معها.
- تعال، صاحت الصغيرة جوزيان بمرح، ستتكلم معها في البيت.
أعطت آنييس جوفريه لأمه، ولحقت بجيروم تحت المصباح، بينما بقيت مارغريت هناك، بانتظار ابنتها. بعد قليل، نادتها جوزيان الصغيرة، وقالت لها، وهي تدخل:
- مارغريت!... كما لو أنك لم تكوني أبدًا عاشقة! اتركيهما وشأنهما قليلاً، ألا ترين جيدًا أنهما يتحابان؟
- لا أريد أن يُدعى هذا الولد إلى المجيء عندك هكذا، أريدك أن تكوني أكثر حزمًا مع آنييس.
- أكثر حزمًا مع آنييس؟ قولي لي قليلاً كيف تريدين أن أكون حازمة: بإعادتها إلى الدير؟
- لا، أريد فقط أن تكوني أكثر صرامة معها. أنت لا يمكنك استقبال هذا الولد عندك هكذا. اليوم هو، غدًا آخرون، وسأفقد ابنتي، وأنت بناتك.
وصل أبناء جوزيان الصغيرة من المدرسة واحدًا واحدًا، ومروا واحدًا واحدًا ليقولوا مساء الخير لأمهم ولمارغريت.
- كم هم عاقلون، أبناؤك، قالت مارغريت، وقلبها يرق.
- عاقلون؟! أرغب في أن تريهم وهم على جبهة الاشتباك، هؤلاء العفاريت الصغار. العاقل بالفعل كان أبوهم، ولهذا لم يستطع الصمود، انتشر السرطان في كل مكان من جسده في وقت أقل من قليل، المسكين...
الأخير كان يهوذا، وبدل أن يقبل أمه، قبض على جوفريه، الذي كان بين ذراعيها، ووضعه أرضًا قبل أن يضربه.
- أنت تدلعينه كثيرًا، هذا الولد! صرخ بأمه.
وبدورها، صرخت جوزيان بيهوذا، واستدارت نحو مارغريت:
- ها هم أبنائي العاقلون!
ثم عادت آنييس، وشرحت أن جيروم لم يشأ المجيء.
- أحسن! همهمت مارغريت.
- يبدو لي أنه ولد لطيف جدًا، رمت جوزيان الصغيرة. تعالي، قالت لآنييس، سأريك غرفتك. سترتاحين قليلاً، وسأناديك عندما يكون العشاء جاهزًا.
قفزت البنات من الفرح، وكل واحدة كانت على استعداد للتخلي عن سريرها لأختها الجديدة. سحبنها من يدها، واقترحن عليها ثيابًا، بانتظار أن تذهب مارغريت لإحضار أغراضها من الدير. ستذهب أولاً لتقص كل هذا على زوجها، وهي لهذا رفضت البقاء للعشاء.
تساقط الضباب مع الليل، وفي قلب الزقاق، كان جيروم ينتظر كالملاك، أو كالشيطان، مستعدًا للقفز على ضحيته. هل هذا من أجلها؟ هي، كبرت، لكن هو، بقي كاليوم الأول، شابًا، عاشقًا... خانها الزمان، عقارب الساعة، أمواج الرمل. تركها الزمان على عتبة الكون، فصنع الانتظار، وعرف الإنسان اليأس من الأمل، ربع القمر في الليالي الطويلة السهاد. تذكرت حبها الأول، عناقها الأول تحت شجرة: في البداية، رفضت تسليم جسدها، ثم وافقت على تسليم جسدها كمن يوافق على تسليم مدينته للأعداء. لم يعد للهزيمة معنى الخيانة، فخسر البشر الحروب، وهم واثقون من إخلاصهم لأوطانهم. كانت هي، كان جيروم، وكان جسدها، الذي سلمته ابنتها مرة ثانية.

5
لم يكن سباستيان في شقته، فدست كلمة من تحت بابه، تطلب فيها الذهاب لرؤيتها. عادت تأخذ المترو إلى الدير، ولم تتأخر عن تركه، حقيبة ابنتها بيدها، وجيوبها فارغة. ومع كل خطوة، كان الضباب يغدو أكثر حدة، والليل أكثر سمكًا. لم يكن شارع موفتار بعيدًا، فذهبت على قدميها. اختلط الضباب بأنفاسها، اخترق جسدها، وسال بين ثدييها، الضباب الحاقد والبارد، اللذيذ، الغارق في الصمت الباريسي على خلفية من السيارات والأضواء المتكسرة بين أصابع الشوارع. قطعت مارغريت ميرابو وحدها هذه الشوارع، والعالم تحت خطواتها كرة من الكريستال الأسود –من المستقبل المبهم. أرادت أن تتباطأ في الليل، في الضباب، وفي انعكاسات مصابيح السيارات، أن تعبث بالأحلام القادمة، أن تقض مضاجع الآلهة. أرادت أن تتمارى في الظلام، في الحلكة البيضاء، وفي ارتدادات لآلئ الابتسام على الشفاه، أن تمزق الفساتين القصيرة، أن تتعرى في أحضان الطبيعة. أرادت أن تتعانق مع ظلالها، مع أندادها، ومع الشياطين التي تعلمت على يدها الغرام، مع الرعاع، مع الأمراء. تعثرت أمام فترينة إحدى وكالات السفر، وأدركت فجأة أن الحقيبة ثقيلة جدًا للبقاء أكثر على أعتاب أفكارها، فعادت إلي بيتها بأقصى سرعة تقدر عليها.
أول ما وضعت القدم في شقتها، سارعت إلى فتح النافذة، وخلع ثيابها، لتشعر بالضباب وبالبرد يزحفان حتاها، على السرير. انتصب ثدياها تحت حدة البرد، ورسخت فخذاها واستدارتا كما لما كانت تذهب للعوم في البحر. تركت نفسها تتغطى بالضباب، فضاعف البرد فيها الرغبة في الدفء، باستحالة الدفء، وَقَلَتْ جسدها بالجليد، بالمتعة، متعة بإرادة الجليد. في تلك اللحظة، تذكرت صدر امرأة على الإعلان، في فترينة وكالة السفر، امرأة سمراء من سمرقند: عيناها المرسومتان أحسن رسم، ثغرها المنقوش أحسن نقش، شعرها الأسود المجدول المتساقط على ثدييها، في الشمس. عند ذاك، أحست على جسدها بكل برد الشتاء الباريسي، فاقشعرت بعنف، في الوقت الذي طرق فيه أحدهم الباب. ارتدت روبها، وذهبت لتفتح، وهي على التقريب عارية، مرتعشة. كان زوجها. وهو يراها تهب نفسها هكذا للرياح كغصنٍ طريّ، أغلق النافذة بسرعة، وغطاها بذراعية المشعرتين ليدفئها، فدفعته بعيدًا عنها بخشونة.
- وجدتُ آنييس، قالت، وأذهبتُهَا عند جوزيان. هكذا سيكون لها ما تعمل هناك، وسيتوفر لها مصروف جيبها.
جلس سباستيان على الأريكة، ولبست مارغريت هيئة حزينة:
- غادرت صغيرة، كانت طفلة، بريئة، وعادت امرأة تقريبًا... لدي انطباع بلا تركها معي لهذا السبب. في البداية، لم تشأ، لكن في الأخير، فضلت، هي كذلك، البقاء عند جوزيان. ربما كيلا تثير لا إعجابي...
- كان عليها أن تأتي عندي لا عند الغرباء! أجاب سباستيان
- جوزيان ليست غريبة، وأنا، لا أريد خاصةً أن تأتي آنييس عندك، لتقع على كل عاهرات باريس...!
- إذن لماذا لم تبقيها عندك؟
- قلت لك لماذا. ثم على آنييس أن تتعلم مهنة، وأن تتحمل المسؤولية.
- المسؤولية! أنت لم تتحملي أية مسؤولية، وتريدين هي، أن تتحمل المسؤولية، ربما؟ كان من الأفضل أن تبقى معي.
- معي أم غير معي، كله واحد الآن. ولا تعطني درسًا فيما هو أفضل أو غير أفضل لها. انظر إليك، لقد نجحت في كل شيء: بلا عمل، بلا عائلة، بلا شيء! أنت من كان يريد أن يكون الأفضل دومًا! فلا تأت لتكلمني عن المسؤولية، من فضلك!
- بل فلنتكلم عنها! من نسف كل شيء: حياتنا وحياة ابنتنا؟ فلنتكلم قليلاً عن هلوساتك التي ألقت بكل شيء في الماء!
- أنتَ لستَ على المستوى، هذا كل ما في الأمر.
بقي سباستيان مشدوهًا للحظة، موطئًا رأسه.
- في وقت من الأوقات، كانت لي مسؤوليات، أنا، وكنت سأشتري لك طائرة...
قهقهت مارغريت، كالجو العاصف، فدفعه الغضب إلى النهوض. وهو على وشك أن يجتاز الباب، أوقفته زوجته:
- ألا تريد أن تأخذ عنوان ابنتك؟ ألا تريد أن تعلم أين تتلفن لها؟ في أي مكان توجد على وجه الأرض؟
- كنت أريد، لكن الآن لم أعد أريد، لم أعد أريد أن أعلم شيئًا لا عنها ولا عنك، فلتذهبا إلى الجحيم!
كان على وشك أن يحطم الباب.
في الصباح الباكر، حملت مارغريت أغراض ابنتها، وطلبت إلى جواها الصمت. التفّت التفافَ باريس بغطاءٍ من الضباب الكثيف، وحلمتها تكمن كالمنقار الماكر تحت معطفها. لاح لها في الزقاق القصي طيف جيروم، فأخذها الاعتقاد أنه لم يغادر مكانه منذ مساء أمس، وأنه قضى الليل في هالة مصباح مجنون مثله. تسابق أولاد جوزيان إلى حمل حقيبة آنييس عنها، وتركوها وحدها تحمل عبء حياتها: لم يحبها أحد هكذا، لم يقض أحد حتى ساعة واحدة في البرد والضباب من أجلها، لم يجئ أحد أبدًا في الصباح الباكر كالنجم الوفي رغم الغيم المجتاح لسمائها.
بقيت تنظر إلى حب ابنتها كما لو كانت تنظر إلى حبها، فشكت أمرها إلى أرباب الهوى. كان كل شيء، في الضباب، كما لو كان وهمًا، كما لو كان حلمًا، وظل الليل مختبئًا في الظل، كيلا ينتهي، فتقف مارغريت على الحقيقة، وتذهب حتاه، وتأخذه بين ذراعيها... وصلها صوت جوزيان الصغيرة، وطار كل شيء مع صخب الأولاد الذين يغادرون. كانت هناك آنييس كذلك، التي يمسك جوفريه يدها. لمحت جوزيان الصغيرة جيروم، وقالت لآنييس كما لو كان سرًا:
- هذا الشاب يحبك كثيرًا، يا آنييس!
- إنه مجنون فيّ، همهمت الفتاة، وأنا لا أحب هذا!
التفتت جوزيان الصغيرة إلى مارغريت التي لزمت الصمت بغرابة:
- وأنت، يا مارغريت؟
- وأنا ماذا؟
- كنتِ مثل آنييس أم مثلي؟
- مثل لا أحد، قالت بنشافة.
ولابنتها:
- ماذا تنتظرين؟ هو هنا لأجلك!
نادته، فامتطى دراجة نارية، واقترب منها.
- لمن هذه الدراجة؟ سألتْ.
- لصديق، أجاب، وهو يبتسم ابتسامة واسعة، طلبتها منه لأجلك، لنتنزه قليلاً.
- كما ترى، إنه الوقت المناسب للتنزه!
- ليس الآن، أوضح جيروم بأناة، عندما تنتهين من عملك.
- لكني لا أنتهي إلا على السادسة، وأنا...
- إذن إلى السادسة. سأتجول قليلاً، بانتظار ذلك.
ووضع خوذته.
- انتبه إلى نفسك، قالت آنييس فجأة، الطرق مبللة.
عدلت عن قولها، وشعورها بخيانة عواطفها يغلب عليها:
- أريد القول...
كان جيروم سعيدًا، ضرب على الدواسة، فانطلقت الدراجة عدة أمتار على عجلتها الخلفية، قبل أن تختفي.
ظُهْرًا، عندما ذهبت مارغريت، في الضباب، إلى بنك السيد هنري، لتسحب بعض النقود من أجل شراء ساندويتشها، كان جيروم هناك، جالسًا على دراجته، تحت شجرة عارية، مقابل البنك. دخلت مارغريت البنك، فجاءت الشاحنة المصفحة، وغادرت، وعندما خرجت، لم يكن جيروم هناك. بحثت عنه بعينيها في كل مكان، وهي تطالب المكان بالصراخ، النساء بفعل كل ما هو حرام، الحلمات بالخروج من تحت المعاطف. ابتلعت غيمة سوداء ضخمة الضباب، وهي تفرش جناحيها العملاقين، وثارت ريح عاتية هصرت مارغريت بين ذراعيها. أحرقها بردها الجهنمي، وألهب كل باريس، أرصفتها، تماثيلها، مضاجعها. كيف يمكن لنساء سمرقند احتمال الجحيم؟ كيف يكون الحب في بلد النار؟ كانت قد سمعت عن الأمهات اللواتي يقدمن بناتهن العذراوات للغرباء، للقيام بأول عرس لهن، عرس لا يدوم سوى ليلة، و، لم تدر لماذا، فكرت في جيروم. ستأخذه معها، وسيكون في سمرقند الغريب الأخير، وهي العروس الأخيرة.

6
هطل المطر بغزارة، فمدت مارغريت ميرابو فمها من نافذتها المفتوحة، لتقطف القطرات المالحة للمساء. ما كان يدور في ذهنها شيء آخر غير النقاء، غير الظمأ، ارتكنت في زاوية علم الرمل، فرمل السماء المطر، والبحر ماء الآلهة. كانت الأقدام تركض بِسُعْرٍ جنونيّ على أرصفة شارع موفتار وقد تحولت إلى أنهار عكرة، نحو مخابئها، فظن الناس أنهم في جزيرة استوائية: لم يسمعوا سوى الرنين المتناغم للمطر، وأنين الأغصان. ثم فجأة فرقعات دراجة نارية، من بعيد، وصرخات فَرِحَة، كان جيروم وآنييس.
في بداءة الأمر، حَسِبَتْهُما مجنونين يبحثان عن المغامرة آتيين من آخر الدنيا. لوّحا لها بأيديهما، وهما يعبران، ويختفيان في الناحية الثانية للشارع. عادا يعبران من الجهة الأخرى، وهما يصرخان، ويقهقهان، ويحركان أذرعهما المبتلة... فدمعت عينا مارغريت من المسرة والغيرة، وكادت ترفع يدها ليكون قوس قزح إشارتها إليهما. كانت تتمنى أن تكون في مكان ابنتها، تلسعها سياط المطر، وهي في أقصى سرعة، أو تجنح على جزيرة استوائية تغطي شطآنها حطام السفن... ماذا؟ هل كانت من الكبر ما يمنعها من الحلم الرومانسي؟... هل كانت أختًا للقمر لما يغيب القمر في سماء العشاق باطلاً؟... هل كانت تسعى إلى خرابها وخرابها كان الشيخوخة؟ الشيخوخة... وبعد قليل، لم تعد تسمع الدراجة.
جاب جيروم وآنييس باريس طوال الليل، وهما يجدان شاعرًا في كل زاوية من زوايا شوارعها، قائدًا، سياسيًا كبيرًا. تبادلا التحايا مع بنات الهوى، أولاد الهوى، كلاب الدائرة السادسة عشرة. اكتشفا معًا الدائرة السابعة عشرة والدائرة التاسعة عشرة والدائرة التاسعة، لما فجأة انتابت آنييس رعشة اخترقتها من طرف إلى آخر: كانت قد لمست مسدسًا في جيب سترة جيروم الداخلية. أخرجته، وحركته أمام خوذته، وهي تصرخ من أين جاء به، ولماذا. كبح جيروم جماح فرامله، وتوقفت الدراجة دفعة واحدة في الاتجاه المضاد. انتزع المسدس من يدها، ومسحه، ثم أعاد وضعه في جيبه.
- سأستعير بعض النقود من السيد هنري، قال بهدوء.
- ستستعير ماذا؟!
وأخذت تضربه على صدره دون أن تعرف ما تقول، فاغرة الفم، شاردة العين. وبدافع الغضب، قفزت على الأرض، وغذت السير وحدها على رصيف الخراب. بدت أعصى تأنيسًا مما كانت، كاللبؤة الحمقاء، فجاءها جيروم على دراجته، وسار محاذاتها.
- هل جننتَ في رأسك؟! صاحت بِحَنَق. أنت مجنون تمامًا!
- اسمعي، عاد يقول بهدوء، أنا لا أريد أن تقضي باقي حياتك في مسح الأرداف وحمل قارورات رَضاع أولاد الآخرين.
- وأنا لا أريد أن تقضي باقي حياتك في السجن أو في الفرار أو...
أوضح لها أن الأمر بسيط كتحية الصباح، وأنه درسه من كل جوانبه، فالسائق هو حارس البنك نفسه، ولا حاجة له إلى شخص آخر. كل شيء سيتم بدقيقة واحدة في اللحظة التي يجري فيها تسليم النقود، وفي الحال بعد ذلك، سيجيء ليأخذها من عند العجوز دولاكروا، وليذهب بها إلى أبعد مكان يكونان فيه سعيدين حتى آخر العمر...
أوقف دراجته، وجذبها من ذراعها، وباريس تنظر إليهما، وتبتسم لهما ابتسامها للعصاة المفضلين من أبنائها. ضمها بقوة، فقبلته بعنف من يشرب المطر من فمٍ مجرم. ثم امتطت من ورائه، وشدت نفسها إليه.
- اذهب بي إلى البيت...
عاد ينطلق بسرعة، والعجلة الخلفية تُصِرُّ، وهي تشد نفسها إليه بأقصى ما تستطيع عليه. كانت شهوتها تضرم خوفها، وخوفها يضاعف شهوتها: كان حبيبها هذا المجرم الذي لم يكن بعد مجرمًا، هذا القاتل الذي لم يكن بعد قاتلاً، هذا اللص الكامن، المرجأ لبعض الوقت. كان كل الشعراء وكل القادة وكل السياسيين يمكنهم رؤيته، بعضهم يراه كلص، كمجرم، وبعضهم، ربما، كمثاليّ، كمقاتل من أجل الحرية. أغمضت عينيها، وشدت نفسها إليه بقوة قدرها.
وهي تراهما داخِلَيْن، رفضت مارغريت أن يحتلا مخدعها. لم يأتيا ليعرفا أين سيكون مكان العناق، كانت آنييس تغلق من ورائها باريس على من هم فيها، وكان جيروم يلعق المطر عن جسدها، ويعريها، دافعًا الكراسي، والأبواب، والأرائك. كانا لا يريان شيئًا، لا يسمعان شيئًا، ولم يكن هناك ما يُرى أو يُسمع. كانا وحيدين. كانا يتعانقان، ولا شيء آخر كان مهمًا. عند اضطرام الشهوة، كل مكان على الأرض هو المكان المثالي، والمضجع الأكثر عداء هو المضجع الأكثر هناء، الأكثر رجاء، الأجود وجودًا. كانا هنا كما لو كانا هناك. كانا وحيدين في الكون، والكون لهما شرنقة.
تراوحت مارغريت بين الاستخارة والاستثارة، فألقت بجسدها الضائع، وسعت إلى المنون. تركتهما في السعير و، بسكون، أغلقت على نفسها باب غرفتها، ثم أصاخت السَّمْعَ. تناهت إلى أذنها التنهدات، والتأوهات، وتذابح القبلات: كان سكين الأفواه يشرطها، فيتفجر دم وهمي، ويضاعف من لَذّة الذبح، واغتصاب العالم. وكانت عذراء سمرقند تنزف، وتلهث لهثات متقطعة، وهي يغسلها العرق، إلى أن سقط كل شيء في الزمن اللانهائي.
فتحت الباب بأطراف أصابع يدها، وجاءت على رؤوس أصابع قدمها، وهي في قميص النوم، فوجدتهما ينامان، وجسداهما لم يزالا يرتجان، وكأنهما لم ينتهيا. مست ساعد جيروم مسًا خفيفًا، واشتعلت الشهوة تحت جلدها. أمرّت أصابعها على ثدي ابنتها، فكان متوترًا كقوس، كقبضة، كالحجر الصانع للنار. رفعت جيروم بين ذراعيها، ودفنت وجهه بين ثدييها، فأفاق جيروم مذعورًا، لكنها هدأته:
- لا تخف، يا حبيبي، لا تخف...
وهوت على شفتيه، تذبحهما قبلاً، فأخذها بين ذراعيه كمن يأخذ غزالة تعطي نفسها، وحملها إلى غرفة النوم.
فتحت آنييس عينيها و، بدورها، بدأت تسمع التنهدات والتأوهات وتذابح القبلات. أخذت ترتجف دون أن تتمالك نفسها عن غيظها –كان قلب باريس يتلطخ وكأن الليل يبكي معها-، وتقدمت من الباب الزاني، وهي تبكي. أخرجت المسدس من جيب سترة جيروم الملقاة على الأرض، وصوبته نحوهما، وهي تمسح دموعها بذراعيها.
- جيروم!!! صرخت، وكل جسدها يهتز.
فقفزت أمها وجيروم بعنفٍ ضاربٍ إلى البنفسج. ألقت مارغريت بنفسها على قدميها، وهي تحيطها بذراعيها، وترجوها:
- آنييس اهدأي، اهدأي، يا طفلتي...
- ما أنت إلا... قحبة! سأقتله، وسأقتلك أنت كذلك!
- آنييس اهدأي، لا ترتكبي من الأعمال ما هو الأحمق، كل شيء على ما يرام...
- تفعل هذا مع أمي!... قالت باكية. أكرهك!!!
أطلقت عدة طلقات، وهي تغمض عينيها، وتصرخ بوحشية، فرمى جيروم بنفسه خارج السرير، والرعب كأبيه، وحاول أن يخلصها المسدس. انتظر الأسوأ، لكن آنييس عادت إلى رشدها، وأمرته أن يرتدي ثيابه، وأن يعيدها عند الصغيرة جوزيان. ارتدت ثيابها، هي كذلك، وهي تصوب السلاح نحوه، و، على الدراجة، لم تشد نفسها إليه، على الرغم من تحذيراته، وألصقت السلاح بظهره. هكذا هم الدعاة للاسترقاق، والراقصون على أنغام التنغو.
في غابة "لابيه"، طلبت منه أن ينزلها:
- لم أكن أتصور أنك تستطيع فعل هذا، هكذا، مع أمي...!
- لم تكن سوى لحظة نزق، لا غير، تعرفين جيدًا أنني لا أحب شخصًا آخر سواك.
- ...مع أمي! أمي التي أرضعتني! وكنت تتناول ثد...
أطلقت عدة طلقات على الدراجة، وجيروم يغطي رأسه بذراعيه.
- توقفي! أنت مجنونة أم ماذا! تعرفين جيدًا أنني لا أحب شخصًا آخر سواك! توقفي!
أقلع على طريق الجحيم، وجاءها كالموت، كالسكين، كالهاجس، فقذفته بالمسدس، وجعلته يسقط كالطرح من بطنها. نهض ملوثًا بالوحل، ووجهه مغطى بالدم. تناول المسدس، وهزه أمام عينيها:
- أنا لا أحب شخصًا آخر سواك! هاكِ! خذيه، واقتليني، إذا كان هذا ما تريدين. اقتليني...
بصقت على وجهه، وذهبت راكضة. بعد قليل، ذابت في الأزقة المعتمة، تحت سماء في ثياب الحداد، والمطر يتساقط مدرارًا.

