أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -5-















المزيد.....


حدث في قطار آخن -5-


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4972 - 2015 / 11 / 1 - 16:08
المحور: الادب والفن
    


وصل القطار إلى محطة مدينة نويس الصغيرة، كان الجو عاصفاً، نزلا من القطار، أحاطت ذراعه اليسرى بيدها اليمنى، ضغطت عليها برفق، شعر بالخوف من القادم.

خرجا من المحطة، توجها إلى محطة الباص، وقفا يحتميان من شراهة السماء، نظرت إلى مواعيد رحلات الباص، قالت: سيأتي الباص بعد بضع دقائق، فتحت حقيبتها اليدوية، حقيبة أسرارها، أخرجت شيئاً، وضعته في جيب سترته، همست: الطقس بارد، أشعلْ لنا سيجارتين.

مدّ يده إلى جيبه وأخرج منه ما وضعته فيه، لم تدهشه علبة البولمول الأنيقة بلونها البني الممزوج باللون الخمري. فتحها بهدوء... وضع سيجارتين بين شفتيه وأشعلهما، احترقتا جزئياً، من طرفٍ واحد، سحب منهما نفساً من حبٍ ثم قدّم لها نصيبها من العشق.

ابتسم لصورة أبيه في ذاكرته. الرجل الذي قد فارق الحياة قبل أن يتعلم كيف يرتب سبعة أحرفٍ لكتابة اسمه. كان يغمز لولده في سهراتهما المشتركة بعينه الحَوْلاَء، ويبتسم في الجانب الأيسر من وجهه فقط قائلاً: "كُلُّ امرأة في الأرضِ فِتنةٌ"، ثم تسترخي شفتاه بعد الكأس "الأبيض" الثالث، يملأه بلونٍ أبيض لمرةٍ رابعة، يشعل سيجارته الحمراء الطويلة، ينظر إلى رأسها الذي لا يبدأ عادةً بالاحتراق من طرفٍ واحد! يأخذ نفساً عميقاً، كأنّه يصحّح مسار العشق من طرفٍ واحد... ثم يسترسل في فلسفته البسيطة عن النساء والحياة.
شعر بأنفاسها الساخنة تقترب من وجنتيه، نفخت دخان سيجارتها بوجهه، قبضت على شفتيه.

سألته: أين رحلتَ!؟
لم يجبها!
قالت: جاية على بالي ... ش ... م ... ك ... !
- ماذا تعني؟
- أمعقول أنت؟ ألا تفهم؟
- تقول ستي: أن لي رائحةَ الآس!
- جميل، كم صار عمرها؟
- والنساء تقول: أن لي رائحة لا تتكرر!
- لا تثر غيرتي، لأنني كلي غيرة عليك، ولا تدع النساء تقربك لدائرة قطرها 10 كم...
- ولم لا؟
- لشهوة الرجال رائحة لا تخطئها النساء.
ثم أردفت: ستفرح ضيفتي في البيت لرؤياك...
- ابتسم وأجاب: وأنا بدوري مبسوط للقاء.
- سنطبخكَ هذه الليلة! سنحيلك أشلاء، ثم غمزته بعينيها الجميلتين.

شعر كمن يذهب للفناء بقدميه وكامل طواعيته... تخيل نفسه بجسدٍ مقطّع، شاهدهما تطبخانه، تتذوقانه، اشكرانه لتبرعه بطعام المساء.
رغبتهما بتقطيعه وطبخه ليست مستبعدة، يحدث في هذا العالم أن يطبخ الصديق صديقه من شدة الوفاء للصداقة أو حتى الحبيبة حبييها من شدة الوفاء للحب.

حدث قبل أيام، أن رجلاً قارب الستين من العمر، سبق له أن كان متزوجاً ولديه طفلة في العشرين من عمرها، يعيش في مدينة درسدن، عقد اتفاقاً غريباََ مع رجل من مدينة هانوفر لتقطيع جسده الهانوفري ومن ثم طبخ رأسه وأكله، هذا ما حدث فعلاً، هل الألمان جميعهم من آكلةِ لحوم البشر؟ هل يحدث أن تأكلانني الليلة هاتين المرأتين؟

وجدَ نفسه يحمل رأسه في يده اليسرى وينظر إليه.
هبت ريح باردة، اقشعر بدنه، دنا بجسده منها، عانقها، ضمها أكثر، وصل، وصل الباص، تنهد مرتاحاً وقال: "آخيراً وصل".

