أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شكيب الخياري - تفسير آيات -عروبة القرآن-















المزيد.....


تفسير آيات -عروبة القرآن-


شكيب الخياري

الحوار المتمدن-العدد: 4984 - 2015 / 11 / 13 - 08:10
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يحفل القرآن بالعديد من الآيات التي اختلفت كتب التفاسير في الإحاطة بمعانيها، و ذلك راجع بشكل أساسي لتعدد معاني بعض الألفاظ و عدم وضوحها في سياق الآيات الواردة فيها، يحدث هذا في ظل ندرة التفاسير الصادرة عن الرسول من خلال الروايات الموصوفة من لدن علماء الحديث بالصحيحة، أي الروايات ذات المتن و السند الصحيحين ، و التي كانت ستغني عن كل ما تم تأليفه من كتب في تفسير القرآن، و لتم من خلالها وضع حد لكل الجدال الذي حصل و مازال مستمرا بهذا الشأن، و إلى جانب هذا تأثرت هذه التفاسير بذاتية المفسرين إلى أبعد الحدود، الذين تعرضوا بدورهم لتأثيرات محيطهم على مختلف المستويات و كذا بتفاسير من سبقوهم إلى ذلك، في ابتعاد تام عن إعمال منهاج استدلالي منطقي أو حتى كأضعف الإيمان الابتعاد عن الوقوع في تناقض مع نصوص أقوى على مستوى الحجية.
و يحدث أن تتفق تفسيرات عديدة تحت ذات التأثيرات، و من ضمن هذه الأخيرة تلك الصراعات السياسية و الطائفية التي واكبت جمع أحاديث الرسول و روايات الصحابة و كذا كتابة تفاسير للقرآن، و التي من ضمن ما نتج عنها اختلاق ما سمي لاحقا من طرف كتاب الأحاديث و الآثار بأحاديث المناقب أو الفضائل التي خصصوا لها أبوابا كثيرة، خاصة منها تلك التي تتطرق لفضائل العرب عن غيرهم من الشعوب ، و التي وصلت لحد نسبة أحاديث إلى الرسول في أفضلية قبيلة عربية على أخرى عربية، و كذلك وردت في هذا السياق أحاديث جمة في فضل اللغة العربية على غيرها من اللغات و خاصة الفارسية ، و هي النصوص التي تحكمت بشكل كبير في التفسيرات التي تطرقت لما سنسميه في الموضوع الذي سنستعرضه بآيات"عروبة القرآن"، و هي تلك الآيات التي يتم الاستناد عليها للقول بأن القرآن قد نزل باللغة العربية لأنها تتضمن لفظ "عربي".
و من ثم فإنه يبدو من الأهمية بمكان تقييم تلك التفاسير خاصة منها الرائجة و المشهورة سواء التي ترجع منها للمتقدمين أو للمتأخرين، خصوصا و أن آثارها لم تكن محمودة في العديد من الأمور المتعلقة بالدين و ما تزال كذلك باستمرار، و ذلك على ضوء القرآن و ما تضمنته كتب الأحاديث و الآثار من روايات تعتد من لدن أهل الحديث صحيحة إلى جانب ما يراه اللغويون بشأن ذلك.

آيات "عروبة القرآن"

يضم القرآن إحدى عشرة آية دالة على ما يسمى بـ"عروبة القرآن"، و قد جاء فيها التعبير عن ذلك بأربعة ألفاظ فقط و هي التالية: ﴿-;- قرآنا عربيا ﴾-;-، ﴿-;- لسانا عربيا ﴾-;-، ﴿-;- لسان عربي ﴾-;-، ﴿-;- حكما عربيا ﴾-;-، و هذه الآيات نوردها كما يلي :
1. ﴿-;- إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾-;- (يوسف:2)
2. ﴿-;- إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾-;- (الزخرف:3)
3. ﴿-;- كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾-;- (طه:113)
4. ﴿-;- قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾-;- (الزمر:28)
5. ﴿-;- وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾-;- (الشورى:7)
6. ﴿-;- كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾-;- (فصلت:3)
7. ﴿-;- وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَٰ-;-ئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾-;- (فصلت:44)
8. ﴿-;- وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾-;- (الأحقاف:12)
9. ﴿-;- وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾-;- (النحل:103)
10. ﴿-;- وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.نَزَلَ بِه الرُّوحُ الْأَمِينُ.عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ.بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾-;- (الشعراء:195.194.193.192)
11. ﴿-;- وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾-;- (الرعد:37)