7
عندما وصلت آنييس إلى شارع جوزيان الصغيرة، كانت تبكي كمائة امرأة. كانت تبكي عليها وعلى كل اللواتي سيبكين يومًا لأنهن يتألمن لأنهن أحببن كثيرًا. لم تعرفها جوزيان لم ترها في مثل تلك الحال، ضمتها بقوة ورافقتها إلى الحمام. أعانتها في خلع أسمالها التي تقطر ماء، وآنييس لا تتوقف عن البكاء غير قادرة على قول كلمة توضح ما حصل. نهضت جوزيت وأختان من أخواتها ليرين، فأمرتهن أمهن بالعودة إلى النوم. ثم جاء جوفريه، ورأى آنييس عارية، وهي جالسة على طرف المغطس. أرادت جوزيان الصغيرة أن تصرفه كأخواته، إلا أن آنييس أخذته بين ذراعيها، وقبلته من جبينه. ساعدها ذلك على تهدئتها فليلاً، ومن وراء الباب، رأى يهوذا الغيور أصابع أخيه البريئة، وهي تداعب حلمة الثدي الأبيض.
نزلت مارغريت من سيارة الأجرة، وركضت تحت المطر الغزير المذل لسماء باريس حتى باب جوزيان الصغيرة، وطرقته عدة مرات. شجعها الضوء المتسلل من تحته على طرقه بأكثر قوة، والريح تصفر حولها، تريد هي الأخرى أن تفتح جوزيان الصغيرة لسيدة المطر والريح بأقصى سرعة. أخيرًا جاءت أم يهوذا، وهي تدفع رأسها إلى الوراء كبطة مذعورة. فتحت دون أن تسأل من الطارق، فمن غير مارغريت سيكون، ومن غير مارغريت سيأتي عندما يصب المطر على مثل هذه الغزارة، ومن سينير كالضوء في بحر الظلام غير سيدة البحر والضوء؟
اقتفت مارغريت آثار الوحل حتى الحمام، فأعادت آنييس جوفريه إلى ذراعي أمه التي ذهبت لتنيمه. أخذت مارغريت ابنتها، صغيرتها ووحيدتها، في حضنها، وضمتها من كل قلبها، عارية كما كانت في اليوم الذي ولدتها، وانفجرت باكية. أرادت أن تغسل بدمعها العار في قلب آنييس كما يغسل المطر الرعاع والوحل والنتن، وأحست بنفسها تتزعزع إلى درجة لا يمكن معرفتها سوى الأنبياء وحدهم، قبل أن يكرسوا حياتهم للصلاة والإخلاص والتواضع الأقصى. آنييس كاد يُغشى عليها، وانفجرت باكية بدورها، وهي تردد "ماما، ماما...". ولما رأت جوزيان آنييس عارية بين ذراعي أمها كطفلة تتضور جوعًا، انهارت، وقرنت تأثرها بتأثر مضيفتيها. ضمتهما إلى صدرها الضخم، وصارت أمهما. أعطت لصديقتها ما تغطي به ابنتها، ثم ذهبت مارغريت بآنييس إلى الأريكة، وجعلتها تنام في حضنها.
في صباح اليوم التالي، كان المطر يملأ الجو، عندما ذهبت بنات جوزيان الصغيرة إلى المدرسة. لم يصعد النهار على البيت، وآخر الليل لم يغادر العتبة بعد. عادت إحدى البنات، وأيقظت آنييس: كان فتى الدراجة يريد التحدث إليها. تركت آنييس الأريكة، وخفت إلى النافذة، وجيروم هناك، جالسٌ على دراجته، منتظرٌ، وعلى ما يبدو غيرُ مبالٍ بالمطر، منبع التمرد الغارق فيه بكل ثيابه.
- سأطرده نهائيًا، سترين، قالت لأمها. أنا لا أريد أن أراه أبدًا.
- ما الذي فعله المسكين كي تعامليه بكل هذه القسوة؟ سألت جوزيان الصغيرة.
- آه، جوزيان، لا تتدخلي أنت في كل هذا! نبرت مارغريت. آنييس تعرف ما تفعل!
- الأمر أمرها، هذا صحيح، لكن هذا لا يمنع هيئة العاشق هيئته.
- اسكتي أنت، يا جوزيان، من فضلك! تكلمت مارغريت بلهجة قاسية.
- سأسكت، يا عزيزتي مارغريت، سأسكت!
انتهت آنييس من ارتداء ملابسها، وخرجت بخطى سريعة، وهي تغطي رأسها بطرف سترتها. وفي الحال، التصقت مارغريت بجوزيان الصغيرة من وراء النافذة، بينما أخذت آنييس تزعق دون أن يسمعاها جيدًا، وتدفع جيروم حتى أسقطته مع دراجته. أعطته ظهرها، وعادت بخطى سريعة كما غادرت.
ترك الأولاد آنييس تمر، وهم يتحاشون نظرتها، وخرجوا دون أدنى ضجيج. كان الأخير جوفريه، فحملته آنييس، وقالت، وهي تنظر إليه بحنو:
- سأذهب به عند مدام دولاكروا.
فتحت مظلة، وخرجت تركض بجوفريه تحت سماء سائبة وواطئة. تبعتها أمها، ثم جوزيان الصغيرة، ويهوذا يتحدث مع جيروم، في الوقت الذي يدور فيه حول الدراجة معجبًا. ركب جيروم دراجته، وجاء محاذيًا آنييس. كلمها، قال لها أشياء، والمطرُ يُسَفْنِجُ كلماته، ولم يبق سوى الطوفان البريء. جاء إلى جانب مارغريت، وحدق في وجهها، وعيناه مفعمتان بالحقد.
- تظنين أنك نجحت في إبعاد آنييس عني! لكنها لي قبل أن تكون لك، قبل أن تكون ابنتك، وستظل!
كانت مارغريت تحترق من الداخل... "لا، أنا حبك، أيها الأحمق! أنا الوحيدة التي أحبتك بصدق! مرة واحدة، مرة صغيرة واحدة، ولكن بقدر آلاف المرات، بقدر آلاف النساء آلاف المرات، لكنك لا ترى شيئًا! أنا لك كالمطر للأرض الظمأى، فأسقيك مما لا ينضب من أنهار! أنا لك كالليل للسماء البيضاء، فأشعل لك مما لا ينطفئ من أضواء! أنا لك كالريح للغصن المنكسر، فأفرش لك مما لا يتعرى من أشجار!..."
شخصت في نظرته الحاقدة بصمت، فتوقف، وصاح بآنييس، قبل أن تدخل عند العجوز دولاكروا:
- لن أترك أمك تفعل ما تشاء بك، هل تسمعين؟ سأركب الأهوال والأخطار من أجلك، ولن أخلف اليوم موعدي معك، فاستعدي. هل تسمعينني؟
جاءت العجوز دولاكروا تفتح، فانطلقت الدراجة كالسهم الناري، وهي تشعل المطر تحت عجلتيها. شُدِهَتْ مارغريت، فاشرأبت بشفتيها وعنقها، وشربت قليلاً. ضغطت جوزيان الصغيرة على ذراعها، وهي تفكر "من يزرع الريح يحصد العاصفة!" لقد حانت ساعة البدء بالعمل، وإذا ما جرجرت قدميها هكذا، أصيبت حتمًا بشيء ما.
و...
دوت بعض الطلقات النارية، فسارعت آنييس إلى النافذة، وكذلك جاءت العجوز دولاكروا لترى، فأعطتها آنييس الطفل الذي تلقمه قارورة الرضاع بعجلة:
- يجب إغلاق الباب بسرعة، مدام دولاكروا.
- إغلاق الباب بسرعة؟ لكن لماذا؟ ماذا يجري، يا آنييس؟ لماذا أنت قلقة هكذا؟
جمعت آنييس الأطفال في حجرة، وخفت إلى الباب، غير أن جيروم كان هناك، وكان مجروحًا من كتفه.
- اخرج من هنا حالاً! صاحت آنييس، لا تشركنا في قصصك القذرة! اذهب! حالاً!
عندما رأته العجوز دولاكروا، وهو يترنح، وينزف، والمسدس بيده، تركت الطفل يسحل من بين يديها، وسقطت مغشيًا عليها. التقط جيروم الطفل من ذراعه، وسدد رأسه بمسدسه.
- كلمة أخرى، وسأطلق.
- جيروم، لا!...
أخذ الصغير يبكي كما لم يبك منذ ولادته.
- كلمة واحدة، فأقتله، عوى جيروم، مفهوم؟!
طوق الحرس الخاص للسيد هنري كل الحي، فاقتحم جيروم الحجرة التي يتجمع فيها الأطفال، وصرخ، وأخوه الارتياع.
- سأقتلهم، صاح، وهو يشير بمسدسه إلى الرؤوس الشقراء. إذا ما لم ينسحبوا، إذا ما لم يحضروا سيارة نُقِلُّهَا، إذا ما لم يفعلوا كل شيء كما قلت، قتلت الصغار.
- لا!... أنت لن تقتلهم!
- إذن سأقتل جوفريه، هل هذا ما تريدين؟
- اترك جوفريه، جوفريه لم يفعل لك شيئًا!
- الآخرون كذلك لم يفعلوا لي شيئًا، قال ضاحكًا كالوحش، ومع ذلك سأقتلهم إذا ما لزم الأمر، وجوفريه معهم. اسمعي! اذهبي في الحال وقولي لهم ما قلته لك، وإلا أقسم لك أني سأقتله، صغيرك جوفريه!
وبمسدسه سدد رأس الطفل، فهرعت آنييس إلى الذهاب كالمجنونة.
عندما خرج جيروم، وفوهة المسدس على رأس جوفريه، أمر آنييس باتباعه، وعندما كان على وشك الصعود في السيارة، دوت الطلقات من كل ناحية. أصيب أول من أصيب جوفريه، الذي مات في الحال، ثم جيروم، عدة إصابات. دك آنييس مرأى جوفريه، وهو يطرق الأرض كالدمية أمام عينيها، وأخذت تصرخ، وتمدد ذراعيها نحو الجسد الصغير الذي لا حياة فيه: كانت الضوضاء أقوى من كل شيء، الطلقات، الصرخات، المطر، الرعد، العناب.
رموا جيروم وآنييس في زنزانة، وأودعوا جثة الصغير جوفريه في مركز الشرطة.
عندما غادر يهوذا مدرسته الإعدادية، كان كل شيء قد انتهى منذ وقت طويل. ذهب إلى مكان تراشق النار، وذرف دمعه السخي. لم يكن يعلم أنه يحب جوفريه كل هذا الحب، فهو دومًا ما كان منه غيورًا لاهتمام أمه، لاهتمام آنييس، وكان يفكر أنه لهذا يكرهه. مات أخوه مقابل لا شيء، دون أن يؤذي أحدًا إطلاقًا... أورط جيروم آنييس في مصرعه، الجميلة آنييس ذات الثدي الأبيض... دار في المكان محزنًا، مفكرًا، لما رأى دراجة جيروم المنقلبة في حفرة. رفعها، وفحصها، كانت تبدو في حالة جيدة. أدار المحرك، وامتطاها، ثم ما لبث أن انطلق.
كان ولدًا، وغدا رجلاً.

8
بعد الظهر، جاؤوا إلى المصنع بحثًا عن مارغريت، ونقلوا إليها ما جرى، فخفت إلى رؤية ابنتها. أرادت أن تحتضن آنييس، لكنها حادت عنها، فضمت جيروم، والدموع تسيل من عينيها. تناولته آنييس من كتفيه، ورمته أرضًا. كان جيروم مضمخًا كله بالدم، ويئن أنين الحمام. نظرت مارغريت إلى المطر الغزير من وراء القضبان، وفكرت في اللعنة التي يسقي الأرض إياها، وفي طوفان نهر السين، وفي العقاب الذي تحبل به كل حبة مطر. كانت كل حبة مطر تحبل بحبة ملح، وكان الرعد يتفجر مثل أيام الحرب. جاء حارس، وقال لمارغريت إن السيد هنري يريد مقابلتها، فلم تفرح المدام ميرابيل بلقاء الموسيو هنري. ذهبت إلى مكتبه، والبرودة أختها، كأم فقدت ابنها.
- مدام، قال السيد هنري، وهو يقف، تفضلي بقبول هذا الإطراء من فضلك: أنت سحر للعيون... رغم كل هذا الحزن. الحزن في عينيك لوحة بريشة أعظم فنان!
- ذلك الذي كاد رجالك يقتلونه مثل ابني، قالت بصوت هياب، وآنييس ابنتي الوحيدة، موسيو. والصغير جوفريه...
كان يحدق فيها مذهولاً، وكان يذكره هذا الجمال الأخاذ بامرأة أخرى ربما عرفها في الماضي.
- منذ متى أنت تعملين عندي؟ سأل.
- منذ أكثر من عام بقليل، عندما عينتني...
ابتسم بهدوء، وهو يتذكر: في ذلك اليوم، شعر بالتوقد في داخله. اخترقته نارها التي ترسل الشرر من عينيه، وذهبت حتى أسفل بطنه.
عانقها في عينيها، فأشاحت مارغريت بوجهها عن عينيه.
- اغفري لي، اعتذر السيد هنري.
راح قلبها يخفق بقوة: السيد هنري بعينه هو من ينظر إليها هكذا، ومن يطلب منها المغفرة... وربما كان يعتذر لأنه نسيها؟
- لم أتركك تنتظرين إلا الكثير، تابع. اغفري لي. لعن الله الظروف!
جرفتها السعادة كما يجرف المطر الأوحال ويغسل بِلاط باريس...
- الظروف الحالية أقسى الظروف، قالت بانتباه وتركيز.
جاء بيده إلى كتفها، ومس شعرها الطويل، ليحرق أصابعه في الحرير .
- اطمئني، مدام... ميرابيل، قال لها، ابنتك لن تتعرض لأي خطر على الإطلاق.
- وجيروم، الولد...؟
- لا أستطيع أن أعدك بشيء فيما يخصه، إصابته خطيرة، إلا أنني سأعمل على إسعافه أفضل ما يكون، كوني على ثقة من ذلك.
اتجه نحو مكتبه، وضغط على زر طالبًا من سماه "رشيد"، فحضر في الحال شاب عربي أنيق يشبه جان غابان قليلاً، ولبد بالباب.
- سيدي...؟
- فليطلقوا سراح مدموزيل ميرابيل على التو، ولينقلوا الولد إلى المستشفى الأمريكي.
طأطأ رشيد الرأس طوع أمره، وغادر المكتب. والسيد هنري يجد نفسه وحيدًا مع مارغريت من جديد، نظر إليها، وقال لها بابتسامة واسعة:
- من فضلك مدام، تفضلي بقبول دعوة إلى العشاء، أنت وابنتك، هذا المساء...
وقفت مدام ميرابيل.
- عليّ أولاً الذهاب عند جوزيان، زميلتي في العمل التي...
- هل هذا هام إلى هذه الدرجة؟
- فقدت أصغر أبنائها في كل هذه المسخرة، وعليّ واجب دعمها، إنها صديقتي.
- كما تشائين، سيارتي تحت تصرفك.
عاد يطلب رشيد، وعاد رشيد إلى الحضور.
- رافق المدام عند أم الصغير المتوفى، أمره، قدم لها تعازينا، وعوض مدام... جوزيان كما يوافق لك.
طأطأ رشيد الرأس طوع أمره، وانتظر مدام ميرابيل، ليترك المكتب معها، وهو يغلق الباب بهدوء من ورائه.
- إلى هذا المساء، مدام!
لم يكن يعلم لماذا، كان لديه شعور من عرف هذه المارغريت في الماضي، كانت تذكره بامرأة أخرى... فجأة استرجع كل شيء كصورة فوتوغرافية: امرأة جميلة مثلها، لذيذة مثلها، أحبها ليلة واحدة، بالصدفة، هناك ثلاثون أو خمسٌ وثلاثون سنة...
لم ترد بنات جوزيان الصغيرة التحية على آنييس، وأولادها كلهم في ثياب الحداد كعشيرة من الغربان يرمونها بنظراتهم الحاقدة، دون أن يعرفوا عن الحقد شيئًا كثيرًا. كان يهوذا يتصنع مثلها، ومع ذلك، ذهبت آنييس تبكي على صدر جوزيان الصغيرة، وجوزيان الصغيرة لا تقوم بأية حركة. كان هناك عددٌ من الشغيلات والشغيلة، بانتظار وصول جثمان الصغير جوفريه، وهم يهمهمون شاكين مصير المرأة المسكينة. كانوا يهمهمون بقوة أكثر، وهم يسمعون زفرات آنييس، ويغذون قلوبهم بالحقد الأعمى ضد كل هؤلاء الشبان ذوي الحياة الفاسدة! وصلت رولس رويس السيد هنري تحت المطر الغزير، وعجلاتها لا تغوص في الوحل، وكأنها تطير، تدور بترفع واستعلاء، دون أن تأبه بدمع السماء. ظنوا أن المعلم الكبير يجيء ليرى جوزيان الصغيرة، وليعزيها بطفلها المتوفى، وإذا بمارغريت هي التي تنزل من السيارة، يتبعها رشيد، وهو يفتح لها مظلة عريضة.
اندفعت مارغريت، وضمت صديقتها.
- أوه، يا صغيرتي جوزيان! أوه، يا عزيزتي!
لم تقم جوزيان الصغيرة بأقل حركة.
- تظنين أنني لم أتأثر، أنا؟ سألت مارغريت. جوفريه كان مثل ولدي، وآنييس كانت تحبه كثيرًا. ثم آنييس لا دخل لها في كل هذا، أنت تعرفين هذا جيدًا!
انحنى رشيد على أذن المرأة المسكينة، وهمس:
- أرفع لك من طرف السيد هنري أحر التعازي، مدام. وهو إذ يشجب بقوة الحادث الأليم، ويعتبر أن من واجبه تقديم يد العون مساهمة منه في تكاليف الدفن، يعطيكِ...
أخرج غلافًا من جيبه، ووضعه على الطاولة، وللصمت المخيم، تلعثم بكلام غير مفهوم، ومن جديد:
- لا يسعني سوى أن أعبر لك عن الحزن العظيم للسيد هنري، الذي يشجب كل ما جرى. إنها إرادة الله، على التأكيد...
ألقى نظرَهُ المضطربَ على مارغريت، وهي تتأمل كل هذا العالم الأخرس كتماثيل العصر الحجري، واحدًا واحدًا، بشيء من الفضول المفاجئ. تنحنح، وتابع:
- كل ما جرى قضاء وقدر، أليس كذلك؟ وأنتِ، مدام جوزيان، حظك كبير بالمقارنة مع نساء أخريات: لقد عوضك الله بأولاد كثيرين... في هذا معنى عميق، وفي هذا حكمة.
تردد قليلاً ثم، وهو يشعر بكلامه يدور في صالحه، ختم واجبه الرسولي:
- بالنظر إلى وضعك الصعب، والشروط التي تعيشين فيها، موت الصغير يخفف عليك القليل، بشكل من الأشكال.
سمع كل واحد من الحاضرين هذه الكلمات دون أن يحرك ساكنًا، كتماثيل العصر الحجري كانوا بالفعل. نهضت جوزيان الصغيرة، لتذهب إلى حجرة الأولاد، وأشارت إلى مارغريت باللحاق بها.
- اغلقي الباب من ورائك، طلبت جوزيان الصغيرة.
- ...
- مارغريت، قالت أم يهوذا، ببطءِ واحدٍ يحتضر، ستعرف ابنتك نفس المصير الذي عرفه صغيري جوفريه...
- جوزيان، ماذا تحكين؟ نبرت أم آنييس ساخطة. هل جننت؟! آنييس لا يد لها في الأمر، هي كابنتك، هل نسيت؟ وأنت كأختي، تقاسمنا أتراحنا سوية، وسنتقاسم أفراحنا سوية. و، ربما كان هناك درس نتعلمه من موت جوفريه، ربما كان موته بشير حياة جديدة لنا جميعًا!
انهمرت دموعها.
- عن أي درس تتكلمين؟ جمجمت جوزيان الصغيرة، وعن أية حياة جديدة؟ جعلتموني أُضيع طفلي، وأريدكم أن تعيدوه لي...
- سيعينك السيد هنري، سأطلب منه أن يبدل لك عملك، سأفعل كل شيء كي لا ينقص أبناءك شيء...
- اخرسي، هددت جوزيان الصغيرة، في حالة ما لم تفهميني جيدًا: ستموت آنييس بالطريقة نفسها التي مات فيها صغيري جوفريه! بعد ذلك سيمكننا الكلام!
بقيت مارغريت فاغرة الفم، وبعد هُنَيْهَة:
- إذا مسست شعرة واحدة من شعر ابنتي، يا جوزيان، كانت النهاية لكل أسرتك!
خرجت، وهي تطرق الباب. فوقف رشيد، وتبع مارغريت، التي أمسكت ابنتها من ذراعها، ودفعتها بهدوء من أمامها. لحقهم يهوذا، ووقف على عتبة الباب قليلاً قبل أن يجوز عتبة الشعور. رمى الغلاف بما فيه من أوراق نقدية في الوحل، وداسها بقدمه. وفي نفس اللحظة، تخلصت آنييس من أمها، وذهبت راكضة تحت المطر، إلا أن إشارة واحدة من رشيد كانت كافية ليعيدها الحراس إلى السيارة. كان رشيد كالكتابة المستديرة، فضفر أكاليل الثناء لآنييس، وهو ينطلق بها دون ضجة، دون ذمة، بعيدًا عن فيض الغيث والدموع.
امتطى يهوذا الدراجة، وتبع الرولس.

