أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد إبريهي علي - بنية المجتمع والبنوية وما بعدها















المزيد.....


بنية المجتمع والبنوية وما بعدها


أحمد إبريهي علي

الحوار المتمدن-العدد: 4984 - 2015 / 11 / 13 - 23:38
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


غالبا ما تسمى العوامل التي تفسر السلوك البشري بنية إجتماعية Social Structure ،
وينسب اول إستعمال لمفردة البنية إلى اليكسيس دي توكفيل وبعد ذلك كارل ماركس وهربرت سبنسر وماكس فيبر ... وآخرون. وفي الثلاثينات من القرن الماضي اصبح مفهوم البنية الأجتماعية يستخدم على نحو واسع في العلوم الأجتماعية، خاصة بصفته متغيرا مركبا يرشح لتفسير حركة متغيرات اجتماعية اخرى (2). واحيانا بصفته معبرا عن القيود والضوابط الأساسية التي يمليها الكل على حركة عناصره. وصار الحديث عن البنى الأجتماعية بالجمع واسع الأنتشار ويقصد بها ان النظام الأجتماعي يتألف من انظمة فرعية مثل الأقتصاد والقانون والسياسة والعائلة ... وهكذا، ولكل من هذه الأنظمة الفرعية بنيته. اي ان هناك بنية مهيمنة ضابطة للنظام الكلي وبنى للأنظمة الفرعية.
وبقيت مفردة البنية رغم شيوع إالاستعمال في التنظير والدراسات الوضعية، تفتقر إلى وحدة التعريف العملياني Operational المحدد مسبقا والمتعارف عليه أكاديميا. وقد يراد بالبنية الأجتماعية الترتيبات المؤسسية المستقرة التي تنشط وتتفاعل الكائنات البشرية ، ويقصد بها احيانا العلاقات الأجتماعية التي تتخذ نمطا واضحا ومستقرا تعبر عنه المظاهر المتكررة والمنتظمة للتفاعل فيما بين اعضاء الكيان الأجتماعي المعين (1). وهي بذلك تتصف بالتجريد والكليانية Holistic .وفي كثير من الدراسات التي يكون نطاقها المجتمع الكبير او مجتمع الدولة الوطنية يتوسع تعريف البنية الأجتماعية ليشمل جميع اوجه الوجود البشري في المكان ونشاطاته في الزمن، من الخصائص الديموغرافية للسكان وتوزيعهم بين الريف والحضر إلى طبقاتهم المحددة إقتصاديا، مع حقوق الملكية واهرام المكانة او المنزلة، ومعها عناصر اخرى من الكينونة الأجتماعية بما فيها منظومة الثقافة السائدة Culture والقيم المبتناة فيها والمعايير او الضوابط الأخلاقية للسلوك، والتنظيم السياسي الذي يتخذ شكل الدولة والأجهزة التي تزاول من خلالها وظائفها ومنها إحتكار العنف وأستخدامه للضبط الداخلي والدفاع الخارجي. ودخلت مفردة البنية لبحث المجتمع الأنساني في القرن التاسع عشر مستعارة من التشييد Construction للماثلة بين بنية المجتمع وعمارة البناء، ومن البايولوجيا حيث ينظر إلى التشريح بانه بنية في مقابل الفسلجة وهي نظام وظائف الأعضاء.
وبنية ماركس ذات الصورة المعمارية، في اربعينات القرن التاسع عشر، شاملة للكلية الأجتماعية: اساسها نمط الأنتاج Mode of Production وهو مادي حقيقي يتمثل في قوى الأنتاج وعلاقات الأنتاج، وقوى الأنتاج هي وسائل الأتاج وقوة العمل، أما علاقات الأنتاج فتعني الوضع الطبقي وشروط إقتسام ناتج العمل بين الراسماليين، مالكي وسائل الأنتاج، والعمال الذبن يملكون قوة عملهم. وعلى ذلك الأساس الأقتصادي، بأبعاده التقنية والطبقية ، يرتكز البناء القانوني والسياسي والأشكال المطابقة من الوعي والأيديولوجيا وجميع العناصر غير المادية او الروحية للمجتمع. ولقد اراد ماركس بذلك التوصيف فهم التكوين الأجتماعي Social Formation بصفة عامة وللنظام الرأسمالي خاصة.