" عروبة القرآن" من خلال التفاسير

برجوعنا لأمهات كتب تفاسير القرآن، فإننا نجدها تتوحد في تفسيرها للفظ "عربي" الوارد في الآيات سالفة الذكر، إلا في حالات نادرة سنوردها لاحقا، حيث تتفق على أنه جاء في النص القرآني باعتباره منسوبا لجنس العرب و يعود على اللغة، أي أن لغة القرآن هي اللغة العربية التي يتحدث بها جنس العرب، و التي تعيها كافة مكوناته القبلية، بل هناك من تجاوز ذلك ليعتبرها لغة للعالمين من دون أن يتم ذكر الأساس الذي تم الاستناد إليه لعرض تلك التفاسير، خاصة و أن للفظ "عربي" معاني عديدة في اللغة، مما كان يفرض على المفسرين استحضارها في استدلالهم قبل استبعادها من تفسير الآيات، و هو ما كان سيكون مقنعا مخاطبا للعقل بدل أن يتم إنزال تفاسير لآيات تتناقض و تفاسير أخرى لذات الآيات.
من ذلك ما أورده الإمام الشافعي بقوله:" فأقام - الله - عز وجل - حجته بأن كتابه عربي - في كل آية ذكرناها -، ثم أكَّد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه..." .
كما جاء في تفسير الزمخشري في الكشاف قوله:" ﴿-;-...حكما عربيا...﴾-;- حكمة عربية مترجمة بلسان العرب" .
و قال القرطبي في تفسيره:" ﴿-;- كذلك أنزلناه قرآنا عربيا ﴾-;- أي بلغة العرب" .
و في ذات السياق قال الطبري:"يقول تعالى ذكره: وكما أنزلنا عليك الكتاب يا محمد، فأنكره بعض الأحزاب، كذلك أيضا أنزلنا الحكم والدين حكما عربيا، وجعل ذلك عربيا، ووصفه به لأنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو عربي، فنسب الدين إليه إذ كان عليه أنزل" .
و قال ابن عطية :" عربيا أي جعلناه عربيا لعلكم تعقلون، إذ هو لسانكم" .
و لم تحد تفاسير المتأخرين المقدمة للفظ " عربي" في تلك الآيات عن تفاسير المتقدمين، من ذلك ما قاله أبوبكر الجزائري في تفسيره:" قرآنا عربيا: أي بلغه العرب العدنانيّون و القحطانيون سواء" ، مضيفا أن في ذلك " بيان الحكمة في نزول القرآن باللغة العربية وهي أن يعقله العرب ليبلغوه إلى غيرهم " .
و نفس الاتجاه ذهب إليه رشيد رضا في تفسير المنار بقوله:" وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه دعوة ربه كما أمر، فبدأ بأم القرى ثم بما حولها من جزيرة العرب وشعوب العجم، باللسان العربي الذي قضى الله أن يوحد به ألسنة جميع الأمم، فيجعلهم أمة واحدة بالعقائد والعبادات والآداب و الشرع واللغة ليكونوا بنعمته إخوانا(...)" .
و نجد نفس التفسير قد تبناه كل من عبد الصبور شاهين في كتابه "عربية القرآن" و عابد الجابري في كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم".
و بناء على ذلك، يطرح أمامنا سؤال رئيسي و مفصلي حول ماهية اللغة العربية المقصودة في تلك التفاسير، خاصة و أن هذه الأخيرة كما رأينا تتحدث عن لغة جامعة للعرب بأسرهم بل و كما سبق ذكره و كما سيأتي فإن بعضهم اعتبرها لغة جامعة لكافة الأمم عبر العالم، بالرغم من استحالة ذلك بالنظر لتعدد اللغات عبر العالم و اختلافها التام الذي يعيق نقل الرسالة القرآنية من لغة إلى أخرى بدون استحضار للترجمة، خاصة و أن ذلك يخالف صريح النص القرآني نفسه الذي يربط بين عملية التبليغ و اختيار اللغة لتحقيق ذلك في قوله تعالى: ﴿-;- و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ﴾-;- (إبراهيم :4)، و قوله تعالى: ﴿-;- فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ﴾-;-(مريم:97)، فكيف يمكن إذن تبليغ غير العرب باللغة العربية كما ذهبت إلى ذلك التفاسير المذكورة؟
و في سياق ذلك، فإن الارتباك و الغموض يبدو واضحا في فهم و استيعاب مضامين بعض الآيات القرآنية، من جراء استعمال لفظ "عربي" منسوبا إلى الجنس العربي، و من أبرزها قوله تعالى ﴿-;- وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾-;- (الشورى 7).
و في ذلك قال البغوي في تفسيره :" أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى، مكة يعني أهلها، ومن حولها، يعني قرى الأرض كلها " .
و قال القرطبي:" " لتنذر أم القرى " يعني مكة. قيل لمكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها." ومن حولها" من سائر الخلق" .