9
- إلى أين تريدين الذهاب الآن، سألت مارغريت ابنتها، هل تريدين العيش معي، في البيت؟
- عند بابا، أجابت آنييس متوترة، أريد الذهاب عند بابا.
- إذا أردت رؤية أبيك، تدخل السيد هنري، أرسلت في طلبه، فلا تقلقي، يا صغيرتي.
استدار نحو مارغريت.
- ماذا يفعل، زوجك السابق؟
- إنه عاطل عن العمل.
- طيب، ولكن ماذا كان يفعل قبل ذلك، ماذا كانت مهنته؟
- تقني طيراني.
ابتسم السيد هنري لآنييس:
- وإذن! لقد حللنا المسألة. طائرتي في حاجة إلى من يصلحها، وأبوك رجل الساعة. هل أنت مبسوطة؟ سيأتي للإقامة هنا معك ومع أمك، وسيمضي كل شيء على النحو الأفضل. هذا الفندق الخاص واسع بما فيه الكفاية لنا جميعًا.
- كلك كرم! جرؤت مارغريت على القول. هل كل هذا ضروري حقًا؟
- هذا لأني أريدك أن تغفري لي، وأريد أن أوفر أكبر قدر من السعادة للمدام.
تناول يدها بين يديه، وقبلها بورع. نادى بعد ذلك رشيد، الذي حضر في الحال، وهو يطأطئ رأسه لكل ما يقوله له السيد هنري، وغادر القهقرى.
- اسمح لنفسي، يا سيدي، بتذكيرك، قال قرب الباب، وهو يطأطئ رأسه أكثر، برئيس الشرطة الذي ينتظرك.
وخرج.
اقترب السيد هنري من آنييس، وداعبها من وجنتها:
- ستكونين مثل ابنة لي.
- تريد القول مثل حفيدة!
ابتسم السيد هنري كما لو لم يسمع شيئًا.
- يمكنكما الآن الصعود لتبدلا ملابسكما من أجل العشاء.
صفق بيديه، فجاءت الخادمات لاصطحاب مارغريت وابنتها إلى الطابق العلوي، بينما رجع بخطوات واسعة إلى مكتبه، وجعلهم يدخلون رئيس الشرطة.
- أطلب منك المعذرة، يا سيد هنري، قال الضابط، فالوقت ليس مناسبًا... لكني أريد أن أعرف: أين اختفى السارق؟ لماذا لم تسلمنا إياه؟ رؤسائي، إذا علموا بالأمر...
فتح السيد هنري جارورًا، وأخرج كيس النقود الذي حاول جيروم سرقته.
- هذه هي النقود التي نحن بصددها، قال، افعل بها ما تشاء، واعمل على إسكات رؤسائك.
- لكن، موسيو...
- هذا الشاب أحد معارفي، ارتكب خطأً هذا صحيح، لكن قُضي الأمر، فاترك لي مهمة تأديبه!
- كما تريد، يا سيدي.
كرر اعتذاراته، أخذ النقود، ثم غادر المكتب. وعلى التو بعد ذلك، دخل رشيد، وهو يمد هاتفًا محمولاً للسيد هنري.
- مدير الأشغال العامة، قال.
حيا السيد هنري الرجل أعظم تحية، وهو يتجه نحو النافذة، ويرفع الستار.
- نعم، مطر كهذا لم نر أبدًا. يا ليت السين يفيض، ويهدم كل شيء: الشانزلزيه، الحي اللاتيني، الكونكورد... كل شيء، قال. ألسنا معيدين بناء كل باريس كما نريد... و... طبعًا، الأرباح طائلة ما في شك.
سكت قليلاً، حالمًا.
- لكن المطر لن يجرف مشروعي الأول، هل تصفحته؟ إذا ما توصلنا إلى بناء هذه الأقواس فوق السين، توفرت لنا مساحات شاسعة نرفع عليها أعلى العمارات وأغلاها، وفي الوقت نفسه نعمل على إعادة تنشيط سوق البناء. طبعًا كل شيء يتوقف على إقناعك "اللجنة"... ولا تكن بخيلاً مع أعضائها.
رن هاتف ثان على المكتب.
- آه! عليّ أن أتركك، قال بابتسامة وادعة. هناك من يطلبني على الخط الآخر... سنحكي في الأمر حالما يتوقف المطر. تعال لرؤيتي بدون موعد... نعم، نهارك طيب أنت كذلك!
أقفل، ثم رفع سماعة التلفون الآخر الذي لم يتوقف عن الرنين.
- من؟... أنت... سبق وقلت لك ألا تتلفن هنا! إنها المرة الأخيرة، هل تسمع؟ وعلى البضاعة أن تصل كما هو متفق عليه، أيًا كانت الظروف، وإلا حذار!
أقفل بغضب، ومن جديد رن الهاتف.
- آه! سيد الو... لا، لا، لا! السيد الوزير لا يزعجنى بتاتًا!
وفي الوقت ذاته، انحنى يهوذا على الشرفة، وهو يحمل موسى بيده. رأى النساء، وهن يعرين آنييس، ويعطرن جسدها. كان يحترق رغبة فيها، ويشتهي قتلها. هكذا سينتقم لدم أخيه، ويثبت أنه كان يحبه كثيرًا، ستغتبط أمه، وتتوقف عن البكاء، بينما سيكون إخوته به فخورين، ويصير مَضْرِبَ مثل لهم.
حالما تركت النساء آنييس، اندفع داخل الشِّقَّة، ورمى بنفسه عليها بشراسة، قافلاً فمها.
- حذار من الصراخ!
وضع شفرة الموسى على عنقها، وآنييس تهمهم مرتعشة:
- لا تقم بحماقات، يا يهوذا!
- يجب قول هذا لك!
- لست أنا من قتل جوفريه.
- لكنها غلطتك. لن يكون أخي ميتًا، اليوم، لو لم تكوني هناك!
- أنا، على العكس، دافعت عنه، وكدت أموت في نفس الوقت وإياه.
- ما أنت سوى كاذبة!
- أقسم لك!
- ما أنت سوى مارقة!
- لماذا أنت قاسٍ جدًا معي؟
- أفعالك لا تطابق أقوالك.
- لا، ليس صحيحًا. لماذا تقول هذا، يا يهوذا؟
- لأنك ككل النساء، كلكن بوجهين.
- أنت مخطئ، يا يهوذا، النساء، كالرجال، لا يتشابهن.
- هذا ما سنرى.
كممها، رماها على السرير، وعلى شكل صليب عقد يديها وقدميها.
- ستموتين، لكن أولاً أريد أن تتعذبي.
أوصد الباب، ثم عاد إلى آنييس بموساه. زلق بها من عنقها حتى صدرها الذي كشف عنه بضربة واحدة. احمر يهوذا، وفغر فمه أمام الثديين الجميلين الأبيضين اللذين سلما نفسهما إليه، إلى يديه. ترك سكينه يسقط، وسقط كالطائش النزق على الصدر المعروض. سحب العُصابة عن ثغر آنييس، وقبلها كالضال الأعمى.
- لماذا لا تطلب مني ذلك بلطافة؟ همهمت آنييس.
قبلته بدورها، بفيضٍ من هيام، وسألته أن يحرر يديها. يهوذا المسحور، المرتعد بتأثير عاطفته، نفذ ما تطلبه آنييس كأمر، فعانقته بشغف، لما فجأة تذكر أنه لم يجئ لهذا. وثب متراجعًا، مترنحًا، وقفز من الشرفة، ليختفي في الحديقة.
كان المطر يهطل بنفس الغزارة، ويهوذا، ابن الشتاء، لم يكن أكثر من طفل، فكرت آنييس باندفاعٍ أموميّ. سيكون بإمكانها أن تصنع منه رجلاً، كما كانت الحال مع جيروم... في الأخير، نادت الخادمات، فلم يستطعن فتح الباب. جاءت أمها، يتبعها السيد هنري، ويتبع السيد هنري رشيد الذي فتح الباب بمفك. عندما وجدتها مارغريت هكذا نصف عارية، معقودة القدمين على السرير، ضمتها بقوة بين ذراعيها. حكت آنييس أن يهوذا جاء ليقتلها، فالتقطت أمها الموسى، وأقسمت أن تقتل يهوذا، أن تذل جوزيان، وأن تفرق أولادها الآخرين. رفضت آنييس أن تسيء إليهم، وأوضحت أن سلوك يهوذا كان فعلاً طائشًا، كفعل جيروم. ثم، هي، ستغفر له، لم يكن شيئًا كل هذا: لقد اعتذر لها، وانتهى الأمر.
في المساء، ارتدت مارغريت أبهى الحلل، ونزلت درج الرخام بأناقة أكثر من أكبر نساء فرنسا. والسيد هنري يقبّل يدها، ظن نفسه أمام الأرشيدوقة مارغريت دوفالوا. قادها إلى مأدبة الطعام، ودعاها إلى الجلوس. جلس بدوره، وصفق بيديه، ليبدأ الخدم طقس عشاء المناسبات الكبرى.
- مدموزيل ابنتك، هل ستلحق بنا؟ سأل السيد هنري على أمل ظاهر ألا تفعل.
- لا تقلق من أجلها، قالت مارغريت. لو أرادت المجيء لجاءت. لا بد أنها مشوشة بعض الشيء...
ابتسم السيد هنري:
- سأطلب حمايتها كما يجب، ثم أنا على ثقة من أنها لن تلبث أن تعتاد هذه الحياة، وكل هذا... على الأقل إذا ما كانت هذه الحياة تعجب أمها.
ابتسمت مارغريت بدورها:
- اطمئن، موسيو هنري، أنا ولدت لأعيش مع الأعيان! أنا تقريبًا كونتيسة من ناحية أجدادي!
رفع السيد هنري كأسه:
- أنت سيدة هذا البيت! نخب المدام، السيدة الجديدة للبيت! قال، وهو يستدير نحو الموظفين والمستخدمين الذين يطأطئون رؤوسهم احترامًا.
رفعت مارغريت ميرابيل كأسها، وهي تبتسم ابتسامة ألقة تلقي النجوم خارج مداراتها، للسيد هنري، للعالم، للتاريخ. كانت تشعر شعور من يضع قدمه هناك حيث من اللازم أن يضع ليرجح العالم من ناحيتها، وليفتح لها التاريخ أبوابه إجلالاً. في الواقع، هذا السيد هنري الذي طالما حلمت به في شبابها لم يكن على الإطلاق نمط الرجال الذين تهواهم. ربما كانت هي نمط النساء اللواتي يهواهن، ربما ستكون عشيقته، لكنه لن يصبح أبدًا عشيقها. ومع ذلك، نظرت إلى شعره المُبَهَّر كما يلزم، الممشوط كما ينبغي، وإلى وجنتيه المجعدتين قليلاً، وشعرت بالرغبة في طبع شفتيها عليهما، وتقبيل جسده المنتصب انتصاب جسد شاب في الثلاثين.
نزلت آنييس الدرج، فاستدارا نحوها. كانت تتألق تألق أمها، أمها الثريا، وهي السُّهَيْلَة. ابتسم لها السيد هنري، وقال لمارغريت، وهو يتأمل المرأتين:
- أنت وابنتك تشبهان بعضكما شبهًا كاملاً لا مثيل له، كلتاكما تسطع بالنور، فتظلم السماء بنورها!
- نعم، من يرانا، قالت آنييس ساخرة، يقول عنا أختين توأمتين!
- أنا لا أرى إلا مدحًا في كلامك، قالت مارغريت ببسمة شفة.
- "في كلامي"؟ اسمعوا لي هذه... هل تسمعين ما تقولين؟
جلست آنييس، وأخذت تأكل بسرعة كبيرة، بعصبية، بينما كان السيد هنري وأمها يتكلمان بلغتهما الأرستقراطية، ويتبادلان الابتسامات الواسعة.
- افعلي ما تريدين، قالت آنييس فجأة، لكني أنا سأبقى أنا، ابنة مارغريت ميرابو، مراقبة مرتبانات العسل التي نجدها عند الناس. انظري إلى نفسك! اسمعي نفسك قليلاً، ماما... أنا سأبقى أنا، مع حقيقتي، تلك التي ارتكبوا الجرائم من أجلها، قتلوا الأطفال، رموا في السجون.
وبانفعال، قلبت صحنها. نهضت برعونة موقعة كرسيها، وعادت تصعد الدرج راكضة باكية.
اعتذرت مارغريت، والسيد هنري يصم أذنيه. كان لآنييس خلقها الصعب، وكان ذلك يعجبه.
- لم أنجب إلا الأولاد، قال، وكم تمنيت أن تكون لي ابنة مثل آنييس!
أحضر له رشيد التلفون المحمول، وهو ينحني.
- موسيو...
- قلت لك إني لست هنا لكل الأبالسة وغير الأبالسة من إنسٍ وجن!
- لكن، موسيو، إنه تلفون على غاية الأهمية...
انتزعه السيد هنري من يديه، وصاح بغضب:
- آلو!
وهدأ، غدا صوته ناعمًا. كان الأمر يتعلق بيورانيوم الاتحاد السوفياتي سابقًا، وبعد أن أقفل السيد هنري، وذهب رشيد، وهو ينحني:
- ما رأيك في سكرتيري الخاص؟ سأل، وهو يبالغ في الابتسام، باحثًا بشيء من الخَرْقِ عن التقليل من اهتمام مدام ميرابيل بما سمعت... إنه كذراعي اليمنى.
ابتسمت مارغريت ببشاشة.
- هل يكون الابن اللاشرعي لجان غابان؟
- صحيح، أجاب السيد هنري بابتسامة أكثر اتساعًا من الرضى. إنه يشبه السيد جان غابان من بعيد ومن قريب، وأجد أنه يقلده في كلامه.
أشار إلى الخدم أن يحضروا آخر طبق، وتابع:
- وهذا الذي تستصغرينه، تصوري أنه دكتور في العلوم الاقتصادية! وقبل كل شيء يعرف مسبقًا كل طلباتي...
- أنا لا أستصغره، أنا...
- ما احتجته مرة إلا ووجدته، وليس من الباطل أن يكون اسمه "رشيد المطيع"، ينفذ كل ما آمره، كل ما أريده، ولو طلبت منه أن يوقف المطر الذي يغرق باريس منذ عدة أيام لأوقفه.