وظهرت اطروحة ماكس فيبر، فيما بعد، لتوصيف الراسمالية او المجتمع الحديث بالسوق واليات عمله، والبروقراطية ( في المنشأة الخاصة والأدارة الحكومية)، والديموقراطية في السياسة وهناك العامل الثقافي المحرك والمتمثل بالروح البروتستانتية المتناغم مع الرأسمالية، والعامل الثقافي ( الدين اساسا) مثلما كان دافعا للتطور الراسمالي في الغرب قد اعاق التطور في اماكن اخرى من العالم. ويربط فيبر بقوة بين نمط الثقافة والعقلانية بمعنى الحساب الموضوعي للعوائد والتكاليف، وأن تعظيم المنافع ( العوائد) ينظم السلوك. وبذلك فإن البنية الأساسية عند فيبرمؤسسية تنظيمية. وتنطلق الحركة من الدوافع التي بلورتها الثقافة والتي تعبر عنها الروح البروتستانتية في الغرب، وتجسدت معاييرا Norms تعلي شأن العمل المنتج والأدخار والتراكم بصفتها فضائل يسعى الناس إلى تكريسها، وبذلك يترسخ النظام الرأسمالي والحداثة في إنسجام مع القيم الناظمة للسلوك.
وفي السياق الماركسي ظهرت تعديلات على مشروطية النظام الكلي بالأساس الأقتصادي، ومنها التنظير الذي قدمه لويس الثوسير وآخرون والذي يفترض الأستقلال الذاتي للمؤسسات السياسية والثقافية Autonomous ويتصور للأقتصاد، او نمط الأنتاج بالمعنى الماركسي، دور المحدد الأخير. وعندما نقرب هذا الفهم بلغة الرياضيات المعاصرة نقول تمثل ثوابت النظام الأقتصادي القيد الحدودي على فضاء الأمكانية Space of Feasibility ، وفي السياسة العملية نفترض وجود فسحة لتحسين نوعية حياة الأنسان إذ لم نصل بعد إلى الحد الخارجي.
وتنسب إستعارة البنية من البيولوجيا للفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر، واستخدمها هو ومنظرون إجتماعيون آخرون لتمثيل المجتمع بالكائن الحي والأعتماد المتبادل فيما بين اعضائه. وهكذا ينصرف تصور البنية إلى تلك المعالم والعناصر المميزة ذات الأرتباط المتبادل والتي تستمر في الزمن وتؤثر في نظام عمل الكيان الأجتماعي كله وأدائه للوظائف التي يستمر بها وجوده. وكذلك تؤثر البنية في انشطة الأفراد اعضاء الكيان الأجتماعي بل وانشطة كياناته الفرعية العابرة للفردية. وارى ان الثبات في البنية مفترض بصفته معطى إزاء الكائن الأجتماعي فردا او مجموعة او منظمة، لكن البنية تتغير وإلا كيف يفسر تغير المجتمع وتطوره بثبات البنية. وربما من المناسب إعادة تعريف البنية بأنها التشكل Configuration من مجموع الروابط الضرورية لعمل نظام الكلية الأجتماعية في لحظة ما، وهذا التشكل هو في تغير بفعل التغذية المرتدة من مختلف الأنشطة. أي ان فعل البنية يرتد عليها لأن تلك الروابط الضرورية آنفة الذكر ليست ميكانيكية ستاتيكية. ولعل مقترح انتوني جيدنز في محله وهو تفضيل الأنبناء Structuration الذي يتضمن الديناميكية والأنتظام على البنية التي ترسم في الذهن صورة الثبات والصلابة.
ويتضمن تصور البنية ان الكائنات البشرية ليست حرة تماما في ما تختار وتفعل بل مقيدة بالمجتمع والعلاقات الأجتماعية التي نسجت بالتفاعل فيما بنهم، وتلك العلاقات ليست إعتباطية وتصادفية بل لها صفة الانتظام والأستمرارية، وأن الأنشطة الأجتماعية للأفراد هي ليست نتاجات مباشرة لنواياهم وما يرغبون فحسب بل هم خاضعون لشروط البيئة الأجتماعية .
