خاص: الحوار المتمدن
اذا ماإستمرت الحرب ـ أو مذكرات في الحب والحرب والسلام ـ هو احد كتب الروائي
الالماني الشهير هرمان هيسه الحائز على جائزة نوبل في الرواية. وهيسه هو صاحب
روايات شهيرة مثل:
*الكرات الزجاجية
* سد روهالدة
* ذئب
السهوب.
ورواية ذئب
السهوب كانت نبوءة مبكرة بالحرب ودعوة لمقاومتها وشجبها قبل ان تحل الكارثة على
المانيا وقد حلت الكارثة وتذكر الالمان هرمان بعد فوات الاوان.وكتاب " اذا ما استمرت الحرب" هو مجموعة مقالات ومذكرات كتبت في الفترة ما
بين 1914 ـ1948، وبعضها كتب بإسم مستعار هو أميل سنكلير.وفي هذه المذكرات نعثر على الموقف الصلب والراسخ والشجاع الذي يعكس أخلاقية
هذا الروائي وهو يقف ضد نزعة عارمة للحرب ويسخر من قضايا الفروسية والبطولة
والعرق والمجد وفكرة تمجيدالموت في الحرب.وهذا
الموقف لم يمر بسلام على هرمان لا من قبل السلطة الالمانية الحاكمة
في الحربين،
ولا من قبل نزعة الغوغاء نحو الحرب والتدمير وشهوة القتل والانتقام المناقضة للروح
الانسانية.
وعن هذه المرحلة
وظروف كتابة هذا الكتاب المهدى الى ذكرى صديقه الروائي رومان رولان يكتب
هرمان في مقدمة طبعة 46 قائلا:" لم يكن تجميع مادة هذا الكتاب
مهمة سارة بالنسبة الى المؤلف. فهي لم توقط ذكريات سعيدة أو تعيد الى الذاكرة صورة
محببة. على العكس ، فكل مقالة فيه تذكرني بشكل مؤلم بأوقات المعاناة، والصراع،
والوحشة، أوقات كانت تحدق بي
خلالها العداوة وغياب الفهم وكنت معزولا بصورة
مريرة عن المثل العليا والعادات السارة. وكان الاصدقاء ـ دعاة الحرب ـ قد نبذوني
لتوهم، وجلبت على نفسي أولى حملات الهجوم والتهديد وسيل الاهانات التي كان
التقليديون ينجحون في صبها
على كل من يسير وحده. ولم يكن واضحا قط ما اذا كنت
سأنجو أم أتحطم إثر هذا الصراع. وقد اعتبرني الرأي الالماني الرسمي قبل ان تحرز
الاشتراكية الوطنية ـ حزب هتلر ـ أولى انتصاراتها بوقت طويل، شخصا مشبوها وغير
مرغوب فيه اساسا، وفي أحسن الاحوال يستحق ان يسامح. وبدءا من رواية" ذئب السهوب"
التي كانت صرخة تحذير ضد الحرب القادمة، وحتى رواية" لعبة الكرات الزجاجية" تعرضت
للهجوم والسخرية .لقد حاولت ان افعل ذلك حتى وانا واثق من أني سأواجه بالعداء
وبالسخرية. لم تهتز احكامي قط. ودهشت انا نفسي من مصداقية ردود فعلي ولطالما فكرت
في مصادر هذه الغريزة الاخلاقية والمعلمين والقادة الذين ساهموا كثير ا
صياغتي"ان هذا الكتاب وان كان يعكس موقف هرمان من قضايا الحرب
والسلام والحب إلا انه شهادة صادقة وجريئة لكاتب شجاع من قضايا حيوية تمس صميم
الكرامة البشرية ومنها قضية الحرب ونزعة تمجيد القتل حتى وصل الامر بالكاتب حالة
السخرية من مفهوم الشهادة في الحرب، فكيف يمكن لشخص يصاب بطلق ناري في القلب وهو
واقف أن يصبح شهيدا ومناضلا ورمزا، ولا يصبح الفلاح الذي يعمل في مزرعته كل يوم على
هذا
القدر من البسالة والشجاعة والكرم؟
في فصل" آه ياأصدقائي، ليس هذه النغمات" وهو بيت شعري
مأخوذ من قصيدة الشاعر الالماني الشهير شيللر" انشودة الفرح" والتي استعان بها
بتهوفن في آخر سيمفونيته التاسعة، يقول هرمان هيسه:
" إن الاخرين يساهمون في الاحداث الجليلة بحمل الحرب
الى غرف مكاتبهم وتأليف أغان تحث على شن حرب وحشية أو مقالات مفرطة في التطرف تشعل
الاحقاد بين الامم، ولعل هذا أسوأ الامور قاطبة. ان الرجال الذين يجازفون بحياتهم
في كل يوم على الجبهة قد يكونون فريسة الاحساس بالمرارة، ونوبات خاطفة من الغضب
والحقد. الامر نفسه يصح على السياسيين الفاعلين. لكن هل وظيفتنا نحن الكتاب،
والفنانون، والصحافيون، أن نزيد الطين بلة؟ أليس الوضع أصلا غارقا فيما يكفي من
البشاعة ويرثة له؟ ان هذه الحرب البائسة بالذات يجب أن تجعلنا أشد وعيا بأن
الحب اسمى من الكراهية، والفهم اسمى من الغضب، والسلام أسمى من الحرب. وإلا
فماجدواها.."