10
قدمت مارغريت ميرابيل كل جسدها لقبلاته، وهي تقطر سعادة ورغادة، وأرادت أن تعطيه أكثر، ليشتهيها أكثر و، هو يجاوز المتعة واللَّذة، اجتاحه الظمأ إليها، ولم يعد يسيطر على نفسه، وصار العالم كله بين يديها.
تركته يأخذ حلمة ثديها بين أسنانه، ثم أغرقته في خاصرتها، لتدفنه حيًا بين ساقيها. غار في محاسنها، وهو لا يتوقف عن اللُّهاث تحت موجاتها الشبقية، وعن الحفر في عجائبها السرمدية. وعندما علت من فوقه، كل فرنسا علت، شامخة، على كتفيها. ناءت بحملها و، بينما كان يئن من تحتها، كانت تنزل إلى أدنى نقطة، فأدنى نقطة للغُلْمَةِ أعلاها. عَرِقَ من شدة الإعياء، فنامت في الأخير عليه، بكل عظمتها، بكل جمالها وهياجها وهواها، وقَبَّلَ للمرة الأخيرة عنقها العاجي قبل أن يعود صوت المطر إلى أذنيه.
- الآن أعرف لماذا كان عسلي عسلاً، همهم.
رفعت مارغريت نفسها قليلاً، وبقايا المتعة والرغبة تكسو وجهها:
- كل هذا العسل لكَ. إلى الأبد...
- إلى الأبد...
- وإذا ما جعتَ إلى عسل واحدة غيري، أحرقتك بعسلي!
- أيحرق عسلك أكثر مما يحرق؟
- يحرق الخائنين بنار أخرى ليست للآخرين!
- كم نارًا لك؟
- نار النعيم ونار الجحيم!
- إذا كانت النار نار نعيمك أو نار جحيمك، فإني لناريك الوفي الأمين!
- ولكن بشرطي.
- وما هو شرطك؟
- مجدك أكون.
- ستكونين المجد.
- وثروتك أكون.
- ستكونين الثروة.
- وشهرتك أكون.
- ستكونين الشهرة، ستكونين كل هذا، فأنت عَظَمَتي، أنت العَظَمَة!
أمسكت رأسه، وعادت به يحفر في جسدها اللَّذة والمتعة، يظفر في حفره لجسدها بالمتعة واللَّذة، فتشتعل نار الشباب فيه، ثم تنطفئ. كانت تسيطر على كل شيء.
في صباح الغد، بعد أن قاما بفعل الهوى من جديد، هدهدته بطراوة الهدهد على بطنها، وراحت تحكي له عن حُمَّاها، وهي مراهقة، للسيد هنري، الذي كانت تراه دومًا على التلفزيون، الذي كانت تجمع صوره، الذي كانت تنام عارية في الليل لتغويه... حكت له الكثير، وبكثير من البساطة، مما جعله يشعر بكله ارتباكًا، بكله حبًا، وراودته الرغبة في حب أوحد جائز، في الحياة، حب أكبر، كما يقولون. منذ عهد قريب، حلم بحياة زوجين تكون له ذات يوم، فهل كانت مارغريت الحب والجمال نصيبه...؟
فجأة، وصلهما طرقٌ مدوٍ على الباب، فنهض السيد هنري في الحال، وذهب ليفتح عاريًا. رمت مارغريت روبها الشف على كتفيها، وذهبت هي أيضًا لتعرف ماذا جرى.
نطق رشيد، وهو يلهث، كيفما كان:
- موسيو، يحاصر العمال، على رأسهم جوزيان الصغيرة، عددًا من حراسنا، ويهددون بقتلهم كما قتل رجالنا الصغير جوفريه، الطفل الذي...
- جوزيان؟! هتفت مارغريت. أولاً يهوذا، والآن هي!...
- ماذا سنفعل، موسيو؟ سأل رشيد جاحظ العينين.
عاد السيد هنري إلى السرير، وتناول سرواله القصير.
وبعدم اكتراث:
- ...وتزعجني هكذا لهذا؟
خفض رشيد عينيه، وتعتع.
جلست مارغريت في حضن السيد هنري، ولفت كتفيه بذراعها. قبلته على خده قبلة رقيقة، وقالت بابتسامة صغيرة:
- هل يمكنني أن أقترح شيئًا؟
- كيف أيها الشيطان لا يعرف رشيد ما عليه أن يفعل؟! نبر السيد هنري.
- هل أستدعي الشرطة، موسيو؟ سأل رشيد.
- لا، اعترضت مارغريت، لا تستدعي الشرطة إلا عند الحاجة القصوى. على رجال الحرس أن يرفعوا الحصار، حتى ولو احتاجهم الأمر إلى تصفية المشاغبين بمن فيهم القح... مدام جوزيان. وبسرعة. مدام جوزيان تجاوزت الحدود.
تردد رشيد، واستدار بعينيه نحو السيد هنري.
- وإذن! اعمل كما تقول المدام، أَمَرَهُ.
- لكن، موسيو... هناك خطر على أولئك الذين هم حاليًا بين أيديهم...
- لا تتصل برئيس الشرطة إلا في الحالة التي تسوء فيها، وعندئذ قل له إنني أريد أن يقوم باللازم لإنقاذ رجالي، مهما كلف الثمن. من هنا إلى هناك، على رجالي أن يفعلوا ما يرونه مناسبًا.
- تحت أمرك!
طأطأ رشيد رأسه كعادته، وانسحب، فأوقفته مارغريت:
- فليحذفوا جوزيان الصغيرة لو يلزم، يكفي ما سببته لنا من متاعب!
أقرها السيد هنري، فما كان على رشيد سوى الخروج وإغلاق الباب من ورائه. قَبَّلت مارغريت السيد هنري بعنفٍ مَوَّهتْهُ اللطخات البنفسجية، فهل حقًا للنيازك الحياة قصيرة، غير أبدية.
- ليس بعد، يا مارغريت، قال مبعدها.
- ألم تعد ترغب فيّ؟
- بلى... لكني منشغل البال.
- بسبب حفنة المحرضين هؤلاء الذين خدعوا الكل، أنا الأولى؟ تصور أنني قضيت أكثر من عام معهم! حتى أنني لا أدري كيف قدرت على ذلك! بفضلك، يا حبيبي، استطعت في الأخير ترك كل هذا الماخ... أوه! معذرة.
- كل هذا الماخور!
طبع السيد هنري قبلة على خدها من فرط التأثر:
- كان خطأي... تركتك طويلاً في الظل، فاغفري لي.
قَبَّلها من جديد، وبعد ذلك ذهب إلى الحمام.
اتجهت مارغريت نحو النافذة، وأطلت من وراء الستائر. انتظرت بفارغ الصبر أن يطرق رشيد الباب، ويأتيها بالأخبار. كان المطر يهطل بالقدر ذاته، كما لو كان هناك محيط في الأعلى، يصب من مصفاة. نعم، في بعض الأحيان، على الدم أن يسيل، ليغسل الماضي، عندما لا تكفي كل أمطار العالم. أحست مارغريت بنفسها سعيدة: كانت سعادتها تتجاوز كل ما يقدر الحب على إضرامه فيها. كانت سعيدة كل ثانية، لكل ثانية، ولبحر الدم الذي ربما بين لحظة وأخرى سيلطخها بالمجد. خالت نفسها إمبراطورة من نوع الحيوانات المتوحشة ذات الشعر الأشقر، تأمر وتنهي، والرعاع على أقدامها صلبان خضوع وطاعة. صعدت على المخدع، والمخدع لم يزل بعد ساخنًا، خلعت روبها الشف، ورفعت يديها وعينيها نحو السماء، متجاوزة الغمام، مقبّلة الأفلاك، وكل النجوم والأقمار. جذبت منها حتى ثدييها، وبطنها، وكفلها، كما لو كانت تجامعها، بعد أن فقدت عشيقها الأكبر، أو إله الآلهة الرومان.
وصلتها طرقات صاخبة على الباب، فصاحت:
- ادخل!
ورشيد يلهث، تقدم حتى منتصف الحجرة، وركع كمن فقد رشده:
- لقد انتهى كل شيء... قال بارتياع. لقد كان حَمَّامَ دمٍ بالفعل، مدام، حَمَّامَ دمٍ فعليّ... وعما قريب، سيغسل المطر كل شيء.
أخذ رشيد نفسًا عميقًا، نهض، ولفظ متحررًا، متجردًا تجرد الإنسان من حقوقه:
- مدام، السيد ميرابو ينتظرك تحت، في الصالون.
و، كالعادة، انسحب، وهو يطأطئ رأسه.
ارتدت مارغريت فستانًا عاديًا، ونزلت. كانت من التألق في فستانها العادي ما لم تكنه أبدًا في فستانها اللاعادي. أراد زوجها أن يقبلها، فدفعته في مقعده.
- يجب أن نطلّق، يا سباستيان! إذا أردت العيش هنا، كما اقتُرِحَ عليك، يجب أن نطلّق، وعلى التو!
- لأنك تظنين أنني سأقبل هكذا؟ أنا أحبك، يا مارغريت، أنا أحببتك دومًا...
- أحبني إذن كما شاء لك، ولكن أريد الطلاق: أريد الزواج من هنري. وعلى أي حال، أنا لا يمكنني احتمال فكرة العيش مع زوجي وعشيقي تحت سقف واحد. هذا ما لن أقبله!
خفض السيد ميرابو عينيه، وهمهم:
- أستطيع أن أغمض عينيّ لأجلك، إذا شئت...
- لكني أنا لا أريد! نبرت مارغريت. أم أنك تفضل، يا سيد العاطلين عن العمل، أن أعيدك إلى قحبات شارع فوبورغ دي تمبل (شارع ضاحية المعبد قرب ساحة الجمهورية)؟ هنا، على الأقل، القحبات نظيفات. والأهم أنك ستشتري طيارتك، هذا إذا ما أعجبت السيد هنري... وإذا ما أردت أنا.
دخلت آنييس التي كانت تسترق السمع، وألقت بنفسها بين ذراعي أبيها.
- لا تقبل، يا بابا! توسلت. فلنذهب من هنا! خذني أينما تريد! وأنقذني من هذا الفندق الشيطاني! أريد العودة إلى البيت!
دفعها أبوها.
- آنييس! يا طفلتي الصغيرة، أمك تعرف أفضل من أي شخص آخر أين يوجد صالحك.
- وأنت تعرف أفضل من أي شخص آخر أين توجد مصلحتك!
- نعم، ربما، ولكن مصلحتك كذلك! لا تنسي أنها أمك، وأنها الأم الوحيدة التي لك، مهما حصل.
أخذت آنييس ترتعش.
- سباستيان... قالت مارجريت وابتسامة وليدة على شفتيها.
- انتظري... اتركيني أفكر قليلاً.
- لا، لن أنتظر! انتهى وقت اللعب! ليس هناك ما نفكر فيه مائة ألف مرة! كل شي والا بلاش! قرر الآن!
أمسكت آنييس أنفاسها.
- موافق! أنت سعيدة، الآن؟
- لا! أنت لست أبي! صاحت آنييس. لماذا تفعلين هذا معي؟ قالت لأمها. سترين! سأنتقم! منك ومنه ومن العالم أجمعين!
ذهبت راكضة، وتعثرت برئيس الشرطة، وهو يخرج من مكتب السيد هنري. رافق رشيد السيد ميرابو، بينما حيا رئيس الشرطة مدام ميرابو، بلطفٍ حياها، وأثنى على جمالها. سألته باللطف نفسه إذا ما استتبت الأمور في المصنع، فطمأنها، كل شيء على ما يرام. يأسف فقط للضحايا الذين من بينهم الوفية مدام جوزيان... وعدت مارغريت بالسهر على أولادها، فمدح رئيس الشرطة طيبة قلبها، وغادر.
من وراء نافذته، نظر السيد هنري إلى سماء صافية كالبلور، وتذكر تذكر الهانئ المنشرح كل مشاريعه. دق رشيد الباب، ودخل، يتبعه السيد ميرابو. رجاه السيد هنري أن يجلس، وطلب من رشيد أن يعد قائمة بالأضرار التي ألحقها المطر بباريس.
- القائمة جاهزة، موسيو. كذلك اتصلت بالسيد مدير الأشغال العامة كي نباشر بالإصلاحات.
تراخت أمارات السيد هنري قليلاً قليلاً.
- شكرًا جزيلاً، يا رشيد، أنت في كل شيء الأكثر نشاطًا والأكثر إخلاصًا.
استدار نحو السيد ميرابو.
- إذن أنت ميكانيكي طائرات؟ قال السيد هنري بحبور، وهو يمد يده إلى سباستيان، الذي لم يجد الوقت الكافي إلا لهز رأسه هزًا خفيفًا. يا إلهي! وهل تفهم في كل هذا شيئًا، في كل هذا... النبش، أريد القول كل هذا النبش الموتوراتي...
- كلها تراكيب دقيقة...
- والحال هذه، إذا ما سنحت الفرصة، حكيتَ لِيَ الأساسي. ولكن بعد ذلك، من النظرية إلى التطبيق...!
هز سباستيان رأسه، وأرفق بابتسامته عددًا من الإيماءات التي يُفهم منها أنه يدرك جيدًا ما لا يقوله السيد هنري.
- إذن، والحال هذه، عاد السيد هنري إلى القول، وهو على ما يبدو متهللاً، يمكنك تفقد طائرتي منذ الآن لرحلتي القادمة. رشيد، هلا تفضلت باقتياد الموسيو حتى المرأب؟ آه، سيد ميرابو، سأقول لك شيئًا، عليك أن تحتذي برشيد، وتفاهُمُنَا سيكون كاملاً.
- سأكون حتمًا عند حسن ظنك، يا سيد هنري!
شد السيد هنري على اليد القوية والثخينة للميكانيكي الطيب بحرارة.

11
كانت السماء زرقاء، كريستالية، والشمس شقراء، ذهبية. وَمَضَتْ أشعتها على الرولس رويس متلألئة، وهي تغادر شارع فوش. ازدردت القوانين، وباعت السمك في البحر، ومارغريت ميرابيل تنظر إلى الكون بعيني الدوقة. لم يعد للشك مكان، فشاكلت الحقيقة، وغدا لها حقها في حياة غير عادية. حقًا أو باطلاً. الرغبة في تحقيق كل شيء لم تعد الرغبة، والحلم المستحيل لم يعد الغاية المنشودة. لم تعد الكلمة الحمقاء، ولا قطرات الدم على الصليب، صارت كمعطف الفراء الذي ترتديه والقفازات الحريرية.
توقفت السيارة قرب المستشفى الأمريكي، ففتح لها السائق الباب. نزلت، واتجهت نحو قسم الاستقبال. سألت عن غرفة السيد جيروم دوبريه، ولم تتأخر عن الصعود. ما أن رأته في غرفته، حتى ألقت بنفسها بين ذراعيه. قبّلت جراحه، ووجدته في حالة حسنة. ستعمل على أن يترك المستشفى في أقرب وقت –غدًا، بعد غد. بعد تقبيله، واستغرابه، عجل جيروم في السؤال عن آنييس.
- كل شيء انتهى بينكما، أجابت مارغريت.
وقبلته من شفتيه هامسة "حبيبي"!... بعد ذلك، اتجهت نحو الباب. ابتسمت له للمرة الأخيرة، وغادرت.
من المستشفى، ذهبت مباشرة عند جوزيان الصغيرة، فرفض يهوذا من جديد النقود التي اقترحتها عليهم لعونهم. تحت إمرة الغضب، صفعته، ثم هددتهم جميعًا: إذا ما لم يخضعوا، سترميهم في السجن و، إذا احتاج الأمر، أرسلتهم إلى مشفى، وعندئذ سترى! أخذ الصغار يبكون، والآخرون يطأطئون رؤوسهم، فضمتهم كلهم بحرارة إلى صدرها.
فيما بعد، مرت على السيد هنري في مكتبه، في المركّب الصناعي، فاستقبلها بقبلاته الجمة ومداعباته. وما لبث أن نادى كبار موظفيه، وقدم لهم "المدام"، التي عليهم من الآن فصاعدًا إطاعتها أثناء غيابه وفي كل المناسبات. ارتسم الامتعاض على وجه رشيد، فلم توله أي اهتمام. طلبت منه أن يقدم لها "الشاي"، فنفذ الطلب صاغرًا.
قامت، بعد ذلك، بجولة في المِلْكِيَّة، قبل مغادرتها، وخاصة في معمل العسل، فخفض العمال الذين كانت تعمل معهم عيونهم، وكلموها كما يكلمون السيد هنري، سقسقوا لها سقسقة الكناري، فأفسدوا المهنة على فساد، والعقل، والأخلاق.
في الأخير، أعادتها الرولس رويس إلى شارع فوش، بينما في السماء الزرقاء دومًا وبلا غمام، كانت الشمس تنزل نحو الغرب، وهي تصب أشعتها الباردة في نهر السين، والسين كالساعة المعطلة، أعطى الوقت للوقت، وتعطل عن السريان.
بعد العشاء، لم يلحق السيد هنري بها إلى غرفة النوم. كان لديه عمل يريد إنجازه، ولن يتأخر كثيرًا. انتظرته طويلاً، ناظرةً إلى التلفزيون، حتى أن عينها غفت قليلاً، ثم نزلت للمجيء به، وهي في قميص النوم، وقميص النوم يغير من قميص النوم. لم تجده لا في مكتبه ولا في الصالون، ولم تكن تعرف كل الأماكن الأخرى في المنزل الضخم. راحت تفتح هذا الباب أو ذاك، تقطع هذا الممر أو ذاك، تصعد هذا الدرج أو ذاك. ولما لم تجده، فكرت في الذهاب إلى رشيد، لتسأل رشيد، إذا ما كان يعلم أين يختفي الموسيو: كان السيد هنري ينام على فتاة لم تكن أخرى غير رشيد نفسه، وهو يضع على رأسه شعرًا مستعارًا أشقر طويلاً، في لباس غريب، يشف عنه ثديان ضخمان أبيضان، ويقوم بفعل العشق معه. كانت علاوته الإنتاجية، علو الكعب، الصوت، الشعور.
اكتنفها الغموض، وأخذت بالارتعاش، وهي تسير القهقرى، -كان من اللازم أن تتحكم بنفسها- فوقعت بين ذراعي زوجها. رافقها إلى غرفتها، وهو يحنو بذراعيه على ذراعيها. وفي غرفتها، أراد أن يقبلها، فرفضت أن يقبلها: لن يستعظم في بيوت العظماء، والأعاظم على شاكلة السيد هنري.
- تعرفين جيدًا أنك مهما فعلت ستبقين حبي الأزلي، حبي الوحيد، قال بنعومة لا تنتهي محاولاً ألا يتصرف بعظمة.
طلبت إليه أن يتركها وحدها، فخرج، وهو يغلق الباب بهدوء من ورائه.
آنييس، التي كانت قد تبعت أباها، عادت إلى غرفة رشيد، لتعرف ما يجري فيها. ناداها السيد هنري، ظنًا منه أنها مارغريت. اقتربت منه، فعرفها... كحرف العطف، كعطف البيان.
- آه، كم أنتما تتشابهان! همس، وهو يبدو محرجًا، ومع ذلك دعاها إلى الاقتراب.
كانا ظهرًا لبطن، فجمعها السيد هنري بين ذراعيه، ورشيد يكشف عن فخذيها، وهو يفكر في أخذها مع سيده. تخلصت منهما، وغادرت الغرفة بسرعة... ككلب الصيد، كصيد الماء.
في الغد، برمج السيد هنري رحلة أعماله، وجعلهم ينادون سباستيان.
- ستأتي معي، موسيو ميرابو، أليس كذلك؟
كانت للسيد هنري أشغال في روسيا، وهو سيكون بحاجة إليه لصيانة الطائرة. سيتنقل بين عدة مدن، وروسيا ليست كفرنسا: يجب أن تكون لك طائرتك الخاصة إذا كنت لا تريد أن تعمل عشر ساعات في القطار يوميًا، إذن... أوصى مارغريت برشيد، وقدّر أن الموضوع انتهى، الشعر المستعار، الثديين، الكيمياء. سأله رشيد عما سيفعل بالحفل الخيري الذي دُعي إليه عظماء البلد، فأجاب واثقًا أن مارغريت ستعرف تمامًا كيف تستقبلهم كلهم مع تقديرهم حق قدرهم.
- سافِرْ هانئ البال، يا هنري، طمأنته مارغريت، سأزخرفهم لك!
ابتسم السيد هنري.
- ولا تنسي ما أوصيك بهم بشكل خاص: مدير الأشغال العامة، رئيس الشرطة، والوزير الكبير.
طمأنته من جديد، وأخذت زوجها إلى جانب:
- اتصلت بمحاميّ، سينجز كل المعاملات خلال غيابك.
- لو كانت أمك لم تزل على قيد الحياة لما سمحت أبدًا بكل هذا، همهم سباستيان.
هز رأسه مغمومًا، وأوصاها خيرًا بآنييس.
- وأنتَ أوصيكَ خيرًا بهنري كما لو كنت رشيد.
عاد يهز رأسه، بهيئة عازمة، ورافق رشيد ثلاثتهم حتى الطائرة.
من هناك، ذهبت مارغريت إلى المستشفى الأمريكي، لإخراج جيروم. كانت السماء الزرقاء دومًا، الكريستالية، البرد الشديد، الشمس الجليدية. وفي الرولس، كان صدر مارغريت يعلو، وهي تنظر من حولها، وتسبر ظل جيروم في المدينة كلها، المفتوحة أمام ذراعيها. فكرت في الحفل، في المدعويين. ستسكّن جوع مدينة النور إليها، تعطشها، روعها، ستدعو بالإضافة إلى رجال الأعمال والسياسيين، الشعراء والكتاب والتروبادوريين. أليسه حفلها؟ ألم يعطها السيد هنري بطاقة بيضاء؟ ألم تكن السيدة الكبرى لباريس؟
انتظرت جيروم في السيارة، وذهب السائق وحده للمجيء به. عندما وصل، قبلته قبلة طويلة، وأمرته ألا يكون إلا لها. ردد جيروم الذي كان لم يزل ضعيفًا:
- أنا لكِ.
- وأنتَ نسيتَ آنييس. على أية حال، لم يعد هناك أي شيء بينكما.
تردد قليلاً ثم همهم:
- آنييس... دائمًا ودومًا...
- إذا رجعت عن كلامك قتلتك!
تركها تقبله، فشدته بين ذراعيها بنزق، بسلطة زمنية، وهي تشعر بنفسها منيعة على الزمن. ستسلبه بكارته بالتدريج، لا دفعة واحدة، كما سلبوها بكارتها، وستجعل من ذلك أسلوب عيشها، وقد انتهى عيش الشظف.
سارت السيارة عائدة إلى شارع فوش، والشمس تموت على الرصيف، والعاهرات نصف عاريات يقهقهن ما بينهن. لم يكن يبدو عليهن البرد، أنهن كن يقهقهن لهذا، لأن الدنيا برد. نظرت مارغريت إليهن، وهن يضحكن، وضحكت هي الأخرى. سألها جيروم لماذا، فاستدارت نحوه، ونظرتها تأتلق:
- لأني سأدعوهن، هن أيضًا، إلى حفلي.
أشارت إلى واحدة منهن بإصبعها، بفرح لا يعادله فرح:
- هذه تشبهني، ألا ترى ذلك؟ ربما هي أختي، فمن يدري؟
والحفل في أوجه، كانت الموسيقى تصدح، وتملأ شارع فوش بِسُعْر، بالسُّعْر، وكان المدعوون بالعشرات، ومارغريت محط أنظار الجميع. قبلوا يدها، وسبّحوا لها. انحنى الوزير الكبير حتى كاد يصل قدمها، وغير بعيد هناك، كانت مجموعة تحيط بشاعر يهديها أجمل قصيدة في مدحها، وأخرى تحيط بكاتب يقرأ ويجعل من يقرأ الصفحات الأولى من كتابٍ يدبجُهُ في شرفها. كانت مارغريت تضحك مع العاهرات على سجيتها، تشرب، تضحك، تشرب، وتشرب أيضًا، وأيضًا، دون أن تروي ظمأها. أخذت مدير الأشغال العامة جانبًا، ومالت على أذنه:
- مشروع تغطية السين غالٍ جدًا علينا، عليّ كما هو على السيد هنري...
مال مدير الأشغال العامة بدوره على أذنها:
- والسيد هنري وأنت، مدام، لو سمحت، أنتما غاليان جدًا عليّ... سنعرف كيف نتفاهم حول هذه النقطة...
رفع كأسه، وشرب نخب جمالها، وهو ينظر بعين الغيرة والحسد إلى ثدييها متضايقًا مستثارًا.
- ما أهبلك!
وانفجرت ضاحكة، وعلى هيئة الرجل المتشقلبة، صهلت بقوة أكبر.
- أرجوكِ، مدام، قال محمرًا، أتوسل إليك!
- أريد القول: بالطبع، نحن متفقان.
وعادت إلى الضحك، وهي تقدم له يدها، التي قبلها دون أن يرجو زيادة على زيادة، على الأقل في الحال. كانت مارغريت تكاد تطير فرحًا، تضحك، وتغنج، وكان الرجل يكاد يلقي بنفسه على الأرض لولا أن رئيس الشرطة تنحنح في الوقت الملائم. رجت مارغريت مدير الأشغال العامة أن يعذرها، ووافقت على مرافقة رئيس الشرطة، وهو يتخيل –هذا ما كان يُرى في عينيه- أنه أخذها بين ذراعيه وقبّلها كالبربريّ على صدرها. تعهدته بألف طريقة وطريقة، وهي تضبط عن عمدٍ صِدارها. بعد ذلك، تركته على مقعد يقتل شهوته بمسدسه، وَجَرّت الوزير إلى قرنة من قرن القاعة.
- هل وصلت البضاعة إلى المرسل إليه، يا معالي الوزير؟ همست في أذنه.
تلعثم الوزير الكبير للمفاجأة:
- أرجوك... مدام!...
انفجرت ضاحكة، وهي تتناول كوب شمبانيا عن صينية يحملها خادم، وتشربها دفعة واحدة. تلفت الوزير من حوله:
- إياك والفضيحة، مدام، همس. من فضلك.
عادت تضحك، وتصيح بالمدعوين، وهي تشير إليه أكثر مما ينبغي:
- هذا الرجل مستعد لكل شيء من أجلي، هذه الليلة. أليس كذلك، يا سيدي الوزير؟
- مدام، همس مرتبكًا، كل واحد هنا أمكنه الإعجاب بجمالك الذي لا يمكن إنكاره...
- اخلع لي حذائي! قالت بزم طفلي للشفتين.
بعد بعض التردد، خلع لها حذاءها، وهو يتظاهر باشتراكه هكذا في عيدها.
- وَصُبْ لي شمبانيا فيه!
تردد، وأخوه الهوان، "مدام..."، ثم صب.
- اشرب، يا وزير! نخبك!
شرب.
انفجرت صاهلة، ومعها كل من كان في القاعة. صاحوا، وعربدوا. شعراء، كتاب، تروفيرِيّون، تجار، سماسرة، سياسيون –كلهم تساقطوا دون حياء بين سيقان العاهرات، اللواتي ألبستهن أفخم الملابس للمناسبة وقدمتهن كنخبة عذراوات الطبقة الراقية. رجال الأعمال، القضاة، الكوادر، أرفع الموظفين، كانوا يتنازعونهن علانية.
هدد رشيد بقول كل شيء للسيد هنري، فرشقته مارغريت بكوب شمبانيا على وجهه. مزقت قميصه، وأبدت ثدييه، النابتين كقبضتين. حاول الفرار، الاندساس بين الأقدام، فأمسكوه، وجردوه من ثيابه تمامًا، ساخرين من جسده، ضاحكين، صائحين، قاذفين قيئهم، كيانهم، جوهرهم.
عندما رأت آنييس، من الطابق العلوي، ما فعلوا برشيد، أصابها الغثيان، وركضت إلى غرفتها. وفي اللحظة نفسها، كان جيروم يخرج من غرفة أمها. تعثرت أمامه، ونهضت، فزعة، لتقفل الباب عليها، بينما تعلق يهوذا على شرفتها، وبقي طوال الوقت ساكنًا، وهو يراها تبكي. لم يكن يعلم لماذا تبكي (من الممكن أنها كانت تنوء بحمل موت جوفريه على كتفيها، وتنعزل بعيدًا عن الموسيقى والعيد) لكن كلما بكت أكثر كلما شعر أكثر بحبه لها. من الآن فصاعدًا، سيكون ملاكها الحارس. سيحميها، وسيكون دومًا هنا، مستعدًا للتدخل عند أقل إنذار. آنييسُهُ المسكينة ذات الثدي الأبيض... وجيروم، من ناحيته، كان يرزح تحت ثقل الصدمة. التصق بباب غرفة آنييس، وسمعها تبكي. تمنى لو يهدهدها على صدره، لو يسليها بدموعه هو وقبلاته... ولا بأس أن تلقي به أمها في المعتقل. فلتقتله، لو تشاء. كانت آنييس حبه دائمًا ودومًا. تراجع عاجزًا، وذهب بدوره ليقفل الباب عليه. وفي الخارج، كان ليل الكريستال. تمنى لو يكون نجمًا، كتلة من الجليد، وينقض على الحفل، يجمده، مع أم آنييس وكل المدعوين، ويقذف كل هذا العالم المُعِجّ في الثلج والنار.
فجأة، دخلت مارغريت الغرفة، حمراء كالنار، بيضاء كالثلج، ورمت بنفسها بين ذراعيه.

