|
تأكيد الوعي باستقلال قصيدة النَّثر عن الشِّعر المنثور في تجربة إدوار الخرَّاط الشِّعريَّة
شريف رزق
الحوار المتمدن-العدد: 4982 - 2015 / 11 / 11 - 19:53
المحور:
الادب والفن
مُنذُ بداياتِ الأربعينيَّاتِ، وعلى مَدارِ الخمسينيَّاتِ، كانَ إدوار الخرَّاط (1926 - ) يُنجِزُ نصوصًا شِعريَّة، حَرِصَ فيها على مُفارقَةِ الوَعْي الرُّومانيكيِّ الَّذي هَيْمَنَ على تجربَةِ الشِّعرِ المَنثورِ، إلى الوَعْي الحَدَاثيِّ الطَّليعيِّ، كانَ الشِّعرُ المنثورُ يشهَدُ اسْتقرارًا وَاضِحًا في المَشْهدِ الأدبيِّ حينئذ، وكانَ الخرَّاطُ، مَعَ زميلهِ وصديقِهِ محمَّد مُنير رمزي (1925- 1945)، يُنجِزَانِ هذِهِ القصيدَةَ في الإسْكندريَّةِ، وكانتْ الإسكندريَّةُ، حينئذ، تموجُ بثقافاتِ أجْناسٍ مُتعدِّدةٍ تقيمُ فيها وتُصْدِرُ صُحُفًا ومطبوعاتٍ طليعيَّةً، ويُشِيرُ الخرَّاطُ إلى هذِهِ المَرْحَلةِ، وإلى اسْتقلالِ شِعريَّةِ قصيدَةِ النَّثرِ عنْ شِعريَّةِ الشِّعرِ المَنْثورِ بقولِهِ: "قصيدَةُ النَّثرِ قدْ كُتِبَتْ مُنذُ الأربعينيَّاتِ، في مِثلِ أعْمَالِ محمَّد مُنير رمزي، وكاتِبِ هذِهِ السُّطورِ في الإسْكندريَّةِ، وبدر الدِّيب في القاهرة، دعْكَ مِمَّا كانَ يُنْشَرُ تحتَ عنوانِ: الشِّعرِ المَنْثورِ؛ الَّذي قد يُشارِفُ قصيدَةَ النَّثرِ وقدْ يُخَالفُهَا."(1) وفي مَوْضِعٍ آخَرَ أوْضَحَ أنَّ" قصيدَةَ النَّثرِ تختلِفُ تمامًا عمَّا كانَ يغلِبُ على ذلكَ الشِّعرِ المَنْثورِ منْ تسايُلٍ عاطِفيٍّ ورِثاءٍ للذَّاتِ عاكِفٍ على أوْجَاعِ النَّفسِ المُغْلقَةِ على نفسِهَا."(2) وأقدمُ مَابيْنَ أيدينا منْ شِعرِ الخرَّاطِ، في هذِهِ المَرْحَلَةِ، يرجِعُ إلى عامِ 1942؛ حَيْثُ كانَ في السَّادسَة عَشْرَة منْ عمره، وهو النَّصُّ الآتي : كوازيمودو(3)
كانَ يضيقُ بنفسِهِ المَسْجونَةِ في هيكلِهِ المَحْطُومِ يلوذُ بأجْرَاسِهِ الضَّخمَةِ المُخوفَةِ يمتطِيْها يستحِثُّها يُحفِّزُهَا ينطلقُ بهِ جُمُوحُهَا الإنسَانُ والجَرَسُ وَحْشٌ وَاحِدٌ يدوِّي صَارِخًا مُجَلْجِلاً ضَاجًّا جبَّارًا الوَحْشُ يفرضُ سَطْوَةً على المَدِينَةِ المُتَمَوِّجَةِ ببَحْرِهَا الآدمِيِّ مُرتفِعًا فوقهم جميعًا هازئًا بهم بلا وَرَعْ
يتسلَّلُ إلى الظُّلمَةِ ينسَابُ بجانبِ الجُدْرَانِ يغوصُ في وَحْلِ الأزقَّةِ الضَّيقَةِ حَشَرَةٌ عملاقَةٌ تزْحَفُ في ذلَّةٍ وسكونٍ مَسْحُوقةً تحْتَ وَطْأةٍ لا رَحْمَة فيْهَا كأنَّمَا البشريَّةُ كلُّهَا تدوسُهُ تحْتَ قدميْهَا هانَحْنُ إذَنْ مثل الكوازيموديين وحوشٌ مُقيَّدةٌ تاعِسَةٌ نحْنُ المَرْجومِيْنَ منْ الأرْضِ والسَّمَاءِ نعيشُ بيْنَ الأبْرَاجِ والوُحُولِ بيْنَ حمَّى الضَّجيجِ وسكونِ القبورِ بيْنَ أنْقاضِ الذِّكريَِاتِ وجُثثِ الأحْلامِ بيْنَ قهقهَاتِ الجُنونِ وذهولِ التَّأمُّلِ العَمِيْقِ ويلٌ لنَا طُوْبَى لبُسَطَاءِ القلوبِ أليْسَتْ الحَيَاةُ أحْلامًا كوازيموديَّةً مُهْدَرَة؟ الإسكندرية 1942 ويُلاحَظُ في هذِهِ التَّجربَةِ التَّشديدُ على تجربَةِ الذَّاتِ، وهيَ خصيصَةٌ مَرْكزيَّةٌ في إبْدَاعِ الخرَّاطِ، كمَا يُلاحَظُ المَنْظورُ القاتِمُ للعَالَمِ؛ نَظَرًا لعَوَامِلَ ذاتيَّةٍ وأجْوَاءِ تجربَةِ الحَرْبِ العالميَّةِ الثَّانيةِ الَّتي كانَتْ تُهيمِنُ على المَشْهَدِ حينئذٍ، كمَا تكشِفُ نصوصُ هذِهِ المَرْحلَةِ عنْ جنوحٍ واضِحٍ إلى حَداثيَّةِ المنظورِ، والأدَاءِ الشِّعريِّ، والتَّشديدِ على التَّشكُّلِ اللغويِّ والتَّصويريِّ، ونزوعٍ إلى مَزْجِ السَّرديِّ بالغِنائيِّ، والوَقائِعِيِّ بالرَّمزيِّ، واليومِيِّ بالأسْطوريِّ، ومَزْجِ النِّسبيِّ بالمُطْلَقِ، والرَّوحَانيِّ بالجَسَدانيِّ، عَبْرَ مِخْيَالٍ عيْنُهُ على الدَّاخِلِ والخَارِجِ مَعًا، وإنْ كانَ يميلُ إلى ترجيْحِ الرُّؤيَةِ الدَّاخليَّةِ. وقدْ وَاصَلَ الخرَّاطُ، في عِقْدِ الخَمْسِينيَّاتِ، التَّرسِيخَ لشِعريَّةِ القصِيدِ النَّثريِّ، عَبْرَ نصوصٍ غلبَتْ عليْهَا الوِجْدانيَّةُ وتجربَةُ العِشْقِ، وعلى الرَّغمِ منْ جنوحِ تجربَةِ الذَّاتِ، في هذِهِ المَرْحَلةِ، إلى الوِجْدَانيَّةِ فإنَّ الخرَّاطَ ظلَّ يُحاولُ تخطِّى الوَعْي الرُّومانيكِيِّ إلى الوَعْي الحَدَاثيِّ والتَّعبيْرِ عَنْ هذِهِ التَّجاربِ تعبيرًا حداثيًّا غِنائيًّا يجنَحُ إلى صَفَاءِ اللغَةِ الشِّعريَّةِ وكثافتِهَا، كمَا في قصيدتِهِ: أنْتِ قصيدتِي(4)؛ الَّتي جَاءَتْ على هذا النَّحو: لمَاذَا وَضَعَتَ الشَّمسَ والقَمَرَ مَعًا بَيْنَ يديَّ مُلْتَهِبيْنِ فيْهِمَا نَدَاوةُ الفَجْرِ مَعًا
في حِضْنِي سَحَابَةُ الصَّيفِ وتحْتَ أصَابِعِي وَجْهُ الشَّمسِ النَّاعمُ طَرَاوةُ وجنتيكِ
قَطَرَاتٌ مُدَوَّرَةٌ شفَّافةٌ على تُويجِ زَهْرَةٍ بيضَاءَ نَدَى الصَّبَاحِ على وَجْهِ الشَّمسِ بيْنَ يديَّ ليْسَ في نافذتِي الآنَ إلاَّ جُذَاذةٌ منْ السَّمَاءِ شمسِي وَرَاءَ الحِيْطَانِ هذِهِ السَّمَاءُ صَافيَةٌ نقيَّةٌ تمامًا مُبْترِدَةٌ ليْسَ فيْهَا لا شمْسٌ ولا قمَرٌ
سَمَاءُ الليْلِ عينَاكِ قمرِي بعيدٌ وحارٌّ في عُمْقِ عينيكِ نُورٌ يغمُرُ سَمَائِي نُورُ حُبِّي وَجْهُكِ وعينَاكِ هُمَا السَّمَاءُ
أنْتِ قصِيْدَتِي. الإسكندرية 1957 وتجْنَحُ نُصوصُ هذِهِ المَرْحَلةِ إلى الغِنائيَّةِ الاسْتبطانيَّةِ، والنَّبرَةِ الكثيفَةِ، والتَّصويْرِ المَشْهَدِيِّ والسِّرياليِّ، وتكثيْفِ الأدَاءِ اللغويِّ، يقولُ في قصيدتِهِ: دقَّات قلبي(5): دقَّاتُ قلبي خَطْوِي تحْتَ جِدَارِكِ أشْوَاكُ الصَّبَّارِ في شُرْفتِكِ ابتِسَامَةٌ عَبْرَ الطَّريقِ تحفُرُ الأغْوَارَ تحْتَ قدميَّ تمْلأيْنَ السَّمَاء في زُرْقةِ الظُّهرِ وَهَجًا ضَاعَ فيْهِ الزَّمَنْ
