جائزة نوبل: نظرة من خارج السرب (سفيتلانا ألكسيفيتش في الميزان)
سلام عبود
2015 / 10 / 24 - 19:42
سفيتلانا ألكسيفيتش خليط نموذجيّ، يطابق اللحظة الراهنة بقوّة: أوكرانيّة الأمّ، بيلاوروسيّة الأب، روسيّة الثقافة، سوفياتيّة المعايشة. ملامح ليست نادرة، لكنها تضع صاحبها في قلب العاصفة. كتبت سفتلانا القصص القصيرة والمقالات والتحقيقات الصحافيّة. لكنها اشتهرت باعتبارها كاتبة صحافيّة، تعتمد في موضوعاتها أسلوب التحفيز لمن تقابلهم، من طريق مساعدتهم على بناء نصّ شخصيّ، يكون مع غيره من التجارب وحدة حكائيّة متعددة المساقط والانفعالات، تتنوع فيها أنماط البوح والسرد. في مقابلاتها تؤكد صلتها الفنية والروحية بالكاتب البيلاروسيّ أليس أداموفيتش، الذي مهّد لها الطريق الى ولوج لون أدبيّ خاص، هو مزيج من الوثيقة والقصة، ثمّ جعلها تصل الى نوع مهجـّن من التقرير الصحافيّ والنصّ الأدبيّ الحكائيّ، سمّته "الرواية الجماعيّة"، "رواية الأدلـّة"، التي يتحدث الناس فيها عن أنفسهم في جوقة "ملحميّة"، متعدّدة الأصوات. ربّما يكون التوصيف الأكثر دقـّة لهذا اللون الأدبيّ هو ما جاء في وثائق المحاكمة الخاصة بكتاب "أولاد الزنك"، فقد جرى تصنيف النصوص باعتبارها "حكايات وثائقيّة".
في المقابلة السريعة التي نشرتها صحيفة "اكسبرسن" الأسوجية يوم فوزها بجائزة نوبل للأدب لهذه السنة، أعربت سفيتلانا عن مشاعرها قائلة: "إنها مشاعر كثيرة، صعبة. إنها مسألة كبيرة. أن تكون في صف واحد مع بوريس باسترناك والكسندر سولجنتسين وإيفان بونين". الفرحة الكبيرة، ربّما أفقدتها المقدرة على تذكر كلّ الفائزين بالجائزة من الروس. وإذا اعتبرنا استبعاد يوسف برودسكي من الصف، يتعلق بأن برودسكي يبدع في حقل مغاير: الشعر، فإن نسيان الروائي الكبير ميخائيل شولوخوف قد يعتبره البعض إشارة خاصة، أو انحناءة محسوبة، قدمتها سفيتلانا للتلاؤم مع ما يقتضيه زماننا من ضرائب واجبة.
قبل أن يظهر اسم سفيتلانا ألكسيفيتش على رفوف المكتبة الأسوجية، ظهر اسمها لدى نادي القلم الأسوجي، وهو منظمة ثقافيّة تعنى بحرّيّة الكلمة، لكنها فقدت خط مؤسسيها المستقل منذ زمن بعيد، وراحت تخلط الثقافة بالسياسة، منحازة الى الجانب السياسي على حساب العامل الفني. في العام 1996 حصلت سفيتلانا على جائزة نادي القلم. في العام التالي تـُرجم لها أول كتاب الى الأسوجية، عنوانه "صلاة لتشرنوبيل"، عن دار "أورد فرونت"، ثمّ تلاه كتاب ثان في العام 1998: "مغويّون من قبل الموت" عن "جبهة الكلمة" أيضا.
على الرغم من أن سفيتلانا حصلت على لجوء حرّ في أسوج، أمضت خلاله عامين في مدينة يوتبوري (غوتنبورغ)، إلا أنها لم تجذب اهتمام المترجمين. لذلك يتبادر الى الذهن أن ترجمة كتابيها السابقين حدثت تحت تأثير جائزة نادي القلم. فقد خبت بعد ذلك الرغبة في مواصلة الترجمة حتى العام 2012، أي ما يقرب من عقد ونصف العقد من الزمن.
لكن، من دون مقدمات منطقية واضحة، رُفعت كاشفات الأنوار فورا، وسُلطت على سفيتلانا الأنوار الكاشفة في العام 2012، الذي شهد صدور كتابين مترجمين لها: "الحرب لا تملك وجها نسائيّا"، و"كلمات حرّة مهاجرة". الكتاب الثاني مقابلات وحوارات مع الكاتبة، والأوّل هو كتاب سفيتلانا الأكثر شهرة. ظهر في العام 1985، (قيل أنجز عام 1983) ونشر في بداية حقبة غورباتشيوف 1985، أي قبل ترجمته الى الأسوجية بربع قرن. أعادت سفيتلانا كتابته، فظهر بطبعات مختلفة، مزيدة، قيل إن الرقابة السوفياتيّة مرت على النصّ عند صدور الكتاب للمرّة الأولى. حاز هذا الكتاب ثلاث جوائز سوفياتيّة في 1985 و1986، منها جائزة الشبيبة الشيوعيّة اللينينيّة، وهذا أمر لا تذكره المصادر التوثيقيّة كلها. في إنكلترا وألمانيا تُرجم الكتاب نفسه، ولكن بفارق زمني، قدره ربع قرن مقارنةً بالترجمة الأسوجية. وهو زمن طويل في حساب الثقافة الأوروبيّة، عند الحديث عن منجزات لها حظ الوصول الى الجوائز العالميّة. هذا التناقض الواضح بين أهمية المنجز وتأخر الاهتمام به، نجده مبثوثا ضمنيّا، كتناقض عقلي، في المقابلة التي أجراها مراسل صحيفة "داغسنيهيتر" مع الناطقة باسم الأكاديمية الأسوجية سارا دانيوس، لحظة الإعلان عن اسم الفائز. فقد خصّت دانيوس هذا الكتاب تحديدا بالذكر من بين جميع أعمال سفيتلانا، قائلة: إنها تشيد بمنجز سفيتلانا التوثيقيّ للحياة السوفياتيّة من طريق تسجيل مئات الشهادات الحيّة، ناصحة من لم يقرأ لها بعد أن يبدأ بكتاب "الحرب لا تملك وجها نسائيّا".