في الحرب
العالمية الاولى يغادر هرمان بلدته الى مكان آخر لكنه يعود اليها ويلقى عليه القبض
بتهمة" التمشي بدون إذن" وعليه ان يدفع مبلغا من المال يعادل ألفي غولدن، وهو مبلغ
ضخم، فيطلب هرمان حبسه بدل ذلك، فيصرخ الشرطي:
ـ أتقول أحبسك؟ أتتوقع منا أن
نطعمك؟ كلا ياصديقي.
يقول
له هرمان بإنحناءة لطيفة:
ـ من فضلك لدي طلب واحد، لقد أدركت أني غير
متكيف مع الوضع القائم وموقفي يزداد سوءا على سوء. ألا تستطيع أن تحكم علي بالاعدام
وسوف أكون شديد الامتنان ان فعلت؟!
يرد الشرطي بلطف:
ـ إنني أتفهمك. تحتاج الى شهادة وفاة. هل معك ثمنها؟
انها تكلفك أربعة الاف غولدن.
ـ كلا لا أملك هذا القدر من المال.
ويقرأ الشرطي في بطاقة هرمان هيسه ويساله
مندهشا:
ـ أرى انك مقيد تحت اسم أميل سنكلير الكاتب؟
يرد هرمان: ـ انا
هو.
قال بنبرة
ودية:
ـ لقد قرأت مؤلفاتك
وسأبذل جهدي لمساعدتك.
يسأله
هرمان:
ـ هل تستطيع أن تدبر لي شهادة وفاة؟
ويجيب الشرطي:
ـ قد استطيع.
تحتاج الى بطاقة وجود، وبتوصية مني سوف يخرجونها لك. لكنها ستكون كافية فقد مدة
يومين.
ـ هذا أكثر من
كاف.
وهذا الحوار الذي يدور بين
هرمان وبين الشرطي حول الاسم وبطاقة الوجود أو الهوية الشخصية بسبب أن هرمان هسه
كان يكتب في تلك الايام بإسم مستعار هو أميل سنكلير وبه كتب روايته" دميان".ومن حسن
الحظ ان هذا الشرطي الالماني كان مدركا للتقاليد الثقافية والادبية ولم يحول الامر
الى جريمة، بل عرض عليه المساعدة في تصحيح الاسم.يكشف هرمان
جوانب كثيرة من المهازل التي تولدها الحرب حيث يتحدث عن رجل عجوز توقعت السلطات
المحلية موته في خلال ستة شهور لكن حالته تحسنت الامر الذي قادهم الى فتح تحقيق معه
حول نوعية الطعام الذي يأكله. حسب التشريع القذر يجب أن يموت
هؤلاء العجائز
الذين لا فائدة من وجودهم في الخطوط الخلفية للحرب.