12
طرق رشيد على باب الغرفة، ونادى:
- مدام! مدام!
تركت مارغريت ذراعي جيروم، وهي ترمي روب الحرير عليها، وجعلته يدخل. جثم على ركبتيه، ورفع عينيه بيأس. كان يتوقع الأسوأ:
- العمال يشنون إضرابًا، مدام!...
استقامت مارغريت بهيئة مهيبة:
- و...؟ ماذا يريدون؟
- يريدون محاكمة الذين قتلوا مدام جوزيان وجماعتها.
- خلاص، إنه جِرْمينال (الشهر السابع في عهد الثورة الفرنسية)! إذا ما لم يوقفوا الإضراب حالاً، اقتلهم!
- لكن... مدام، أليس من الأفضل... أريد القول... أن ننتظر عودة موسيو...؟
- بما أن "موسيو" ليس هنا، أنا من يأمر! وأنت، تخضع، وتخرس!
- تحت أمر مدام، قال وهو ينحني أكثر، قبل أن يخرج.
أوقفته:
- ناد بالأحرى رئيس الشرطة، وليضع حدًا لكل هذا بأسرع ما يمكن!
- تحت أمر مدام، أعاد رشيد وهو ينحني من جديد.
خرج، فجذبت مارغريت جيروم على ركبتيها، وقبلته بِهِياج من ثديه.
- تعال، سنأخذ حمامًا، قالت. بعد ذلك، سنذهب إلى البلدية. هل سقت سيارة في حياتك؟
ابتسم جيروم:
- سقت في حياتي سيارات، لكن دون إجازة سياقة.
قرصته مارغريت من خده:
- أنا هي إجازة سياقتك!
نهضت، وجرته إلى قاعة الحمام، حتى تحت الدوش، حيث تعانقا بكرم الماء. رفعها جيروم على مجده، وهي ترقى القمم، الأكثر ارتفاعًا، الأكثر احمرارًا. بعد قليل، خرجا، وهما يحترقان متعة، وهما يقبلان بعضهما أيضًا وأيضًا، وهما ينشفان جسدهما.
تناولا فطورهما عاريين، ثم ارتديا أحسن الثياب، ونزلا إلى الكراج. تركته يختار السيارة، سيارة رياضية زرقاء، انطلق بها تحت سماء بيضاء، والبرد الشديد يجعل الدنيا مرآتها.
انتظر جيروم في السيارة، بينا صعدت مارغريت الدرج المكسو بالسجاد الأحمر، إلى مكتب مدير الأشغال العامة، ودخلت دون أن تدق الباب. سارت في رتل ظلالها من أمامه، وكأنها عشر نساء عظيمات، وهي تسلسله بعينيها سَلْسَلَةَ السلاسل، فنهض، وقبّل يدها بورع. دعاها إلى الجلوس، كمن يحرّف معنى القانون، فرفعت مسطرة عن المكتب حتى مستوى وجهه، وأمرت:
- أريد موافقتك على مشروع نهر السين الآن.
عاجزًا، جلس المدير كما لو كان يستجدي شفقتها:
- لكن... يجب دعوة كل أعضاء اللجنة المكلفة... وسيتطلب هذا بعض الوقت، حتى لاجتماع خارق للعادة! أعطيني على الأقل يومين ثلاثة، مدام، على الأقل يومين، وإلا أنا لا أرى...
دارت من حول المكتب، وجاءت تهمس في أذنه:
- قلت اليوم يعني اليوم. أعتمد عليك.
أنهت بالالتصاق به، فلهث. أراد أن يأخذها، أن يلمسها، أن يمسسها، فأفلتت:
- سيكون لك كل شيء لما يكون لي ما أطلبه منك ليس قبل.
- مدام...
وانحنى يقبل باطن يدها، وهي تطلق ضحكاتها.
على الباب، استدارت نحوه، وهو ينسحق في قعر مقعده:
- إذن إلى هذا المساء!
هذه المرأة، هل كانت سرابًا؟ هل هي على الأقل من نفس العالم الذي هو منه؟ تدفق العواطف، الدم، رؤوس الأموال؟ الشيء الأكيد أنها كانت جميلة، جميلة بشكل إلهي، لذيذة، ساحرة، التربص للعدو، للفرصة، وستكون لديه الموافقة خلال الساعات القادمة.
انطلق جيروم على طول رصيف السين، فكشفت مارغريت السيارة، وأخذت تقهقه دون أن تأبه بالبرد اللاسع لوجهها. قالت لجيروم أن يقف، فنزلت، وراحت تركض على الرصيف، ثملانة، رشيقة، مشيقة، مرشومة بصليب على صدر الحضارة. ركض جيروم وراءها، وأخذها بين ذراعيه، وهو يدور بها حتى لم يعد يقدر على ذلك، وهي تطلق ضحكاتها المجنونة –والموجات المتجمدة للسين تضحك معها بصمت السمك المنبهر بجمالها.
- هل تحبني؟ سألت.
دفن جيروم وجهه بين ثدييها:
- كيف يمكنني ألا أحبك؟ كل الناس يقعون في غرامك.
- ما أريد معرفته إذا كنت أنت تحبني، إذا كنت أنت تحبني بالفعل.
- أي واحد في مكاني، لا يمكنه إلا أن يحبك.
- وإذا ألقيت بنفسي في السين، فماذا ستفعل؟ أنبهك إلى أنني لا أعرف السباحة.
أخذ جيروم يضحك:
- طيب، لكن لا تفعلي!
- بلى! تحبني أم لا؟
- حذار، ستشعرين بالبرد أكثر مما تظنين!
- هذا لدي سواء!
- ستجمدين وستموتين من الصقيع...!
- لن أموت من شيء على الإطلاق طالما أنت معي، بما أنك ستنقذني. ستنقذني، أليس كذلك؟
- طبعًا، لكن...
- مع قوتك وسخونتك وشبابك...
أفلتت منه، وهددت ثانيةً بإلقاء نفسها، بينا جيروم يضحك أكثر فأكثر مكررًا: "حذار! حذار!..." ركضت، وألقت بنفسها في الماء.
هذه المرأة كانت ثملانة بالفعل، ومجنونة. لم تكن الحذر، كانت القدر، وكانت التحدي، التحدي للحقيقة، للذكاء، للرأي العام. لِمَ يغطس وهو لا يفكر إلا في تركها واللحاق بآنييس؟ لكنها ربما كانت في صدد الموت... رمى بنفسه أخيرًا، وعاد بها على الرصيف، فلم تتوقف عن تقبيله، عن الترداد مرتعشة من البرد ومتكززة:
- الآن أعرف أنك تحبني، الآن أعرف أنك تحبني!
في المساء، رافق رشيد رئيس الشرطة إلى المكتب الذي تحتله من الآن فصاعدًا مارغريت، وتركه معها.
- لقد أنهينا الإضراب، قال رئيس الشرطة، بلا ضحايا كالمرة الأخيرة، واضطررنا إلى اعتقال البعض.
ابتسمت مارغريت، وهي تشعر برضى من لا ينخدع بالظواهر.
- حسنًا فعلت، يا سيد مفتش المقاطعة، قالت. يسعدني ذلك.
ومدت إليه حزمة من الأوراق النقدية، فتقدم منها ثابت الجنان، نظر إليها بحزم، وجذبها إلى صدره.
دفعته بهدوء، وهمست:
- سيكون لك كل شيء! انتظر فقط اللحظة المناسبة!
- لن تكون هناك لحظة أكثر منها مناسبة! موسيو هنري مسافر، ونحن وحدنا...
حاول تقبيلها، فدفعته ثانية:
- اسمع: مدير الأشغال العامة هنا، وهو ينتظر رؤيتي... انتظر فقط قليلاً، ولن تكون خاسرًا، انتظر فقط اللحظة الملائمة.
نفخ رئيس الشرطة كل الهواء الذي في رئتيه، وخرج، ليدخل في الحال مدير الأشغال العامة. مد لمارغريت غلافًا بالموافقة بالإجماع على مشروع السيد هنري، وأمسك يدها. عَمَلَتْ امرأة عفيفة ومُعْسِرَة، وطبعت قبلة على خده، أدنى ما يكون من أذنه.
- شكرًا، قالت وهي تتظاهر بالورع، شكرًا ألف مرة، لن ينسى موسيو هنري شكرك كما تستحق وتستأهل.
غادر الرجل بخفي حنين، غير متأكد من أنها المرأة نفسها، وغير قادر على المطالبة بما وعدته هذا الصباح. اسودت الدنيا في وجهه، وأدنى ذلك زيفه من حقيقته: لم يكن طاهر الذيل! لم تكن، هي، الطهارة، مِذْوَد المسيح، الكلمة الذاوية. أحس بالمذاق المر تحت لسانه، وعاد يجر ذيول الخيبة والانخذال.
فتحت الستار، وغرقت بعينيها في كريستال الليل. كانت النجوم ترصع السماء كالبسمات: لم تكن تخشى البرد، كانت توقظ الظلام النائم في سرير الكون.
دخل رشيد دون أن يستأذن:
- شيء آخر، مدام؟
- أريد أكثر، يا رشيد، قالت مشيرة إلى السماء.
- أك؟ معذرة؟ نجومًا؟ أكثر؟
هزت رأسها.
- تحت أمرك.
طأطأ رأسه، وخرج.
رن الهاتف، فتركت النافذة، ورفعت السماعة:
- ألم يقل لك السيد هنري عدم التلفنة هنا؟
- هذا لأن الأشغال تسير بشكل سيء، مدام...
- على البضاعة أن تصل في وقتها أيًا كانت المشاكل! هذا كل ما يمليه عليّ العقل معرفته!
- لكن، مدام...
أقفلت.
في الممر، كانت آنييس في ذهاب وإياب لا تعرف أين تضع رأسها. كانت ترغب في التحدث مع أمها، وأمها مشغولة، جِدّ مشغولة. لم تعد ترى شيئًا، لم تعد تفهم شيئًا، لا الأسرار السبعة، ولا الأسرار الأخيرة. وجد جيروم هيئتها تنم عن التأمل، فأرادت تفاديه، لكنه جذبها من ذراعها.
- لماذا تهربين مني؟ سألها.
تخلصت آنييس منه، وقالت خائفة:
- اتركني، ألست خائفًا من أمي؟
- أحبك، يا آنييس! قال، وهو يجذبها من جديد من ذراعها.
- أنت مجنون تمامًا...
عادت تتخلص منه، وركضت تلجأ إلى غرفتها.
كان رشيد، وهو يجيء بالتلفون المحمول إلى مارغريت، قد سمع كل شيء، وبدأ يأمل في صدره ألا يدور كل هذا في صالح مارغريت.
- إنه الموسيو، قال، وهو يدخل.
انتزعت مارغريت التلفون من يديه، وسألت عن أخبار السيد هنري والقلق أخوها.
- لدي أخبار سارة لكِ، قال السيد هنري.
- أنا كذلك لدي أخبار سارة لكَ. لكن متى ستعود؟
- لست أدري... ربما خلال يومين أو ثلاثة.
- أنا على أحر من الجمر بانتظارك، يا حبيبي!
- لن أغيب أكثر من يومين أو ثلاثة أيام. هل اشتقتِ إليّ؟
- طبعًا، اشتقتُ إليك...
أجاب بشيء لم تسمعه كما يجب، فقالت بصوت أكثر ارتفاعًا:
- أريدك أن تتزوجني.
ابتعد صوت السيد هنري، وانقطع الخط.
سمع جيروم كل شيء، من وراء الباب الذي عُني رشيد بتركه مفتوحًا، وما أن رأته في فوهة الباب حتى سارعت إلى أخذه بين ذراعيها.
- لقد سمعت كل شيء، قال جيروم مرتديًا معطف الجد.
- زواجي مع هنري لا يعني أنني أحبه. معه، لا يهمني شيء آخر غير الثروة، المجد، السلطة. معك، الحب.
- وإذا عرف؟
- إذا عرف، وأبدى غيرته، هذا يعني أنه يحبني.
- وماذا ستفعلين عند ذلك؟
- إذا كان يحبني تركتك!... ولكني أمزح! أحبك، لن أتركك أبدًا!
- ولماذا لا تتركينه من أجلي؟
- لا... حبك لا يعطينا نقودًا، ولا امتيازات، ولا مجدًا. أنت لم تزل شابًا، يا جيروم!
- ...ليسه السبب، مضحك ما تقولينه...
اشتعل قمر الكريستال، وغدا كالمرو البنفسجيّ، فتمنت مارغريت أن تعانقه بمقدار شهر يضاف إلى السنة القمرية، لتشعره هذه المرة بكونها له، ولتروي ظمأه حتى الحد الأقصى، وكأنها المرة الأخيرة... قطف جيروم من مفاتنها ما شاء وما أراد، وعبث معها كطفل بريء تارةً، وتارةً كرجل مجنون. فجأة، دخل السيد هنري، وأخذ الاثنين في أحضانه.
همهمت مارغريت بخفر، كمن في حلم:
- قلتَ لي إنك لن تعود إلا خلال يومين ثلاثة، يا حبيبي...
- أردت أن أفاجئك، قال وكله حبور.
ضاع ثلاثتهم في عناق تنيني، بلا ذيل ولا رأس، رَقَّطته آنييس بظهورها المتناوب من وراء الستائر، والسيد هنري يهمهم:
- هل هذه أنت، يا مارغريت؟ تعالي...
نظرت مارغريت إلى الناحية التي يشير إليها، لكنها لم تر أحدًا. ضحكت، وقبلته، وقبلت الآخر.
- إنه شبحي!
ظهرت آنييس من الناحية الأخرى للغرفة.
- كما تقولين، قال السيد هنري، لا بد أنني أحلم، فأنا أراك في كل مكان!
- هذا لأن هناك الحلم الذي تصنعه والحلم الذي يصنعك، وأنا من هذا النوع الأخير.
وفي اللحظة التي أحست فيها بالانحطاط فيها، طردت جيروم، فعوى كالكلب المسعور:
- أنا أعمل كل شيء لك، وأنتِ...!
وغادر.
- نعم، ولكن هو ليس غيورًا، قالت مارغريت مشيرةً إلى السيد هنري.
- لا تكوني أنانية، يا مارغريت، قال السيد هنري بهيئة معاتبة وبالود موحية.
هذا لأنه لم يكن يشغل باله أن يعلم إذا ما كانت تحبه أم لا. كان رجلاً في بحث دائم عن الحب، قرب الرجال كالنساء، وكان عليها أن تفهم هذا في اليوم الذي وجدته فيه بين ذراعي رشيد، ولم تتحقق من ذلك إلا في هذه اللحظة... أبدت له موافقة تغطية نهر السين بإمضاء اللجنة.
- انظر، تنافستُ مع كل عشيقاتك السابقات واللاحقات تنافسًا مضنيًا، ألا ترى ذلك؟ أتمنى أن أبقى مفضلتك، وأن أجد دومًا مكاني في أحضانك.
- سيكون لك مكان أبدي في حضني وفي قلبي، يا مارغريت. في الواقع، أنا أيضًا لدي ما هو لك: جئتك "بأطنان" من يورانيوم الاتحاد السوفياتي سابقًا.
- ماذا! تريد أن تفجر كل شيء!
ابتسم السيد هنري:
- سيباع هذا اليورانيوم في السوق السوداء، في ألمانيا، في العراق... وبالأموال الطائلة التي سأجنيها، سأشتري لك شارع موفتار.
قفزت مارغريت على هذه الكلمات:
- شارع موفتار؟ دفعة واحدة؟
قَبَّلَ حلمة ثديها، وأكد:
- سنهدم ونبني حسب ذوقك طبعًا.
عند ذاك، دخل سباستيان.
- وأنا؟ قال.
- وأنت ماذا؟ سأل السيد هنري.
- أريد أن تشتري لي تلك القرية التي تحمل اسمي في الآرديش...
- ماذا تريد أن تفعل بها؟ بقرنة نائية؟
- سأقول إنها قريتي!
- سنرى ذلك فيما بعد، يا سباستيان. الآن...
خرجت مارغريت لتجيء بجيروم، فوجدت آنييس في غرفته، عارية في أحضانه العارية. عادت إلى المكتب كالذئبة المهتاجة، نصفها تنهشه الاستثارة، ونصفها تنهشه الغيرة، ورأت زوجها بثديين مصطنعين، تمامًا كرشيد في المرة الأخيرة، وهو يمارس فعل العشق على الأرض مع السيد هنري. كان يلح على أن يشتري له الرأسمالي الكبير تلك القرية الصغيرة...
- ألا تكفيك الطائرة التي أهديتك إياها؟
- لا، أريد كذلك القرية التي اسمها "ميرابو".
- لماذا تصر على ذلك؟ هل فقدت عقلك؟
- لو كنت مجنونًا لطلبت أن تشتري لي شارع الشانزلزيه لهدمه وإعادة بنائه على هواي! كل ما أريد، هذه القرية التي تحمل اسمي.
- طيب، سنرى، سنرى فيما بعد. اتركني أولاً أذهب بتنفيذ مشاريعي فوق نهر السين إلى مداها، ستكون ورشتي الأكبر!
- أنا تحررت معك، يا هنري! لم يعد لدي أي شعور بالعار، لم يعد لدي أي شعور بالذنب. أنا نفسي، وقرية الآرديش جزء مني، مما أريد الحصول عليه، الشيء الوحيد الذي ينقصني...
بعد قليل، لم تعد مارغريت تسمع سوى آهات اللَّذة من كل ناحية في الفندق الخاص، آهات المتعة، ولهاث سميك غامض يأتي من كل الغرف، كما لو كانت ألف مارغريت ومارغريت تحلق كل لحظة لتقطف نجمة في السماء. كادت تفقد عقلها، إذ من المستحيل كل هذا، وهي لم تعد تفهم شيئًا، كادت تغدو معتوهة. ذهبت في طلب من ينجدها في شخص رئيس الشرطة، والعالم أزرق وأبيض. ألقت بنفسها بين ذراعيه، على أمل أن تشعر بجسده المعجون بالقوة والحزم، واستسلمت كليًا.