بعد العام 2012 توالت سريعا ترجمة انفجاريّة لما تبقى من أعمال سفيتلانا، في 2013 و2014، وقبيل حصولها على الجائزة بأشهر. مع تسارع عجلة الترجمة تسارعت التقييمات الكبيرة، الحاسمة، والمفارقات العقليّة الموهمة، ذات البعد الظاهري المتناقض. ففي صحيفة "سفنسكاداغبلادت" كُتب: إذا كنت ترغب في قراءة كتاب واحد فحسب هذا العام، فعليك بـ"الحرب لا تملك وجها نسائيّا". وكـُتب أيضا: "دار (ارسادز) تساهم مرة أخرى في أن ترفع الى الأمام واحدة من أهم كتّاب زماننا". أمّا صحيفة "اكسبرسن" فبدأت من الخاتمة: "مقدرتها على التقاط الأصوات واكتشاف التفاصيل غير القابلة للنسيان تجعلها مؤهلة للفوز بجائزتي نوبل للأدب والسلام معا". لم يكتف المترجمون بهذا، فقد أعاد مترجم كتابها الأول نشر الكتاب في العام 2014، جاعلا العنوان من "صلاة لتشرنوبيل: وقائع للمستقبل" الى "صلاة لتشرنوبيل: وقائع من زمننا"، وهو تغيير طفيف جدّا، لكنه قريب جدّا من روح تبرير الأكاديميّة الأسوجية. بعد يومين من إعلان الجائزة صدرت طبعة جديدة ومنقحة من الكتاب، من دار نشر "ارسادز"، التي احتكرت نشر مؤلفات سفيتلانا، منذ إلقاء الأنوار الكاشفة عليها في العام 2012.
إن التصعيد في حجم القيمة المعرفيّة والفنيّة الى مستوى "إحدى أبرز كتاب عصرنا"، ثمّ الوصول الى جائزة نوبل، والتصعيد في الترجمة بشكل مفاجئ، في غضون عامين ونصف العام، لا يعني سوى واحد من أمرين: وجود خلل جدي في جسد الثقافة الأسوجية، أعاقها عن إدراك قيمة ثقافية فريدة تعيش بين ظهرانيها، أو أن هناك وهنا في سبل اختيار الأفضل تعيشه الأكاديميّة، بسبب سوء مواكبتها. لكن، لنوبل دائما أسرارها، وجدلها الخاص المتشعّب والمتشابك.
لقد حصلت سفيتلانا على جوائز من دول عديدة: أميركا، ألمانيا، فرنسا، النمسا، بولونيا. في نهاية المطاف جائزة نوبل للأدب 2015، لكنها ظلت اسما مجهولا في الثقافة العربيّة. قابلت الصفحات الثقافيّة العربيّة فوز سفيتلانا ألكسيفيتش كالعادة باضطراب، مشوب بالنقل الميكانيكيّ الأعمى. اعتبرها بعضهم صفعة لليسار الأوروبيّ الناهض، ومنهم من اعتقد أنها "حنين الى الزمن الضائع". . ويصل الاستنساخ الثقافي مدى بشعا، حينما تجعل صحيفة (القدس العربي) أعمال سفتلانا الأكثر شهرة "روايات". نقرأ هذا في مقال الناقد السوري صبحي حديدي "سفيتلانا ألكسييفتش: فتنة الريبورتاج الأدبي"، 11 تشرين الثاني 2015: "
"كتابها الآخر، الذي صدر في ترجمته الفرنسية عن الدار ذاتها، نُشر تحت عنوان «أعمال»، وضمّ ثلاث روايات: «ليس للحرب وجه امرأة»، عن النساء خلال الحرب ضدّ ألمانيا النازية؛ و»آخر الشهود»، عن أولئك الذين كانوا مجرّد أطفال خلال الحرب؛ و»تضرّع»، عن ضحايا كارثة شيرنوبيل النووية."
في ظل ضعف حدود الاستشعار الثقافي قوميا تصبح قراءة الآخر لغزا محيّرا، وتضيع حقيقة الموقف، الذي دفع الأكاديميّة الى اختيار سفيتلانا: "لمنتجها المتعدد الأصوات (النغم)، شاهد (نصب تذكاري) للمعاناة والشجاعة في زمننا".
الاستفتاء الذي أجرته صحيفة "اكسبرسن" يوم صدور الجائزة بيّن أن تسعين في المئة من القرّاء يجهلون أدب سفيتلانا. وهي نسبة غير قليلة، لدى شعب يملك تقاليد رصينة في مجال القراءة، كالشعب الأسوجي، على الرغم من أن اسمها كان متداولا بكثرة ضمن مرشحي الجائزة. سبب ذلك يعود الى أنها كانت اسما مجهولا في الثقافة الأسوجية على مستوى القرّاء (الجمهور)، جرى كسب العشرة في المئة من القراء خلال العامين والنصف العام المنصرمة على عجل. كما لو أن معمل صناعة النجوم يتسابق مع نفسه ليلحق بزمن في سبيله الى الاندثار. هنا، في هذا الحيّز الملتبس، ربّما تكون فكرة صناعة رمز ثقافي وقائي، في مواجهة نهوض اليسار الأوروبيّ، تحمل قسطا من المنطق.
من أجل إعطاء صورة مقرّبة ومختصرة عن الجانب الفنيّ لنتاجات سفيتلانا، وعن الجانب الفكريّ أيضا، نقدم الى القارئ شريحتين قصيرتين، مجتزأتين من كتابها "أولاد الزنك". تمّ اختيار النصّين لأسباب فنيّة خالصة. فقد وضعت سفيتلانا هذين النصّين خارج دائرة السرد، الذي يبدأ في الكتاب في حزيران 1986. وضعت النصّ الحكائيّ، الذي ترويه أمّ في المقدمة، ثمّ وضعت نصّها التوضيحيّ بعد المقدمة وقبل اليوم الأوّل لبدء عرض حكايات الشهود. في النصّ الأوّل نجد تجسيدا عمليّا واضحا لفكرة تطوير الوثيقة الصحافيّة الى نصّ أدبيّ، وفكرة تجميع الأصوات المتفرقة في وحدة جماعيّة متعددة الأصوات. تقول سفيتلانا عن نفسها وعن لحظة الامتزاج بين الوثيقة الصحافيّة والحكاية الأدبيّة: "23 أيلول. حلـّقتُ في طائرة هلكوبتر... من أعلى رأيت مئات التوابيت الزنكيّة، جاهزة للاستعمال. كانت تلتمع بجمال مخيف في ضوء الشمس... حينما يصطدم الإنسان بهذا المشهد يفكـّر فورا: الأدب يُخنق في أطره... بالاستنساخ والحقائق يمكن الانسان أن يعبّر عن الأشياء التي يراها بعينيه المجردتين، ولكن من يحتاج الى الوصف التفصيليّ لما يحدث؟ ذلك يحتاج نوعا آخر من الوصف... لحظات إمعان، مستقطعة من الواقع الحقيقيّ".
