أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود احمد شاهين - غوابات شيطانية















المزيد.....



غوابات شيطانية


محمود احمد شاهين

الحوار المتمدن-العدد: 1363 - 2005 / 10 / 30 - 12:18
المحور: الادب والفن
    


غوايات شيطانية
" سهرة مع إبليس "
ملحمة روائية - شعرّية - غنائيّة

تنويه
الأحداث السماوية في هذه الملحمة تدور خلال بضع ثوان من زمن
السماء الذي يعادل اليوم الواحد منه ألف عام من زمن الأرض.
***

ترجمت هذه الملحمة إلى اللغة الألمانية وصدرت عن دار "زنّوبيا"
في ألمانيا أواخر عام 1999 قبل أن تصدر باللغة العربيّة.

إهداء
إلى روح سيد شهداء الصّوفيّة:
الشيخ "الحسين بن منصور الحلاج"
وإلى أرواح المتصوفة وشهداء المعرفة والمحبّة أجمعين.
وإلى روح النبي وجمال روح النبي
وإلى روح إلهي الحبيب، وكمال روح إلهي، الذي لولاه لما كنتُ،
ولما كانت هذه الصور، ولما كان الكلام الجميل، ولما كان هذا الكلام.
محمود شاهين
30/3/1995


فاتحة:
جئت بما لن تعبّر عنه الألوان
ولن يعبّر عنه هذا الحالــم!!
ولن يعبّر عنه الشــــيطان
ولن يعبّر عنه النثَّـــــر
ولن يعبّر عنه الشِّعــــر
ولن تعبّر عنه الأغانــــي
ولن تعبّر عنه بحورُ الكـــلام
ولن تعبّر عنه الألحـــــان
جئت بما لن يعبّر عنــــه إلا
الله
جل جلاله الســــامـــي
ومع ذلـــــك حاولـــت
مستعيناً بــــه
فهو وحده الـــقـــادر
المعين الملهـــم
المرشـــد
المتســـامي.
م.ش



[1] الشيطان يصحب الأديب إلى مملكته السماوية
حين أخذ العد التنازلي نحو الساعة الأخيرة من عام 1994 يتناقص بوتيرة قاتلة دون أن أتلقى دعوة من أي كائن لحضور حفلة ما لرأس السنة، أدركت أنني سأسهر الليلة وحدي، فما أملكه من نقود، لا يكفي لشيء حتى لمتطلبات انتحار يليق بأديب مثلي! ومع ذلك لم أقطع الأمل تماماً، إذ ثمة مئات (الأصدقاء) المدينين لي بالنقود والموائد والحفلات، ولا بد أن يتصل أحدهم إذا ما تذكرني! وعبثاً رحت أنتظر هذا الهاتف اللعين أن يرن ولو لقطع الصمت..
حين تجاوزت السّاعة العاشرة بقليل، يئست تماماً وقررت أن أنسى رأس السنة. ونظراً لأنني لم أكن قادراً على الكتابة فقد أخذت من المكتبة كتاباً عن الجن واستلقيت في السرير وشرعت في القراءة.
لم أقرأ كثيراً حين تنبهت لشخص يشبهني تماماً يقف إلى جانب السرير وينظر إلي! أبعدت الكتاب من أمام وجهي ونظرت إليه بريبة. لم أعرف فيما إذا كنت أتخيل أم أحلم. وحين أدركت أنه يستحيل أن يتجسد مثيلي في الخيال أو في الحلم بهذه الصورة، رحت أفكر في أشياء أخرى مرضية، كأن يكون الشخص الواقف أمامي تجسيداً لأحد أشكال انفصام ما في شخصيّتي!! مع أنني لم أسمع عن شخص مصاب بانفصام ثنائي أو ثلاثي أو حتى خماسي يرى نفسه مجسداً في أشخاصٍ يشبهونه. قد يكونون في خياله ويتطبع بسلوكهم وأفكارهم. أما أن يراهم واقفين أمامه أو سائرين معه، فهذا ما لم أسمع به.
ما يدهشني أن هذا الرجل لم يتكلم حتى الآن وظل واقفاً كالصنم وهو يرسل نحوي نظرات ساكنة تماماً، غير أنهّا هادئة ومطمئنة ولا توحي إلا بالود. وكان طيف ابتسامة يرتسم على شفتيه وهذا ما شجعني لأن أهتف بهدوء:
- من أنت؟
ازدادت ابتسامته اتساعاً وهو يهتف بلطف!
- مساء الخير.
- مساء الخير.
- أنا إبليس أو الشيطان إن شئت!
نهضت لأجلس في السرير وأنا أحدق إليه بدهشة.
- أعتذر لأنني دخلت بيتك ووقفت أمامك دون استئذان
- لا عليك لكن لماذا تقمصت شكلي؟
- كي لا أخيفك.
- أشكرك! تفضل لنجلس في الصالون وأضيفك شيئاً مما هو متيسر!
- لا أشكرك! ستتفضل أنت معي. فقد قدمت لأدعوك لحفلة رأس السنة في قصري السماوي!
لم أصدق ما يجري، فهل يُعقل ألا أجد أحداً في دمشق كلها يدعوني إلى حفلة رأس السنة كي يأتي الشيطان ويدعوني إلى قصرٍ في السماء؟!.
ونظراً لأنني كنت متخوّفاً من غوايته كأن يجعلني أشرك بالله أو أكفر به وأغدو ملحداً، فقد قاومت ضعفي وهتفت بحماقة متناسياً مقدرة الشيطان على معرفة أحوال الناس:
- أشكرك، أفضل أن أبقى هذه الليلة وحدي!
ابتسم بلطف وهو يهزّ رأسه أعلى و أسفل:
- أعرف وضعك وأعرف ما تفكر فيه. أقسم لك أنني لن أقوم بغوايتك ولن أطلب منك أي شيء؟!.
- بمن تقسم لي؟
- بالله؟
-غريب أنت تقسم بالله؟
بمن سأقسم إذن؟
- لكن الله غاضب منك لأنك لم تسجد لآدم مع الملائكة!
- هو غاضب منّي أجل، أما أنا فلم أعد غاضباً منه، ولم أعد أُفسِد في الأرض، ولا أطمح إلاّ في رضاه وعفوه وصفحه!
- منذ متى توقفت عن الفساد؟
- منذ زمن طويل جداً!
- لماذا توقفت؟
- لأنّ الإنسان أفسدَ نفسهُ بنفسه. ولو أعرف أنّك ستصدِّقني، لقلتُ إنني لم أغضب من الله يوماً، ولم أُحاول أن أفسد أحداً، وبقيت مخلصاً لربيّ وخالقي وسأظل مخلصاً!
يا إلهي! وكيف سأصّدقك؟
- آمل أن ترافقني لبعض الوقت لعلك تصدقني!
وأطرقت للحظةٍ أُفكرّ "ربما - إذا كان صادقاً - ليس له غاية غير ذلك. لكن ما الذي سيتغيرّ إذا اقتنعت أنّه صادق فعلاً؟ فمشكلته لن يحلّها إلاّ الله، وأشكّ في أن يغيّر البشر نظرتهم إليه ما لم ينزل عليهم أمر إلهي يؤكدّ توبته أو براءته. أكيد ثمة غاية أخرى يهدف إليها ثمّ لماذا لم يختر مؤمناً اكثر منّي، كأن يختار شيخ الأزهر مثلاً، لماذا اختارني أنا بالذات"؟! وحين أدركت انه يعرف كل ما يدور في خلدي توقفت عن التفكير وهتفت:
- أنا موافق!
ابتسم بفرح شديد وراح يشكرني، ثم استأذنني ليعود إلى شكله الذي يفضل الظهور فيه دائماً، حتّى لا أظل أبدو وكأنني أحادث نفسي إذا ما ظلّ متقمصاً شكلي. واختفى للحظة ليظهر شاباً بزيّ ملائكيّ ابيض، أضفى عليه مهابة خلاّبة ووقاراً كبيراً، وقد توشّح بوشاح أخضر، كتب عليه بخط ذهبي جميل "لا إله إلا الله" كما تعصب من تحت الكوفيّة البيضاء التي كان يضعها على رأسه، بعصبة خضراء أيضاً، لم يبد منها إلا ما هو فوق جبينه وقد كتب عليها بخط ماسيّ متلألئ اسم الجلالة وحده "الله" وتزيّا بعباءة بيضاء منقطة بنقاط ذهبية، زيّنت أذيالها وحوافها وطوقها بشريط حريري أخضر أيضاً. وقد كتب على جانبيّ الطّوق بالخط الذّهبي اسم الجلالة إضافة إلى أسماء: إسرافيل. إبليس. ميكائيل. عزرائيل. جبريل. على التّوالي. تنبّهت إلى أن اسمه يرد بعد اسم إسرافيل، الذي كما هو معروف في الإسلام أمين اللّوح المحفوظ، و نافخ الأرواح في الأجساد، ومن سينفخ في الصور يوم القيامة، وهو كبير الملائكة.