آيات" عروبة القرآن" من خلال كتب الأحاديث و الآثار

إن السعي وراء الإجابات المقنعة سرعان ما يصطدم بـ"حقيقتين" أخريين، و هذه المرة تم التعبير عنهما في نصوص أقل قوة على مستوى الحجية بالنسبة للقرآن، ألا و هي نصوص الحديث النبوي و روايات الصحابة ، ذات السند و المتن الصحيح، و اللتان خلقتا ارتباكا بدا واضحا في فهم تفسير آيات "عروبة القرآن" لدى الكثير من المفسرين و المتخصصين سواء منهم المتقدمين أو المتأخرين، و هو الارتباك الذي بدا جليا من جراء محاولاتهم التوفيق فيما بينها، و التي لم تكن أبدا موفقة في تقديم إجابات مقنعة، و ذلك اعتبارا لكونها لم تستند على أي نصي قطعي الثبوت و الدلالة أو أي استدلال منطقي يمكنه النفاذ للعقول.
أولهما أن القرآن "قد أنزل بلغة قريش"، فحسب ما ورد بكتب الأحاديث، فحينما أقدم عثمان على جمع القرآن في مصحف واحد، و هو الذي سمي لاحقا بالمصحف العثماني و المصحف الإمام، قام بتشكيل لجينة مشكلة من كل من زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، حيث أوكل إليها مهمة كتابة القرآن بالاستناد إلى ما سبق و أن كان مكتوبا في الصحف التي كانت في حوزة حفصة بنت عمر بن الخطاب، و قال عثمان لأعضائها: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا ذلك» .
و ثانيهما، أن القرآن كان يقرأ منذ نزوله و إلى غاية كتابة المصحف العثماني باختلاف على مستويات عدة تعني اللغة، و يشمل ذلك قراءته باختلاف في الألفاظ مع الاتفاق في المعنى، في ابتعاد تام عن اللسان القرشي الذي هو لسان قوم الرسول، و قد وردت في ذلك مجموعة كبيرة من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول و الصحابة، و الموصوفة بالصحيحة من لدن علماء الأحاديث، و قدمت بشأن ذلك العديد من الشروحات المستفيضة في كتب المتقدمين في إطار تطرقها لمفهوم "الأحرف السبعة".
و من ذلك ما جاء في موطأ الإمام مالك :"حدثنا أبو مصعب، قال: حدثنا مالك، أنه سأل ابن شهاب عن قول الله: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} ، قال ابن شهاب: كان عمر بن الخطاب يقرؤها: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله" .
و جاء في المستدرك للحاكم :"(...) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قرأ رجل عنده {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} [الدخان: 44] فقال أبو الدرداء: «قل طعام الأثيم» فقال الرجل: طعام اليثيم. فقال أبو الدرداء قل: «طعام الفاجر» هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" .
و في شأن ذلك قال الداني في جامعه:" إنما أنزل علينا توسعة من الله تعالى على عباده ورحمة لهم وتخفيفا عنهم عند سؤال النبي صلى الله عليه وسلم إياه لهم ومراجعته له فيه لعلمه صلى الله عليه وسلم بما هم عليه من اختلاف اللغات واستصعاب مفارقة كل فريق منهم الطبع والعادة في الكلام إلى غيره فخفف تعالى عنهم وسهل عليهم بأن أقرهم على مألوف طبعهم وعادتهم في كلامهم" .
و قال أبو شامة:"وقد قال بعض الشيوخ: الواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزل عليهم أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم، ولأن العربي إذا فارق لغته التي طبع عليها يدخل عليه الحمية من ذلك، فتأخذه العزة، فجعلهم يقرءونه على عاداتهم وطباعهم ولغاتهم منا منه عز وجل لئلا يكلفهم ما يشق عليهم، فيتباعدوا عن الإذعان، وكان الأصل على ما عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من الألفاظ والإعراب جميعا مع اتفاق المعنى، فمن أجل ذلك جاء في القرآن ألفاظ مخالفة ألفاظ المصحف المجمع عليه" .
كل ذلك يعني أن القرآن لم ينزل باللغة العربية كلغة تفهمها جميع قبائل العرب، وإلا لما كان الترخيص لهم بقراءته بحسب اختلافات لغاتهم و التي وصلت بهم إلى حد القراءة بالتغيير في الألفاظ مع شرط الاتفاق في المعنى كما سلف ذكره، الأمر الذي يجعل من التفسير الذي عرض في تفاسير القرآن سالفة الذكر محل أخذ و رد، و هو ما يجعله محل مراجعة على ضوء كل ما ذكرنا من قبل، و يفرض بالضرورة البحث عن كل الإجابات الممكنة ضمن معاني لفظ "عربي" كما قام بجردها اللغويون المختصون في اللغة العربية خاصة منهم المتقدمين الذين أفاضوا في الحديث عن ذلك.