لقد نشدت سفيتلانا الوصول الى هذه اللحظة المتفحّصة. لذا وجدت أن التقارير الصحافيّة التوثيقيّة جامدة لا روح فيها، وأنّ النصّ الأدبيّ الفنيّ ينطوي على انزلاقات خياليّة، قد تقود الى ما لا يتطابق مع الحقيقة القاسية والمعاناة الحقيقيّة للأفراد والجماعات. استنطاق أصحاب المعاناة، وهم يروون مكابداتهم، هي الطريقة المثلى لصنع وثيقة أدبيّة نابضة بالحياة. يستطيع القارئ أن يلمس هذا الامر بوضوح عند قراءة النصّ الأوّل.
ولكن، ألا يخلق تكرار هذا الأسلوب مللا ورتابة، وتنميطا جديدا، على الرغم من أنه سعي، في الأساس، لتهشيم التنميط والثورة عليه؟ نعم، ربّما يحدث ذلك. هذا أمر ممكن، على رغم أنّ المؤلفة تحرص في كل كتاب على ولوج عالم وثائقيّ مختلف: حرب أفغانستان، نساء الحرب العالمية الثانية، ضحايا تشرنوبيل، مصدومو انهيار الاتحاد السوفياتي... هذا التنوع يشكل غنى، لا بسبب اجتناب الوقوع في تكرار المواضيع، وإنما بسبب قوّة الحدث الموضوع تحت المعاينة المركـّزة، وقوّة استنطاق المعايشات. ربّما يبرر هذا القدر من التحدي الفنيّ تكرار وسائل السرد والرويّ، التي تصرّ الكاتبة على جعلها مغايرة لبعضها في أسلوب القصّ وأحاسيس الرواة، وطبيعتهم الخاصة، العفوية أو المفتعلة، البواحة أو الصموتة، الفاضحة أو المتسترة. هكذا نجد انفسنا أمام لوحات عظيمة التنوع، جياشة بالمشاعر المحزنة.
في النموذج الثاني تبسط سفيتلانا لقارئها أسباب لجوئها الى هذا الضرب من التوثيق. ما خلفياته العقليّة والسياسيّة، والأهم ما غاياته الإنسانيّة؟ هنا تواجه الكاتبة ما يشاع عن كتاباتها، بأنها متخصصة في المآسي، وفي الجوانب المظلمة من الحياة. حتى البطولات، التي اجترحتها مقاتلات الحرب العالميّة الثانية البطلات، وجدت فيها وجها سلبيّا للنصر. الرد الموجز الذي تسجـّله وثائق سفيتلانا يقول: أليس هذا هو الوجه الآخر للواقع، الوجه المحزن، الذي نصرّ على تجاهل رؤيته؟
***
النصّ الأوّل
"مقدمة
- أنا أذهب وحيدة... سيكون عليَّ أن أذهب وحيدة الآن طويلا... إنه، ابني، قتل إنسانا... بساطور المطبخ، الذي استخدمه لتقطيع اللحم. لقد شرع في القتل مسرعا حال عودته من الحرب. في الصباح رجع الى البيت وأعاد الساطور الى خزانة المطبخ، حيث توجد صحون البورسلين. أعتقد أنني قليتُ له لحم الخنزير هذا اليوم... بعد وقت قالوا في التلفزيون وكتبوا في الجريدة إنه تمّ استخراج جثة من بحيرة في مدينة... جثة مقطعة. صديقة اتصلت:
- هل قرأت؟ جريمة قتل محترفة... ذات بصمات أفغانية...
كان ابني في المنزل، ممددا على الأريكة وهو يقرأ كتابا. لم أكن أعلم شيئا، ولم أكن قد شعرت بشيء، لكنني بعدما سمعت ما قالته (صديقتي) نظرت اليه لسبب ما متفحصة... كان ذلك قلب الأمّ، الذي...
هل تسمع نباح الكلب؟ لا؟ أنا أسمع ذلك حالما أبدأ بالكلام... أسمع الكلاب تأتي راكضة... في السجن، حيث يجلس الآن، توجد كلاب سود كبيرة... وهناك الجميع يرتدون الثياب السود، السود فحسب... عندما أعود الى مينسك بعد أن أكون هناك وأذهب لجلب الخبز والحليب قرب المخبز أو حضانة الأطفال، أسمع نباح الكلب ذلك. نباح يصمّ الآذان. ذلك يجعلني لا أرى... مرة كدت أدهس تحت عجلات سيارة... كنت أريد الذهاب الى قبر ابني... كنت أريد أن استلقي الى جواره... ولكن الآن لا أعرف.... لا أعرف كيف أستطيع العيش مع هذه... أحيانا أشعر بالاشمئزاز حينما أذهب الى خزانه الصحون، حيث يوجد الساطور... ألا تسمعون؟ ألا تسمعون شيئا؟... لا شيء؟
اليوم لم أعد أعرف من يكون ابني. كيف سيكون بعد خمسة عشر عاما حينما استعيده ثانية. لقد حُكم عليه بالحبس المشدد لخمسة عشر عاما. كيف قمت بتربيته؟ لقد كان مستمتعا بصحبة.... (تبكي) لقد سلبتني أفغانستان ابني.
... استلمنا برقية من طشقند: "قابليني، أنا قادم على الطائرة رقم"... اندفعت الى شرفة المنزل، أردت أن أصرخ لكي يسمعني الجميع: "إنه حي، لقد عاد ابني حيا من أفغانستان. هذه الحرب الكريهة قد انتهت بالنسبة لي"، وهكذا أغمي عليّ. طبعا وصلنا متأخرين الى المطار. طائرته وصلت منذ وقت طويل. لقد وجدنا ابننا في الداخل، في مستنبت صغير. كان مستلقيا على الأرض فوق العشب، مندهشا لعمق اخضرار الأرض. لم يكن يعتقد البتة أنه سيتمكن من العودة... ولكن لم تكن هناك مسحة فرح على وجهه.
في المساء زارنا جيراننا. كان لديهم طفلة صغيرة، عقدت شريطا أزرق صافيا في شعرها. أخذ الطفلة اليه ووضعها على ركبتيه وعانقها باكيا. دموعه ظلت تنهمر وتنهمر. ذلك لأنهم قتلوا أطفالا هناك. هو أيضا... لقد فهمت ذلك لاحقا... في الجمارك مزقوا سراويل السباحة المستوردة، التي يرتديها. أميركية. غير مسموح بها... لهذا وصل الى البيت من دون ملابس داخلية. جلب معه معطفا صباحيا هدية لي. لأنني سأحتفل بميلادي الأربعين هذا العام. لكنهم أخذوه منه. وقد جلب معه شالاً لجدته، أخذوه أيضا. الشيء الوحيد الذي حمله معه الى البيت هو الورد. نوع من الزنبق. ولكن لم تكن هناك مسحة فرح في وجهه".