وتنبّهت كذلك إلى أنّ اسم النّبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم) لم يرد بين هذه الأسماء، وكذلك أسماء الأنبياء الآخرين، إلا إذا كانت ترد ضمن الخط الكوفي الذي كانَ يزيّن أذيال العباءة. ويبدو أنّه عرف في ماذا أفكّر، فقد قال:
- الأنبياء جاؤوا لبني آدم ولم يأتوا للملائكة، وهذا الكون مليء بالكواكب التي تعجُّ بالبشر الذين أُنزل عليهم ملايين الرُّسل والأنبياء، ولا يُعقل أن أطرّز عباءتي بأسمائهم، فهم أكثر من أن تتّسع لأسمائهم آلاف العباءات! وليس من اللائق أن أفضل نبياً على آخر!
لم أُعلّق ولو بكلمة على ما سمعت، غير أنني تساءلت:
- ألا تقول لي لماذا اخترتني أنا من بين المؤمنين لتدعوه إلى حفلة رأس السّنة مع أنّ إيماني متواضع كما تعلم؟!
فقال دون تردد:
- لأنّك أحد القلائل الذين يعرفون كم من إيمان عظيم ظاهره كفر، وكم من كُفر فظيع ظاهره إيمان‍!
ونظراً لأنني أدرِك أو أعتقد أنني أحد هؤلاء الكافرين في الظاهِر، المؤمنين في الباطن فقد تساءَلت على الفور:
- لكن ألا تقول لي كيف تقدر أن تعرف ما يدور في باطن إنسان مثلي؟
أدرك على الفور أنني تساءلت دون تفكير، وربّما بسذاجة مقصودة، فلم يجبني، وتابع ما يعرفه عنّي:
- ونظراً لأنّك أحد القلائل الذين يدركون ما معنى أن لا يجرّدني الله من قدراتي الخارقة رغم غضبه عليّ بعد رفضي السّجود لآدم، فقد جئت إليك!
نبّهني قوله إلى ما أدركته بوعيي مُنذ زمن طويل، ولا أعرف كيف أنساه حين الحاجة إليه.
سألته:
كم يبعد قصرك السَّماوي من هنا؟
أجاب ببساطة وكأننا سنسهر في بيروت:
- حوالي مائة مليون سنة ضوئيّة!
أطبقت بيديّ على رأسي وعدت لأجلس على السَّرير بعد أن نهضت.
هتف متسائلاً:
- ماذا جرى لك؟
- هل يُعقل لأي كائن مادي حتّى لو أُتيح له أن ينطلق بسرعة خياليّة تفوق آلاف آلاف أضعاف سرعة الضّوء، أن يقطع هذه المسافة في أقل من ساعة ونصف ليحتفل بقدوم السّنة الجديدة في قصرك السَّماوي؟!
ابتسم بسخرية أوحى لي خلالها أنّه اكتشف أنّ عقلي ما يزال قاصراً عن التّوغّل في المطلق واللانهائي، أو أنّه لم يقتنع بإمكانيّة هذا (الإيغال) وتوقّف عند حدٍ معيّن.
قال:
- ومن قال لك أنّك ستقطع هذه المسافة ككائن مادّي، بل من قال أنّك ستقطعها كمسافة داخل حدود الزّمان والمكان؟!!
- يا إلهي! ماذا تقصد بقولك هذا؟
- أقصُد أننا سنختفي خلال جزء من ستّين جُزء من الثانية ونظهر هُناك في اللحظة ذاتها!!
- نظهر هناك في قصرك على بُعد مائة مليون سنة ضوئيّة؟!
- في قصري، أو في مملكتي السَّماويّة!
- وخلال جزء من ستّين جزء من الثانية؟
- أجل!
- ما هذه القدرة الخارقة؟
- إنّها قدرة الله.
- وخلال لحظة اختفائنا هذه، هل نظل كائنين ماديين أم نصبح كائنين روحيين أم نصبح عدماً؟!
- هذا ما لا يعرفه إلا الله، و لا يعرف كيف يحدث إلاّ الله أيضاً!
- وأين نكون خلال لحظة الاختفاء؟
- نكون خارج حدود الزّمان وخارج حدود المكان!
- هل نكون في العدم؟
- ممكن!
لم أفكر في حياتي أن يحمل الشيطان هذا الفهم الموغِل في التصوّف للقدرة الإلهيّة، وكم حاولت في الماضي أن أقنع نفسي بما وصل إليه الفكر الصّوفي عند ابن عربي و الغزالي والشيخ عبد الكريم الجيلي دون جدوى، فقد كانَ من الصّعب عليّ أن أوحد بين الوجود والعَدَم وبين المادة والروح كما هما عند الجيلي وابن عربي، وظلَّ عقلي واقفاً أمام العدم الذي استحال وجوده عليّ، وبالتالي أنكرت ككل الماديين أن يكون الوجود قد جاء من العَدَم، وها أنا أواجه الحقيقة التي لا يمكن إنكارها.
سألت الشيطان:
- بما أنّك عشت لحظات الاختفاء هذه كثيراً، وهي جزء من حياتك اليوميّة، فهل يُمكنك أن تحس بوجودك خلال لحظة الاختفاء، بحيث يمكنك أن تعبّر عنه فيما بعد بالكلام؟!
- للأسف لا، فأنا لا أعرف ما أصير عليه خلال هذه اللحظة ولا أعرف كيف أصيرُ إليه ولا أحسُّ بما أصير عليه، ولهذا لا يمكنني أن أعبّر عمّا أصير إليه بالكلام أو أدركه بالحواس أو بالعقل!
- وهل يُمكن للملائكة والبشر أن يتوصّلوا إلى معرفة ذلك ذات يوم ويحلّوا رموزه؟!
- نعم حين يقترب البشر أكثر من الله، فقد يتوصّلون إلى معرفة الكثير من المعجزات.
- معرفة الله نفسه، بكُليّته، متى يمكن أن يتوصّلوا إليها؟
- حين يعرفون أنفسهم تمام المعرفة!
- ومتى سيعرفون أنفسهم…؟
- ذلك علمه عند الله.
- هل تعرف أنتَ نفسك؟
- لا!
- والملائكة؟
- والملائكة كذلك.
- ومن يعرف نفسه إذن؟
- الله وحده هو الذي يعرف نفسه بنفسه تمام المعرفة!!
- ماذا سنقول إذن عن المعرفة التي توصَّل إليها البشر عن أنفسهم وعن الله حتّى الآن؟!
- ليست أكثر مِنْ ذرّة صغيرة مِن التجلّي الظاهري للإله!
ويبدو أننا نسينا رأس السّنة، فقد راحت مئات الأسئلة تزدحم في مخيّلتي، ورغم أنّه ذكّرني بذلك مؤكّداً لي أننا سنتحدّث كثيراً في الأيام القادمة، إلا أنني طلبت إليه أن يجيبني على بعض الأسئلة قبل أن نختفي ونظهر.
قلت:
وماذا عن الاختفاء الذي تحسّون به وترون النّاس من خلاله دون أن يروكم أو تتسرّبون إلى دمائهم كما نسمع، دون أن يحسّوا بكم؟
- ثمّة مئات الأشكال للاختفاء المادّي والتشكّل في كائنات أُخرى، وهذه لا نفقد حواسنا وإدراكنا خلالها، وسأحدّثك عن ذلك فيما بعد.
- أرجوك، أريد أن تتحوّل للحظة إلى جُزيء الكتروني!
اختفى من أمامي على الفور. تساءَلت:
- أين أنت أيها الملِك؟
فأجابني:
- أنا على غلاف الكتاب الذي إلى جانبك!
أخذت الكتاب وحدّقت إلى الغلاف فلم أرَ شيئاً، وتناولت عدسة مكبّرة ونظرت عبرها فلم أرَ شيئاً أيضاً. عاد إلى شكله وهو يضحك لمحاولتي رؤية جزيء إلكتروني بعدسة كهذه، فيما كانت مئات الأسئلة تصطرع في مخيّلتي.
قلت:
- هل البشر والجن والملائكة كائنات ماديّة أم روحيّة حسب فهمك؟
- الملائكة والجن كائنات من نور ونار وروح، والبشر كائنات من أديم وروح، والله سبحانه وتعالى قادر على أن يُحيل الرّوح إلى مادّة والمادّة إلى روح حين يشاء. أطرقت إليه للحظة وسألت:
- لو طلبت إليك أن تعبّر عن مفهومك لله بمنطق الكلام، بكلمات مختصرة، فماذا تقول؟
شرع على الفور في ترديد نشيد حفظه عن ظهر قلب كما يبدو:
الله الكلام!
