/ باريس
16/02/2003
لا نحتاج لتكرار الحديث بأن العراق بلد ذو تاريخ عريق يمتد آلاف السنين قبل ميلا المسيح الأمر الذي تفتقده الولايات المتحدة الأمريكية التي اكْتُشفَت قبل بضعة قرون تعد على أصابع اليد الواحدة مهما بلغت اليوم من تعسف وطغيان مغلّف بشعارات الحرية والديموقراطية والسلام وحقوق الإنسان. لكن شعب هذا البلد المظلوم واقع الآن بين مطرقة الإدارة الأمريكية وسندان صدام حسين ويتلقى الضربات المدمرة من الجانبين ويستنزف من الداخل والخارج والكل يتفرج عليه ويتشفى منه خاصة من جيرانه وأشقائه وحلفائه السابقين.
لقد تسلمت الولايات المتحدة الأمريكية إرث بريطانيا العظمى الاستعماري وتعهدت برعاية وحماية إسرائيل التي خلقتها القوى الاستعمارية منذ وعد بلفور السيئ الصيت
وتمكنت أمريكا المعاصرة من فرض قبضتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستراتيجية على دول منطقة الشرق الأوسط برمتها ولكن على درجات متفاوتة. وبفعل وعي ويقظة شعوب بعض الدول العريقة تمكنت هذه الأخيرة نسبياً من الإفلات من جبروت هذه القبضة كما كان الحال في مصر وسورية والعراق. لكن مصر استسلمت لواقع الحال بعد وفاة جمال عبد الناصر حيث رمي السادات بمصر في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية وصار يعيش على فتات مساعداتها التي تبتزه فيها كلما رفع رأسه معاتباً وليس محتجاً خاصة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة ضد العالم العربي. . أما العراق فمنذ استقلاله من هيمنة الاستعمار البريطاني عند سقوط العهد الملكي على يد الضباط الأحرار في انقلابهم العسكري في 14 تموز سنة 1958، والذي تحول تدريجياً إلى ثورة حقيقية قلبت بنيان المجتمع العراقي على عقب وأدخلت فيه إصلاحات جوهرية، بات هو البلد الوحيد الذي مازال يقاوم تلك القبضة الحديدية الأمريكية الجبارة التي حاولت وتحاول دائماً أن تحل في مكان الإمبراطورة العجوز وذلك بفضل وعي شعبه وقواه الوطنية وليس عنتريات نظامه الذليل والعميل.
ولقد بات واضحاً اليوم لدى كافة المراقبين والمحللين الاستراتيجيين أن الولايات المتحدة الأمريكية تشكل قوة إمبراطورية جديدة صاعدة لا تقاوم، لاسيما بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية وتفككها.
فعاجلاً أم آجلاً ستجد أوروبا الموحدة والموسّعة نفسها تقف مرغمة في وجه تطلعات وطموحات جورج بوش الإبن الإمبريالية الجديدة ، وكذلك معارضة من سيخلفه في الرئاسة إذا كان يسير على آثاره ويواصل سياسته العدوانية المتغطرسة والتي لا تبالي حتى بحلفاء الأمس القريب ومصالحهم الحيوية وعلى رأسهم الأوروبيين.
عندما كان جورج بوش الإبن مرشحاً للرئاسة وانفضح أمره كسياسي غير متابع وجاهل بأمور العالم الأساسية، كان محط سخرية وتهكم من قبل الانتلجانسيا الأوروبية وعلى الأخص الفرنسية منها. ولم تلحظ فيه سمات الشخصية الشيطانية الشريرة والعنيفة والخطرة كما ترسمها أفلام الغرب الأمريكي الكاوبوي ،إلاّ بعد 11 أيلول/سبتمبر، ليس كما هي عليه شخصيته ذاتها بل بما تمثلها من قيم وسلوكيات .
الجدير بالذكر أن نزعة معاداة النمط الأمريكي كانت متفشية في الأوساط الفرنسية المثقفة منذ قرنين أو أكثر مما ساهم في إشاعة عدم الفهم الحقيقي للشخصية الأمريكية العصابية. فبالنسبة لليسار الفرنسي كانت أمريكا غير يعقوبية بما فيه الكفاية، وبرجوازية أكثر من اللازم، وتعددية بصورة مبالغ بها، وعنصرية في الأعماق، ومادية جداً. أما بالنسبة لليمين الفرنسي فكانت على العكس، ديموقراطية أكثر من اللازم، ومبتذلة وسوقية جداً، في أخلاقها، وفي أفكارها، وفي أسلوبها بل وحتى في ماديتها. كما يقول باتريك هيغونيه أحد أساتذة التاريخ المعاصر الفرنسيين في جامعة هارفارد .لذا بات من الصعب [ ومازال صعباً جداً ] إستيعاب أمريكا الحقيقية.