" عروبة القرآن" من خلال اللغويين

على خلاف الكثير من مفسري آيات "عروبة القرآن" فإن المعاني التي يقدمها اللغويون الذين ألفوا في اللغة العربية من المتقدمين، ليس فقط للفظ "عربي" بشكل مجرد و لكن حتى لمعناه في سياق تلك الآيات، تبدو هذه المرة أكثر وضوحا و إقناعا و انسجاما مع آيات القرآن نفسه قبل أن تكون كذلك بالنسبة لباقي المصادر "الدينية" الأخرى المعتمدة من لدن أهل العلم، ويجعلنا ذلك نعرض تفسيرا آخرا لذلك اللفظ لا نكاد نسمع عنه لدى المختصين في الشؤون الدينية من علماء عصرنا الحالي.
و عن معنى لفظ "عربي" غير المنسوب إلى الجنس العربي، قال ابن فارس في مقاييس اللغة: " أحدها الإبانة والإفصاح، والآخر: النشاط وطيب النفس، والثالث فساد في جسم أو عضو. فالأول قولهم: أعرب الرجل عن نفسه إذا بين و أوضح" .
و في ذات السياق، قال أبو جعفر النحاس في إعراب القرآن:" معنى أعرب بيّن، ومنه «الثّيّب تعرب عن نفسها»" .
و قال الأزهري في تهذيب اللغة :" يقال: رجل عربيّ اللسان إِذا كان فصيحا" .
فعلى اعتبار أن المعنى الثالث لدى ابن فارس لا تليق نسبته للقرآن بأي وجه كان، فكذلك هو الشأن بخصوص المعنى الأول الذي يبدو جليا أن لا مجال لاستعماله لعدم تحقيقه لأي معنى في الآيات، إلا أنه و في مقابل ذلك، فإن المعنى الأول أي الإبانة و الإفصاح هو الذي يمكن أن يأتي كمرادف للفظ "عربي" في آيات "عروبة القرآن" من دون أن يشكل ذلك أي تناقض لا مع آيات أخريات من القرآن و لا مع نصوص الأحاديث الموصوفة بصحيحة المتن و السند.
و فيما يتعلق بتفسير آيات "عروبة القرآن" قال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن"العربي: المفصح، والإعراب: البيان. يقال: أعرب عن نفسه. وفي الحديث: «الثيب تعرب عن نفسها»، أي: تبين. وإعراب الكلام: إيضاح فصاحته(...) والعربي: الفصيح البين من الكلام، قال تعالى:قرآنا عربيا (يوسف/ 2) ، وقوله: بلسان عربي مبين (الشعراء/ 195) ، فصلت آياته قرآنا عربيا (فصلت/ 3) ، حكما عربيا (الرعد/ 37) ، وما بالدار عريب، أي: أحد يعرب عن نفسه (...) وقوله: حكما عربيا (الرعد/ 37)، قيل: معناه: مفصحا يحق الحق ويبطل الباطل(...)" .
و قال الزبيدي في تاج العروس:"قوله تعالى: إنا جعلناه قرآنا عربيا أي بيناه" .
و نجد أثرا لهذا المعنى أثرا في تفسير ابن كثير لآيتين، حيث قال بشأن قوله تعالى : ﴿-;- وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ﴾-;- (الرعد:37) ما يلي:" وقوله: ﴿-;-وكذلك أنزلناه حكما عربيا﴾-;- أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب من السماء، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا شرفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي" .