13
بعد عدة أيام، وجدت الشرطة جيروم مقتولاً بشكل غامض، فذرفت آنييس عليه أحر الدموع، ووبخت أمها بدعوى قتلها إياه:
- لو كنت تحبينه بالفعل لحلت دون أن يقع ذلك! لم تعودي تفكرين إلا في نفسك، ولا يهمك أن تعلمي ما أشعر به أنا!
- جيروم لم يكن لأحد، لا لي ولا لك ولا لأية امرأة أخرى.
- بلى، سيكون لي لو لم تقتليه.
- جيروم كان من أولئك الناس الذين ولدوا ليموتوا.
- كان يمكننا أن نبقى معًا طوال العمر لو مُتِ أنتِ!
- لا تُسَوِّي ذَنَبَ الناقة بأنفها.
- أعرف أن الأمر لديك سواء!
- هذا لا شيء.
- ماذا؟؟؟ موت جيروم لا شيء!!!
- موت الأشياء.
- لأن الآن الأشياء مِلْكِية شائعة بالنسبة لك!
- أنت لا تفهمين.
- حمارة تريدين القول!
- هذا ما أدركتُهُ بعد موت جيروم.
- هذا ما يُتَصَوَّرُ لك.
- ما يطوفُ برأسي.
- توقفي، لا تجعليني أبكي عليك بدل البكاء على حبيبي!
- ستبكين عليّ ذات يوم.
- لا، هذا كثير، أنا لم أعد أطيق صبرًا.
... بحيث أن قلب آنييس امتلأ بالحقد، أكثر فأكثر، ولم يَفْرَغ. وعلى مدى عدة أسابيع، لم تتكلم إلا عن الانتقام لجيروم.
وجدت مارغريت رشيد، وهو يبكي في غرفته، فظنت أنه هو كذلك كان مغرمًا بجيروم. كان السبب إهمال السيد هنري له، مذ جاء السيد ميرابو...
بدأ الضباب يتسلل، يشق الكريستال، ويجعل من الرماد لون السماء. تداعت مارغريت للسقوط، فأمسكت بنفسها، ونظرت إلى صورتها في المرآة. أذهلتها صورتها، صورة عجوز شمطاء. تجاعيدها الحارثة لوجهها، شاربها المتهدل، فمها الكهفيّ، ذقنها الشمعية، ثآليلها، دماملها، بقعها، سنوها السِّكِّينية، نجومها الغائطية، فضاءاتها الطينيّة، تفاهتها، دناءتها، لافائدتها، لاجدواها... ندت عنها ضحكة مقيتة، وحاولت القهقهة، فاختنقت، وأخذت تسعل سعالاً حادًا، تفجر في أثره ما قذفته من أعماق أحشائها من قذارات. فجأة، تفجر السيد ميرابو في طائرته النفاثة، طائرته الجديدة، التي لم تزل تلمع بورقها، فوقع السيد هنري مريضًا، لكبير الضنى، تاركًا مارغريت تأخذ على عاتقها كل ما لديه من أشغال. نادى آنييس قربه، ووجدها أكثر حزنًا منه. وضع خده على صدرها، وذرف الدموع الحارة. لكن هي، كان قلبها في مكان آخر. لو لم يدخل هذا العجوز الذي يدعو إلى الرثاء في حياة أبويها، لما وقعت كل هذه المآسي، لما كانت دون عشيق، لما كانت يتيمة. كادت تتفجر حقدًا، هل تصفعه؟ هل تقتله؟
ركب السيد هنري مَرْكَبَ الخَطَل:
- آنييس! متى سيعود أبوك، يا آنييس؟
- أبي مات، يا موسيو هنري!
- لن نتناول طعام الغداء قبل عودته.
- لن نتناول...
- هذا بسبب طائرته.
- هذا ماذا؟
- تأخر.
- لم يتأخر، أبي مات، يا موسيو هنري، أبي مات في الجو.
- طائرته تلمع بورقها، لم يمت، لن تقتله طائرة جديدة خرجت من المصنع منذ عدة أيام.
- ومع ذلك، هذا ما وقع.
- يفضل طائرته عليّ.
- أبي مات، مات، ألا تريد أن تفهم؟
- لا يريد تناول طعام الغداء معنا...
أحضر له رشيد، المطحون حزنًا لحال سيده، التلفون: كانت المدام، وهي تكلمه من المقر الإداري. كان الأمر على غاية الخطورة.
- ماذا هنالك، يا مارغريت؟ سباستيان لا يريد تناول طعام الغداء معنا.
- ماذا؟!
- ألم أطلب منك عدم إزعاجي؟
- هنري، العمال يشنون إضرابهم ثانية... ماذا سأفعل؟
بقي السيد هنري حائرًا للحظة:
- هذه المرة، ابعثي من وراء جول، جول سيعرف كيف يكلمهم.
- جول؟ جول من؟
- أصغر أبنائي. سيشرح لك رشيد، ها هو.
أعطاه الهاتف، وعاد إلى البكاء على صدر آنييس. اقترب به الموت المفاجئ لسباستيان دفعة واحدة من موته، ربما لم يكن يبكي بهذا القدر بسبب موت صديقه الشاب بل بسبب موت شبابه الذي طار معه. ذكرته يداه المجعدتان في الوقت الحاضر بيدي سباستيان الجميلتين الثخينتين الملونتين... كان هناك شيء يموت في داخله من لحظة إلى لحظة، ولا أحد يستطيع منعه.
- منذ عدة سنوات، قال رشيد، وهو يغادر الغرفة، شن العمال سلسلة من الإضرابات لم يستطع أحد أن يضع حدًا لها سوى جول، الابن الخامس للسيد هنري، و...
- لهنري خمسة أبناء؟
- ولا ابنة واحدة.
- هذا أعرفه. أين هم أبناؤه؟
- أعطى موسيو هنري لكل واحد قسمًا من ثروته، وأرسلهم إلى بلدان أوروبية مختلفة، أحدهم في...
- ولماذا لم يقل لي شيئًا عنهم؟
- بالنسبة له كأنهم لا يوجدون بعد أن تقاسموا الميراث.
- تقاسموا الميراث؟ ميراث من؟
- ميراث موسيو هنري.
- في حياته؟
- كانوا أشرارًا مع أبيهم، ما عدا جول.
- طيب، فلنعد إلى هذا الابن الشهير الذي لا أعرفه.
- بفضله استعاد المصنع هدوءه عدة سنوات هناك.
- وكيف فعل، جول؟
- عَلَّمَ الإسبِرانتو للعمال، مدام.
- كيف؟؟؟!!!
- الإسبِرانتو. إنها لغة الحب والتفاهم والوئام في العالم.



































القسم الثالث

















1
ما أن رأت مارغريت جول حتى وقعت في غرامه، بوله لم تعهده من قبل، وكأنها صُعِقت حبًا، البرق انتشر في رأسها، وتغلغل في كل جسدها، ولشد ما كان عنفه هائلاً، أصابها الذعر، وأبصرت في كتائب المغول ملجأ وملاذًا، لتجد الطمأنينة. كان ذلك أقوى من كل شيء، كان ذلك أن تجدَ ما تبحثُ عنهُ دونَ تحديدٍ لأوصافه، فتقعَ عليه في اللحظة التي تكتملُ فيها هذه الأوصاف، وتتجسدُ في الوهم، يتجسدُ الوهم، وتحسُّ بالأشياء. لم تكن الصدفة، ولا اختيارها، كان الاختيار، صدفته. اشتاقت إليه لما أتته، واستسلمت إليه لما سمعته:
- طبعًا، صحيح، قال، الإسبِرانتو لغة الحب والتفاهم والوئام في العالم. استعملها ماو تسي-تونغ ليتفاوض بشكل أفضل مع اليابان، وحاضر أُمبرتو إيكو بنفسه عنها في السوربون عدة مرات. إنها لغة سهلة جدًا، بإمكانك أن تتعلميها في عدة أيام أو يكاد. تعلمها تولستوي في سبعة أيام، فقط.
أنزلت مارغريت عينيها بعفة، وابتسمت له كما لو كان الأمل أخاها:
- شرط أن تعلمني إياها أنت بنفسك...
ابتسم جول لابتسامتها:
- بكل سرور! وإلا لماذا أنا هنا؟ دعوني لأعلمها للمضربين لأنها لغة التفاهم والأمل، لكني هنا كذلك لكل من يريد أن يثري نفسه بها.
رفعت مارغريت عينيها بخفة، وقالت له كما لو كان اليأس أخاها:
- لا أريد أن أتعلمها إلا لكونها لغة الحب.
أزاح جول عينيه محرجًا:
- في أحد المؤتمرات المتعلقة بالإسبِرانتو في يوغوسلافيا، قبل أن تنقسم إلى دويلات متناحرة، تعرفت بالصدفة على فتاة صربية... بينما كان المؤتمرون يتناولون طعام الغداء، سقطت شوكتي على الأرض، انحنيت لأتناولها، وحين اعتدالي، وجدت نفسي أمامها. لم تكن تعرف من الفرنسية كلمة واحدة، وأنا من الصربية كلمة واحدة. بفضل الإسبِرانتو استطعنا أن نتفاهم، وما لبث أن وقع أحدنا في غرام الآخر. إنها صعقة الحب! تلك الفتاة هي زوجتي، في الوقت الحالي.
- هل رأيت، قالت مارغريت، من هذه الناحية أريد أن أتعلم الإسبِرانتو، لأني أشك في قدرتها في الظروف الأخرى، كوقف الإضراب أو الحرب في البوسنة. يحاولون هناك التفاهم ما بينهم بالإنجليزية، فالإنجليزية اللغة الكونية الوحيدة، على الأقل سياسيًا.
ابتسم جول، ومارغريت مغبوطة بكل المعاني التي تحبل بها عِظات الحَبَل.
- الإنجليزية لغة صعبة، قال جول، وهي ليست في متناول الجميع. وعلى العكس، الإسبِرانتو سهلة جدًا، يتعلمها أي واحد في لا شيء من الوقت.
اقتربت مارغريت بيدها من يد جول:
- كل اللغات في متناول كل واحد حافزه اللغات، قالت. في الماضي، تعلمت اللاتينية، أمي التي علمتني إياها. ثم نسيتها، لأني لم أمارسها، لكني كنت أعرفها جيدًا!
- الإسبِرانتو لا تُنسى، مدام، مارسناها أم لم نمارس. هناك ما هو أفضل: مع الإسبِرانتو لدينا شعور بأن كل العالم بلدنا.
ضحكت مارغريت:
- آه، يا لهؤلاء العمال المساكين! كيف يمكن أن يكون لهم هذا الشعور إذا ما استغلهم أبوك كما لم يستغلهم أحد في العالم؟ أما أن يصبحوا كونيين في تعاستهم، كتعاسة الحب، مثلاً، فلربما كان ذلك شيئًا آخر.
مرر جول يده في شعره، فنظرت مارغريت إلى خصلاته باشتهاء يدها إلى يده.
- هذا بالضبط، بسبب تعاسات العالم، قال جول، أراد زامنهوف، مخترع الإسبِرانتو، لغة تتجاوز الخلافات والعذابات والأوجاع الصغيرة.
- لوضع حد لهذه العذابات أم للقفز عنها؟ سألت مارغريت. لا توجد لغة في العالم تستطيع إلغاء العذابات والخلافات.
- أنت متشائمة جدًا، مدام! قال جول ضاحكًا.
انحنت مارغريت، مالت.
- ادعني مارغريت، قالت.
- أنت متشائمة جدًا، مدام مارغريت!
- فقط مارغريت...
- مارغريت.
خافت فجأة من أن تخيب أمله، وهي تعتبر إلى أية درجة صارت تحبه، حب العذراء لله، فلا أحد يعرف هذا الحب غيرها:
- ربما لست متفائلة لكني لست متشائمة...
- في أحد الأيام، رأى مخترع الإسبِرانتو أربعة أشخاص يتشاجرون، في حي قديم من أحياء وارسو، كل واحد بلغته. كان الأول يهودي الرأس يتكلم اليديشية، والثاني ليتواني الصدر يتكلم الليتوانية، والثالث بولوني البطن يتكلم البولونية، والرابع صربي الحوض يتكلم الصربية، فأخذ من كل واحد المشترك في لغته، وصنع لغة تكون بمثابة الجسد للجميع: الإسبِرانتو.
أمسكت مارغريت يد جول، يد الموت، الحياة، الخلود، وهمست دونما اقتناع:
- لقد اقنعتني، يا جول، فمتى نبدأ؟
سحب جول يده بهدوء من بين يدي مارغريت، وبلع ريقه:
- هذا المساء، إذا أردتِ.
- لِمَ لا في الحال؟
- الآن، عليّ الذهاب لرؤية العمال.
عندما كان جول قرب الباب، نادته مارغريت، وكأنه يسلبها الوجود بذهابه:
- خذ حذرك من الضباب، هناك ضباب كثير... وهو لا يعرف الإسبِرانتو!
في المساء، انتظرته مارغريت على طاولة العشاء بلا صبر، والخدم يقفون بانتظار أوامرها، فلم تتعش. كما هي عادتها، كانت علاقتها قد ولدت بالغة، لكن من غير عادتها أن يصعق البرق فكرها، فلا ترى في الظلام أشياء أخرى غير أقواس قزح، ولا تقدر على التحكم بشيء، كالكوكب الدائر في مداره إلى الأبد، وحدها في الكون، وكل الكون معها. أترحها وأسعدها أن تكون وحدها، كان ذلك سحرها، الحزن والفرح في كأس الوجود. رفعت الستار، ونظرت بعيدًا حتى مدخل الفندق الخاص. كانت البوابة مغلقة، والأضواء تخوض معركة حامية الوطيس مع الضباب. رفعت السماعة، وطلبت المركّب الصناعي، فقالوا لها إن جول قد غادر لتوه. ذرعت الصالون طولاً وعرضًا، وما لبثت أن سمعت منبه سيارته، لتسارع إلى النافذة. فتح الحارس البوابة، فتنفست، وابتسمت. وفي الحال، ركضت لتستقبله على درج المدخل.
تعلقت بذراعه ما أن تقدم منها و، بنبرة عتاب ظريفة، قالت له:
- لقد فاتك العشاء.
- لم أقل إنني سأعود لأتعشى.
- انتظرتك مع ذلك لنتعشى ولم تأت.
اخترقا الصالون.
- كان عليك ألا تنتظريني. لا تقولي لي، مدام، إنك لم تتناولي طعام العشاء إلى حد الآن. أما أنا، فقد أكلت مع العمال.
- مش مشكل.
- أنا آسف!
- إذن، كل شيء على ما يرام مع الشغيلة بفضل الإسبِرانتو؟
- ليس الأمر سهلاً كما تظنين.
- وأنا، متى سأتعلمها؟ وأين؟ هنا أم...
- أينما تريدين، مدام، الأمر سواء...
- مارغريت!
- نعم... هل تعرفين أن مارغريت الزهرة كذلك اللؤلؤة باللاتينية؟
أخذته بين ذراعيها بتواطؤ وشبق وطبيعية، فكانت حركة، وكان تردد، وكان رضاء.
- إنها صعقة الحب... همستْ.
قطف قبلاتها برقة:
- هوسٌ مِرْآوٍ... همس.
ثم توسل:
- لا تفعلي هذا، يا مدام مارغريت، من فضلك.
سحبته إلى غرفتها، وخلعت ثيابه، دون أن تتوقف عن تقبيله.
- هذه هي لغة الإسبِرانتو التي أعرف، لغة جميلة، أليس كذلك؟
تعرت، فقطف قبلاتها ومفاتنها، وقليلاً قليلاً أحس بالسحر يجرفه جرف الموج للرمل، وكأنه معها هو ذاته، يقطف مفاتنه وقبلاته.
- أجمل لغة بين كل اللغات، لكننا لم نتفق على هذا.
لهثت من وراء رغبتها، ولم تشأ إنفاقها دفعة واحدة، أرادت أن تبقيها أطول مدة ممكنة، فهي ما تنقصها، وبفضل جول تمتلئ بها.
- بل اتفقنا، وها نحن عبيد رغبتنا.
- عبيد رغبتنا وأسيادها.
- صناع رغبتنا ومادتها.
- مادتها المحرقة دون لهب.
- لهبها المهلك دون رماد.
- رمادها الذي هو مهدنا.
- هناك حيث يكون بعثنا.
- بعثنا الذي لا يدوم سوى لحظات رغم أنه أبدي.
- آه، يا حبيبي!
- آه، يا حبيبتي!
دخلت آنييس عليهما الغرفة، وفتحت النافذة، فتسلل الضباب إلى جسديهما، وغطاهما، بعد أن طار خفاش الشهوة.