***
النصّ الثاني
"من كتب اليوميّات أثناء الحرب
حزيران 1986
لا أريد أن أكتب عن الحرب... وأن أعيش مجددا مع فلسفة الاختفاء، بدلا من فلسفة الحياة، وأن أجمع في داخلي خبرات لا نهائية عن الفناء. حينما انتهيت من كتابة "الحرب ليس لها وجه نسائي" (ترجم النص أيضا بعنوان: ليس للحرب وجه نسائي)، تأخرت كثيرا قبل أن احتمل رؤية طفل مدمى الأنف عقب شجار. في الإجازة الصيفية هربت من منظر الصيادين وهم يعلقون سمكة كبيرة، لقد دهمني الإحساس بالمرض حينما رأيت عينيها المتصلبتين، المعذبتين. كل واحد منا يملك احتياطا من القوة كنوع من الحماية ضد الألم، احتياطا نفسيا وجسديا، لكن الاحتياطي الخاص بي كان نافدا تماما. كنت أفقد طبيعتي حينما أسمع مواء قطة مدهوسة، وأدير وجهي الى الجهة الأخرى حينما أرى دودة داستها الأقدام أو ضفدعة متيبسة في الطريق... لقد اعتقدت غالبا أن الحيوانات والطيور والأسماك تملك حقا في امتلاك تاريخ للمعاناة. من المؤكد أنه سيُكتب عن هذا يوما ما.
وفجأة! إذا قدِّر لنا أن نسمّيها الآن فجأة. كان ذلك في السنة السابعة للحرب. لكن كل ما نعرفه عن ذلك كان ما شاهدناه في التقارير التلفزيونية البطولية. وبين حين وآخر كنا نجفل لمرآى التوابيت المنقولة من الخارج، التي كانت أكبر بكثير من "اكواخ خروتشوف" المحدودة المساحة. تحية الحزن الاحتفالية انقضت وحلّ الصمت مجددا. طباعنا العقلية الميثولوجية غير قابلة للاهتزاز: نحن عادلون وعظماء. ونحن نفعل ما هو صحيح دائما. آخر الجمرات المتبقيّة من أفكار الثورة العالميّة انطفأت وتلاشت... لم يلاحظ أحد الحريق الذي ينشب في بيتنا الخاص. غورباتشيوف بدأ البيريسترويكا. نحن نتوق الى حياة أخرى.
ماذا ينتظرنا في قادم الأيام؟ ماذا يمكننا أن نصلح بعد سنوات عديدة من غفوة اللامبالاة الصناعيّة؟ وفي الوقت نفسه يُقتل أولادنا في مكان ما، بعيدا لسبب يعلم الله ما هو...
عن أي شيء يتحدث الناس المحيطون بي؟ عمّ يكتبون؟ عن "الواجب الأممي" وعن المناخ السياسي، وعن مصالح القوّة العظمى والحدود الجنوبية. وهذا ما يعتقد به الناس. إنهم يعتقدون بهذا. الأمهات، اللواتي انحنين توا بيأس أمام العلب المعدنية الصامتة، التي أعيد بها أبناؤهن، يدخلن الى المدارس والمتاحف الحربية، لدعوة أولاد الآخرين الى "أن يقدموا الخدمة في سبيل الوطن الأم". الرقابة تحرص بدقة على أن تكون المقالات عن الحرب خالية من ذكر قتلانا في الحرب، وعلى المرء أن يؤكد أنها "وحدات محدودة من القوات السوفياتية"، التي تساعد الشعب الشقيق على بناء الجسور، الطرق، المدارس أو تساعد على نقل الأسمدة والطحين للقرى الأفغانية، وتساعد الأطباء السوفيات على مساعدة النساء الافغانيات على ولادة الأطفال. الجنود العائدون الى الوطن يعودون مع غيتاراتهم الى المدارس ويغنون بما يجب أن ينطقوا به".
***
لا أحد يستطيع إنكار المهارة العالية في استنطاق الآلام، التي يكابدها الشهود. الأهم من هذا، المقدرة الفريدة على التقاط الضحايا داخل المنظومة الاجتماعية، واستخراجهم أفرادا من بين ركام الحوادث الكبيرة المخلوطة بالصمت أو التواطؤ الجماعي، وتحويل الألم الفردي الى مصير مأسويّ جماعيّ وظاهرة، في مواجهة جبروت سلطة كليّة، قاهرة.
مجسّات سفيتلانا الحساسة، التي استخدمتها لاكتشاف ضحاياها ومآسيهم، استخدمتها الأكاديميّة الأسوجية عند اختيار سفيتلانا نفسها مرشحة للجائزة: حزمة متداخلة سياسيا وثقافيا، تنبض بالحيويّة، بصرف النظر عن اتجاه تأويل نصّها، أو تأويل فوزها.
حميميّة الشهادات تكمن في تنوعها، وفي روايتها بضمير المتكلم (لا تذكر الكاتبة الاسم الأوّل الصريح للمتحدث)، نابعة من قلوب أمهات وآباء، عسكريين ومدنيين، أطفال ونساء من مختلف الرتب، ممرضات وعاملات ومقاتلات، وعاملين اجتماعيين من مختلف المشارب. ذلك كله يعطي للشهادات تجددها وعدم وقوعها في التكرار الممل، رغم أنّها جميعها تنحو في اتجاه واحد: عرض الجانب المأسويّ للمعايشة الحربيّة والاجتماعيّة، وما يحيط بها من "غفلة نوم صناعيّة"، صنعتها خرافة الوحدة الإيديولوجيّة.
هل من جديد يخلقه تقرير حربيّ عن أفغانستان، التي ما عادت أفغانستان، أو التي اندثرت معالمها الحضارية تماما عقب هزيمة السوفيات؟ تقول الكاتبة ذلك شأن آخر، ما يهمني هو مصير وجراح الجنديّ السوفياتيّ العائد مهزوما، وليس جراح ومصير أفغانستان الرابحة أو الخاسرة. وأين الإنسانيّة التي نتغنى بها؟ لا يهمني ذلك! هنا قد تبدو الكاتبة قاسية في منطقها المتعقل، المقنع والنفعي. لذلك تبدو شهادات سفيتلانا، في النهاية، كما لو أنها لا تقدم ما هو جديد، سوى إعادة تكرار المأساة، التي تجعل القارئ يدور على نفسه في الطقوس والمكابدات نفسها. تلك نقطة ضعف الكاتبة في نظر البعض، نقطة الضعف التي وجد فيها الغرب
نقطة القوّة والتفوق.