و في قوله تعالى ﴿-;- وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ﴾-;- ( الأحقاف:12)، قال ابن كثير:"{لسانا عربيا} أي فصيحا بينا واضحا" .

على سبيل الختم

يبدو الآن واضحا حجم الاختلاف و الهوة الفاصلة ما بين ما جاء به اللغويون في مجال اللغة العربية و بين ما قدمه لنا مفسرو القرآن بشأن لفظ "عربي" الوارد في القرآن، و يظهر لنا الآن من خلال كل ذلك كيف أن المعنى الذي اعتمده اللغويون قد أدى المعنى المنوط باللفظ في سياق كافة الآيات الإحدى عشرة، فابتعد بنا عن التأويلات المتأثرة بالأحاديث الموضوعة و التي كان لها دور رئيسي في توجيه المفسرين نحو عرض تفاسير تسير في ذات السياق الذي أراده وضاع الأحاديث، و الذي يمتاز بكونه مؤسسا على تمجيد فئة من الناس و هم العرب مقارنة بغير العرب .

الهوامش

1. روى الطبراني في المعجم الأوسط:" حب قريش إيمان، وبغضهم كفر، وحب العرب إيمان، وبغضهم كفر، ومن أحب العرب فقد أحبني، ومن أبغض العرب فقد أبغضني "(ج3،ص76). قال الألباني: ضعيف جدا( سلسلة الأحاديث الضعيفة و الموضوعة، ج3،ص 339).
2. روى الحاكم في مستدركه :" من تكلم بالفارسية زادت في خبثه ونقصت من مروءته "(ج4،ص98). قال الألباني: موضوع ( سلسلة الأحاديث الضعيفة و الموضوعة، ج13،ص 412).
3. تفسير الشافعي، ج 2، ص1015.
4. تفسير الزمخشري، ج 2، ص 533.
5. تفسير القرطبي، ج 11، ص 250.
6. تفسير الطبري،ج13، ص 577.
7. تفسير ابن عطية، ج 3، ص 218.
8. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، ج 2، ص 591.
9. نفسه، ص 591.
10. تفسير القرآن الحكيم، ج 9، ص 269.
11. تفسير البغوي،ج 4، ص 138.
12. تفسير القرطبي، ج 16، ص 6.
13. صحيح البخاري، حديث رقم 3506، ج 4، ص 180.
14. موطأ الإمام مالك، ج1 ص 174.
15. المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص489.
16. جامع البيان في القراءات السبع، ج1،ص107.
17. المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، ج1،ص95.
18. مقاييس اللغة، ج 4، ص299.
19. إعراب القرآن، أبو جعفر النحاس، ج 2،ص 189.
20. تهذيب اللغة، ج 2،ص 218.
21. المفردات في غريب القرآن، ج 1، ص577.
22. تاج العروس من جواهر القاموس، ج 28، ص 207.
23. تفسير ابن كثير، ج4، ص402.
24. تفسير ابن كثير، ج 7،ص257.
25. تقديس العرب والعربية من خلال النصوص الدينية، شكيب الخياري، جريدة ثويزا، العدد 93 بتاريخ يناير 2005