والّلا كلام!
وما يُعبّر عنه الكلام!
ومالا يُعبّر عنه الكلام!
وما لن يُعبّر عنه الكلام
بل وما يستحيل على الكلام
أن يرقى إلى التعبير عنه!
وما يستحيل على الكلام
أن يتضح دونه!
ولن يتضح دونه!
***
وسع كرسيُّه السماوات والأرض
ولم تتسع لوجوده السماوات والكواكب!
ووسعه قلب عبده المؤمن
ولم تتسع له ملايين القلوب!
***
لا تستطيع أن تعرفه
ولا تستطيع أن لا تعرفه!
فهو الحواسُّ والعقول
والّلا حواسَّ والّلا عقولّ
وما هو فوق الحواس والعقول!
وهو ما تدركه الحواسُّ والعقول!
وما لن تدركه الحواسُ والعقول!
بل وما يستحيل على الحواس والعقول
أن تدرك وجوده الكليّ!
وهو ما يستحيل على الحواس و العقول
أن تدرك دونه
ولن تدرك دونه
ويستحيل عليها أن تدرك دونه
إنّه اللــــــــه
لو كانت مياه البحار و الأنهار
مداداً
لما كفت للتعبير عنه
فكيف يتسنى لي أن أُعبّر عنه؟!
إنّه اللــــــــه!
***
كنت جالساً أُحدّق إليه بدهشة وأنا أستمع إلى ما يشبه بعض التعابير والأفكار من التصوّف الإسلامي و الهندي و الصيني والقرآن الكريم والحديث الشريف.
تساءَلت مستوضحاً:
- هل تقصد أنّ الله هو كل شيء ولا شيء،المحسوس والمجرّد،الظاهر والباطن،البادي والمخفي، الوجود والعدَم، المادّة واللا مادة، الروح والجسد، السالب والموجب؟!
- أنا أقصِد ولا أقصِد، فلا أستطيع أن أقول أنني قصدت كذا، كذلك لا أستطيع أن أقول أنني لم أقصد!
- لماذا تُعقّد الأمور أيّها الملك؟
- أنا لم أعقّد شيئاً، فالقادر على كل شيء قادر حتى على أن يكون عدماً، وأن يخلق وجودا من العدم، وعدماً من الوجود.
- هل هذا يعني أنّ الله يمكن أن يحيل الوجود إلى عَدَم؟
- وما يوم القيامة إن لم يكن شكلا ًمن أشكال إعادة الوجود إلى العدم ومن ثُمَّ العدم إلى الوجود؟!
- هل العدم وجود مادي أم روحي أم تعبير مُجرّد حسب مفهومك؟
- الحقيقة المُطلقة لا يعلمها إلاّ الله، ويمكن أن يكون كلُّ شيء هو العدم واللا عدم!
- وماذا لو قلت لك أنّ العدم كلمة مجرّدة لا تدل على شيء، وتلغي كل شيء؟!
- تكون قد كفرت. لأنّ كلمة "العدم" حتى في مفهوم الناس البسطاء، تدُّل على العدم و تشير إلى أنّها كلمة مكوّنة من خمسة أحرف! فأين العدم إذن؟!
- أنت تحيّرني بفهمك الموغل في المُطلق و اللا نهائي، فهل أنت حقّاً إبليس؟
- أجل أنا إبليس! وأنا لست أكثر من كلمتين قالهما الله جلّت قدرته "ليكن إبليس "فكنت كما أرادني، ومنحني من القدرات الخارقة ما لم يمنحه إلاّ لنفرٍ قليلٍ من الملائكة.
- سعادتي بقدومك إليّ هذه الليلة لا توصف بكلام، وتعرّفي إليك أكبر من كلِّ الكلام، فهيّا يا عزيزي أحلنا إلى العدم وأعدنا إلى الوجود في قصرك السَّماوي أو مملكتك السَّماويّة!
- أي لباسٍ تفضّل أن ترتديه هذه الليلة؟
- أمضيت عمري حزيناً كئيباً، وياليتك تسبغ عليّ ما يليق بحزني ووقار شيبي!
وخلال لحظة وجدت نفسي أتسربل في حُلّةٍ ملكيّةٍ سوداء على قميصٍ حريريٍّ أبيض حيك بخيوطٍ من الذّهب، وقد طُوّقت عنقي قلادة من الماس، تدلّت فوق "الكشكش" الذي كان يُغطّي عُرى القميص، وتبدو منه الأزرار الياقوتيّة الثمينة، ووجدت على رأسي تاجاً من الزمرّد المرصّع بكُلّ أنواع الجواهر المتلألئة.
هتفت وأنا أرى نفسي ملكاً:
- أنت تخجلني أيها الملك، ألا يكفي أنك تدعوني إلى مملكتك السماويّة.
- لا تخجل فكل هذا من فضل الله، وفضله علي أكثر من فضله على البشرية كُلّها، في الكواكب والأكوان كلّها!
- شكراً لله الذي منحك كلّ هذه النِّعم.
- هل أنت جاهز؟
ووجدت نفسي أقف في حركة استعداد، ولم أكد أقول له "جاهز" حتى وجدت نفسي معه في عالم آخر تماماً:
عالم ساحر كالجنان
وربّما أجمل من الجنان
في مياه بحريّة تمخرها الأنهار!!
وتنتصب أسفلها وفوقها
القصور العائمة!
بين الحدائق الخلاّبة!
ذات الورود اليانعة!
والثمار الدانية.
تحلّق في لجّتها الطيور!
والأقمار المضيئةّ
والقناديل المتوهجة!
والحوريّات العاريات!
وجنيّات البحر!
والفتيات الأبكار الناهدات:
كاعبات الصدور
منيرات الخدود
رقيقات الشفاه
فاتنات القُدود
ظبيانيّات الأعناق
طويلات الشعور
ضامرات الخصور
ممتلئات الأرداف
ممتشقات القوام
صاهِلاتٍ جامحاتٍ كالخيول
بعيونٍ سارحات
وأنظارٍ كالسهام
وأهدابٍ سابلات
وبطونٍ كالحرير
وسررٍ قلَّ لجمالها نظير
وأفخاذٍ غاويات
وسيقان كالمرمر المصقول
وأنوف كالسيوف!
وأيادٍ حانيات.
وركبٍ للقبل
وفروج كاللوز المقشّر
صغيرات!
كُنّ يحلقن كاليمام
بين حور عين طاغيات
ينثرن من حولنا أريج
الورد السماوي
ويبتسمن كربّات الجمال
ويرمقننا بسحر العيون
القاتلات
فسبحان خالق الكائنات.
***
تنبهت لنفسي وأنا أُحلّق مع الملك تحت الماء، وأننا نتنفس دون أن نشعر بوجود الماء، وأنّ ملابسنا لم تبتل بالماء، فحاولت أن أخرج من حالة الذهول وسحر الحوريّات و جمال الحدائق والعوالم، وأخاطب الملك، غير أنني تخوّفت من أن يدخل الماء إلى فمي رغم أنني كنت أتنفّس. ويبدو أنّه عرف ما يدور في مخيلتي، فسألني، فيما كان صوت الحوريات وآلاف الأسماك والحيتان والدّلافين والطيور والحيوانات البرية والأشجار والورود والشعب المرجانية يردد بأنغام عذبة مُرحّباً بنا:
"أهلاً بجلالة مليكنا الحبيب وضيفه الأديب"
قال:
- يمكنك أن تتحدث بسهولة، ويمكنك أن تحادثني تخاطراً إن شئت!
ولوح بيده اليمنى لجموع الكائنات والحوريات وراح يوزّع عليها ابتسامات ساحرة،ففعلت مثله، وأنا أُدرك أنّ ابتسامتي ليست ساحرة.
سألته:
- أين نحن أيها الملك؟
- نحن في مملكتي السماويّة !
- هل هذا يعني أن لديك أكثر من مملكة؟
ابتسم ونحن ننطلق تحت الماء وسط هذا المهرجان الاحتفالي الساحر:
- لدي مليون مملكة، وكل مملكة عدد سكانها ألف مليون شيطان كلهم من نسلي، وأنا ملك ملوك الممالك كلها!!
صعقني النبأ فرحت أتساءل في نفسي عن سر الحكمة الإلهيّة في الإبقاء على قدرات الشيطان ومنحه كل هذا الثراء رغم غضب الله منه وعليه!
كان سرب من الظباء ترافقه بعض الحوريات والدلافين والأسماك الملونة والنوارس وطيور جميلة لا أعرف ما هي تعبر أعماق البحر من حولنا في احتفال راقص.
تساءلت:
- هل نحن في السماء أيها الملك؟
- أجل! نحن في السماء.
- وما هذا البحر العجيب إذن الذي تعيش فيه الحيوانات البريّة والطيور إلى جانب الحوريات والجنيات والأسماك والأشجار والورود والكائنات المائية الأخرى، والأدهى من ذلك، الأنهار التي تمخره دون أن يختلط ماؤها بمائه؟!