ولقد إستعارالأنثروبولوجي البريطاني رادكليف براون فهمه للبنية، ايضا، من الكائن الحي وإعتماد اعضائه بعضها على بعض لأداء الوظائف وتلك بدايات ظهور البنيوية الوظيفية Structural -function-alism .اي ان العضوية Organic المتكاملة صارت من منطلقات التنظير. ومن جهة أخرى فإن الأعتماد المتبادل بين المؤسسات وقواعد التنظيم التي يمليها، ذلك الأعتماد المتبادل، يؤلف البنية التي تقيد نشاطات الأفراد بما هو نافع إجتماعيا.
وقدم اميل دوركايم اسهاما واضحا في المماثلة Analogy بين الأنظمة البايولوجية والأنظمة الأجتماعية واشاعة التصور المنطقي لأرجاع التنوع والكثرة إلى الأنسجام والوحدة. فالمؤسسات والممارسات بمختلف اشكالها تؤكد التكامل الوظيفي في المجتمع وإعادة الأنتاج الذاتية الكلية الموحدة له . والعلاقات البنيوية عند دوركايم ميكانيكية لتوحيد اجزاء الثقافة المشتركة، وعضوية لتوحيد المكونات المتمايزة عبر التبادل والأعتماد المادي المتبادل. وقدم دوركايم تعريفا للحقيقة الأجتماعية Social Fact بانها إكراه خارجي يزاول تأثيره على الأفراد ويستشعرون قوته عند محاولتهم الانعتاق من سطوته فيتعودون الأذعان له (3). وفي تلكم العبارات اراد دوركايم الوصول إلى تسوية بين الحرية والضرورة والقول بإمكانية العلم الأجتماعي لوجود حقائق مستقلة عن رغبات الأفراد وطموحاتهم، اي ان شرط المعرفة العلمية في موضوعها متحقق والباقي من شأن المنهج.
وعلى المستوى التجريدي والمنطق الشكلي Formal لا يختلف دوركايم في هذا الفهم عن ماركس الذي يشرح العلاقة بين البنية الأجتماعية والأختيار الفردي بالقول" ان الناس ( اي الأفراد) يصنعون تاريخهم الخاص ، لكنهم لا يصنعونه كما يرغبون، ... ، بل في ظل ظروف وجدوها امامهم معطاة جاءت من الماضي" (4, P3) . اي ان تاريخ النشاط الأجتماعي للناس بمجموعهم يصنع بنية تؤثر في حاضر المجتمع وترسم حدودا لما يمكن ان يفعله الأفراد في حياتهم الخاصة.
اما بارسونز تالكوت فقد توسع على خطى دوركايم ورادكليف وعنده ان البنية الأجتماعية معيارية Normative وبتعبير آخر بنية ضوابط اخلاقية تقوم عليها انماط مؤسسية، لينسجم السلوك الأجتماعي مع تلك المعايير في وضع محدد. وبالتالي هي التي تعين ، على سبيل المثال، الأدوار المهنية المختلفة، بمعنى التخصص وتقسيم العمل في المجتمع، وكذلك تنظيم الحياة العائلية، وسواهما. وتلك المعايير، او القيم او القواعد المنظمة للسلوك تخلق المؤسسات الأجتماعية مثل الملكية والزواج ... وهكذا. وفي نفس الوقت ان منظومة المعايير، والقيم والضوابط ، والأدوار ، ثم المؤسسات كلها مكونات للبنية الأجتماعية بمستويات مختلفة من التعقيد. وكأن القيم والمعايير والتي تنتمي إلى البناء الفوقي في بنية ماركس تصبح هي الأساس في بنية بارسنز.
وطالما إرتبطت البنية بالطبقية او الشرائحية Stratification اي تقسيم المجتمع إلى اصناف بمستويات في التراتبية والتأثير بحسب معايير مختلفة للتصنيف(1). ولم تقتصر فقط على ملكية وسائل الأنتاج بل المميزات الأجتماعية والأثنية، والتعليم والمهنة، والريف والمدينة، والخصائص الديموغرافية والشباب وغيرهم والنساء والرجال، إضافة على مستويات الدخل والأنفاق وسواها .