المصادر و المراجع:

1. إعراب القرآن، أبو جعفر النحاس، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعةالأولى 1421 هـ.
2. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، أبو بكر الجزائري، مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة المملكة العربية السعودية، الطبعة الخامسة 1424هـ/2003م.
3. تاج العروس من جواهر القاموس،مرتضى الزبيدي، دار الهداية.
4. تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، بن عطية الأندلسي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى 1422 هـ.
5. تفسير تفسير القرآن العظيم،ابن كثير، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة الأولى - 1419 هـ
6. معالم التنزيل في تفسير القرآن،بن مسعود البغوي، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1417 هـ - 1997 م.
7. تفسير الجلالين تفسير الجلالين،جلال الدين المحلي و جلال الدين السيوطي، دار الحديث – القاهرة، الطبعة الأولى.
8. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم الزمخشري، دار الكتاب العربي-بيروت، الطبعة الثالثة 1407 هـ.
9. تفسير الإمام الشافعي، الإمام الشافعي، دار التدمرية - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1427 - 2006 م.
10. جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جريرالطبري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1420 هـ - 2000 م.
11. تفسير القرآن الحكيم، محمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1990 م.
12. الجامع لأحكام القرآن، شمس الدين القرطبي، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ - 1964 م.
13. تهذيب اللغة، أبو منثور الأزهري، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الأولى 2001م.
14. جامع البيان في القراءات السبع، أبو عمرو، جامعة الشارقة – الإمارات، الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 .
15. الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، محمد بن اسماعيل البخاري، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى 1422 هـ.
16. المحرر الوجيز المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، بن عطية الأندلسي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى - 1422 هـ.
17. المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، شهاب الدين أبو شامة، دار صادر – بيروت ، 1395 هـ - 1975 م.
18. المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى 1411 هـ – 1990م
19. المعجم الأوسط، أبو القاسم الطبراني، دار الحرمين – القاهرة.
20. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ.
21. مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، دار الفكر، طبعة 1399هـ - 1979م.
22. موطأ الإمام مالك، مالك بن أنس، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، طبعة 1406 هـ - 1985 م.



#شكيب_الخياري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقرير يتهم الدولة المغربية بالإخفاق في تدبير ملف زلزال الحسي ...
- إلى مناضلات و مناضلي الريف: بخصوص الحكم الذاتي بالريف/المغرب
- فشل ندوة الذاكرة المشتركة المغربية الإسبانية، بالحسيمة/ المغ ...
- الوزير الأول المغربي يمنع صدور مجلة نيشان
- بالمغرب: جمعية الريف لحقوق الإنسان تراسل الملك حول تورط مسؤو ...
- عمر الخطابي...حمام الضمير
- تقديس العرب و العربية من خلال النصوص الدينية
- وضعية النزيل سلام المحمودي
- تقرير جمعية الريف لحقوق الإنسان حول وضعية المهاجرين الأفارقة ...
- أكاذيب تكشفها حقائق: دور محمد سلام أمزيان في أحداث 1958-1959 ...
- لماذا تأسيس لجنة بتحريض من الوالي؟
- انتفاضة يناير 1984 بالناظور..الأسباب و النتائج


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شكيب الخياري - تفسير آيات -عروبة القرآن-