- إنه بحري. بحري المعلق في السماء. بحري الذي لا مثيل له بين البحار في كل الأكوان، بحري الذي أقمت فيه مملكتي السماويّة، وشيّدت فيه أجمل القصور العائمة!
كنا ننطلق داخل الماء، دون أن نطير ودون أن نسبح، والحوريات يحففن بنا من كل جانب. مررنا على جماعة من الجن المجنحين بينهم جنيّات خارقات الجمال.كانوا يرقصون و يمرحون ويشوون ظباء على نار أُشعلت في الماء، وقد تضوّعت رائحة الشواء لتعمَّ أعماق البحر.
هتفت بدهشةٍ:
- ما كُلُّ هذه المستحيلات التي أراها أيها الملك؟
- ليس في مملكتي ما هو مستحيل أيها الأديب، ضع في اعتبارك إمكانيّة حدوث كل ما هو مستحيل، حتى لا تُفاجأ أو تندهش أمام المستحيلات التي ستراها!
- هل سنحتفل برأس السنة هنا؟
- لا سنحتفل في قصري. لكني أحببت أن أريك شيئاً من مملكتي السماويّة قبل أن أضعك في أجواء القصر وبين آلاف المحتفلين.
- ولمن هذه القصور التي نتجاوزها؟
- هذه بعض قصور أعواني و أتباعي في هذه المملكة.
- وهل سنحتفل تحت الماء أو فوق الماء؟
- كما تريد، فقصري ينهض من أعماق الماء إلى قرابة ألف كيلو متر في السماء!!
وأخفيت دهشتي انسجاماً مع ما أوصاني به!
- هل لي أن أسألك مع من سنحتفل؟
- مع الحوريات والعلماء والملوك والملكات من أبنائي وأحفادي. وثمّة بعض المفاجآت التي ستعرفها في حينها.
- لعلك دعوت بعض بني البشر؟
- لن أقول لك!
- لعلك دعوت كليوباترا وزنّوبيا وبلقيس وهيلين الطروادية؟!
- لن أقول لك!
اعترضت تحليقنا حوريتان كأنّهما ربّتان للجمال، وأصرّتا على أن تضيّفانا من كأسيهما خمراً وتعانقانا، فتذوّقنا خمرهما ولثمنا شفاههما.
دخت أنا من خمر الشفاه وخفت على إيماني الضعيف أن ينهار هذه الليلة في عوالم الشيطان، مع أنني لم أحس بعظمة الله وأراها كما أحسست بها ورأيتها هذه الليلة.
مررت لساني على شفتيّ متلذذاً بنكهة الشفاه الحوريّة فيما كان الملك يتوغّل إلى جانبي في لجّة الماء.
تساءلت:
- أخاف أن ينتهي العام الماضي ويبدأ العام المقبل ونحن لم نصل القصر بعد؟!
قلت ذلك مع أنني أعيش في جوٍ احتفالي، لكنه أخبرني أن هذا ليس الحفل، وأن ثمّة حفلاً آخر ينتظرني.
شرع الملك في الضّحك. قال:
- هل نسيت أنّك الآن في زمنٍ آخر وعالمٍ آخر أيها الأديب؟
- ومع ذلك فأنتم تحتفلون هذه الليلة برأس سنتكم؟!
- أجل، وقد توافق ذلك ولأول مرّة بالصدفة، في حوالي مائة ألف مملكة من ممالكي المنتشرة في الكون. فالزمن يختلف في كُلِّ مملكة من ممالكي المليون، ما عدا مملكة واحدة، هي مملكتي الكائنة في المحيط الأطلسي على كوكب الأرض، التي يتوافق زمنها وتعاقب الليل والنهار فيها مع زمن الأرض.
- وهل لك مملكة على كوكبنا أيضاً؟
- إنها مملكتي الأولى، أقمتها منذ حوالي ثلاثين مليون عام!
- يا إلهي! ألا تقول لي بأي رأس سنة تحتفلون أنتم هذه الليلة؟
- نحتفل باليوم الأوّل من العام الأول بعد الخمسين مليون عام من خلق آدم! وكُلّ يوم من هذه الأيام يُعد بألف عام مما تعدّون!
ولم أقدر إلا أن أندهش، بل بتُّ متخوفاً من أن أفقد عقلي. ورغم قناعتي أنّ الله أكبر من أن يعنيه إيماني أو إلحادي، لتساميه وتعاليه وعدم حاجته إليّ، إلا أنني لا أستطيع أن أستغني عنه، ولا أتصوّر أن أفقد محبّته من قلبي، فرحت أتوسَّلُ إليه في سرّي:
"إلهي، إذا كان في ما يحدث معي هذه الليلة ما يُبعدني عنك، فابعدني عنه، وأعنّي ربّي لأبتعد عنه، وإذا كان فيه ما يقرّبني منك ويبقيك في قلبي، فدعني أغرق في جمال خَلقك وبهاء مخلوقاتك حتى الموت".
فوجئت بالملك إبليس يربت على ظهري وهو يدرك تماماً ما كان يدور في خيالي. قال:
"لا تخف هيّا، نحن الآن نقترب من قصور ملكات الحوريّات ذوات الأجساد والرّؤوس السُّباعيّة، وهؤلاء لن يدعننا نتجاوز قصورهنّ دون أن يدعوننا لمشاركتهنّ الإحتفال ومطارحتهن الغرام "!!
وفيما كنت أهتف"يا إلهي ماذا في مقدوري أن أفعل مع تنّين إذا لم أنجُ؟ " ظهرت كوكبة منهنّ أمامنا، وما أن أبصرتهن حتى وجدت نفسي مسحوراً ومنقاداً رغماً عنّي إلى سحر الجمال الذي تبيّن لي أنه غير تنّيني!!
***

[2]ملكات السماء يستقبلن الملك إبليس والأديب
في بحور وأنهار القصور السّماوية.
كانت كوكبة الملكات تحلق نحونا في سبعة أسراب سُباعيّة مجنّحة، راسمة أشكالاً بديعة في الماء، وكان نورٌ أخّاذ يشعُّ من أجساد الملكات اللواتي بدون محتشمات مهيبات مقارنة بالحوريات والفتيات العاريات اللواتي يجبن الأعماق من حولنا. فقد سترن فروجهن وحلمات نهودهن بقطع من القماش الذّهبي. وتلألأت على سُررهن نجوم ماسيّة وطوّقت أعناقهن وأجبنهن وخصورهن عقود من الزّمرّد المطعّم بالماس. ولم يكن يصطفقن بأجنحتهن في الماء، بل كُنّ يضممنها إلى ظهورهن.
ونسيت في غمرة دهشتي أن أسأل الملك إبليس عن الأجساد والرؤوس السباعية التي حدثني عنها، فقد شقَّ السِّرب السُّباعي الأول الماء أمامنا لينفتح فجٌّ في الماء،امتدَّ عليه بساطٌ ذهبي صعدت أنا والملك عليه لنسير بخطوات ثابتة واحدنا إلى جانب الآخر، فيما حطّ السرب (الأوّل) واقفاً أمامنا، لتنحني الملكات السَّبع بحركة واحدة غاية في الانسجام والدّقة، وليستقمن في وقفتهن ويبتسمن راسمات الابتسامة ذاتها على شفاههنّ، وليلوحن بأيديهن في حركة موحّدة.
لوح الملك بيده فلوحت بيدي وابتسمت وأنا أجاهد لأُخفي دهشتي وتساؤلاتي وأبدو طبيعيّاً. هتفت الملكات بصوت واحد ونغمة واحدة وطبقة واحدة، وهُن يحنين رؤوسهن قليلاً ويرسمن بأيديهن شارة تحيةّ: "أهلاً بمليكنا الحبيب وضيفه الأديب"وانتحين جانبا لنمرَّ من أمامهن ليهبط أمامنا سرب ثان ويشرع في الترحيب بنا بالطريقة ذاتها، إنمّا بأنغام مختلفة وطبقة صوت مختلفة.
وفيما كنت أتجاوز السّرب الأول من الملكات تنبّهت إلى الشبه التام في وجوههن وأجسامهن، وتذكرت أن الملك قال لي أنّه في مقدوري أن أخاطبه تخاطراً، فسألته في خيالي عن سرّ هذا الشبه بين الملكات السبع ووحدة حركاتهن وأصواتهن.
تردد صوته التخاطُري في مخيّلتي:
- كل سبع ملكات من هؤلاء لسن إلا ملكة واحدة بجسد واحد في سبعة أجساد! وهذه التي تجاوزناها هي ملكة الملكات وتُدعى "فاتنة السماوات" أما هذه التي تحيينا الآن بتكوينها السباعي الفاتن، فهي ملكة الحُبِّ وتدعى"شمس البحار".