2

أقوى حب لما يحب الحب!
في صباح الغد، لم يكن جول هناك عندما استيقظت مارغريت. أعلمها رشيد أنه غادر المنزل باكرًا ليتكلم مع العمال، فلم تهتم بما يفعل مع غيرها، كان كل اهتمامها ينصب على ما يفعله معها. رأت فيه رؤيتها لعظام العشاق، ولها عظام العشاق هم عظام الكون، ومن هذه الناحية كان إعجابها، فالتقدير لم يكن مطروحًا في فراش الحب، لم يكن مطروحًا على الإطلاق، كان الإعجاب، ومن الإعجاب تُولد كل الآمال، فلنقل، كل الأوهام، عند غياب الاقتناع بما نفعل غير ما نفعل في مملكة الهوى. لم تكن تريد شيئًا آخر غير مسؤولية حبها تجاه حبها، ووجودها تجاه وجودها، وقد غدا حبها الوجود. أرادت اللحاق به، الإيغال في درب النقيصة، فكل شيء غير الحب نقيصة، رذيلة، عيب الحياة، لتصل إلى عتبة الكمال. لكن رشيد أقنعها بألا تفعل، فالوضع حرج للغاية، وعلى جول أن يجد حلاً ليتحاشى الإضراب.
- ثم على مدام أن تستعيد قواها، لم تتناول شيئًا مدام منذ ظهر أمس.
- وليست لي رغبة في تناول طعام الفطور.
- هذا ما ليس جيدًا. مدام ستنحف، وستقع مريضة.
- أريد جول قربي، أريده أن يأتي.
تأثر رشيد، ونظر طويلاً باتجاه غرفة السيد هنري:
- أعرف ما يعني بُعْد شخص غالٍ... لكن الأقسى من كل شيء عندما يكون قربك وبعيدًا في الفكر عنك. سأتلفن للسيد جول، وأقول له أن يسرع بالحضور.
- قل له أن يختار بين العمال وبيني.
- تحت أمر مدام.
الاختيار اختار! لم تمكث مارغريت في مكان، ذهبت من نافذتها إلى الصالون، ومن الصالون إلى الحديقة... قادها السائق إلى المركّب، وبرزت لجول في قاعة الاجتماع. قادها إلى حجرة ملحقة، فقبلته بهيام، وقالت له إنها تمرض بعيدًا عنه، وهي تريد أن يعود إلى البيت معها. أكد لها نفس ما تشعر به، ووعد بحل المشكل بأسرع ما يمكن، وباللحاق بها حالاً بعد ذلك، شارع فوش.
عادت إلى البيت، وبقيت تقف وراء الستار، وهي تنظر إلى الضباب، وهي تشعر بنفسها جريحة، مهانة، مخيبة، مكبوتة، محرومة. سقط الليل، وهي تنتظر، فأحست بالاختناق. أتاها رشيد بكأس ماء، وأخذ يحكي لها عن الأرباح الاستثنائية والفائضة لمشروع تغطية نهر السين الذي بدأ تنفيذه، عن بيع الشقق، عن أزمة السكن...
كانت على استعداد لتعطي كل ما يطلب منها مقابل أن ينصرف تاركها مع خيال حبيبها، لكنه بقي هناك يثرثر إلى ما لا نهاية...
- اسمع، اذهب وحدث هنري، أنا مشغولة البال، وأشعر بالعياء.
- هذا لأن مدام لم تأكل شيئًا منذ ظهر أمس، وموسيو هنري...
سكت، وهو يشير إلى غرفة السيد هنري محزنًا:
- موسيو هنري يغلق الباب على نفسه، ولم يعد يريد أن يرى أحدًا...
- إذن اذهب وحدث آنييس واتركني بسلام!
خرج رشيد بصمت، وهو يتراجع القهقرى، فعادت تنظر من النافذة، والعالم تبتلعه أجنحة الليل والضباب. تأخر جول، فاستبد بها الخوف. طلبت المركّب، ليقولوا لها إنه مشغول، إنه لن يعود إلى البيت قريبًا. قرر العمال مواصلة الإضراب رغم كل شيء، فالأوضاع ليست مؤاتية، وما حقق السيد جول من تقدم... لم يكن يهمها كل هذا لا من بعيد ولا من قريب، لم يكن يهمها سوى أن يكون جول قربها. فتحت النافذة، فتسلل الضباب، وجعل من كل المنزل عشًا ضخمًا أبيض، وهي، تحولت إلى جناح أسود. أين سحرها اللايقهر؟ فتك سحرها بسحرها، وبدا لها ظل جول، باسمًا، في الضباب والموت: كان يهوذا الذي اختبأ خلف جذع شجرة. جول... أوه! جول. تمنت لو يترك العالم، ويأتيها. لمعت عينا يهوذا من وراء جذع الشجرة، ثم عيون أخرى كثيرة من وراء كل جذوع الأشجار، فألقت بنفسها من النافذة. سارع يهوذا إلى مساعدتها، وهي غائبة عن الوعي، بذراع مكسورة. حملها حتى المدخل، رن، واختفى بين الأشجار، دون أن يأبه بنداءات آنييس التي رأته من نافذتها.
هرع جول إليها أول ما سمع الخبر:
- لقد تأخرت، يا حبيبي! كان عليّ أن أقتل نفسي لتأتي؟
- آه، يا حبيبتي! ماذا سأفعل دونك؟
- ستجد أخرى، ولكن لماذا أقول ستجد وأنت سبق لك ووجدتها بفضل الإسبِرانتو!
- أنا لن أجد أبدًا واحدة مثلك.
- هل تحبني؟
- طبعًا أحبك، يا مارغريت.
- بأية لغة؟
- بلغة لا يعرفها أحد بالجُودة التي تعرفينها، والتي نحن أصحابها الوحيدين.
أخذت تصرخ من الألم، وهو يصرخ معها، تبكي، وهو يبكي معها.
- لغة الحب هي صراخ الألم، لا شيء غيره، فاجعلي حبك يؤلمني.
عانقها عناق الجنون، وهو يصرخ من الألم بسعادة. ضمته، وهي تحس بذراعها وقد برئت، بنفس قوة الأخرى.
في الغد، لم يذهب جول إلى المركّب الصناعي، بقي قرب مارغريت ليعتني بذراعها. نظف جسدها، وعطره، ووضع لها رافعة نهدين من الحرير الأبيض. داعب بيده بطنها، صدرها، عنقها، وقبّلها.
- اختر لي فستانًا، من فضلك.
- هل هذا ضروري؟ أفضل أن أراك هكذا.
- أريد الخروج معك.
- في هذه الحال؟ لم تبرأ ذراعك بعد، وأنت ترفضين رؤية طبيب. أستطيع أن أنادي طبيبًا، هل أناديه؟
- لا... لم أعد أريد البقاء في هذا البيت. ما أحتاج إليه، أن أغادره دون رجعة.
- للذهاب إلى أين؟
- إلى أي مكان. أسافر، أذهب بعيدًا جدًا. آه!... لكن أنت، لا تستطيع المجيء معي، لك الأخرى.
- أية أخرى؟
- امرأتك.
- أنت امرأتي.
- هذا لطف منك، يا جول. أنت تعلم جيدًا أنني لست امرأتك...
- أنت أكثر من امرأتي، أنت حبيبتي.
- هي أيضًا حبيبتك!
- أنت حبيبتي، وأنت الوحيدة. أنت من أحب ومن أعبد!
طوقته بذراعها السليمة، وحضنته طويلاً.
- سأختار لك فستانًا، قال بين قُبلتين، بشرط ألا نخرج إلا إلى الحديقة، بانتظار أن تبرأ ذراعك.
فتح الخزانة والفساتين المعلقة بالعشرات، واختار الفستان الأزرق المخضر.
- إنه أجمل فساتينك، يا مارغريت. إنه رائع.
أذهلها الاختيار... منذ زمن طويل لم تفكر فيّ، أنا دافيد، وها هو الماضي يعود إليها بقوة، أو، بالأحرى، لم يعد، كان يتشرش في كيانها كجذور الظلام.
- لا، أرجوك... كل الفساتين إلا هذا.
- لماذا؟ إنه جميل... أريدك أن ترتديه، هلا ارتديته؟
ساعدها في ارتدائه، فخلعته دفعة واحدة.
- إنه خشن، وهو يوجعني.
لم يفهم، ضمها بين ذراعيه، وحاول تهدئتها. في الأخير، لازمت الفراش، وطلبت إليه أن ينام قربها. بقيا ممددين هكذا، ساكنين، حتى سقوط الليل، لما قرع رشيد الباب:
- انقطعت المفاوضات، يا موسيو جول، بسبب غيابك، ولم يعد أحد يعلم متى سيتوقف الإضراب.
لم يجبه جول، كانت مارغريت تنام، فخفض رشيد صوته:
- هل أنادي طبيبًا؟
- لا، هي ترفض.
- إذن سأحضر لها العشاء، لها ولك.
- سأنتظر استيقاظها.
تدخلت دون أن تفتح عينيها:
- أنا لا أنام، أنا لست جائعة.
- لا تريدين الطبيب، ولا تريدين الأكل، كيف تريدين الشفاء؟ قال جول.
- لا أريد الشفاء، أريد الحب.
طأطأ رشيد رأسه، وامحى.
تناولت يده، وضغطتها على ذراعها المكسورة، وهي تصرخ من الألم، وجول يمتنع عن معارضتها. زلق بذراعه عَبْر مَسْنَد السرير، ولواها بكل قواه، وأخذ يصرخ معها.

3
لا تمنع الممنوع! افعل الممنوع!
بدت آنييس في الضباب، فأخذ السيد هنري يهلوس:
- هذه أنت، يا مارغريت؟ تعالي...
عانقته آنييس في الضباب والظلام، وجامعته، وهو يرجو، ويتوسل:
- ارأفي بي، يا مارغريت! لدي ما هو خطير أقوله لك...
تركته آنييس يقول:
- في الماضي، عرفت أمك... لكني سأبقى زوجك دومًا، يا ملاكي...
لم تفهم آنييس جيدًا ما يحكي، فُتِنت في دينها، وأيقظ فيها من الشكوك غريبها، فأبدت نفسها في الضوء:
- وأنا، من تكون لي؟
عندما عرفها، شحب، وأخذ يتأتئ، ويرتعش، وهو يعمل لا برأسه.
- لماذا فعلت هذا، يا آنييس؟ لماذا فعلت هذا لي؟
جلست على صدره، وأمرته بالتوقف عن البكاء.
- كان عليكَ، بالأحرى، الانشغال بأمي، مع ابنك. أمي التي تخدعك، ومع ابنك الذي من لحمك ودمك، وليس أنا!... استيقظ، يا صاح! انهض!
نهض السيد هنري –عيناه النسريتان حمراوان من الغضب- وصاح كما لو طعن بخنجر:
- كل الناس إلا ابني! كل الناس إلا جول بين أبنائي!
ركض إلى غرفة مارغريت، ووجدهما في حضن بعضهما البعض. نادى رئيس الشرطة ليلقي القبض عليهما، إلا أنهما تركا الفندق الخاص في الحال. عاد السيد هنري إلى ذراعي آنييس، وذرف دموعه بغزارة.
- لقد فقدت أعز مخلوقين على قلبي دفعة واحدة!
- اخرس، أيها العجوز الخرف! أليسني هنا أنا؟
- حقًا، همهم السيد هنري. أنت تشبهين أمك إلى درجة...
- إذن لماذا تبكي، أيها المعتوه؟ سأصنع لك من الأبناء بالعشرات، فأعوضك عن نقيصتك بجول. وأنا، ألا أكفيك؟
- لكني... انتهيت. بدأت أشيخ... لن يعود أي شيء كالماضي بالنسبة لي...
صفعته.
- ستورثني كل شيء، هل تسمع؟ ابتداء من اليوم، سأكون كل شيء بالنسبة لك.
قبّلته، وعاد إلى البكاء.
- ارأفي بي، يا آنييس! أنا مثل جدك، حسب أكثر من لقب...
أبعدته هازّةً:
- ماذا تحكي؟
همهم السيد هنري، كطفل عليه الاعتراف بخطأه:
- كل شيء هناك، في الدولاب الحديدي.
وفي اللحظة ذاتها، دخل رشيد، وأعلن وصول رئيس الشرطة. ما أن اجتاز الرجل الباب حتى قفزت آنييس عليه، استلت مسدسه، وأطلقت بين قدميه.
- لا أريد إضرابًا بعد اليوم، مفهوم؟ ولا أريد أن أسمع أبدًا بالإسبِرانتو! المضربون لا يردعهم إلا هذا...
أفرغت المسدس، ورئيس الشرطة يحرك أذنيه، ثم خرج، وهو يتراجع القهقرى.
- عصابة مجانين!
نادت آنييس رشيد، وطردته.
- انتهى، لم نعد بحاجة إليك!
- لكنه الوحيد الذي باستطاعته الإشراف على سير أشغال السين... قال السيد هنري، مضطربًا.
قهقهت آنييس.
- تريد القول: الوحيد الذي باستطاعته خنق باريس حتى الرمق الأخير! مرفوض!
تذكرت الدولاب الحديدي، فراحت تجري لتفتحه.
أوراق، لا شيء غير الأوراق. في البداية، لم تفهم كل شيء. كان الأمر يتعلق بملف جنائي حول حَضانة طفلة... بعد وقت قليل على موت جدها، كان السيد هنري أحد عشاق جدتها، في ذلك الزمن البعيد، قليل الشيوع، وولدت مارغريت، أمها.
نزلت مارغريت وجول في فندق "آخر الخط"، في حي مونبارناس، وقضيا وقتهما في النوم معًا، ولم يكونا ليخرجا إلا نادرًا. كانا يصرخان، وهما يقومان بفعل العشق، من ألم الحب، وكانا يموتان. ومع ذلك، لأول مرة في حياتها، فهمت مارغريت أنها لم تكن سعيدة، بسبب الحب الكبير الذي يكنه جول لها. لأول مرة في حياتها، كان رجل يحبها، وتحبه بالقدر ذاته، ولم تكن سعيدة. على العكس، كانت حزينة، قاتمة، وتشعر أن كل هذا الحب الذي بحثت عنه طوال كل حياتها لا يأتيها في نهاية المطاف إلا بالحزن والرتابة. فهل كانت أنانية إلى هذه الدرجة؟ هل كانت تبحث عن شيء آخر دومًا، حتى بعد أن وجدت الحب الكبير؟ ألا يكفيها الحب الهائل لجول؟ كانت دومًا ما تريد أن تُحِب وأن تُحَب كما لم يحب أحد. الآن، وقد استجيب لمطلبها، ها هي تبحث عن شيء آخر. أرادت أن يخترعوا لها شيئًا خاصًا، يتجاوز كل أهواء البشر!... بعد كل شيء، لم تكن أحسن من السيد هنري. هو كذلك كان يقطف وردة من كل حديقة ليشبع شهوته، لكن هي، كانت تريد أن تكون كل الحدائق ملكها. أنا دافيد، جيروم، جول... لا، لم تكن أحسن من السيد هنري! حتى أن السيد هنري كان أكثر منها إخلاصًا وصدقًا! تذكرت حاله، بعد الموت الغامض لسباستيان... ورد فعله الغاضب لحبه الأبوي لجول... بينما هي، لم تتردد عن ترك ابنتها، عن تدمير كل شيء من حولها، والتخلي عن كل شيء، الثروة، المجد، وكل ما حلمت به، باسم حبها الكبير لجول. في نهاية الحساب، لم تعش سوى حياة طويلة من النزق والهذر والعبث، توجها في الوقت الحاضر إحساس ثقيل بعدم الرضى والتعاسة.
طلبت من جول أن يغسل لها جسدها، أن يعطرها، أن يلبسها جوارب حريرها الأسود، أن يضع لها رافعة ثدييها، أيضًا من الحرير الأسود، أن يرمي عليها فستان حريرها الأسود. فكر أنها تريد الذهاب إلى المقبرة، لتضع باقة زهور على ضريح أمها، لكن، بابتسامة مفعمة بالحزن، قالت له بهدوء:
- اليوم يوم موت حبنا.
- ماذا تقولين، يا مارغريت؟ قال جول، وهو يشعر بالأرض، وهي تميد تحت قدميه.
تهشمت ابتسامة مارغريت:
- أنا لا أستحق حبك، يا جول!
- مارغريت، أنت الأفضل بين كل نساء العالم!
- أوه! أنت الوحيد الذي أحبني بصدق! أنت الوحيد الذي هجر العالم من أجلي! هل لهذا السبب؟
- ماذا؟
- لم أعد أريدك.
- ماذا تريدين أكثر من حبي، يا مارغريت؟ اطلبيني ما شئت، قولي لي ما يقلقك، قولي لي ما لا يمشي!
- ليست غلطتك، إنها غلطتي. لقد أخذت طريقًا خاطئًا، في حياتي!
- تقولين هذا لأنك كَرِبَة. سنخرج اليوم، سنذهب إلى مطعم، سنُمضي المساء في كباريه.
- لا، لستُ كَرِبَة. أنا أتوجع. أتوجع من الحب! الناس يسعدون لما يجدون الحب، وأنا أتوجع!
- أو بالأخرى، سنسافر. فلنذهب إلى المارتينيك، إلى أبعد جزيرة، وسأعرف كيف أجعلك سعيدة، سنكون أسعد زوجين في العالم.
- حتى في جنان النعيم لن أكون سعيدة. اسمعني، يا جول. أنا أرى بوضوح في الوقت الحاضر: لقد أخطأت الطريق! أنا لست أنانية، أنا الأنانية! أنا لا أريد أن أحب، أريد الحب! أعظم الحب حبك لن يكفيني! أبدًا!... يجب أن تعود إلى زوجتك. أنتما تحبان بعضكما حبًا صادقًا، إنسانيًا، لكني أنا لست إنسانية! أنا إنسانة رهيبة لا توجد إلا في الخيال. ربما كنت أنتمي إلى زمرة الملائكة أو زمرة الشياطين، وفي كلتا الحالتين، أنا لا أوجد بأي شكل.
- على العكس، يا ملاكي! ما أكثرك حياة، بجمالك وألوانك وحزنك! حتى حزنك جميل، أجمل شيء في العالم. أنا لا أصاب بالزهق أبدًا قرب حزنك. أحبك كثيرًا في فرحك وأكثر عندما تبكين. أنا...
- أنا أرفض أن تحب هكذا كل ما هو أنا، وكل ما هو مني! الآن، عد إلى امرأتك.
حاولتِ الابتسام.
- سأموت إذا ما ابتعدتُ عنكِ.
- أنا كذلك، يا جول... وها أنا في حضرة الموت، منذ أن فهمت أنك ستتركني. لقد بدأ موتي، وأنا أموت أكفر عن ذنب إبعادي إياك عن زوجتك وعني، وأكفر عن كل ذنوبي.
- إذا متِ، فقدتُ كل شيء، يا مارغريت.
- حقًا، يا جول؟
- نعم، كل شيء. الحياة من بعدك لن يكون لها معنى، الحب مسيخ الطعم، العشاق ظلالاً. سيكونون شفاهًا تقبل دون لّذة، أياديَ تتقارب دون حرارة، أجسادًا تنام دون أن تشعل الليل، دون شوق. سيكون العالم أجمع أكبر صحراء!
- لماذا لا تتركني، يا حبي؟ فلتتركني!
بعد آلاف الترددات والغثيانات، ضمها بقوة كبيرة، وعيناه مغرورقتان بالدموع، وهو يحاول إقناع نفسه أن هذا لا يمكن أن يكون.