ومع الأهتمام الواسع بتوزيع الثروة والقوة، واهمية التفاوت في الحراك السياسي، وجدنا المنظرين الأجتماعيين، ومنهم روبرت مرتون وآخرون فيما بعد وإلى يومنا، قد جعلوا للخصائص التوزيعية مكانا مهما في مفهوم البنية لدراسة اللاتكافؤ في فرص الرفاه والفوذ. وقد تزامن ذلك مع التقدم الكبير في التغطية الأحصائية للتفاوت في دخل وإنفاق الأسرة، والتصنيف التفصيلي للقوى العاملة، واوضاع السكان وحياتهم. واصبح ممكنا النظر في الأحوال الأجتماعية من زوايا مختلفة : الخصائص الديموغرافية ، وبيئة السكن ، والتعليم ، والدخل والثروة والملكية، وكيف تتوزع القوى العاملة على مختلف الأنشطة الأقتصادية وتغيرات هذا التوزيع عبر الزمن ومستويات التطور الأقتصادي ... وهكذا. والآن مكنت وفرة المعلومات إختبار الفاعلية التفسيرية للبنية الأجتماعية بتعاريف مختلفة. ومرة اخرى عندما لا تقترن مفردة البنية بالتعريف الواضح فلا معنى لأعتمادها متغيرا تفسيريا لهذه الظاهرة الأجتماعية او تلك، إذ في هذه الحالة كأننا نقول ان الظاهرة المدروسة تحكمها اسباب لا نعرفها.
وفي الفهم الماركسي ترتبط بنية القوة Power Structure بالبنية الطبقية. وان قيم الطبقة المسيطرة وتصوراتها الأيديولوجية عموما، والتي تعكس مصالحها، هي السائدة وتستمد منها المعايير الحاكمة. وعلى المستوى الواقعي Concrete ، وخصوصا في مجتمعات مثل العراق، نجد ان بنية القوة والأيديولوجيا السائدة كلاهما تختلفان عن تلك الثنائية المعروفة في اصل التنظير الماركسي. لأن العلاقة بين البروليتاريا ومالكي وسائل الأنتاج والنطاق الأقتصادي- الأجتماعي الذي تتموضع فيه، هذه العلاقة، لازال صغيرا في حجمه ومحدودا في تأثيره على الكل الكبير.
وفي دراسة العلاقة بين توزيع القوة والبنية الأحتماعية نفهم ان القيم الحاكمة والمعايير وقواعد التنظيم المستمدة منها قد لا تستند إلى توافق عام، وتتخذ جنوب افريقيا ايام الفصل العنصري مثالا على هذا التناقض. أي أن الفئة، الفئات، او الطبقة، الطبقات، الأقوى قد تفرض الضوابط، حسب مقتضيات مصالحها ما دامت تتمكن، ويرضخ الناس ويتعايشون مع القهر بصمت تكسره صرخات احتجاج، هنا وهناك في هذا الزمن اوذاك، لا تلبث ان تخمد ليستمر الوضع القائم.
والأتجاه آنف الذكر فسح المجال لتسليط المزيد من الضوء على التفاعل بين الأبعاد التوزيعية والمعيارية والقوة في البنية الأجتماعية. ومن هذه الزاوية يفهم ان التفاوت والخلاف في القيم وقواعد الأخلاق المنظمة للسلوك السياسي في المجتمع الوطني الواحد قد بشتد إلى حد الحرب الأهلية كما جرى ويجري في العراق. اي ان السلم الأهلي يقترن بوحدة البنية الأجتماعية المرجعية الكبرى، بدلالة العنصر الأكثر فاعلية في التحريك والضبط. وعند الأنتقال من الوحدة إلى التعددية المتضادة، في ذلك العنصرالحاسم، تكون البنية قد اصابها الأنحلال، وعندما يجتمع هذه الأنحلال مع عوامل اخرى ومنها غياب القوة الكافية لأرغام الجميع على الأذعان تنشب الحرب.