سفيتلانا ألكسيفيتش في الميزان
سلام عبود
سفيتلانا ألكسيفيتش خليط نموذجيّ، يطابق اللحظة الراهنة بقوّة: أوكرانيّة الأمّ، بيلاوروسيّة الأب، روسيّة الثقافة، سوفياتيّة المعايشة. ملامح ليست نادرة، لكنها تضع صاحبها في قلب العاصفة. كتبت سفتلانا القصص القصيرة والمقالات والتحقيقات الصحافيّة. لكنها اشتهرت باعتبارها كاتبة صحافيّة، تعتمد في موضوعاتها أسلوب التحفيز لمن تقابلهم، من طريق مساعدتهم على بناء نصّ شخصيّ، يكون مع غيره من التجارب وحدة حكائيّة متعددة المساقط والانفعالات، تتنوع فيها أنماط البوح والسرد. في مقابلاتها تؤكد صلتها الفنية والروحية بالكاتب البيلاروسيّ أليس أداموفيتش، الذي مهّد لها الطريق الى ولوج لون أدبيّ خاص، هو مزيج من الوثيقة والقصة، ثمّ جعلها تصل الى نوع مهجـّن من التقرير الصحافيّ والنصّ الأدبيّ الحكائيّ، سمّته "الرواية الجماعيّة"، "رواية الأدلـّة"، التي يتحدث الناس فيها عن أنفسهم في جوقة "ملحميّة"، متعدّدة الأصوات. ربّما يكون التوصيف الأكثر دقـّة لهذا اللون الأدبيّ هو ما جاء في وثائق المحاكمة الخاصة بكتاب "أولاد الزنك"، فقد جرى تصنيف النصوص باعتبارها "حكايات وثائقيّة".
في المقابلة السريعة التي نشرتها صحيفة "اكسبرسن" الأسوجية يوم فوزها بجائزة نوبل للأدب لهذه السنة، أعربت سفيتلانا عن مشاعرها قائلة: "إنها مشاعر كثيرة، صعبة. إنها مسألة كبيرة. أن تكون في صف واحد مع بوريس باسترناك والكسندر سولجنتسين وإيفان بونين". الفرحة الكبيرة، ربّما أفقدتها المقدرة على تذكر كلّ الفائزين بالجائزة من الروس. وإذا اعتبرنا استبعاد يوسف برودسكي من الصف، يتعلق بأن برودسكي يبدع في حقل مغاير: الشعر، فإن نسيان الروائي الكبير ميخائيل شولوخوف قد يعتبره البعض إشارة خاصة، أو انحناءة محسوبة، قدمتها سفيتلانا للتلاؤم مع ما يقتضيه زماننا من ضرائب واجبة.
قبل أن يظهر اسم سفيتلانا ألكسيفيتش على رفوف المكتبة الأسوجية، ظهر اسمها لدى نادي القلم الأسوجي، وهو منظمة ثقافيّة تعنى بحرّيّة الكلمة، لكنها فقدت خط مؤسسيها المستقل منذ زمن بعيد، وراحت تخلط الثقافة بالسياسة، منحازة الى الجانب السياسي على حساب العامل الفني. في العام 1996 حصلت سفيتلانا على جائزة نادي القلم. في العام التالي تـُرجم لها أول كتاب الى الأسوجية، عنوانه "صلاة لتشرنوبيل"، عن دار "أورد فرونت"، ثمّ تلاه كتاب ثان في العام 1998: "مغويّون من قبل الموت" عن "جبهة الكلمة" أيضا.
على الرغم من أن سفيتلانا حصلت على لجوء حرّ في أسوج، أمضت خلاله عامين في مدينة يوتبوري (غوتنبورغ)، إلا أنها لم تجذب اهتمام المترجمين. لذلك يتبادر الى الذهن أن ترجمة كتابيها السابقين حدثت تحت تأثير جائزة نادي القلم. فقد خبت بعد ذلك الرغبة في مواصلة الترجمة حتى العام 2012، أي ما يقرب من عقد ونصف العقد من الزمن.
لكن، من دون مقدمات منطقية واضحة، رُفعت كاشفات الأنوار فورا، وسُلطت على سفيتلانا الأنوار الكاشفة في العام 2012، الذي شهد صدور كتابين مترجمين لها: "الحرب لا تملك وجها نسائيّا"، و"كلمات حرّة مهاجرة". الكتاب الثاني مقابلات وحوارات مع الكاتبة، والأوّل هو كتاب سفيتلانا الأكثر شهرة. ظهر في العام 1985، (قيل أنجز عام 1983) ونشر في بداية حقبة غورباتشيوف 1985، أي قبل ترجمته الى الأسوجية بربع قرن. أعادت سفيتلانا كتابته، فظهر بطبعات مختلفة، مزيدة، قيل إن الرقابة السوفياتيّة مرت على النصّ عند صدور الكتاب للمرّة الأولى. حاز هذا الكتاب ثلاث جوائز سوفياتيّة في 1985 و1986، منها جائزة الشبيبة الشيوعيّة اللينينيّة، وهذا أمر لا تذكره المصادر التوثيقيّة كلها. في إنكلترا وألمانيا تُرجم الكتاب نفسه، ولكن بفارق زمني، قدره ربع قرن مقارنةً بالترجمة الأسوجية. وهو زمن طويل في حساب الثقافة الأوروبيّة، عند الحديث عن منجزات لها حظ الوصول الى الجوائز العالميّة. هذا التناقض الواضح بين أهمية المنجز وتأخر الاهتمام به، نجده مبثوثا ضمنيّا، كتناقض عقلي، في المقابلة التي أجراها مراسل صحيفة "داغسنيهيتر" مع الناطقة باسم الأكاديمية الأسوجية سارا دانيوس، لحظة الإعلان عن اسم الفائز. فقد خصّت دانيوس هذا الكتاب تحديدا بالذكر من بين جميع أعمال سفيتلانا، قائلة: إنها تشيد بمنجز سفيتلانا التوثيقيّ للحياة السوفياتيّة من طريق تسجيل مئات الشهادات الحيّة، ناصحة من لم يقرأ لها بعد أن يبدأ بكتاب "الحرب لا تملك وجها نسائيّا".