4 وأخير
في الصباح، عندما فتحت مارغريت عينيها، لم يكن جول هناك. نظرت حولها، كانت وحيدة في سريرها، مهجورة. أحست بالحزن العميق، سوداوية، مسيخة. علاوة على الحزن المعزو لذهاب جول، أحست بالارتباك، فيها، في داخلها، باختفاء حبها الذي لا يُروى، حياتها، كل شيء. صاحت بكل قواها عندما أدركت أن جول قد ذهب بالفعل. كيف تركته يذهب؟ كانت على التأكيد مجنونة! مغفلة! حمقاء كأسماك نهر السين! أخذت تتكلم مع نفسها، تقول كلمات خرقاء، أنها كانت خطأً تاريخيًا، أنها كانت إيمانًا راسخًا، وأنها لن تخطئ في الحكم على أحد في المرة القادمة. اعتمدت على الأثاث، وفركت جسدها بالعطور، كما كان جول يحب أن يفعل، ووضعت جوارب حريرها الأبيض ورافعة ثديي حريرها الأبيض، وفستان حريرها الأبيض. وهي ترى نفسها تعوم في بحر الحرير الأبيض، فكرت أنها بلغت من السخافة إلى حد أقصى. سددت تهمة إلى نفسها، تهمة على تهمة، ونزلت إلى صالون الفندق. طلبت قهوة، وعينها تمر على النزلاء دون أن تراهم. كانت تبتسم بحزن، بغموض، تتنهد، وهي تبتسم. كانت تبتسم بقوة، أو ببعض قوة، وكانت تتكلم مع ظل جول أحيانًا، ومع ظلها أحيانًا.
داومت على الذهاب والإياب بين غرفتها والصالون طوال أيام، في فستان حريرها الأبيض دومًا، دون أن تتكلم مع أحد سوى ظل جول أو ظلها. وإلى ما لا نهاية، رسمت على شفتيها نفس ابتسامتها الحزينة لكل من ينظر إليها. أشفق عليها البعض، وتجاهلها البعض، وحزنُها ثابتٌ مِثْلُ الصخر. وفي اليوم الذي رأت فيه خنزيرًا بريًا سمينًا يجلس على المشرب، وهو يعطيها ظهره، أخذ قلبها بالخفق عنيفًا. ابتسمت، وزحفت نحو المشرب، ببطء الأشباح... لم أكن أنا، دافيد، المجنون دافيد، المغفل دافيد، الذي هجرها على الرغم منه. أصابها الندم، وهي تتذكر أنها لم تفكر فيّ، في قصتها معي، منذ زمن طويل جدًا. في يوم من الأيام أحبتني... كيف أمكنها نسيان من أحبته بذلك القدر؟ هل ستنسى جول كذلك؟ عادت إلى حجرتها بسرعة، وانزوت فيها. بعد عدة أيام، جاء طبيب الفندق يطرق بابها، ووجدها في حالة من تثور أعصابه ويرتعد بتأثير العاطفة، بيضاء، مريضة، جِد مريضة. نصحها بالنزول في مستشفى عدة أيام للتغلب على ما هي فيه، فرفضت. قالت "مرضها لا يعالج في المستشفى". كانت تأكل أقل من قليل، فأعطاها الطبيب فيتامينات الكثير منها، إضافة إلى بعض المسكنات. وعدته بالأكل، بتناول وجباتها الثلاث. مع ذلك، كانت من الحب مريضة، وأوجاعها سعادتها الوحيدة. أن تموت من الحب وحيدة، كانت رغبتها القصوى.
عندما أحست مارغريت باستعادتها لقواها، عامت في بحر حريرها الأبيض، وأخذت تتناول قهوتها في الصالون. طلبت المصعد، وضغطت على زر الطابق الأرضي بدقة متناهية. في اللحظة التي انغلق فيها باب المصعد، منعه ظلف ضخم، فعاد ينفتح، ودخلتُ. ارتجفتْ بكل كيانها، وأنا آخذ مكانًا قربها دون أن ألفظ كلمة واحدة، كالخطاب الذي قيل، كالكلام الذي لم يُقَلْ. ومن جديد، أحست بكونها تمثالاً من تماثيل حديقة اللكسمبورغ، إن لم يكن عمودًا من أعمدة البانتيون، من الحجر البارد. خرجنا من المصعد، فتعثرت قدمها، وكادت تسقط. أمسكتها من ذراعها، فاعتمدت على ذراعي، واتجهت برفقتي نحو طاولة في الصالون. حضر النادل، فطلبتُ اثنين قهوة.
- أهلاً وسهلاً، موسيو هازار (سيد صدفة)! همهمت مارغريت بصوت منهك.
- أنت لن تصدقيني إذا قلت لك إنني أصحب لجنة إلى مؤتمر حول حرية ال...
- نعم، أهلاً وسهلاً بك، موسيو هازار!
- نعم... الحقيقة، لا يد للصدفة في شيء، فلا مؤتمر هناك، لا شيء من كل هذا. لقد بحثت عنك، يا مارغريت، بحثت عنك في كل مكان خلال شهور قبل أن أجدك هنا.
- لن أسألك لماذا ذهبت، لكن لماذا عدتَ؟
لم أجب في الحال، ضغطت على يدها، وهي تهمهم لنفسها:
- حق النسيان...
- لماذا عدتُ؟...
- لتعتدي على الحق الوحيد الذي بقي لي، حق النسيان.
- لأني أحبك، يا مارغريت.
أرادت أن تنفجر ضاحكة لكنها لم تصل إلى ذلك.
- أحبك لا كما أحبك أحد من قبل!
- بعد فوات الأوان! الوحيد الذي أحبني بالفعل طلبت منه أن يهجرني، ففعل، وأنا لا أعيش اليوم إلا لذكراه.
- آه! لا، لم يولد من سيحبك بالقدر الذي أحبك فيه.
- لنسلم بصحة ما تقول، على كل حال أنا لم اعد أحبك، يا دافيد، جول من أحب، أحبه أكثر من كل شيء، أكثر مني.
أحضر النادل القهوة، فشربتْ عدة جرعات صغيرة، ويداها ترتعشان. وضعتِ الفنجان، وكادت تقلبه.
- أنا آسف لكل ما حصل، تلعثمتُ، يا لي من مغفل! لم يكن عليّ الذهاب، ودفعك إلى فعل ما فعلتِ... مع ذلك، كان من اللازم أن أذهب لأعرف الحب الذي أكنه لك. عدت إلى الأماكن التي ارتدناها، انتظرت طويلاً على الدرج، في الظلام، شارع موفتار، ذهبت إلى المصنع حيث كنت تعملين، وعند زميلتك جوزيان، كذلك. أحد أولادها هو الذي قال لي أين تسكنين، شارع فوش. قابلت ابنتك هناك، لا اتصال بينكما منذ بعض الوقت، فأخذتُ أبحثُ عنك في كل فنادق باريس، وأخيرًا، ها أنا اليوم أجدك. موسيو هازار بعيد الآن، مات. يا له من غائط! الآن، أنا ملكك بالقدر الذي أنا ملكها، مارغريت الأخرى. أنا كاتب في الوقت الحاضر.
- ملكها من؟
- بطلة روايتي. هل نسيت ما وعدتك به؟ كتبت روايتي عنك، لم تبق سوى النهاية.
ابتسمت مارغريت بمرارة:
- يا لها من محظوظة؟
أمسكتها من كتفيها، وكدت أقصفها، بقدر ما كانت معطوبة.
- جئت لأجلك! عدت لأجلك، يا مارغريت، لأجلك وحدك!
- عدت لأجل نهاية روايتك...
- لا، عدت لأجلك! أقسم أني بحثت عنك في كل مكان، طويلاً، دون أن أجدك، بحثت عن طعم فمك على شفاه أخرى، بحثت عن جمر ثدييك على أثداء أخرى، بحثت عن جسدك الحريري... لكن أبدًا لم أجد ما يضاهيه. كدت أفقد عقلي! والآن وأنا في الأخير أجدك، تريدين أن توهمي الكون أنني عدت لأجل نهاية روايتي...
أنهت احتساء قهوتها، وأصابعها ترتعش دومًا، ونهضت بصعوبة، بجسدها المنهك، المضنى:
- أنا مريضة! أنا حزينة! دعني وشأني، من فضلك!
اتجهت نحو المصعد بأسرع ما تقدر عليه، كانت ضعيفة جدًا، ولا تستطيع الوقوف على قدميها. أرادت الابتعاد عني، بأية وسيلة.
في غرفتها، بلعت مسكنًا، وألقت بنفسها على السرير. رأت، في الحلم، قطيعًا من الخنازير البرية يطاردها، يسحقها، يمضي على جسدها. استيقظت، وهي تتصبب عرقًا. لقد وقع في غرام بطلته، هذا كل ما هنالك، قالت لنفسها. نهضت، وذهبت إلى المرآة. منذ زمن طويل لم تنظر إلى نفسها في المرآة. كانت لها هيئة حزينة وتعبة، لكنها كانت جميلة دومًا. نحيفة، لكن جميلة. اقتربت من الأخرى في المرآة، وقبّلتها. لم تزل النار تسيل في عروقها، ومع ذلك، منذ لحظة، كانت تشعر بكل عذابات العالم في جسدها. كانت لحظة الموت الأخيرة، أجمل لحظات الوجود!
ارتدت فستانها الحريري الأزرق المخضر، وجاءت تطرق الباب عليّ، في الطابق نفسه. وجدتني مريضًا، تعيسًا، يائسًا، ووجدتها كالماضي في كامل أناقتها وأبهتها. جذبتها بين ذراعيّ، وقبّلتها برقة، فأخذتني إلى الشرفة.
- هذه الليلة، سأقضيها معك، قالت.
- أحبك، رددتُ.
- هل تحبني؟!
- سامحيني، لم أستطع حبك، لم أعرف حبك.
- لأنك تعرف حبي الآن؟!
- سأثبته لك حالاً، إذا أردت. أنا لا أعرف العوم، يا مارغريت، مع ذلك إذا ما طلبت مني، ألقيت بنفسي هناك، في البركة.
وصعدتُ على الدَّرْبَزين.
- أنت مجنون! أنا لا أريدك أن تلقي بنفسك في الماء، أريدك أن تدعوني إلى العشاء، في أعلى مطعم في باريس، مطعم آخر طابق من طوابق برج مونبارناس.
لم تعرف كيف تمسكني، ففقدت توازني، وسقطت في البركة. غبت في القعر، بينما هي تطلب النجدة. صعدتُ، وأنا أتعارك مع الماء، ومن جديد، غطستُ. جرى حارس، وقفز في الماء، ليخلّص جسدي في بضع ثوان. نزلت مارغريت، بالسرعة التي تقدر عليها، فثناني منقذي، وبصقتُ الماء الذي ابتلعته.
- أنا آسفة، اعتذرت، إنها غلطتي!
- هذا لا شيء، أجبت، كنت مستعدًا للموت من أجلك.
رافقتني إلى غرفتي، باسمةً، وأعانتني على تبديل ملابسي.
- من هو جول، سألتُ فجأة.
ابتسمت دون توقف: لن آخذ مكان جول. كانت تواصل التفكير فيه، لم تنسه. ستكون إذن ليلتها الأخيرة، لحظتها الأخيرة قبل أن تستسلم للموت. ستعيش كالماضي، في المتعة والغرام، دون التفكير أكثر.
- هل هذا لروايتك؟ قالت.
- لا. مارغريت...
- سأحدثك عن جول فيما بعد.
قبّلتها:
- لنمارس الحب إذن، مارغريت. أنا أرغب فيك، أرغب في مضاجعتك كالخنزير البري!
وضعت يدها بين شفاهنا:
- فيما بعد. أريدك أن تأخذني إلى المطعم أولاً.
تركنا الفندق إلى برج مونبارناس، وذراع الواحد تتعلق بذراع الآخر كعاشقين.
- إنها أجمل لحظات حياتي، اعترفت، وأنا أشدها إليّ.
وقفنا عند قدم برج مونبارناس، فرفعت مارغريت رأسها عاليًا دون أن تستطيع تمييز الطوابق الشاهقة من ناطحة السحاب. أغمضت عينيها في المصعد بسب سرعة الجهاز، أصيبت بالدوار، وهمست، ورأسها ينحني، مرتعشة من اللَّذة:
- آه! كم هذا مدهش! كم هذا مثير!
ولم تفتح عينيها إلا مع التوقف الكامل للمصعد، عند حافة السماء. قطعت بسرعة قاعة المطعم، لتخرج إلى السطح، وتتأمل باريس من خلف الجدار الزجاجي، باريس صغيرة، جِد صغيرة.
- هل أنت سعيدة، يا سيدتي؟ كل باريس تحت قدميك!
- نعم، همست، وهي تتنفس عميقًا، أنا سعيدة جدًا!
كان برج إيفل من بعيد يبدو كدمية في غمام من القطن، قوس النصر، الأوبرا، كاتدرائية مونمارتر، دمى أطفال في بحر من الموت الأبيض.
- هل ترى قنطرة الآلما، هناك؟ قالت، وهي تشير إلى القنطرة الخافية، سيهدمونها، ليقيموا على السين تمثالاً ضخمًا يهدونه للحب.
- يحيا الحب! هتفت بحنو. هل تحبينني، يا مارغريت؟ لأثبت لك أني أحبك، سألقي بنفسي من هنا، إذا ما طلبت مني ذلك.
- أنت مجنون بالفعل! أريد فقط قضاء هذه الليلة معك، كما لو كانت آخر ليلة لي، أجمل ليلة لي.
- لكني أحبك، يا مارغريت. هل تصدقينني؟
- سأقول لك فيما بعد.
- فيما بعد!
- نعم، فيما بعد.
- فهمت، أرى جيدًا أنك لا تصدقينني، وأنا النعل لحذائك، المنديل لبصاقك، الوعاء لبولك! لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟
- اطلب لنا العشاء، مثلاً!
- أنت تسخرين بي.
- أنا جائعة.
أشرت إلى رئيس النُّدُل، وطلبت عدة أطباق، وكذلك شمبانيا. لم تأكل ولم تشرب بالقدر الذي أكلت فيه وشربت في حياتها. دار رأسها، فمالت نحوي، وراحت تقبّلني، تقبّلني، بتهيج، بهوى، هواها لكل عشاقها الماضين أو الذين حلمت بهم. قمت، وحملتها بين ذراعيّ، إلى المصعد.
- هل اجتزنا الطبقات المضطربة؟ همست مارغريت، نصف صاحية نصف غائبة، وهي ترتعش من اللَّذة.
- لا خطر عند الهبوط، حتى ولو كانت جبال هملايا!
لم أضعها على الأرض إلا ونحن على الرصيف، فغطتني بالقبلات، وأنا أرمقها بدهشة:
- لقبلاتك طعم آخر، طعم لا أعرفه.
قبّلتها لأريح قلبي، بأكثر حمية وأكثر لهفة، أكثر من أي وقت مضى. لا، لن تذهب أكثر مما ذهبت. خلال ساعة، سأكون عاشقًا مجنونًا، مليئًا بالأمل، ومرة أخرى، ستفوّت كل شيء.
- الوداع! الوداع، يا دافيد!
كانت ابتسامتها تعبر عن كل حزن العالم.
و... لن تصدقوا. أوقفت عابرًا له هيئة الغبي، غير بعيد عن الفندق. فسكنتُ، مشدوهًا، لا أستطيع القيام بحركة واحدة. تكلمت مع العابر، وهي تستطيل نحو شفتيه، بينما الأرض تميد تحت قدميّ. جاء الرجل، وأعطاني ثمن العناق.
أمسكتْ بذراع الرجل، وأخذته إلى فندقها. جمدتُ جمود الحجر، وأنا أعجن الأوراق النقدية في قبضتي، وأكاد أمزقها. قبل أن تدخل الفندق، استدارت نحوي، إشارت بيدها، ثم اختفت.
انهرت باكيًا.
تسكعت طويلاً، وأنا أفكر في مارغريت. كانت قلبي، روحي، عقلي، كل كياني، صدقوني. ومع ذلك، كان لا يمكنها أن تكون إلا إلهة الحواس، الحب متجسدًا، جسد كل العشاق، حب كل الرجال، لا خليقتي التي لي وحدي. لم يوجد الكاتب الذي هذه خليقته، لن يوجد، فهي خليقة نفسها، الكلمات بأمرها تكون، والصور، والأفكار، وبأمرها يكون الكاتب، وأنا لم أكن أمرها. غرزتُ النقود في رافعة ثديي عاهرة كانت تقف هناك، واختفيت دون أن ألتفت أبدًا. بقيت البنت في مكانها زائغة البصر، تنظر إلى النقود في يديها، وتنظر إلى الشيطان في يديّ.

مارغريت...
مارغريت دائمًا ودومًا.
مارغريت أو المنفى الأبديّ...

مع حلول الربيع، المفرط الحيوية، السريع الزوال، اللا يُقَاوَم، الربيع الذي لم نقطع الأمل فيه دون جدوى، ساءت صحة مارغريت. لم يعد قلبها يحتمل العذاب، وكان جسدها كثير القصم ليحتمل أيضًا وأيضًا نار الحب المطاردتها. كانت تحب جول، وكانت تريد أن يأتي ليراها. كانت تريد أن تراه للمرة الأخيرة، قبل أن تقول الوداع للحياة.
ثم مع كثير من العناد، أقنعت الطبيب أن يتركها تذهب عند جوزيان الصغيرة، حيث ستلقى اليد المسعفة. فكرت في جوزيت، الابنة البكر لجوزيان الصغيرة، وفي باقي أخواتها وأخوتها. كانت تجهل لماذا هذه الرغبة المفاجئة لرؤيتهم. عندما جاءت جوزيت تضمها بين ذراعيها، وهي تنزل من سيارة الأجرة، ظنت في البداية أنها جوزيان الصغيرة. سمنت كأمها، وفضلاً عن ذلك كانت قصيرة. بكت كلتاهما مِدْرارًا.
على الفور، ذهب يهوذا عند آنييس ليعطيها أخبار أمها. قالت جوزيت لمارغريت إن يهوذا أصبح صديق آنييس، وإنه بفضلها سيكون بإمكانه أن ينهي دراسته، ليصبح يومًا مهندسًا في تقنية الطيران. وهي، جوزيت، بفضل آنييس دومًا، حلت محل أمها في المصنع، وكأمها أصيبت من العسل بالحساسية. ما عدا هذا، انتهى بهم الأمر ككل الناس بالوقوع على روتينهم الصغير. اشترت جوزيت سيارة صغيرة بالتقسيط، بفضل بنك السيد هنري الذي منحها قرضًا دون فوائد، ومع المكافأة التي حصل عليها المضربون، والتعويضات للضحايا، بدلت العفش، واقتنت كل الأدوات المنزلية. كما أنها ستشتري بعض أسهم المصنع –بقرض دومًا لكن بفوائد هذه المرة- كباقي زملائها. إنه نظام البورصة الذي يجري العمل به في كل مكان.
في الغد، جاءت آنييس لتلقي بنفسها في أحضان أمها، وتطلب منها الرجوع معها إلى شارع فوش، فرفضت مارغريت: كانت تريد أن ترى جول.
- تعالي، يا ماما، سنعود إلى بيتنا. كل شيء على ما يرام الآن، أنا أتفاهم تمامًا مع هنري، وسنكون سعيدين بالفعل أن تعودي إلى العيش معنا. سنبدأ من الصفر، يا ماما، تعالي...
دون أية فائدة.
أوضحت البنات لآنييس أن أمها نادت جول كل الليل، وأنها هلوست هلوسات غريبة ظنًا منها أن جول يجلب لها الدواء أو أنه يزورها.
في المساء نفسه، اتصلت آنييس بجول، ووصفت له حالة أمها: أنها على وشك الموت، وأنها تريد رؤيته. غدا جول مجنونًا، وسارع إلى الذهاب عند جوزيان الصغيرة. ذرف الدموع الحارة على صدر مارغريت، ورجاها أن تتركه يأخذها إلى المستشفى. بكت مارغريت، كما بكى، كل ما في جسدها من دموع، وكل حنوها، وطلبت منه أن يذهب بها إلى شقتها، شارع موفتار.
في شقتها، بقيت مع جول تمارس الحب خلال يومين كاملين، دون طعام أو شراب، على أمل أن تموت من الحب، لا شيء غير الحب. بعد ذلك، سيعود جول إلى امرأته. هي، مارغريت، قبل موتها، لم يعد لها أحد غيره، وهو، جول، بعد موتها، لن يكون له أحد آخر غير امرأته...
في شارع الأدونيسات الدموية، شارع موفتار، نطق الشارع، قال مارغريت، وبكى الرصيف، في اللحظة التي انقضت فيها الجرافات على البنايات كالحيوانات المنقرضة. كان الموت والركام في كل مكان، وكانت باريس تختنق، وتتحشرج، تطلق حشرجاتها من أعماق نهر السين المحتضر.
نادى الشارع مارغريت بأعلى صوته، فاستقام جول، المستلقي على مارغريت، وركض نحو النافذة:
- لن يتأخروا عن هدم البناية.
- هدم البناية؟
- نعم.
- سيهدمون البناية؟
- يجب الذهاب، يا مارغريت.
- باريس، هيبوليت، أنتَ، قالت خائرة القوى. دعني...
- ستموتين.
- سأموت سعيدة.
- لهذا عدتِ.
- لهذا.
- كنتِ تعرفين جيدًا أنهم سيهدمون كل شيء...
- كنتُ أعرف.
- إذن لماذا؟
- لأني لن أجد بيتًا لي أبدًا، لأن لن يكون وطنٌ لي أبدًا. في زمننا، على كل حال، لا توجد أوطان، توجد منافٍ نجد فيها مسكنًا أحيانًا...
- تقصدين الموت والعدم!
- الحب... مسكني الحب، وأنت، يا جول، أنت حبي. دعني أموت، أنت وطني الوحيد، فضائي الوحيد.
- لست وطنًا لأحد!
- بلى.
- لم يضع شيء، يا مارغريت، تعالي معي.
- لماذا؟
- لتحبيني إلى الأبد، لتبقي دومًا معي.
- سأحبك إلى الأبد، يا جول...
- وماذا سيبقى لي من بعدك؟
- حبيبتك الأخرى وحبي الأبدي. هكذا سأكون هنا دومًا ولن أزعجك.
عانقها، وانفجر باكيًا.
- لا تبكِ، يا حبي، قالت له، سأموت سعيدة.
- لكن أنا لا أريد أن تموتي.
فاض وجهه بالدموع، ومارغريت تردد دومًا، وهي تسحب قدمها من العالم: "يا حبي، يا حبي...". ثم أخذت تصرخ من الألم، وهو يصرخ معها.

سأل العمال إذا ما لم يزل هناك أحد في البناية، وهم يرون جول يخرج منها، فقال لهم إنه الأخير. لم تبق سوى الذكريات... بعد ذلك في الحال، عادت المحركات إلى أشغالها الجبارة، وانقضت الآلات على الجدران الهشة للبناية. يا حبي... يا ح...
ابتعد جول في الغبار، والدموع تمسخ وجهه.
في السماء، كان هناك من الطيور أغربها، "الحمصور"، طيور نصفها حمامة، ونصفها عصفور، أشبه بتلك التي سمع عنها في مدينة مونتري-سو-بوا، وهي ترقص اثنين اثنين، فظن في البداية أن اثنين منها ذكران واثنين منها أنثيان، لكنه ما لبث أن فهم أن ثلاثة منها ذكور وواحدة أنثى، لما أخذ الذكور يتصارعون من أجلها.





الكتابة الأولى بالعربية باريس الجمعة الموافق 30 سبتمبر 1994

الكتابة الثانية بالفرنسة باريس 1997

الكتابة الثالثة بالعربية باريس الأحد الموافق 17 ماي 2015


أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995
7) كوابيس 2013

الأعمال الروائية

8) الكناري 1967
9) القمر الهاتك 1969
10) اسكندر الجفناوي 1970
11) العجوز 1971
12) النقيض 1972
13) الباشا 1973
14) الشوارع 1974
15) المسار 1975
16) العصافير لا تموت من الجليد 1978
17) مدام حرب 1979
18) تراجيديات 1987
19) موسى وجولييت 1990
20) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
21) لؤلؤة الاسكندرية 1993
22) شارع الغاردنز 1994
23) باريس 1994
24) مدام ميرابيل 1995
25) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
26) أبو بكر الآشي 1996
27) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
28) بيروت تل أبيب 2000
29) بستان الشلالات 2001
30) فندق شارون 2003
31) عساكر 2003
32) وصول غودو 2010
33) الشيخ والحاسوب 2011
34) ماكبث 2011
35) ساد ستوكهولم 2012
36) شيطان طرابلس 2012
37) زرافة دمشق 2012
38) البحث عن أبولين دوفيل 2012
39) قصر رغدان 2012
40) الصلاة السادسة 2012
41) مدينة الشيطان 2012
42) هنا العالم 2012
43) هاملت 2014

الأعمال المسرحية النثرية

44) مأساة الثريا 1976
45) سقوط جوبتر 1977
46) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

47) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
48) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
49) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
50) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
51) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
52) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
53) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
54) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

55) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
56) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
57) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
58) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
59) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
60) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
61) خطتي للسلام 2004
62) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
63) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
64) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
65) الله وليس القرآن 2008 - 2012
66) نافذة على الحدث 2008 - 2012
























مدام ميرابيل تروي مصير امرأة طموحة، تسيرها قيم الثراء والجاه التي تميز الوسط الاجتماعي لطفولتها. بعد الزواج من رجل غني، يدفعها ما أصاب أسرة الزوج من حظ عاثر إلى الطلاق، فتنزل من عَليائها لتكتشف عالم العمل، حيث تعيش مع ابنتها على الراتب الهزيل لعاملة. لكن بعد مغامرات عدة يعرف سرها أفنان القاسم، ستعود إلى الوقوع في سهولة حياة الغنى وتفاهتها، قبل أن تجد أخيرًا خلاصها في اكتشاف الصدق والحب الغير المغرض، حب سيذهب بها إلى التضحية بنفسها. يرسم المؤلف هنا شخصية غريبة جذابة، تحيل القارئ إلى قصص الحب الكبرى العالمية المكتوبة بالدم والدموع، والمنذورة حتمًا للنهاية الفاجعة.














* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قائمة السفراء الثانية + تعليمات إلى كافة السفراء
- قائمة السفراء الأولى + رسائل من حكومة غزة ومعان
- تشكيل الحكومة الانتقالية
- تأسيس حزب الديمقراطيين
- أريد اقتسام الأردن مع إسرائيل
- يا أمريكا أريد أن أكون خليفة!
- أبو بكر الآشي النص الكامل
- إني أحذّر!
- مقارنات عاجلة بين رائف بدوي وعبد الله مطلق القحطاني
- مليار دولار صدقة لله يا محسنين!
- العصافير لا تموت من الجليد النص الكامل
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السابع والأخير
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السادس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الخامس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الرابع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الثالث
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الثاني
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الأول
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الحادي عشر وال ...
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل العاشر


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” .. ...
- مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا ...
- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - مدام ميرابيل النص الكامل