وفي كانون الاول 1917 تمر مناسبة عيد الميلاد
في زمن الحرب. ان عيد الميلاد، يقول هرمان" لم يعد بالنسبة الينا جميعا ومنذ زمن
بعيد، تعبيرا عن مشاعرنا الصادقة. لقد اصبح النقيض المباشر لها. مرة واحدة في العام
نتصرف وكأننا
نعلق اهمية كبرى على العواطف النبيلة. ان الحب وحده يوصلنا
الى الخلاص.."
وفي مقال " كلمة
أولى للشبيبة الالمانية" في عام 1919، يوجه هرمان نداءً شجاعا الى الشبيبة
الالمانية فاضحا النزعة العدوانية للحرب والاهداف الحقيقية التي تقف خلفها،
وكونها دليلا على انحطاط الفكر الالماني، مذكرا بفداحة المخاطر
القادمة.
وفي مقالات كثيرة
يؤكد هرمان هيسه على ان الشجاعة الحقيقية هي في روح العناد والبحث عن المعنى البشري
الاساسي الكامن في شرف العثور على المصير داخل الذات الانسانية، وان رحلة البحث عن
الحرية تبدأ، حسب هرمان، من العثور على المصير داخل القلب، وليس غريبا على
روائي اطلع على ينابيع التصوف الشرقي كما جاء في روايته" ذئب السهوب" ان يؤكد على
ان شرف الكائن البشري موجود في روحه، وان الامر لا يحتاج الى مشاركة في الحرب، بل
الى العزلة. ويقول:
"
اصغوا الى تلك الفكرة، اصغوا الى الصوت المنبعث من داخلكم، اعلموا ان ثمة خطرا، ثمة
عطبا، انكم تسيرون على الدرب الخطأ"
في مقال كتب في عام 1945 وفي ريجي وهو احد جبال سلسلة الالب السويسرية حيث
عاش الكاتب سنوات من النفي، يتحدث عن الرسائل التي تصله من المانيا بعد الانهيار في
الحرب العالمية الثانية، وأكثرها يتحدث عن بنبرة اخلاقية حزينة عن الفاجعة ويجد
لنفسه مخرجا منها ولا أحد يلقي اللوم على نفسه، كأن طبول تلك الحرب كانت تقرع من
قبل أشباح.
توارى كل اولئك الذين
قرعوا طبول الحرب مرتين بعد انكشاف الكارثة وبدا الامر كله، الفضيحة كلها، الخراب
كله، من صنع هتلر وحده، وظهر ما يسميه عالم النفس يونغ " الشعور الجمعي بالذنب" عند
الالمان بسبب نزعة الحرب التي شوهت
الروح الالمانية.
وحين تداعت الامة الالمانية على حلم خاسر، ظهر
هرمان هيسه وسط الخراب، كما هو متوقع من روائي تنبأ وتوقع هذه الاهوال قبل وقوعها
وحذر منها كطائر البطريق الذي يهجس بالعاصفة قبل هبوبها، ووجه خطابا شهيرا اسمه"
خطاب بعد منتصف الليل" مناشدا الشعب تضميد الجراح، والخروج من الصمت، والتعود
على ترديد كلمة السلام، والبحث عن السعادة البشرية من خلال رؤية جديدة تحترم الزهرة
والبراءة والطفولة والموسيقى والانفتاح الهادئ على الحياة داعيا، وسط الرائحة
النتنة للموت والفجيعة والخراب الى" الحب الذي يقربنا من الهدف".
اما الفصل الاخير من هذا الكتاب فهو مخصص لذكرى
صديقه رومان رولان الذي وقف معه بشجاعة، دون أن يتوراى ،ويدفن رأسه، كما حدث
لكثيرين. تحدث في هذا الفصل عن علاقة رمان رولان بتولستوي الذي رد على رسالة من
الفتى رومان دون ان يعرفه، وكان تولستوي يومها روائيا شهيرا، وهي عادته في الرد على
كل رسالة تصله، حتى تلك الرسائل التي كانت تصله بغرض السخرية، فهذا هو احد تقاليد
الروائي الروسي الاخلاقية التي لم يتنازل عنها حتى وفاته.
ان اصواتا كثيرة في البرية تصرخ من اجل الكرامة البشرية وكراهية الحرب ومن
بينها، يذكر هرمان هيسه، تولستوي، وغاندي، ورومان رولان، الذين حافظوا في أحلك
ساعات البشر على ثقتهم بروح الانسان.