وتختلف مقاربة البنيوية عن البنية الأجتماعية لأن الأولى والتي تسمى البنوية الفرنسية هي عقلية داخلية في اساسها إستعارها ليفي شتراوس من الألسنية التي طورها السويسري فرديناند دي سوسر. وعند سوسر اللغة مبتناة Structured بمعنى ان عناصرها مترابطة بإنتظام ومحكومة بقواعد ضابطة لكلام المتمكن من اللغة بالسليقة دون ان يكون منتبها واعيا لما يفعل. وهكذا يفهم ليفي شتراوس البنية بأنها الخصائص الأساسية للعقل البشري. ومثلما ان الكلام كثير ولا حد لتنوعه لكنه يبقى خاضعا للقواعد الحاكمة للعلاقات الممكنة بين المفردات، او البنية اللغوية، لتشكيل مختلف صيغ التعبير، كذلك بنية شتراوس العقلية الباطنية من الممكن Potentially لها توليد ما لا حد له من الأشكال الأجتماعية و الثقافية. و تحاول البنوية ، بهذا المعنى، إكتشاف البنية المشتركة التي عبرت عنها صيغ مختلفة من الحياة الأجتماعية والثقافية.
وتسمى البنى اللغوية والعقلية "البنى العميقية " او التحتانية لأنها ليست قابلة للمشاهدة مباشرة بل يكشف عنها بتحليل النصوص والأساطير وبعد ذلك توظف لفهم المؤسسات. وهذه المنهجيات التي تنتمي إلى البنيوية تشتغل في ميادين الألسنية Linguistics والأنثروبولوجليا، وغالبا ما تستهوي المثقفين ونقاد الأدب والفن كونها تهتم بالأفصاح عن المعنى Interpretive والتحليل الذاتي والنوعي والظاهراتي Phenomenological . بينما يغلب اسلوب البحث الكمي الأمبريقي في الاوساط التي تتبنى مفهوم البنية الأجتماعية بتعريافاته المختلفة.
وتقترب تدريجيا ابحاث البنية من الأغراض العملية للتنمية الأجتماعية والحضرية والخدمات. ولذلك تهتم بالمكونات السكانية، والأنتشار المكاني للمستوطنات البشرية وتوزيعها الحجمي وإستخدامات الأرض، والمكونات المهنية والتعليمية للقوى العاملة، والفقر وبيئة الفقراء، ومختلف الحقائق النمطية في الأقتصاد الاجتماعي وابعادها التوزيعية، وايضا دراسة التنظيمات المجتمعية.
وتطورت منهجيات البحث التي تتخذ من مفهوم البنية الأجتماعية منطلقا ما ادى إلى ظهور الأجتماع الكلي Macrosociology في مماثلة للأقتصاد الكلي، ومنه الأجتماع الكلي العالمي الذي يتناول الأيكولوجيا على مستوى العالم. وجرت في سياق هذه المبتكرات محاولات جريئة لتفسير مسارات التغير في المجتمعات الوطنية والعالم والتفاعل فيما بينهما، وللتكنولوجيا والبيئة والسكان حضور مهم في هذه الدراسات إلى جانب المجملات الأقتصادية، متوسط الناتج المحلي الأجمالي ونموه وسوى ذلك، والأبعاد التوزيعية والثقافة وألانظمة السياسية وتحولاتها.
ولقد توسعت العلوم الأجتماعية في استعارة المنطق الفرضي الأستنتاجي الذي باشره علم الأقتصاد من وقت مبكر. والذي يقوم على صياغة نموذج نظري للسلوك ويستخدم البيانات والتحليل الأحصائي للقياس والأختبار والأستنتاج او ما سمي فيما بعد الأجتماع القياسي . وفي هذه المرحلة يقترب مفهوم البنية من الدالة -function- وهي معادلة تعبر عن نمط مستقر من العلاقة فيما بين متغيرات ( عوامل او خصائص إجتماعية) يفترض انها تفسر ظاهرة إجتماعية تسمى المتغير التابع او الداخلي.
وبين الفهم الأصلي للبنية في سياقها النظري وما آلت إليه في البحث التجريبي المتأخر والجدل المستمر، بالمعنى التفاعلي الأيجابي، ما بينهما تزدهر المعرفة الأجتماعية عموما، ويتناول علم الأجتماع موضوعاته التقليدية بادوات جديدة، ويلج ميادين اخرى مشتركة مع الأقتصاد والسياسة والتطور الأقتصادي والتقني والتنظيمي في المجتمع الحديث.