هتفت في نفسي:
"سبحانه ما أعظم خلقه وأعجبه"!
واختلست بعض النظرات السريعة لأرى ما يجري فوق الفجّ وإلى جانبيه، فشاهدت آلاف الحوريات بين الأسماك الملونة والظباء والخيول والنّوق السابحة والنوارس المحلقة، وهن يلوّحن لنا، ويرميننا بسحر الابتسامات المرحة،وقد بدون لي وكأنّهن يلوحن لنا من خلف جدار زجاجي من جراء هذا الفج الذي انشقَّ في الماء لنسير فيه.
انتحت ملكة الحب"شمس البحار" من أمامنا لتقف إلى يسار الفج بأجسادها السبعة فيما انحرفت ملكة الملكات"فاتنة السماوات"نصف خطوة إلى اليمين وشرعت في السير إلى يميننا، وما أن تجاوزنا "شمس البحار"حتى انحرفت بدورها وسارت إلى يسارنا.
أدركت حينئذ أنّ انتحاء الملكتين ووقوفهما لم يكن إلاّ ليتيحا لنا أن نتقدم جسديهما السباعيين الطويلين، بما لا يزيد عن خطوة احتراماً لنا!
حطت الملكات الخمس المتبقيات أمامنا واحدة إثر أخرى، وحيّتنا كلّ واحدة بصورة أجمل من الأخرى، وحين وصلنا إلى نهاية الفج، كانت الملكات السبع تتبعنا في سبعة أرتال سباعية واحدها إلى جانب الآخر.
لفّ ظلام حالك البحر أمامنا، ولم أعرف كيف اختفت الأقمار والنجوم والقناديل التي كانت تنير أجواء البحر من حولنا وتضفي عليه هالة ربّانية. توقف الملك فتوقفت.
فوجئت بالإنارة المنبعثة من خلفنا تنطفئ أيضاً ليلفّنا الظلام ويطبق الصمت. ولم أعد أبصر شيئاً، لا نفسي ولا الملك إبليس. هتفت تخاطراً:
- هل سندخل رحلة في العدم أيها الملك؟
فخاطرني مطمئناً:
- لا، الآن سيبدأ حفل الاستقبال الذي اعدّته لنا الملكات. ولم يكد ينهي كلامه إلا وموسيقى ذات إيقاع كوني تنبعث بهدوء، ترافقها أصوات كوراليّة خفيفة، وإنارة حمراء خافتة.وخلال لحظات كانت الموسيقى تتصاعد وتعمّ، وأصوات الكورال تتعالى وتنتشر، والإنارة تقوى وتتسع، ليشمل كُلّ شيء البحر كُلّه، لأجد نفسي أنا والملك جالسين ضمن هالة نورانيّة دائريّة فارغة، والملكات يقفن خلفنا في الفراغ، والهالة تحلق بنا وسط أجواء بانوراميّة كرنفاليّة انتظمت فيها مئات فرق الحوريات، ومئات فرق الفتيات، ومئات فرق الأسماك، ومئات فرق الدلافين، ومئات فرق الحيتان، ومئات فرق الشعب المرجانية، ومئات فرق النوارس، ومئات فرق النسور، ومئات فرق الصقور، ومئات فرق الظباء، ومئات فرق الخيول، ومئات فرق النوق، ومئات فرق الوعول، ومئات فرق الأفاعي، ومئات فرق اليمام، ومئات فرق الورد، وآلاف الفرق التي لا أعرف ما هي؟‍ وكانت كل فرقة تنتظم في طبقات تعلو واحدتها الأخرى، لتشكل أبراجاً عجيبة في الماء. وكانت آلاف الفرق تؤدي حركات راقصة غاية في الدقة والإنسجام، وروعة في الجمال، لتنسجم مع إيقاعات الموسيقا وأصوات الكورال، دون أن تقلد كُلُّ فرقة حركات الفرقة الأخرى، وسط إنارة مختلفة الألوان ومتعددة المستويات، كانت تتراقص بانسجام خلاق مع إيقاعات الموسيقا وأنغام فرق الكورال، ليتوحد الكل بالكل بعوالم الماء، بالأقمار، بالنجوم، بالقناديل، بهيولى التكوين، بالجمال، بالكمال الإلهي!
كانت فرق الموسيقا والكورال تتوزع بالمئات بين آلاف الفرق، وقد ضمّت كل فرقة قرابة ألف عازف ومنشد.
كنت مأخوذاً بما أسمعه وأراه أينما نظرت إلى الأمام أو إلى الخلف، إلى اليمين أو إلى الشمال، أعلى أو أسفل، وهالتنا النورانية تُحلق بنا في فضاء الماء، والملكات يحففن بنا بجمالهن الحوري. ورغم أنني لم أكن أجلس على شيء أراه، إلا أنني كنت أحس وكأنني أجلس على أريكة ملكية وثيرة!
ورغم إدراكي الأكيد أنني أحلق في أعماق البحر إلا أنني كنت أرى اتّساع الآفاق من حولي وامتدادها إلى ما لا نهاية، وكأنني أحلق في الفضاء. وقد توزّعت مواقع الفرق الفنيّة - التي لم تكن ثابتة بل متحرّكة - بحيث لا تحجب أي فرقة الفرقة الأخرى مهما بعد موقعها عنّا، أعلى أو أسفل، يميناً أو شمالاً، خلفاً أو أماماً! ووجدت نفسي أملك القدرة على الإبصار إلى آفاق بعيدة، بحيث بدت لي الفرق التي تبعد عني آلاف الكيلو مترات وسط هذا البحر الشاسع، وكأنّها أمامي، ولم أتنبه لنفسي إلاّ وأنا أغرق في خضمّ جمال هذا العالم، وأشرع في الاتحاد معه والتّوحّد به…!
بدأتُ بترديد لفظ الجلالة الذي قفز إلى خيالي فجأة، وراح يتردد فيه دون أن ينطقه لساني، غير أنّه ما لبث أن قفز إلى شفتي بعد أن حقّق انسجامه مع الأنغام الكونيّة الصادحة، فرحت أردده بصوت بطيء في البداية لتخوّفي من أن يبدو نشازاً مع الإيقاع الراعش من حولي، لكن ما أن تأكدت أنني لست نشازاً وأنني قادر على التوحّد مع اللحن والإيقاع وإعطاء طبقة الصوت الملائمة حتى شرعت في النشيد:
الله الله الله
الله الله الله
الله
الله
الله
الله الله الله
الله الله الله
الله
ألله ألله ألله
أللاه أللاه أللاه
ألا لا لا ألا لا لا
لا لا لا لا لا لا
ها ها ها ها ها ها
الله الله الله
اللــــه
* * *
وتنبّهت إلى صوت الملك يشرع في النشيد والتوحّد، وقد زاد عليّ بأن راح يحرّك يديه ورجليه ويهزّ رأسه وكتفيه، ويمدُّ عنقه تارة إلى الأمام وتارة نحو اليمين وتارة نحو اليسار. وشرعت الملكات في النشيد والرقص أيضاً فشرعت أرقص بدوري جاهداً قدر الإمكان لأن لا أبدو شاذّاً عن الجميع. ويبدو أنني لم أكن كذلك، أو أنّه هُيّئَ لي أنني مُنسجم ومتوازن ومتوحّد مع الإيقاع الكوني المحيط بنا. كِدتُ أن أفقد توازني حين نهضنا أنا والملك وشرعنا نرقص ونغنّي وقوفاً، فيما كانت الهالة النورانيّة تعبر بنا نهراً هائلاً، كان يشقٌّ عرض البحر دون أن تختلط مياهه بمياه البحر، وراحت الهالة النورانيّة تدور بنا في لجّة مياه النهر، فيما صدحت أنغام الموسيقا، وعلت ألحان المنشدين وارتجت الأعماق من ضرب الإيقاعات، وحلّقت الحوريّات المجنّحات وغير المجنّحات في أبراجهن العائمة راسمات أبهى التكوينات الجمالية. ورقّصت النباتات والورود أغصانها وزهورها، والشَُعب المرجانية تضاريسها، وراحت الظباء تشرئب بأعناقها وتضمُّ قوائمها إلى بطونها وتنطلق بأسراب سباعيّة تتوغّل في لجّة الماء. وشرعت أفراس النهر وخيول البحر في الصهيل، وصارعت الوعول تيارات الجنون المندفعة في غيهبة الكون، وانسابت أجساد الدلافين بين أفواج من حوريات الجن، وعملت الحيتان بأجسادها سدوداً تَحدّر من أعاليها شلالات، وأطلقت التنانين من أفواهها مئات الحوريات، واشتعلت الأخطبوطات ناراً وخرّت الصقور إلى الأعماق وصعدت دون أن ترفّ بأجنحتها، واستسلمت النسور لفقدان توازنها،وراحت تحرّك رؤوسها لتنسجم مع الإيقاع وتتوحّد معه، وعَلا رُغاء النوق وحنينها وهي تستسلم لأحضان النهر، وسبّحت النوارس بحمد الله، وهي تتشقلب على ظهورها وتعانق الماء، ووقفت الأفاعي على ذيولها وراحت تتلوّى وتتمايل بسحرها الأُفعواني، ونهضت مجموعات مختلفة الأشكال من صخور الأعماق وراحت تحلّق متراقصة في الماء، لتنهض بعدها أسراب من الحصى والحجارة راحت تتشكّل لتعانق التكوينات المائية الراقصة والنوافير الهُلامّية التي كانت تستقبل الماء وترسله من حولها نغماً يشدو على أوتار الوجود الرقراقة!