بعد العام 2012 توالت سريعا ترجمة انفجاريّة لما تبقى من أعمال سفيتلانا، في 2013 و2014، وقبيل حصولها على الجائزة بأشهر. مع تسارع عجلة الترجمة تسارعت التقييمات الكبيرة، الحاسمة، والمفارقات العقليّة الموهمة، ذات البعد الظاهري المتناقض. ففي صحيفة "سفنسكاداغبلادت" كُتب: إذا كنت ترغب في قراءة كتاب واحد فحسب هذا العام، فعليك بـ"الحرب لا تملك وجها نسائيّا". وكـُتب أيضا: "دار (ارسادز) تساهم مرة أخرى في أن ترفع الى الأمام واحدة من أهم كتّاب زماننا". أمّا صحيفة "اكسبرسن" فبدأت من الخاتمة: "مقدرتها على التقاط الأصوات واكتشاف التفاصيل غير القابلة للنسيان تجعلها مؤهلة للفوز بجائزتي نوبل للأدب والسلام معا". لم يكتف المترجمون بهذا، فقد أعاد مترجم كتابها الأول نشر الكتاب في العام 2014، جاعلا العنوان من "صلاة لتشرنوبيل: وقائع للمستقبل" الى "صلاة لتشرنوبيل: وقائع من زمننا"، وهو تغيير طفيف جدّا، لكنه قريب جدّا من روح تبرير الأكاديميّة الأسوجية. بعد يومين من إعلان الجائزة صدرت طبعة جديدة ومنقحة من الكتاب، من دار نشر "ارسادز"، التي احتكرت نشر مؤلفات سفيتلانا، منذ إلقاء الأنوار الكاشفة عليها في العام 2012.
إن التصعيد في حجم القيمة المعرفيّة والفنيّة الى مستوى "إحدى أبرز كتاب عصرنا"، ثمّ الوصول الى جائزة نوبل، والتصعيد في الترجمة بشكل مفاجئ، في غضون عامين ونصف العام، لا يعني سوى واحد من أمرين: وجود خلل جدي في جسد الثقافة الأسوجية، أعاقها عن إدراك قيمة ثقافية فريدة تعيش بين ظهرانيها، أو أن هناك وهنا في سبل اختيار الأفضل تعيشه الأكاديميّة، بسبب سوء مواكبتها. لكن، لنوبل دائما أسرارها، وجدلها الخاص المتشعّب والمتشابك.
لقد حصلت سفيتلانا على جوائز من دول عديدة: أميركا، ألمانيا، فرنسا، النمسا، بولونيا. في نهاية المطاف جائزة نوبل للأدب 2015، لكنها ظلت اسما مجهولا في الثقافة العربيّة. قابلت الصفحات الثقافيّة العربيّة فوز سفيتلانا ألكسيفيتش كالعادة باضطراب، مشوب بالنقل الميكانيكيّ الأعمى. اعتبرها بعضهم صفعة لليسار الأوروبيّ الناهض، ومنهم من اعتقد أنها "حنين الى الزمن الضائع". . ويصل الاستنساخ الثقافي مدى بشعا، حينما تجعل صحيفة (القدس العربي) أعمال سفتلانا الأكثر شهرة "روايات". نقرأ هذا في مقال الناقد السوري صبحي حديدي "سفيتلانا ألكسييفتش: فتنة الريبورتاج الأدبي"، 11 تشرين الثاني 2015: "
"كتابها الآخر، الذي صدر في ترجمته الفرنسية عن الدار ذاتها، نُشر تحت عنوان «أعمال»، وضمّ ثلاث روايات: «ليس للحرب وجه امرأة»، عن النساء خلال الحرب ضدّ ألمانيا النازية؛ و»آخر الشهود»، عن أولئك الذين كانوا مجرّد أطفال خلال الحرب؛ و»تضرّع»، عن ضحايا كارثة شيرنوبيل النووية."
في ظل ضعف حدود الاستشعار الثقافي قوميا تصبح قراءة الآخر لغزا محيّرا، وتضيع حقيقة الموقف، الذي دفع الأكاديميّة الى اختيار سفيتلانا: "لمنتجها المتعدد الأصوات (النغم)، شاهد (نصب تذكاري) للمعاناة والشجاعة في زمننا".
الاستفتاء الذي أجرته صحيفة "اكسبرسن" يوم صدور الجائزة بيّن أن تسعين في المئة من القرّاء يجهلون أدب سفيتلانا. وهي نسبة غير قليلة، لدى شعب يملك تقاليد رصينة في مجال القراءة، كالشعب الأسوجي، على الرغم من أن اسمها كان متداولا بكثرة ضمن مرشحي الجائزة. سبب ذلك يعود الى أنها كانت اسما مجهولا في الثقافة الأسوجية على مستوى القرّاء (الجمهور)، جرى كسب العشرة في المئة من القراء خلال العامين والنصف العام المنصرمة على عجل. كما لو أن معمل صناعة النجوم يتسابق مع نفسه ليلحق بزمن في سبيله الى الاندثار. هنا، في هذا الحيّز الملتبس، ربّما تكون فكرة صناعة رمز ثقافي وقائي، في مواجهة نهوض اليسار الأوروبيّ، تحمل قسطا من المنطق.
من أجل إعطاء صورة مقرّبة ومختصرة عن الجانب الفنيّ لنتاجات سفيتلانا، وعن الجانب الفكريّ أيضا، نقدم الى القارئ شريحتين قصيرتين، مجتزأتين من كتابها "أولاد الزنك". تمّ اختيار النصّين لأسباب فنيّة خالصة. فقد وضعت سفيتلانا هذين النصّين خارج دائرة السرد، الذي يبدأ في الكتاب في حزيران 1986. وضعت النصّ الحكائيّ، الذي ترويه أمّ في المقدمة، ثمّ وضعت نصّها التوضيحيّ بعد المقدمة وقبل اليوم الأوّل لبدء عرض حكايات الشهود. في النصّ الأوّل نجد تجسيدا عمليّا واضحا لفكرة تطوير الوثيقة الصحافيّة الى نصّ أدبيّ، وفكرة تجميع الأصوات المتفرقة في وحدة جماعيّة متعددة الأصوات. تقول سفيتلانا عن نفسها وعن لحظة الامتزاج بين الوثيقة الصحافيّة والحكاية الأدبيّة: "23 أيلول. حلـّقتُ في طائرة هلكوبتر... من أعلى رأيت مئات التوابيت الزنكيّة، جاهزة للاستعمال. كانت تلتمع بجمال مخيف في ضوء الشمس... حينما يصطدم الإنسان بهذا المشهد يفكـّر فورا: الأدب يُخنق في أطره... بالاستنساخ والحقائق يمكن الانسان أن يعبّر عن الأشياء التي يراها بعينيه المجردتين، ولكن من يحتاج الى الوصف التفصيليّ لما يحدث؟ ذلك يحتاج نوعا آخر من الوصف... لحظات إمعان، مستقطعة من الواقع الحقيقيّ".