***** ***** *****

صعدا إلى الباص من الباب الأمامي، ابتسم لها السائق، قال لها شيئاً، ابتسمت له وأجابته على الشيء الذي قاله بشيء مشابه، لم يفهم عليهما، لعل الكلمات لم تصله واضحة، أغاظته الابتسامات المتبادلة، والكلمات التي لم يفهمها.
دفعت نقوداً واشترت بطاقتي سفر، جلسا في مقعدين متقابلين، كجلستهما في اللقاء الأول في قطار آخن.

همس بخجل: كم أنا متشوق لرؤية منزلك.
أجابت بطريقة لا تدعه يسأل ثانية: أنا امرأة بسيطة، لا مال لي، وشقتي متواضعة، بالكاد تكفيني.

نظر أسفلاً إلى قدميها، إلى حذائها الشتوي المسطح، أمعن النظر كأنه يكتشف بين قدميها زهرة برية، سألها ليداري إحراجه:
لماذا لم تكن الأحذية المسطحة قضية في عالم الموضة حتى الآن؟
أجابت ضاحكة، وكأنها تضحك للسائق، وكأنها تتآمر معه على مرافقها الضائع في حذائها، أجابته وكأنها الإيطالية فيرا جوستي مصممة الأحذية الأنثوية المسطحة:
الجواب بسيط جداً، لأن معظم مصممي الأحذية النسائية هم رجال، لديهم تصور خيالي سيكسي فريد عن النساء، يرتبط تصورهم هذا في كثير من الأحيان بالحذاء ذا الكعب العالي والرفيع .."High Heels" .. أما اليوم فإن عدد المصممات الإناث بازدياد، إنهن يفهمن الموضة بطريقة مختلفة، مريحة وأنيقة، أو مريحة وأنثوية مثيرة، ولا تناقض في هذه المعادلة!

أترى أنّ حذائي مثير؟

في منطقة نائية، مظلمة ومهجورة إلا من بقايا غموض، أنزلهما الباص في المحطةِ الأخيرة، ودعها السائق بكلمات مبهمة وختمها بابتسامة ساخرة، مشيا في الطريق الموصل لمنزلها، بعد دقائق من المشي، وصلا إلى نهاية شارعٍ غريب الأطوار، على طرفه ثمة بناية من أربعة طوابق، تحيط بها حديقة تسورها الأشجار، اقتربا أكثر، بدت البناية المظلمة و كأنها غير مسكونة، مثل كتلة "بيتون" سقطت في العتمة، وكأنها غير صالحة للسكن. دخلا من باب الحديقة المفتوح، أُضيء المدخل.

ما إن أغلقا باب البناية خلفهما، حتى شعر بحرارة الجو… نظافة أرضية الردهة والجدران لفتت انتباهه، الإضاءة مريحة، طلبت المصعد، سحرته أناقته.

في الطابق الرابع توقف المصعد، ردهة الطابق واسعة بسقف زجاجي، في إحدى الزوايا خزانة أحذية، بجانبها علاقة أنيقة للملابس، على الجدران توزعت أربعة لوحات ملونة بطريقة فنية، في أسفل كل لوحة أصيص للنباتات الخضراء، تلمح في الردهة دون تعب بابين خشبيين عريضين.

قالت بصوت تلفزيوني: تفضل، هذه هي شقتي.
وكالأبله سألها في اليسار أم في اليمين؟ وأشار إلى البابين حائراً.
ردت: لا فرق، الطابق بكامله هو بيتي.

فتحت الباب، انبعث ضوء ليموني خافت من الشقة، الممر طويل، جدرانه صالة عرض، وضع حقيبته على الأرض الخشبية، شعر باالدفء، نزعت عنه سترته المبللة ثم قالت: "تصرف وكأنك في بيتك".
- هل ينبغي أن أخلع حذائي؟
- أنصحك بذلك، وكذا الجوارب، البيت نظيف وأرضيته دافئة، ستشعر براحة أكبر.
أطاعها فيما رغبت.
- سألها: أيزعجك أن أتفرج على اللوحات المعلقة؟
- أجابت على عجلٍ: أبداً، بل يسعدني ذلك.
- شكراً.
- ضحكت وقالت: سأتركك في معرضي وحيداً، يجب أن أسرع إلى الحمام.