كان ذكاء توكفيل الحاد قد ساعد في فترة ما، من خلال تحايل تاريخي، على الاقتناع بأنه في هذا البلد المسمى أمريكا، البلد الشعبي والديموقراطي، استمرت وعاشت القيم السياسية الليبرالية [ قوة وقيمة الفرد في مقابل الدولة، واحترام الحقوق السياسية والاجتماعية للآخر، وهي الحقوق التي ابتكرها ونادى بها الأرستقراطيون الفرنسيون والإنجليز ]والتي رفع لوائها وحمل رايتها الرواد الأوائل للاستقلال الأمريكي.
إن هذه النظرة المعادية لأمريكا قد ولى زمانها اليوم والجميع مقتنع بأن هذا البلد هو الأول في كل شيء.و لكن غاب عن الأنظار أننا لا يمكننا أن ننتقد أمريكا بالإجمال والتعميم إذ أن هناك أمريكتان وليست أمريكا واحدة.أمريكتان متناقضتان كلياً ومختلفتان تماماً فلا يمكننا أن ننسى الصورة السابقة التي سحرت توكفيل عن أمريكا التقدّمية ، الليبرالية والبرجوازية، فهناك من جهة أمريكا الـ New Deal ، وهي أمريكا جيمي كارتر والرؤوساء الطهرانيين من قبله، وهي التي عرفها وأحبها جاك شيراك عندما كان طالباً في جامعة هارفرد قبل أربعون عاماً. وهناك من جهة أخرى أمريكا ثانية مشؤومة ونحسة ، وهي أمريكا جورج دبليو بوش ورامسفيلد وفولفيتز وقبلهما رونالد ريغان، وديك شيني ، أي أمريكا الإمبراطورية، أو كما يقال هناك american goodness في مقابل american power وأن الخضوع والإستسلام لهذه الأخيرة سيكون خياراً خاطئاً وخطيراً وذو تبعات كارثية على حد تعبير هيغونيه.
كانت أمريكا الأمس ، وريثة عصر الأنوار، التي قدمت قادة من طراز أبراهام لينكولن وفرانكلين روزفلت وهاري ترومان، قد توارت اليوم أمام أمريكا رونالد ريغان وجورج دبليو بوش ، أمريكا المضطربة والمتوترة والمثيرة للقلق ، حيث التعددية قناع يخفي المصالح الخاصة .أمريكا مسيحية متعصبة، ومسلحة حتى النخاع، ومتعجرفة ومتغطرسة، وإمبريالية، وعنصرية ووصولية منافقة، ، أمريكا التجسس والوشاية والتآمر،والمتجسدة بشخصيات موبوءة ومشبوهة وموتورة من أمثال ديك شيني، وآشكروفت، ودونالد رامسفيلد، ووليم كرستول، وترنت لوت، وكونداليزا رايس، وكارل روف، وبوانديكستر، وإليوت آبرامز، الخ ... وهذين الأخيرين مطلوبين للعدالة حيث حكمت عليهما محاكم بتهم خطيرة في قضية فضيحة إينرون التي تمس حتى جورج دبليو بوش نفسه. إن أمريكا هذه، ذات نزعة تسلطية وهيمنة بلا حدود، تريد الحرب بأي ثمن، وتريد النفط الرخيص وبلا أي عائق، تتحكم به كما تشاء هي، وفي خضم ذلك سحق الفلسطينيين وإخضاعهم الكلي للإرادة الإسرائيلية وتحقيق الهيمنة الإمبريالية الكلية بجميع أشكالها .أمريكا تسيطر عليها روحية وطنية بدائية ورأسمالية وحشية ومتشددة ومتعصبة ، محدودة أو قصيرة النظر وبليدة تسحق الضعفاء والمحرومين . دولة يحكمها عصابة من عديمي الشرف والاستقامة ، وعديمي المهارة والذكاء والحذق، ومع ذلك يظهرون للعالم أنهم واثقون من أنفسهم كل الثقة. لاينبغي التقليل من خطورة جورج بوش وفريقه، فهم يهدفون علنا إلى السيطرة، ليس فقط على العراق ، بل وكذلك على أوروبا واليابان وآسيا الوسطى من خلال التحكم بثروات هذه المنطقة الحساسة والثرية الطبيعية وجغرافيتها وديموغرافيتها . هل يتوجب على أوروبا التعامل مع أمريكا الهجومية والتملق لها عن طريق التعاون والتنسيق معها وقبول ماتمليه على شركائها بلا قيد أو شرط كما هو حال بريطانيا ورومانيا؟ أم على العكس رفض هذا الإملاء القسري الأمريكي وتحديه بصورة من الصور كما فعلت ألمانيا وفرنسا فيما يتعلق بالمسألة العراقية؟ هذا هو الرهان الذي تواجهه أوربا في نقاشها السياسي والاستراتيجي مع أمريكا الثانية في أروقة الأمم المتحدة. هناك الكثير من المحللين الاستراتيجيين يأملون أن تلعب فرنسا ورقتها لإسماع واشنطن صوتها وموقفها ورؤيتها أكثر من شريكاتها الأوروبيات كألمانيا وبسمتوى أقل بريطانيا. التعاون مع أمريكا الثانية، أمريكا المحاربة، فخ يمكن أن يبتلع الجميع ، الأصدقاء قبل الأعداء. يجب إفهام أمريكا بكل صرامة وجرأة واعتدادا بالنفس، ما هي حدودها وماهي الخطوط الحمر التي لاينبغي عليها تجاوزها وليست هي التي تضع الخطوط الحمر للآخرين. نظام صدام حسين سينهار آجلاً أم عاجلاً، وربما من تلقاء نفسه وربما بدون الحاجة إلى إلقاء الحمم البركانية فوق رأسه وإلقاء أطنان القنابل على العراق وسكانه المظلومين والمضطهدين الذين لايهتم بهم بوش ومساعديه حقاً .
فأمريكا جورج دبليو بوش تشكل تهديداً لنفسها وللعالم كله كما قال أناتول ليفين في مقال له في مجلة لندن للكتب London Review of Books . فنتائج وتبعات فشل الحملة العسكرية الأمريكية على العراق ، وهي محتملة، ستكون كارثية وسيدفع ثمنها مئات الآلاف من الأبرياء والمدنيين ناهيك عن العسكريين . كما أن التبعات والنتائج والإنعكاسات لنجاحها لاتقل خطورة عن الأولى.فالشهية تتفاقم عند الأكل كما يقول المثل ، ومحور الشر فكرة راسخة في رأس هذا الرئيس المندفع لكنها ذات تأثيرات وانعكاسات متنوعة خاصة إذا ما تملكه جنون العظمة وقرر تقويض النظام الإقليمي برمته وزعزعة إيران وضرب كوريا الشمالية. مالعمل؟ أن ترفض كافة القوى القادرة، المساهمة عملياً وعسكرياً ومالياً وسياسياً ودبلوماسياً في هذه الحرب العدوانية وتنشيط الدبلوماسية الدولية للتخلص من صدام حسين ونظامه سلمياً وبأسرع وقت قبل أن يفوت الأوان.لكن الديبلوماسية الفرنسية تبدو مترهلة وعاجزة وشبه منهارة ولن تجرأ على استخدام حق النقض ـ الفيتو ـ ضد مخططات واشنطن لسد الطريق أمام أية شرعية دولية لهذه الحرب التي ليس لها هدف سوى الهيمنة وليس تحرير العراقيين كما تدعي واشنطن.إن تجارب الماضي في العراق علّمته الاعتماد على نفسه للخروج من أزماته ومشاكله وعدم الاعتماد على الأجانب الذين لايمكن أن يمدوا له يد المساعدة من أجل سواد عينيه. وعليه أن يكون واعياً بأن تعاونه وتنسيقه مع الولايات المتحدة للتخلص من صدام حسين سيكون ثمنه باهظاً لن يكون قادراً على تسديده إلا بتنازله عن حريته وسيادته واستقلاله الحقيقي.فإذا ضربت أمريكا العراق فعلى العراقيين جميعاً وعلى رأسهم قوى المعارضة الوطنية أن ينتهزوا الفرصة للإنقضاض على السلطة وأخذها مهما كان الثمن والشهداء الذين سيقدمون، لقطع الطريق أمام الآلة العسكرية الأمريكية ومنعها من إحتلال البلاد ، وإلاّ فسيكون مستقبل العراق داكناً ومعتماً وبلا أفق.