لا أعرف أين صرت وماذا كنت حين هاتفني الملك إبليس تخاطراً قائلاً:
"أفق أيها الأديب"!
ظننت أنني في حلم، لكنه كرر هُتافه التخاطري، فأدركت أنه يخاطرني فخاطرته:
"أرجوك أَلستُ ضيفك؟ دعني أتوحّد بسحر هذه الأكوان وأمضي ليلة رأس سنتي – التي لاشك أنها بدأت على الأرض - هنا، في هذا العالم الرباني الذي يعجز الكلام عن وصفه؟!"
خاطرني بمودّة:
"أهلاً بك في أيّ مكان في مملكتي السماوية أيها الأديب، لكن ثمّة ضيوف ينتظروننا في قصري السماوي، ولا يجوز ألاّ نمضي بعض الوقت معهم. على أية حال لدينا وقت طويل ويمكنك أن تمضي هنا من الوقت ما تشاء. السنة الجديدة لأهل الأرض بدأت منذ ثوانٍ فقط"!!
وفوجئت به يُعانقني مهنّئاً بالعام الجديد لأهل الأرض. وشرعت الملكات في معانقتي، ثم احتوتني الملكة "فاتنة السماوات" بين أحد أحضانها السبعة وألقت رأسي إلى نهديها وشرعت تراقصني، فيما أجسادها الأخرى تحيط بي وبها لتشاركنا الرقص. وشرع الملك في مراقصة الملكة "شمس البحار" فيما شرعت الملكات الأُخريات يرقصن من حولنا ضمن الهالة النورانية!
أحسست وكأنني ألقي رأسي على صدر الله، وقد تضوّع عطر رباني من نهدي الملكة "فاتنة السماوات" ليتسلل عبر أنفي ويسري في ظمأ ملايين مسامات جسدي، لأجد نفسي أغرق في جمال ملكوت السماء.
خاطرني الملك إبليس وأنا أتوحّد مع النهود الملكيّة والموسيقا الكونيّة:
- هل أنت سعيد؟
فخاطرته:
- أنا أولد من جديد، أنا أحيا بعد موتي وأنا مدين لك بأن أسعى عند الله ليغفر لك ويعفو عنك!
فخاطرني هاتفاً "بصحّتك" وسمّى بالله وراح يجترع شيئاً من بين نهدي "شمس البحار"!
وفوجئت بخمر يتدفق كنبع من بين نهدي الملكة فاجترعت بضع جرعات لأتذوّق خمراً أطيب من الشهد. أحسست بجسدي ينتشي من شعر رأسي إلى أخمصيّ قدميّ من جرّاء تذوّقه، فرحت أجترع الجرعة تلو الجرعة إلى أن توقّف تدفق الخمر، فهتفت إلى الملكة:
- أروِني من خمر نهديك!
فقالت:
- أخاف عليك من خمر نهديَّ، من ارتوى منهُ غاب عن وعيه مدى الحياة، وغدا أسير حُبّي إلى يوم القيامة!
- دعيني أغدو أسير حُبّك حتى إلى ما بعد أيام القيامة!
- أنت ضيف مليكي، التاج الذي يُزيّن جمال رأسي، ومن اختارني ملكة لحوريات البحر السماويات ذوات الأجساد السباعية. وقد نهاني أن أتّخذ منك عشيقاً أبدياً!
- ولمَ فعل ذلك بحظي البائس وحرمنا متعة العِشق الأبدي؟!
- ربّما ليتيح لك أن تعشق من هي منّي أجملُ!
- وهل ثمّة من هي أجمل منك في مملكته السماوية؟!
- ربّما أنا أقل الفاتنات جمالاً بين الآسِرات من ملايين الحوريات في ممالك جنانه!
- وهل يتدفّق من بين نهودهنّ خمرُ؟
- بل من حلمات أثدائهنّ يقطر خمر الجنّة الإلهية من تذوّقهُ عاد شاباً بعد المشيب!
- ليغفر لي ولك الله، ويرضى عني وعنك ويجعلني وإيّاكِ من متذوقي ذاك الخمر!
- أضرعُ إليه أن يُلبي دُعاءك.
- لم أنتن أيّتها المليكة سباعيات الأجساد؟
- كان أبونا ملكاً تقيّاً
يرأفُ بالفقراء والمساكين
من بني الإنسِ
ويهبهم من لدنه
مالاً سخيّاً.
ويضرعُ إلى الله أن
يرزقه من البنين سبعة
ومن البنات سبعا.
وشاءت حكمة الله
أن تكون أمّنا عاقراً
وأبونا عقيماً.
وحين علم أبي
لم يقنط،
وأوكل أمره إلى ربّه
ميقناً أنه سيكون به
رحيماً.
وعاش أبي خمسين ألف عامٍ
وبلغ وأمي من الكبر عِتيّاً،
دون أن ييأسا من رحمة الله
وظلاّ يسبحان بحمده صبحاً
وعَشِيّاً.
فناداهُ الله في المنام
قُم أيها القانتُ
إنّا لنهبكَ ما لم
نهبه ملاكاً
أو نبيّاً.
أنفخ باسمنا
في فرج امرأتك
تهبك بنتاً
وغلاماً زكياً.
البنت بسبع مِثلها
والإبن بسبعة مثله
ليس ذلك على الله
عصيّاً.
وإنّا لنمنح الذكور
من قدراتنا
أن ينفخوا
في فروج الإناثِ
ليلدن سبعة وسبعاً
من غير حملٍ أو ألمٍ
رزيّاً.
فأيقظها من نومها مبشراً
ففتحت فرجها
فسمّى بالله
ونفخ فيه
فجئنا على الفور
سبعة وسبعاً
كما قدّر اللهُ
تلك كانت مشيئة اللهِ
من ينسى مشيئة اللهِ
يكون عند ربّه
نسياً منسيّاً!!
ووجدت نفسي أهتف متعجباً من قدرة الله:
- الله. سبحانه ما أعظم مشيئته. هذه قصّتكن إذن؟
- أجل أيها الأديب، هذه قصتنا.
- وهل نفخ أخوتكن في فروجكنّ؟!
- نعم، وأنجبت كُلَّ واحدة مِنّا سبعة ذكور وسبع إناث، وظلّ الذكور ينفخون ونحن نتكاثر إلى أن ملأ وجودنا عشر كواكب!
- يا سُبحان الله جلّت قدرته وعلا شأنه. وهل ينزل المواليد من فروجكن بعد النفخ أم أنهم يبدون بين أفخاذكن؟!
- يبدون وكأنهم ينزلون من فروجنا، وهم في الحقيقة لا ينزلون،تلك مشيئة الله.
- سبحانه. سبحانه لا إله إلا هو سبحانه.
- وكل نسائنا وفتياتنا لا يحملن كما النسوة بل بالنفخ، لذلك لا تجد بين نساء الكون من فروجهن أصغر من فروجنا!
- يا سبحانه! وهل يأتيكنّ دمِ الطَّمث؟
- لا. من دون نساء الكون لا نعرف دم الطمث ولا دم الحيض.
- سبحانك يا إلهي. سبحانك ما أعظم شأنك!
ووددت أن أسأل الملكة، كيف تتعامل مع جسدها السباعي، غير أن هالتنا النورانيّة عبرت بنا النهر لتوغل في البحر، وأقبلنا على حدائق قصر الملكة، حيث أُعدت الموائد في الماء بين أحضان الورود والأشجار والنباتات والطحالب والمرجان والينابيع ذات الماء الزلال، فأجّلت السؤال.
أنهت آلاف الفرق لحنها الكوني وشرعت في عزف موسيقا هادئة، فيما راحت الهالة النورانية تحلق بنا فوق حدائق قصر الملكة. وخيّل لي أنني لا أحلّق في الماء، بل في فضاءٍ فوق يابسة، لشفافية الماء الذي كنا نحلّق فيه، ولولا الكائنات السابحة من حولي لما صدّقت أنني في ماء.
شرع الملك والملكات في التلويح بأيديهم لآلاف المحتفلين والمحتفلات الذين غصّت بهم حدائق القصر وراحوا يلوحون بدورهم لملكهم وملكاتهم.