لقد نشدت سفيتلانا الوصول الى هذه اللحظة المتفحّصة. لذا وجدت أن التقارير الصحافيّة التوثيقيّة جامدة لا روح فيها، وأنّ النصّ الأدبيّ الفنيّ ينطوي على انزلاقات خياليّة، قد تقود الى ما لا يتطابق مع الحقيقة القاسية والمعاناة الحقيقيّة للأفراد والجماعات. استنطاق أصحاب المعاناة، وهم يروون مكابداتهم، هي الطريقة المثلى لصنع وثيقة أدبيّة نابضة بالحياة. يستطيع القارئ أن يلمس هذا الامر بوضوح عند قراءة النصّ الأوّل.
ولكن، ألا يخلق تكرار هذا الأسلوب مللا ورتابة، وتنميطا جديدا، على الرغم من أنه سعي، في الأساس، لتهشيم التنميط والثورة عليه؟ نعم، ربّما يحدث ذلك. هذا أمر ممكن، على رغم أنّ المؤلفة تحرص في كل كتاب على ولوج عالم وثائقيّ مختلف: حرب أفغانستان، نساء الحرب العالمية الثانية، ضحايا تشرنوبيل، مصدومو انهيار الاتحاد السوفياتي... هذا التنوع يشكل غنى، لا بسبب اجتناب الوقوع في تكرار المواضيع، وإنما بسبب قوّة الحدث الموضوع تحت المعاينة المركـّزة، وقوّة استنطاق المعايشات. ربّما يبرر هذا القدر من التحدي الفنيّ تكرار وسائل السرد والرويّ، التي تصرّ الكاتبة على جعلها مغايرة لبعضها في أسلوب القصّ وأحاسيس الرواة، وطبيعتهم الخاصة، العفوية أو المفتعلة، البواحة أو الصموتة، الفاضحة أو المتسترة. هكذا نجد انفسنا أمام لوحات عظيمة التنوع، جياشة بالمشاعر المحزنة.
في النموذج الثاني تبسط سفيتلانا لقارئها أسباب لجوئها الى هذا الضرب من التوثيق. ما خلفياته العقليّة والسياسيّة، والأهم ما غاياته الإنسانيّة؟ هنا تواجه الكاتبة ما يشاع عن كتاباتها، بأنها متخصصة في المآسي، وفي الجوانب المظلمة من الحياة. حتى البطولات، التي اجترحتها مقاتلات الحرب العالميّة الثانية البطلات، وجدت فيها وجها سلبيّا للنصر. الرد الموجز الذي تسجـّله وثائق سفيتلانا يقول: أليس هذا هو الوجه الآخر للواقع، الوجه المحزن، الذي نصرّ على تجاهل رؤيته؟
***
النصّ الأوّل
"مقدمة
- أنا أذهب وحيدة... سيكون عليَّ أن أذهب وحيدة الآن طويلا... إنه، ابني، قتل إنسانا... بساطور المطبخ، الذي استخدمه لتقطيع اللحم. لقد شرع في القتل مسرعا حال عودته من الحرب. في الصباح رجع الى البيت وأعاد الساطور الى خزانة المطبخ، حيث توجد صحون البورسلين. أعتقد أنني قليتُ له لحم الخنزير هذا اليوم... بعد وقت قالوا في التلفزيون وكتبوا في الجريدة إنه تمّ استخراج جثة من بحيرة في مدينة... جثة مقطعة. صديقة اتصلت:
- هل قرأت؟ جريمة قتل محترفة... ذات بصمات أفغانية...
كان ابني في المنزل، ممددا على الأريكة وهو يقرأ كتابا. لم أكن أعلم شيئا، ولم أكن قد شعرت بشيء، لكنني بعدما سمعت ما قالته (صديقتي) نظرت اليه لسبب ما متفحصة... كان ذلك قلب الأمّ، الذي...
هل تسمع نباح الكلب؟ لا؟ أنا أسمع ذلك حالما أبدأ بالكلام... أسمع الكلاب تأتي راكضة... في السجن، حيث يجلس الآن، توجد كلاب سود كبيرة... وهناك الجميع يرتدون الثياب السود، السود فحسب... عندما أعود الى مينسك بعد أن أكون هناك وأذهب لجلب الخبز والحليب قرب المخبز أو حضانة الأطفال، أسمع نباح الكلب ذلك. نباح يصمّ الآذان. ذلك يجعلني لا أرى... مرة كدت أدهس تحت عجلات سيارة... كنت أريد الذهاب الى قبر ابني... كنت أريد أن استلقي الى جواره... ولكن الآن لا أعرف.... لا أعرف كيف أستطيع العيش مع هذه... أحيانا أشعر بالاشمئزاز حينما أذهب الى خزانه الصحون، حيث يوجد الساطور... ألا تسمعون؟ ألا تسمعون شيئا؟... لا شيء؟
اليوم لم أعد أعرف من يكون ابني. كيف سيكون بعد خمسة عشر عاما حينما استعيده ثانية. لقد حُكم عليه بالحبس المشدد لخمسة عشر عاما. كيف قمت بتربيته؟ لقد كان مستمتعا بصحبة.... (تبكي) لقد سلبتني أفغانستان ابني.
... استلمنا برقية من طشقند: "قابليني، أنا قادم على الطائرة رقم"... اندفعت الى شرفة المنزل، أردت أن أصرخ لكي يسمعني الجميع: "إنه حي، لقد عاد ابني حيا من أفغانستان. هذه الحرب الكريهة قد انتهت بالنسبة لي"، وهكذا أغمي عليّ. طبعا وصلنا متأخرين الى المطار. طائرته وصلت منذ وقت طويل. لقد وجدنا ابننا في الداخل، في مستنبت صغير. كان مستلقيا على الأرض فوق العشب، مندهشا لعمق اخضرار الأرض. لم يكن يعتقد البتة أنه سيتمكن من العودة... ولكن لم تكن هناك مسحة فرح على وجهه.
في المساء زارنا جيراننا. كان لديهم طفلة صغيرة، عقدت شريطا أزرق صافيا في شعرها. أخذ الطفلة اليه ووضعها على ركبتيه وعانقها باكيا. دموعه ظلت تنهمر وتنهمر. ذلك لأنهم قتلوا أطفالا هناك. هو أيضا... لقد فهمت ذلك لاحقا... في الجمارك مزقوا سراويل السباحة المستوردة، التي يرتديها. أميركية. غير مسموح بها... لهذا وصل الى البيت من دون ملابس داخلية. جلب معه معطفا صباحيا هدية لي. لأنني سأحتفل بميلادي الأربعين هذا العام. لكنهم أخذوه منه. وقد جلب معه شالاً لجدته، أخذوه أيضا. الشيء الوحيد الذي حمله معه الى البيت هو الورد. نوع من الزنبق. ولكن لم تكن هناك مسحة فرح في وجهه".