ويبقى التساؤل حول إمكانية العلم الأجتماعي مشروعا لأن حرية الانسان حقيقة، والمجتمع الذي تناولناه بمفهوم البنية لا يماثل في علاقته مع الأفراد إنتظام الذرات في الجسم المادي او خلايا الكائن الحي(3). ومن غير المؤكد استقلال وحياد الباحث إزاء موضوعه، ثم ان فرادة الكائن البشري وعدم تجانس المجتمعات عبر الزمان والمكان، واسباب اخرى، ابقت الفارق النوعي بين علوم الطبيعة وعلوم الأنسان والمجتمع. وربما كانت مثل هذه الحقائق من جملة المحرضات لظهور ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة.
وينصرف مفهوم ما بعد البنوية Post-Structuralism إلى التطورات الفكرية في الفلسفة الأوربية والنظرية النقدية، وما بعد البنوية تيار عريض متنوع في الأهتمامات وادوات التحليل التي عبرت عن مختلف ردود الأفعال تجاه البنيوية. والذين يصنفون ضمن هذا التيار لا يوافقون في الغالب على قبول التسمية ، ولا يدعون إكتشاف حقائق مطلقة اوكبيرة عن العالم، بل ان التسمية لا تستخدم على نطاق واسع في اوربا مثلما في الولايات المتحدة (5). ومن اهم المشتركات في التيار العريض لما بعد البنيوية هو التشكيك بإمكانية الكشف عن بنى رئيسية معبرة عن كلية المجتمع الشاملة.، ويرى البعض ان حركة الطلاب والعمال في فرنسا عام 1968، وخيبة الأمل في السياسات السوفيتية واحداث اخرى، وجدت تعبيرها في التوجه نحو فلسفات راديكالية بديلة عبرت عنها ما بعد البنيوية.
وكان النص الأدبي، وليس الأقتصاد والمجتمع والسياسة، هو ميدان الأنطلاق لما بعد البنيوية من جهة إستقلاله، اي النص، عن المؤلف وقصده الأصلي، وإن الأنا Self او الذات الفردية ليست فريدة Singular إنما متعددة الأوجه. وهكذا يبقى النص مفتوحا على العديد من المعاني الممكنة وليس له معنى بذاته. لأن المؤلف ازيح من المركز والنص ليس المصدر الوحيد للمعنى بل اصبح القارئ ومعايير الثقافة والنتاجات الأخرى كلها مصادر للمعنى. وهذه المقدمات تؤسس للقول بعدم وجود المعنى موضوعيا بإستقلال عن الذات ، اي ان معرفتنا بالعالم ذاتية . ويرى المتابعون ان لهذا المنحى بدايات في النقد الأدبي الأمريكي قبل ظهور تيار ما بعد البنوية . لكن اوربا هي التي اظهرته على المستوى الفكري ، وينسب إلى دريدا السبق في النقد النظري للبنوية ، من بين آخرين منهم بارثس ولاكان وفوكو.
وبذلك يمكن القول ان النقد الرئيسي للبنوية عند التيار الجديد ابستمولوجي في مضمونه الأساسي، بدعوى ان دراسة البنى، التي هي قوام المجتمع، مشروطة ثقافيا وتصبح لذلك عرضة للكثير من التحيز والفهم المشوه. و ما بعد البنيوية لا تختلف في منحاها عن ما اصبح يسمى ما بعد الحداثة التي تجرد النص والعمل الفني من المعنى بإستقلال عن المتلقي والتي لا تسلم بالمعايير الموضوعية. وهي وان لم تتبنى الرفض لقيم الحداثة مثل التصنيع والعقلانية والتحضر والتنوير لكنها لا تبدي إكتراثا بها. ويفهم من نتاجاتهم ان التيار الجديد باسم ما بعد البنوية او ما بعد الحداثة يعبر عن تمرد سلبي تجاه العالم يستثير المزيد من المراجعة في الأبستمولوجيا وخاصة السببية في المعرفة الأجتماعية ومناهج البحث. ولازال مفهوم البنية والبنى الأجتماعية فعالا خاصة بعد التطورات المهمة في فهم السببية التي تأسست على نظرية الأنبثاق Emergence .ومفادها ان الكل يختلف وجودا عن مجموع اجزائه، وللمناظرة الماء يختلف عن مجموع الهيدروجين والأوكسجين اللذان يتألف منهما، وتنبثق عن بنيته قوة سببية نازلة إلى اجزائه ، وهو موضوع بحث آخر.