كانوا كلهم فرحين، كلهم سعداء. وكل الكائنات التي رأيتها في البحر كانت فرحة وسعيدة. لم أرَ حزناً، لم أرَ فقراً، لم أرَ جيوشاً، لم أرَ أسلحة، لم أرَ شرطة، لم أرَ عنفاً، لم أرَ دماراً أو خراباً، لم أرَ كرهاً أو حقداً، فأي عالمٍ هذا الذي أنا فيه؟ هل يعقل أن يكون هذا هو أحد عوالم الشيطان؟!
أحسست بيد الملكة ويد الملك تربتان معاً على ظهري، قال الملك:
- كل ما يدور في خيالك ليس له وجود في ممالكي المليون، ولن يوجد، ليس هناك إلا الخير والمحبة والإخلاص لله وحده، بين كل الكائنات، ومن قبل الكائنات كلها!
- يا إلهي، ما هو السر في ذلك، وأية حكمة إلهية هذه التي تجعل الله غاضبا منكم وعليكم ويجعلكم تحيون في نعيم كالجنان؟!
- الله سبحانه وتعالى لم يغضب إلا مني أنا، ولم يغضب من أبنائي وأحفادي، وتعرف أن الله عادل، ولا يؤاخذ الأبناء والأحفاد بمعاصي الأباء والأجداد، وأحمد الله أنني ربيت ملايين الملايين من أبنائي وأحفادي على الإخلاص لله وحده، وعلى المحبة، محبة الله ومخلوقاته ويأتي الإنسان في مقدمتهم! وقصة أب الملكة "فاتنة السماوات" التي روتها لك واحدة من ملايين القصص التي أظهر الله فيها أنّه ليس غاضباً من أبنائي وأحفادي!
- يا إلهي، كيف غابت هذه المسألة عن بالي؟
- وعن بال أمم الأرض كُلِّها بل والكواكب الإنسيّة كُلِّها!
- ألا يمكن أن يكون الله قد رضي عنك أيها الملك على ضوء التربية التي أنشأت أبناءَك وأحفادك عليها؟
- لا أظن، لأنه لم يأت ببرهان، ومازال ملايين الملايين من أبناء الإنس يصبّون لعناتهم على رأسي ويرجمونني حتى بالحجارة، ولو تعرف أي أثرٍ يتركه ذلك في نفسي؟!
هل تسمع كل اللعنات التي تنصبُّ عليك أيها الملك؟
- المشكلة أنني لا أسمع اللعنات فقط، بل وأعرف من شتمني في مخيّلته أيضاً. لو تعرف كم توسّلت إلى الله أن يلغي سمعي، أن يُعطّل عقلي، كي لا أسمع شيئاً ولا أعرف شيئاً!
واغرورقت عينا الملك بالدّموع، وما لبث أن شرع في البكاء ولم أتنبّه لنفسي إلا وأنا أضمّ رأسه إلى صدري، أملِسُ عليه بيد، وأربت على ظهره باليد الأخرى، ولم أعرف أنّ الحزن خيّم على أجواء كل الكائنات المحتفلة، إلا بعد أن هبطت الهالة النورانية بنا لنأخذ أماكننا على مائدة الطعام، فقد نظرت إلى ما حولي لأرى عيون الكائنات، كل الكائنات التي رأيتها تغرورق بالدموع،فهتفت في دخيلتي "إلهي، أليس من مكان في عالمك ليس فيه حزن"؟!
هوّن الملك عليّ حين قال:
- لا عليك أحزاننا لا تستحق الذكر إذا ما قورنت بأحزانكم وأحزان البشر في الكواكب الأخرى!
ونهض لينهض جميع المحتفلين والمحتفلات، وراح يرحب بي متمنياً الخير لأبناء الأرض، سائلاً الله رضاه عن الجميع، وصفحه وعفوه عن كل مخلوقاته. وحلّق كأس في زلال الماء فأخذه بيده لتحلّق بعده آلاف الكؤوس.
امتدت الأيدي، فمددت يدي وأخذت الكأس الذي توقف أمامي، وشرعنا في تبادل الأنخاب.
عادت الموسيقا تصدح، ليدقَّ الإيقاع الكوني، ويعزف الله على أوتار خلقه، ويُستأنف الرقص ويعمّ الفرح.
كانت آلاف الموائد تمتد بين الجنائن وقد تحلّق من حولها آلاف المدعوين من الشباب والشابات، الحوريات والملكات، وزخرت بكل ما تشتهيه النفس من أنواع الأطعمة والمشروبات التي يمكن أن تخطر في البال. وكانت مئات الخراف والظباء والجِداء والأرانب والبط والأسماك والحجل والدجاج والفر والخنازير وغيرها من الحيوانات المائية والبرية تنتظم في سفافيد وتشوى على نيران هادئة اوقدت هنا وهناك بين الموائد. وكان كل شيء يتحرك وحده بقدرة الله، فما أن أنظر إلى طبق قاصداً شيئاً منه حتى يرتفع بهدوء ويحلّق في الماء ليمثل أمامي،لتشرع الشوّك والملاعق والسكاكين وحدها في العمل لتسكب في طبقي ما أريد، لأجد نفسي أقول"شكراً هذا يكفي"دون أن أعرف من أشكر وماذا أشكر، الشوّك والسكاكين أم اللحم الذي استقرّ في صحني، أم الطبق الذي طار إليّ وعاد محلّقاً إلى مكانه ما أن شكرت، دون أن يصطدم بشيء رغم كثرة الأشياء المحلّقة والكائنات السابحة والأطباق الطائرة، التي لم يبدُ عليها أنها تحلّق في الماء، فلا تبتلّ في الماء، ولا يدخل الماء إليها رغم وجودها فيه!!
بدوت في هذا العالم كطفل يكتشف الأشياء والظواهر من حوله لأول مرة. المؤسف أنني لست طفلاً، وإن حاولت عبثاً أن أتناسى هموم ومفاهيم العالم الذي تركته على بعد مائة مليون سنة ضوئيّة، لعلّني أتوحّد كل التوحّد بهذا العالم وأصير جزءاً منه، ولا أندهش لما أراه وأحسّه واسمعه وأتذوقه وأدركه!
كانت الظباء والجِداء والأسماك والخراف ترتفع عن الموائد بسفافيدها، وتحلق بين الموائد والبخار يتصاعد منها، لتوزّع وحدها ما يختاره المحتفلون من لحومها على آلاف الأطباق، دون أن يصطدم شيء بشيء،ظبي مشوي (مثلاً) بسمكة مقمّرة محمّرة، أو بسمكة تسبح في الماء، طبق فارغ برأس حوريّة أو ملكة،كأس خمر بجسد دلفين؟‍!! أبداً، وكأن لكل الأشياء عيوناً ترى بها، حتى للشوك والملاعق والسكاكين والأطباق والكؤوس، أو كأن حركة كل شيء مقدّرة ومرسومة بإتقان، إتقان ربّاني، يستحيل أن يشذّ عنه شيء، أو يحيد عمّا هو مرسوم له.
لم أستطع مقاومة دهشتي والتّوحّد بجمال الملكة "فاتنة السماوات" التي خلب جمالها عقلي. وأطار نهداها آثار الخمر من رأسي.
سألتها:
- هل كل الأشياء هنا تتحرك وحدها أم أنّ ثمّة جنّاً مخفيين يحرّكونها؟!
ابتسمت ابتسامة فيها شيء من جمال الخالق،كاشفة عن أسنان لؤلؤية انتظمت بروعة في فمها،وقالت ببساطة:
- بل وحدها!
- كيف؟
- بقدرة الله!
- سبحان الله، وكيف تستجيب لنا حين نريدها؟
- بقدرة الله أيضاً.
- سبحانه لا إله إلاّ هو.
وحاولت ألا أفكر في الظواهر وأغرق في بحر جسد الملكة وأستمتع بجمال الحوريات والكائنات الأخرى من حولي، دون جدوى، فقد تبين لي أن معجزة النار المشتعلة في الماء ما تزال تشغل دماغي، فطلبت من الملكة أن ترافقني إلى أحد المواقد المنتشرة في حدائق القصر.
أخذت بيدي لنحلق معا في الماء وسط القناديل والنجوم والأقمار، كنورسين عاشقين. مددت يدي إلى قمر بدر أتحسس مصدر النور، فلم ألمس إلا هالة من شعاع خافت. شرعت الملكة تضحك منّي وعليّ! ولم أعرف فيما إذا كانت أجزاء جسدها الستة الأخرى التي كانت تحلق خلفنا تضحك مثلها أم لا؟!