„لم يكن في نيتي يوماً الاهتمام بما يعرف الناس، بل الاهتمام بأحاسيسهم، بما لديهم من رهافة حس، بأصصهم، بلوحاتهم، بذكرياتهم وبماذا يشعرون. أخذتُ في حياتي مساراً مختلفاً، وما زلت على الطريق، طريق الدفاع عن مشاعر وأحاسيس الناس... الطريق الذي اخترتُ، بحرية كاملة، حيث لا تستطيع أية حدود اعتراض تقدمي، حيث المعرفة الأكاديمية لا اعتبار لها، حيث تُؤذى المشاعر، أنا أقف على الضفة، حيث المشاعر تُجرحْ يومياً وتُضربْ وتُهانْ بمطارقٍ حديدية ميتة، خالية من الإحساس... وحيث المشاعر تنزف من التعذيب، حيث تُثقب بفعل طَرقِ المسامير الصدئة فيها… من يحمي الأحاسيس النازفة والمشاعر المجروحة؟“

في الممر الدافئ الطويل ثمة أرائك جلدية بيضاء للجلوس، أرخى جسده الباحث عن الجنون في إحداهن وكأنه في عالم آخر، سمع صوتها يعتذر عن نسيانها لتشغيل الإضاءة الخاصة باللوحات في الكوريدور الطويل، فجأة تغيرت كثافة الضوء حول اللوحات وتسربت انعكاساته إلى الجدران المقابلة.

كانت لوحة "أصل العالم" للرسام الفرنسي "غوستاف كوربيه"... أول من سرق تمعنه ودهشته المسروقة من اليوم الأول في قطار آخن، سبق له أن رآها في زيارته لمتحف أورسيه في باريس، تلك التي رسمها غوستاف في عام 1866 بتكليف من الدبلوماسي التركي خليل باشا شريف... شدته اللوحة من النظرة الأولى إليها في المتحف، أثارته، حركت مشاعره، ذكرته بشوقه لاحتضان الأصل، ذكرته بجمال الأصل. استحى من نفسه حين شعر بأصابع يده اليسرى تلامس شيئاً جميلاً من جسده...

إلى اليمين من لوحة الأصل، أسفلها بقليل، عُلقت لوحة "خلق الإنسان" للفنان ميشيل انغيلو، يظهر على يسار الصورة السيد آدم الجميل ممداً باسترخاء، يمد سبابته اليسرى للوصول إلى الله... في الجزء الأيمن من الصورة حيث السماء يظهر الله الآب، محاطاً بملائكته، بقوة ورشاقة يمد له السبابة اليمنى لإشعال شرارة الحياة في أول إنسان...

خاطب نفسه: „يا لشرارة الحياة، كم انتظرتها... لم أكن هنا، الآن أنا هنا، لن أكون هنا بعد الآن... لست على علمٍ بوجودي الأول قبل ولادتي... لن أكون على علمٍ بوجودي اللاحق بعد موتي... لكن ربما على وعيٍ بوجودي الراهن! يبدو لي حتماً أنّ البحث دوماً عن السؤال: لماذا أنا هنا!؟ أكثر أهمية من أن أمضي وجودي الآني بغية أن أحظى بإعجاب الناس من حولي، أولئك مَنْ نصّبوا أنفسهم رجال قمع وسلطة... منذ ولادتي وأنا لدي أسئلة، لا أسئلة قبلها، وغالباً سوف لن يكون لدي أسئلة بعد نهاية حياتي... أخاطبُ نفسي: نعم، إذاً أنا أعيشُ فقط عندما أطرحُ أسئلة، أو بشكلٍ آخر… أطرح أسئلة، فقط لأنني أعيش!؟ "
„وهكذا يبدو لي أن معنى حياتي هو الوصول إلى ما وراء معنى حياتي“...
„وما يزال النقد الموجه من الحمقى والأغبياء عاجزاً عن إغنائي أومساعدتي“ ...

„لذلك، سأحملق في اللوحات ومعالم الأشياء طويلاً إلى أن تبدأ بالكلام! سأحرص ألّا تهاجمني الأيام، سأبقى فضولياً لما يخبئه لي كل قادمٍ جديد، سأحتفل بالصباح كل يوم وسأحرص على تحديد كيف تسير مساءاتي"...

جاءه صوتها الإذاعي الساخر ودوداً: ألم تنته من زيارة المعرض بعد، ننتظرك!
رد: سآتي حالاً.

***** ***** *****



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدث في قطار آخن -4-
- حدث في قطار آخن -3-
- حدث في قطار آخن -2-
- حدث في قطار آخن
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -52-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -51-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -50-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -49-
- المرسم
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -48-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -47-
- يانصيب الفرح
- قصة فيسبوكية قصيرة 2
- قصة فيسبوكية قصيرة 1
- السرسكية
- حَسْنَاءُ بِسْنَادا
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -46-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -45-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -44-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -43-


المزيد.....




- دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في ...
- مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
- اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار ...
- كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل ...
- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -5-