لقد حدثت تطورات إقتصادية جذرية في الولايات المتحدة الأمريكية واوربا الغربية التي توصف بمجتمعات ما بعد الصناعة Post- Industrial . ومن ابرز تلك التحولات الأنحسار الأنتاجي اللافت للنظر . في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2012 يعمل 8.2 بالمائة فقط من القوى العاملة في الصناعة التحويلية وفي الزراعة 1.5 بالمائة من القوى العاملة ، وفي مجموع الأنشطة السلعية 14.1 بالمائة من مجموع القوى العاملة. وحوالي 80 بالمائة من مجموع العاملين بأجر في قطاعات الخدمات. في هذا الأقتصاد الخدمي المالي العقاري لا بد ان بنيته الانتاجية تنعكس فيما عداها، لكن الآثار لم تظهر جميعها لحد الآن. ولأيضاح التحول نذكر ان في العام 1840 كان 80 بالمائة من القوى العاملة يشتغلون في القطاعت السلعية ( الزراعة والصناعة بالمعنى الواسع) في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 1900 اصبحت تلك النسبة 66 بالمائة وفي عام 1950 إنخفضت إلى 46.5 بالمائة. ونلاحظ سرعة الأنتقال إلى المجتمع ما بعد الصناعة في السنوات الأخيرة مقارنة بالتحول التدريجي إلى المجتمع الصناعي والمكوث في تلك المرحلة حوالي ستة عقود. وفي بريطانيا ايضا تراجعت نسبة الناتج المحلي في الصناعة التحويلية إلى 11.4 بالمائة من مجموع الناتج المحلي لبريطانيا عام 2010 ، وفي عموم الدول عالية الدخل صارت حصة الزراعة والصناعة التحويلية 17 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي عام 2014 وهذه الظاهرة اصبحت تسمى الأنحسار الصناعي .(8) والباحث الأجتماعي لا بد ان يجد في تحولات البنية الأقتصادية ، هذه ، وما خلفها من تغيرات عميقة في التكنولوجيا، والأنتاجية وتنظيم الأنتاج، قوة سببية نحو المجتمع والثقافة والسياسة في الدول المتقدمة ذاتها والعالم ، والبلدان النامية عموما والعراق وبلدان المنطقة ليست بعيدة عنها.

(1) Encyclopedia Britannica, Social Structure.
(2) Introduction to Sociology/ social structure, Wiki Books.
(3) Meyer, Peter, An Essay in the Philosophy of Social Science, http://www.serendipity.li/jsmill/pss2.htm. Winter 1999.
(4) Elder-Vass, Dave, the Causal Power of Social Structures, Cambridge University Press, 2010.
5) Post – Structuralism, New World Encyclopedia.
(6) Mizrach, Steve, Talking pomo: An Analysis of the Postmodern Movement, www2.fiu.edu/~mizrachs/pomo.html.
(7) The Basis of Philosophy, http://www.philosophybasics.com/movements_deconstructionism.html
World Bank, World Development Indicators(8)



#أحمد_إبريهي_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول مفهوم البنية الأجتماعية
- النزاهة بين تنحي الأصيل وخيانة الوكيل ودوافع السلوك
- الموازنة العامة في العراق لعام 2016 وقيد العملة الأجنبية
- الفساد والبيروقراطية والمجتمع: مراجعة اولية وملاحظات
- التحديات السياسية والأجتماعية للتنمية وفرص الشباب: ورقة خلفي ...
- الكم والزمن في الوعي الأقتصادي: تتمة
- الكم والزمن في الوعي الاقتصادي : تتمة
- الكم والزمن في وعي المشكلات الأقتصادية
- ازمة الأقتصاد العراقي وفرص الأصلاح
- نحو مقاربة واقعية للمشكلة الأقتصادية


المزيد.....




- الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
- بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند ...
- لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
- قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب ...
- 3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
- إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب ...
- مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
- كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل ...
- تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
- السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد إبريهي علي - بنية المجتمع والبنوية وما بعدها