مُوْسِيقَى المَوْجِ في البَحْرِ الرَّتيبِ تفتحُ ذِرَاعَيْهَا تفنَى في الرِّمَالِ نِدَاءَاتُ حُبٍّ عنيدٍ ترمِي مَوْجَهَا على صَدْرِكْ
سَالَتْ الأشْوَاقُ على جُدْرَانِي
دقَّاتُ قلبي صَوْتٌ خفيضٌ صَغيْرٌ رقيْقٌ يأتينِي مِنْ بعيْدٍ منْ كوْنٍ خَوَاء الصَّمْتُ فجْأةً مِلءُ العَالَمِيْنَ ليْسَ فيْهِ إلاَّ هَمْسَتكِ "أُسْعِدْتَ مَسَاءً"
عيْنُ التِّليفونِ السَّوداءُ تُحدِّقُ بي صَامِتةٌ بلا حِرَاكٍ قبْرٌ تنمو عليْهِ الأشْوَاكُ خُبْزُ أيَّامٍ في طوْلِ الأبَدْ
دقَّاتُ قلبي ظَهْرُكِ إذْ يبتعِدِيْنَ في شَارعِ بوبا ستيس المُزْدَحِمْ يخْلو فجْأةً منْ كلِّ العَابريْنِ يخْلو منْ الزَّمَنِ حُلْمٌ مُوْجِعٌ سَحِيْقٌ ألمْ ينْحَسِرْ؟ مَاثلٌ لا يَرِيمْ
دقَّاتُ قلبي خَطْوي تحْتَ جدَارِكِ في كليوباترا الحَمَّامَاتِ يُبْعِدُني البَحْرُ عنْ أمْسِي مُتربِّصٌ بي هلْ غدِي ينتظِرُ على ناصِيَةِ الطَّريْقِ؟
غَدُ حياتِي وَجْهُكِ إذْ تنامِيْنَ. الإسكندرية 1957
وهكذَا جاءَتْ تجربَةُ إدوار الخرَّاط، إضافةً مُهمَّةً، تُضافُ إلى غيرِها منْ التَّجاربِ التَّاريخيَّة، التي سَاهَمَتْ في تأكيْدِ اسْتقلالِ شَكْلِ قصيدَةِ النَّثرِ، عنْ شَكْلِ: الشِّعرِ المَنْثورِ، في النِّصفِ الأوَّلِ من القرنِ الماضِي، بانحيازها إلى الوعي الحداثي، والمنظور الحداثي، والأداء الحداثي، وتجاوزِهَا طبيعةَ الوعي، والمنظورِ، والأداءِ في الشِّعر المَنْثور.
#شريف_رزق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بلاغَةُ الواقع ِالحياتيِّ المعِيْشِ في ديوانِ : كُرسيَّان مُ
...
-
شِعريَّةُ الحكايةِ، في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريَّةِ
-
أسْطَرَةُ الحَيَاةِ اليوميَّةِ في خِطابِ: مَمْلَكَةِ الحَوَا
...
-
سرديَّاتُ الحياةِ اليوميَّةِ المعيشَةِ في خِطابِ: عِيد النَّ
...
-
كلبٌ ينبحُ ليقتلَ الوَقْت ل-عِمَاد أبو صَالح-
-
شخصنةُ الخطابِ الشِّعريِّ، وإنسانيَّةُ النَّصِّ في تجربةِ بس
...
-
ملامحُ الخِطابِ الشِّعريِّ في تجربَةِ نُصيِّف النَّاصِريِّ ا
...
-
شعريَّةُ الحدَثِ المصْريِّ المعِيْشِ وتمصِيْرِ الخِطَابِ الش
...
-
ملامح التجربة وتشكلات الخطاب عند محمد بنميلود الشعرية
-
دَهَاليز حلمي سالم وَالصَّيفُ ذو الوَطْءِ
-
شعريَّةُ الحيَاةِ اليوميَّةِ وَالخِطَابِ الشِّفاهيِّ في تجرب
...
-
شِعريَّة الأداءِ السَّرديِّ في تجربةِ مُنْذر مِصْري الشِّعري
...
-
كثافة الحضور الإنساني والشخصي في تجربة وديع سعادة الشعرية.
-
آليَّاتُ الخِطابِ الشِّعريِّ في تجربة صلاح فائق الشِّعريَّة
-
الدِّيوانُ النَّثريُّ لأبي القاسِم الشَّابيِّ
-
مُشْكِلاتُ قصيدَةِ النَّثرِ الرَّاهِنَةِ
-
النَّثرُ الشِّعريُّ
-
الشِّعرُ المنثُورُ
-
النَّثرُ الصُّوفيُّ الشَّعريُّ
-
النَّثْرُ الفَنيُّ
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|