***
النصّ الثاني
"من كتب اليوميّات أثناء الحرب
حزيران 1986
لا أريد أن أكتب عن الحرب... وأن أعيش مجددا مع فلسفة الاختفاء، بدلا من فلسفة الحياة، وأن أجمع في داخلي خبرات لا نهائية عن الفناء. حينما انتهيت من كتابة "الحرب ليس لها وجه نسائي" (ترجم النص أيضا بعنوان: ليس للحرب وجه نسائي)، تأخرت كثيرا قبل أن احتمل رؤية طفل مدمى الأنف عقب شجار. في الإجازة الصيفية هربت من منظر الصيادين وهم يعلقون سمكة كبيرة، لقد دهمني الإحساس بالمرض حينما رأيت عينيها المتصلبتين، المعذبتين. كل واحد منا يملك احتياطا من القوة كنوع من الحماية ضد الألم، احتياطا نفسيا وجسديا، لكن الاحتياطي الخاص بي كان نافدا تماما. كنت أفقد طبيعتي حينما أسمع مواء قطة مدهوسة، وأدير وجهي الى الجهة الأخرى حينما أرى دودة داستها الأقدام أو ضفدعة متيبسة في الطريق... لقد اعتقدت غالبا أن الحيوانات والطيور والأسماك تملك حقا في امتلاك تاريخ للمعاناة. من المؤكد أنه سيُكتب عن هذا يوما ما.
وفجأة! إذا قدِّر لنا أن نسمّيها الآن فجأة. كان ذلك في السنة السابعة للحرب. لكن كل ما نعرفه عن ذلك كان ما شاهدناه في التقارير التلفزيونية البطولية. وبين حين وآخر كنا نجفل لمرآى التوابيت المنقولة من الخارج، التي كانت أكبر بكثير من "اكواخ خروتشوف" المحدودة المساحة. تحية الحزن الاحتفالية انقضت وحلّ الصمت مجددا. طباعنا العقلية الميثولوجية غير قابلة للاهتزاز: نحن عادلون وعظماء. ونحن نفعل ما هو صحيح دائما. آخر الجمرات المتبقيّة من أفكار الثورة العالميّة انطفأت وتلاشت... لم يلاحظ أحد الحريق الذي ينشب في بيتنا الخاص. غورباتشيوف بدأ البيريسترويكا. نحن نتوق الى حياة أخرى.
ماذا ينتظرنا في قادم الأيام؟ ماذا يمكننا أن نصلح بعد سنوات عديدة من غفوة اللامبالاة الصناعيّة؟ وفي الوقت نفسه يُقتل أولادنا في مكان ما، بعيدا لسبب يعلم الله ما هو...
عن أي شيء يتحدث الناس المحيطون بي؟ عمّ يكتبون؟ عن "الواجب الأممي" وعن المناخ السياسي، وعن مصالح القوّة العظمى والحدود الجنوبية. وهذا ما يعتقد به الناس. إنهم يعتقدون بهذا. الأمهات، اللواتي انحنين توا بيأس أمام العلب المعدنية الصامتة، التي أعيد بها أبناؤهن، يدخلن الى المدارس والمتاحف الحربية، لدعوة أولاد الآخرين الى "أن يقدموا الخدمة في سبيل الوطن الأم". الرقابة تحرص بدقة على أن تكون المقالات عن الحرب خالية من ذكر قتلانا في الحرب، وعلى المرء أن يؤكد أنها "وحدات محدودة من القوات السوفياتية"، التي تساعد الشعب الشقيق على بناء الجسور، الطرق، المدارس أو تساعد على نقل الأسمدة والطحين للقرى الأفغانية، وتساعد الأطباء السوفيات على مساعدة النساء الافغانيات على ولادة الأطفال. الجنود العائدون الى الوطن يعودون مع غيتاراتهم الى المدارس ويغنون بما يجب أن ينطقوا به".
***
لا أحد يستطيع إنكار المهارة العالية في استنطاق الآلام، التي يكابدها الشهود. الأهم من هذا، المقدرة الفريدة على التقاط الضحايا داخل المنظومة الاجتماعية، واستخراجهم أفرادا من بين ركام الحوادث الكبيرة المخلوطة بالصمت أو التواطؤ الجماعي، وتحويل الألم الفردي الى مصير مأسويّ جماعيّ وظاهرة، في مواجهة جبروت سلطة كليّة، قاهرة.
مجسّات سفيتلانا الحساسة، التي استخدمتها لاكتشاف ضحاياها ومآسيهم، استخدمتها الأكاديميّة الأسوجية عند اختيار سفيتلانا نفسها مرشحة للجائزة: حزمة متداخلة سياسيا وثقافيا، تنبض بالحيويّة، بصرف النظر عن اتجاه تأويل نصّها، أو تأويل فوزها.
حميميّة الشهادات تكمن في تنوعها، وفي روايتها بضمير المتكلم (لا تذكر الكاتبة الاسم الأوّل الصريح للمتحدث)، نابعة من قلوب أمهات وآباء، عسكريين ومدنيين، أطفال ونساء من مختلف الرتب، ممرضات وعاملات ومقاتلات، وعاملين اجتماعيين من مختلف المشارب. ذلك كله يعطي للشهادات تجددها وعدم وقوعها في التكرار الممل، رغم أنّها جميعها تنحو في اتجاه واحد: عرض الجانب المأسويّ للمعايشة الحربيّة والاجتماعيّة، وما يحيط بها من "غفلة نوم صناعيّة"، صنعتها خرافة الوحدة الإيديولوجيّة.
هل من جديد يخلقه تقرير حربيّ عن أفغانستان، التي ما عادت أفغانستان، أو التي اندثرت معالمها الحضارية تماما عقب هزيمة السوفيات؟ تقول الكاتبة ذلك شأن آخر، ما يهمني هو مصير وجراح الجنديّ السوفياتيّ العائد مهزوما، وليس جراح ومصير أفغانستان الرابحة أو الخاسرة. وأين الإنسانيّة التي نتغنى بها؟ لا يهمني ذلك! هنا قد تبدو الكاتبة قاسية في منطقها المتعقل، المقنع والنفعي. لذلك تبدو شهادات سفيتلانا، في النهاية، كما لو أنها لا تقدم ما هو جديد، سوى إعادة تكرار المأساة، التي تجعل القارئ يدور على نفسه في الطقوس والمكابدات نفسها. تلك نقطة ضعف الكاتبة في نظر البعض، نقطة الضعف التي وجد فيها الغرب
نقطة القوّة والتفوق.