هبطت بي لنقف إلى جانب موقد كبير، اصطفّ فوقه أكثر من مائة ذبيحة مختلفة كانت تشوى على سفافيد طويلة وسميكة، وقد توهّج جمر حجري أحمر فاتح واحدته بحجم التفاحة أسفل الموقد. وكانت الشحوم السائحة من الشواء تتلاشى في الماء ولا تصل إلى الجمر، الذي بدا أنه أُفرد بعناية على طول الموقد، وتنبّهت إلى أن الأسماك الهابطة من أعلى أو السابحة حول الموقد ترتد عنه ما أن تقترب منه، مما يدل على أنها تتحسس حرارته. مددت يدي لأتحسس الحرارة بدوري. كان ثمّة حرارة، غير أن الماء كان بارداً وهذا ما أطار صوابي! سحبت يدي وأنا أنظر إلى الملكة بكل دهشة العالم.
قالت ببساطة:
- هنا يتآخى الماء والنار أيها الأديب، لا النار تؤثّر على حرارة الماء ولا الماء يطفىء النار!!
- هل هذا يعني أن النار في هذا البحر تبقى مشتعلة إلى الأبد؟!
فقالت ببساطة شديدة أيضاً:
- أجل أيها الأديب، إنها نار الله التي لا تنطفئ!!
- سبحان الله. وتريدين أنتِ والملك أن لا أندهش، فهل يمكن لمخلوق ضعيف مثلي ألا يندهش وهو يرى عظمة الله تمثل له في كل شيء يراه؟!
- نحن نخاف عليك من كثرة الاندهاش ووطأته على قلبك المرهف ونفسك المثقلة بالهموم والأحزان!
- هل تعرفان أسرار أحزاني؟
- نعرف حتى أحلامك.نعرف أجدادك من شاهين إلى جُليّات، ومن إبراهيم إلى كنعان، ومن عناق إلى آدم!!
- يا إلهي! نسيت أنكم تعمرون دهوراً. أشكر لكم نبل مشاعركم. سأحاول أن أقتل آهاتي وأبدد وطأة اندهاشاتي وأستجمع حواسي ومداركي لأغرق في نسيان عالمي الأرض سفلي، وأحيا في كمال عالمكم السماوي.
- ألا تريد أن تمتع1 عينيك بمرأى داخل قصري؟
- لم يتح لي أن أمتع عيني به من الخارج بعد، فأنا لا أعرف بماذا أتمتع هنا لكثرة الأشياء الممتعة.
طارت بي لنحلّق معاً على مسافة من شرفات القصر الذي بدا لي كلحن سيمفوني جُسّد في منحوتة كونية سامقة إلى ما لانهاية، تعجز اللغة عن وصف جمالها. وقد تراءى لي للوهلة الأولى أنني أبصر مثلثاً من الكنائس القوطية هائلة الحجم، انبعثت منه عشرات الكنائس، الواحدة من الأخرى لتشكل برجاً هائلاً من ثلاثة أضلاع كنائسية تتصاعد بشكل هرمي لتلتقي في الأعالي. لكن ما أن دققت النظر حتى وجدت نفسي أمام طراز فريد من البناء يمزج بين جماليات المعابد والمساجد والكنائس والقصور في آن واحد. سألت الملكة وأنا لا أعرف هل أغرق بجمال وجهها أم بجمال القصر الشامخ كطود:
- كم مساحة قاعدة قصرك؟
- تسعة وأربعون مليون متر مربع؟
- وكم ارتفاعه؟
- تسعة وأربعون ألف متر!
- كلها تحت الماء؟
- بل معظمها فوق الماء
- وهل هو ثابت أم عائم؟
- إنه عائم، لكنه يثبت حينما أريد له أن يثبت!!
- وكم طابقاً يحوي؟
- سبعة آلاف طابق!
- ما شاء الله! وكم شقة في كل طابق؟
- شقق النوم وحدها في الطوابق كلها تسعة وأربعون ألف شُقّة.
- أي بمعدل سبع شقق في كل طابق؟
- تقريباً، فالبناء هرمي، وفيه أيضاً مسارح ومكتبات وصالات سينما وقاعات وصالونات ومتاحف وحدائق ومتنزهات ومراقص ومسابح وشلالات وينابيع ومطاعم وغير ذلك، وينتهي في الأعالي بشقة واحدة فيها عرشي وحجرة نومي المفضلة!
- تنامين هناك في الأعالي؟
- غالباً، وأدير شؤون مملكتي من هناك أيضاً.
- وكم شقة نوم لديك في القصر كلُّه؟
- ألف شقة!
- وما حاجتك لألف شقة نوم؟
- لا توجد شقة نوم مثل الأخرى، فشقة نومي التي في الأعالي مثلاً نصف كروية، ويغطي سقفها القوسي مرآة ماسية، ويتوسطها سرير دائري سباعي!
- وهل تنامين بجسدك السباعي على الأسرّة السبعة؟
- بل على السرير السباعي.
- يُحيّرني جسدك هذا بسباعيته التي لا أفهمها.
- ليس من السهل علينا أن نفهم حكمة الخالق، فأنا واحدة في سبع، وسبع في واحدة! وحدانيّتي في تعددي، وتعددي في وحدانيّتي، لا الواحدة تنفصل عن الكل ولا الكل عن الواحدة‍!
- وماذا عن هذا التوحد مع مثيلاتك من السباعيات والسباعيين وغير السباعيات وغير السباعيين؟
- كل واحدة منا
وكل واحد
كل كائن في عالمنا
وما هو غير كائن
يتوحّد بالآخر.
كما الصفر
يتوحد بكل الأرقام
وكل رقم بالصفر
يتوحّد!
- وهل تتوحدون بالذات الإلهية أيضاً
وتتوحد هي بكم؟!
- واحديّة الله هي الأصلُ
هي الأساس والنبعُ!
هي رعشة الروح
السارية حياة في الكون!
هي نقطة الماء
في النهر والبحر
في التراب والجسد
في النبات والحجر
لولاها لما توحدنا
ولولاها لما تعددنا
ولما كان تعددنا
في توحدنا
وتوحُّدنا الأبدي
في تعددنا
هي الكلُّ في الكلِّ بالكلِّ
والكلُّ في الكلِّ بالكلِّ هي!
تسري بحركة دائبة
في غيهب الكون
والكائنات!
***
حمدت الله أنني مثقف بعض الشيء وإلا لضعت في فلسفة وشعر الملكة "فاتنة السماوات." سألتها:
- لنترك توحدكن بالوجود، ونبقى مع توحدك السباعي، فهل كل جسد من أجسادك السبعة يشبه الآخر في كل شيء؟
- أجل،لكن الله منحني القدرة على أن أغير شكلي إلى سبعة أشكال نسائية مختلفة إذا ما أردت ذلك، دون أن أفقد حواسي المشتركة في الأشكال السبعة!
- وتحسُّ كل واحدة وتدرك ما يحدث مع الأخرى؟
- تحسُّ بكل شيء وتدرك كل شيء وتتمتع بكل شيء.
- سبحان الله!
ونظرت خلفي وإلى ما حولي لأرى أجساد الملكة تحيط بي محلّقة في رقرقة الماء. همست إليها لأجزم بفهمي لما قالته:
- هل إذا قبلتك الآن يتذوّق جسدك السباعي طعم القبلة؟
- ويستمتع بها أيضاً!
- خسارة! أنا لن أستمتع إلا بطعم قبلة واحدة، وهي ليست كافية لأن تنسيني حزناً بحجم الأرض التي خلّفتها على بعد مائة مليون سنة ضوئية!
ولا يمكن لأحد سوى الله - جلّت قدرته - أن يتصوّر مدى دهشتي حين هتفت الملكة:
- سأحيلك إلى رجل في سبعة رجال إذا ما أردت!!
فتحت فمي على وسعه، وأطبقت بيديّ على رأسي ورحت أتساءل:
- وهل هذا ممكن؟
- ليس ذلك على الله بعسير!
- وأتمتع بطعم سبع قبل في آن واحد؟
- ستتمتّع بطعم كل شيء!
- وتستضيفينني ولو لساعة في عرشك السماوي على سريرك السباعي الدائري في الحجرة الماسية؟!
- بكل سرور!
- وإذا ما استطاب لي المقام ولذة الرّعش السباعي، هل تقذفينني من أعالي السماء؟!
- أقذف نفسي قبل أن تسوّل لي نفسي بقذف ضيفي.
فاجأتني بشهامتها، ووجدت نفسي أغرق في الصمت والخيال السباعي المثير!
أشارت بحركة من يدها وإذا بإنارة القصر الخارجية تخفت، لينار القصر من الداخل، لأجد نفسي أمام جوهرة كونيّة تحاكي الوجود، وتسامِق قوام السماء، وتتلألأ مشعة بأبهى الحُلل، لتتجلّى روعة الخلق. ورحت أتساءل في خيالي عمّا سيكون عليه قصر الملك إبليس الذي قال لي أن ارتفاعه ألف كيلو متر!



#محمود_احمد_شاهين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود احمد شاهين - غوابات شيطانية